فتاوى بحثية

الموضوع : قياس ألفاظ الأعضاء والجوارح على الصفات الإلهية قياس فاسد
رقم الفتوى: 4020
التاريخ : 10-11-2025
التصنيف: شبهات في العقيدة
نوع الفتوى: بحثية
المفتي : لجنة الإفتاء



السؤال:

كيف نردُّ على شبهة مَن يُرَّوج لعقيدة التجسيم، فيقول: ما الذي يمنعكم من إثبات مكان لله تعالى يليق به، كما أنكم أثبتم سمعاً وبصراً يليق به، ويقول: إذا أجبتم بأن المكان يترتب عليه لوازم باطلة كالتحيز وإحاطة المخلوق بالخالق، وهذا محال، يقول لنا: كذلك السمع والبصر يترتب عليها لوازم باطلة، فلماذا تثبتون هذا وتنفون ذاك؟


الجواب:

الحمد لله، والصلاة والسلام على سيدنا رسول الله 

من الحقائق المقررة عند أهل السنة والجماعة أنهم:

أولاً: يُفرِّقون بين الأعيان وصفات المعاني، فصفات المعاني: هي ما يصح أن يوصف بها من قامتْ به تلك المعاني؛ كالحياة والعلم والقدرة والإرادة والسمع والبصر والكلام؛ فمَن قامتْ به تلك المعاني يوصف بكونه حياً وعالماً وقديراً ومريداً وسميعاً وبصيراً ومتكلماً، بخلاف الأعيان؛ كاليد والساق والأصابع والكف، فهذه لا يصحُّ أن يوصف بها من كانت من أجزائه، فالإنسان مثلاً لا يصح بأن يقال عنه: إنه يد، أو كفٌّ، أو ساق، أو ذو يد، بل هناك فرق بين الصفات والإضافات، فليس كل ما يضاف إلى الله تعالى يعدُّ صفة له، وجعلها صفات أمر لا تساعد عليه لغة العرب.

وقد بيَّن الأئمة الكبار من أهل السنة والجماعة أن ما يضاف لله تعالى إما أن يكون صفة؛ كالسمع والبصر والعلم، أو لفظاً ليس بصفة؛ كاليد والوجه والعين، فهذه الألفاظ لا يجوز الأخذ بظاهرها؛ لأن الله منزهٌ عن الاتصاف بالأعضاء والجوارح، قال ابن الجوزي الحنبليُّ رحمه الله في [دفع شبه التشبيه/ ص7] في الرد على أصحاب هذه الشبهة: "وقد أخذوا بالظاهر في الأسماء والصفات، فسموها بالصفات تسمية مبتدعة، لا دليل لهم في ذلك من النقل ولا من العقل، ولم يلتفتوا إلى النصوص الصارفة عن الظواهر إلى المعاني الواجبة لله تعالى، ولا إلى إلغاء ما يوجبه الظاهر من سمات الحدوث، ولم يقنعوا بأن يقولوا صفة فعل، حتى قالوا صفة ذات، ثم لما أثبتوا أنها صفات ذات قالوا: لا نحملها على توجيه اللغة، مثل: "يد" على نعمة وقدرة، و"مجئ، وإتيان" على معنى بر ولطف، و"ساق" على شدة، بل قالوا: نحملها على ظواهرها المتعارفة، والظاهر هو المعهود من نعوت الآدميين".

وعليه؛ فقياس الأعيان على المعاني فيما أضيف إليه تعالى، والاحتجاج على أهل السنة بأنه كما أثبتم السمع والبصر ونحوهما من صفات المعاني، فأثبتوا واليد والإصبع وهكذا، فنقول هذا قياس مع الفارق؛ إذ حقيقة كل منهما مغايرة لحقيقة الآخر. 

ثانياً: ينفون عن الله تعالى كل ما من شأنه التنافي مع تنزيه الله تعالى عن مشابهة المخلوقات؛ لقول الله تعالى: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ} [الشورى: 11]، كالجسمية، والتحيّز في المكان، والجهة، والتغيّر، والحدّ، والأبعاض والتركب؛ إذ لو كان جسماً متحيزاً متغيراً؛ لكان حادثاً مفتقراً كسائر الأجسام؛ إذ لا فرق بين جسم وجسم، فكلُّها متماثلة في صفاتها النفسية.

وأيضا فإنه يلزم من التحيُّز والتركب من الأبعاض والأجزاء؛ الحدُّ، وكلُّ محدود فهو ناقص عن الحدِّ الذي يليه، وهو ما يتنزه عنه ربنا جلَّ وعز.

وكذلك المكان من الألفاظ التي لا يجوز جعلها صفات للباري سبحانه وتعالى، فإنّ المكان هو الذي يتمكن فيه الجسم المحدود المتحيِّز المركب المخلوق، وهذه كلُّها لا تجوز على الله تعالى، فلا يمكن أن يكون له مكان أصلاً، بل ننزهه عن كلِّ ما لا يليق به.

ثالثاً: أنه لا يلزم من الاشتراك في اللوازم الاشتراك في الحقائق، فالنار تُحرِق، والثلج يُحرِق، ولا يلزم من اشتراكهما في اللازم وهو الإحراق أن تكون حقيقة النار مماثلة لحقيقة الثلج، وهو مثال تقريبي، فكذلك لا يلزم من الاشتراك في لازم علم الله وعلم المخلوق وهو الانكشاف الحاصل بكل منهما؛ أن تكون حقيقة علم المخلوق كحقيقة علم الخالق جلَّ وعز، على أنه تجدر الإشارة إلى أن الانكشاف الحاصل بكلٍّ منهما مختلف عن الآخر من حيث المسبوقية بالعدم بالنسبة لعلم المخلوق، والقدم بالنسبة لعلم الخالق، وعلم الله تام الانكشاف، وعلم المخلوق ناقص الانكشاف مسبوق بجهل، وكذلك الاشتراك في السمع والبصر، فالسمع والبصر كلٌّ منهما معنى وليسا بأعيان جارحة، فمعنى السمع انكشاف المسموعات، ومعنى البصر انكشاف المبصرات، وليس في ذلك  مشابهة لسمع المخلوق ولا بصره.

رابعاً: أنهم يُفرِّقون بين ما يلزم من إثبات حقائقه وقوع المشابهة والمماثلة بين الله تعالى وبين خلقه، وبين صفات المعاني التي لا يلزم من إثباتها وإثبات حقائقها تشبيه الله بمخلوقاته؛ لأن صفات المعاني حقائقها أوسع وأعم من أن يكون في إثباتها إثبات الآلات والجوارح لله عز وجل، بل غاية ما في الأمر أن كون ذلك من باب المشاكلة اللفظية، وليس من باب الاشتراك في الحقائق بين صفات الخالق وصفات المخلوقين، وكذلك فإن أهل السنة من الأشاعرة وصفوا الله تعالى بصفات المعاني؛ كالعلم والقدرة والإرادة والحياة والسمع والبصر؛ لأنه يصح الوصف بها في اللغة، والله تعالى وصف بها نفسه، فقال سبحانه وتعالى: {وَمَا يَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ فَلَنْ يُكْفَرُوهُ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالْمُتَّقِينَ} [آل عمران: 115]، وقال سبحانه وتعالى: {وَاللَّهُ يَقْضِي بِالْحَقِّ وَالَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ لَا يَقْضُونَ بِشَيْءٍ إِنَّ اللَّهَ هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ} [غافر: 20]؛ ولذا يصح أن نقول: الله تعالى عالم، وقدير، وسميع، وبصير، وحيٌّ، ومتكلم، بخلاف غيرها من اليد والساق والجنب والوجه، فلا يصح أن يوصف بها لا في اللغة ولا في الشرع، وإنما ذُكرتْ هذه الألفاظ على سبيل الإضافة إليه، ولا يلزم من الإضافة أن تكون صفات له، وإلا لزم إثبات كل مضاف له تعالى، وعدُّ ذلك من صفاته وهو ما لا يقول به أحد؛ ولهذا فإنها تؤول وتحمل على معان لائقة بالله تعالى بحسب السياق، مراعين في ذلك أساليب العرب في الخطاب.

وقد يقول قائل: فلنثبت ألفاظ الأعضاء والجوارح لله تعالى، ولنعتقد أنها صفات له، لكن على اعتبار أنها تليق بالله تعالى بدون المعاني الباطلة، فالجواب عليه: أن هذا تناقض وإفراغ للفظ من مضمونه، وهي شبهة يقول بها المجسمة، ولذلك أطلق عليهم أهل السنة اسم "الحشوية"؛ لأنهم يثبتون اللفظ من دون معنى، وهذا حشو يتنزه عنه العقلاء، فكيف بكلام الله تعالى ونبيه صلى الله عليه وسلم.

وعليه؛ فإنّ قياس ما ورد في الكتاب والسنة من ألفاظ الأعضاء والجوارح والأبعاض؛ كاليد والوجه على الصفات الإلهية كالعلم والقدرة، هو قياس فاسد، مخالف لإجماع أهل السنة والجماعة، بل تحمل هذه الألفاظ على ما يليق بالله تعالى من الأوصاف والكمالات الإلهية. والله تعالى أعلم.



للاطلاع على منهج الفتوى في دار الإفتاء يرجى زيارة (هذه الصفحة)

حسب التصنيف السابق | التالي
رقم الفتوى السابق

فتاوى أخرى



التعليقات


Captcha


تنبيه: هذه النافذة غير مخصصة للأسئلة الشرعية، وإنما للتعليق على الموضوع المنشور لتكون محل استفادة واهتمام إدارة الموقع إن شاء الله، وليست للنشر. وأما الأسئلة الشرعية فيسرنا استقبالها في قسم " أرسل سؤالك "، ولذلك نرجو المعذرة من الإخوة الزوار إذا لم يُجَب على أي سؤال شرعي يدخل من نافذة " التعليقات " وذلك لغرض تنظيم العمل. وشكرا