الهجرة النبوية المشرفة ... رحلة البناء والانتماء
الحمد لله ربِّ العالمين، والصلاة والسلام على أشرف الخلق والمرسلين، سيدنا محمد الهادي الأمين، وعلى آله وأصحابه والتابعين، ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين، أما بعد:
فتُعَدُّ حادثةُ الهجرة النبوية المشرفة التي يحيي المسلمون ذِكْرَها كلَّ عام، أحدَ أهمِّ أحداث التاريخ الإنساني كله؛ لما تتضمنه من دروس عظيمة، ومواقف جليلة، كانت سبباً في قيام أمة الإسلام التي أشرقت أنوارها لتبدد ظلمات الجاهلية، وتصحح مسار البشرية.
وقد تجلى شرف هذه الرحلة العظيمة بالتآم شمل المؤمنين، والتحام جهود المخلصين، لبناء أمة قامت على أساس الأُخوة والمحبة والمودة، معززةً ببركة الوحي السماوي والتدبير الإلهي، فكانت درساً لنا في كلِّ زمان ومكان، نتعلم منها كيف تنهض الأمة بعد كسلها، وكيف تشفى بعد مرضها، وكيف تشتد بعد ضعفها.
لقد ابتدأت هذه الرحلة المباركة بعد ظروف قاسية عاناها المسلمون في مكة المكرمة، متمثلة بقلة العدد، وخذلان الناصر من القريب، وفقدان المعين من الصديق، وتجهم العدو الغريب، حتى أيقن النبي صلى الله عليه وسلم أن قلوب أهل مكّة تصلبت حتى تحجرت، وضمرت العواطف حتى تبلدت، واختفى النبل من الطباع، وانقطع منها الرجاء!
حينها جاء الأمر من الله تعالى بالخروج إلى ديار قوم تشوَّقت قلوبهم العطشى إلى الارتواء من معين الإيمان، وبايعت النبي صلى الله عليه وسلم على النصر والتمكين؛ فكانت تلك الرحلة المباركة التي ابتدأت بأمر إلهي، ثم أَخْذٍ بالأسباب البشرية، درساً لنا من رسول الله صلى الله عليه وسلم أن أول خطوات النجاح بعد الاعتماد على الله تعالى يكون بالتخطيط السليم، والإعداد القويم، ولو شاء صلى الله عليه وسلم لكفاه أن يرفع يديه إلى السماء ويدعو ربّه جل وعلا، حتى يأتيه البُراق طائعاً خاضعاً، ناقلاً له بإشارته في طرفة عين ومَنْ معه إلى أقصى وجهة يريدها، ولكنه صلى الله عليه وسلم يعلمنا أن السير في طريق الهجرة لا يكون بالأمنيات، وبناء الأوطان لا يعتمد على تحقق المعجزات، وإنما بالجمع بين إعداد العدة مع التسليم والتفويض، وبالتزود بزاد الأبدان بعد زاد الأرواح لقوله سبحانه: {وَتَزَوَّدُواْ فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَىٰ} [البقرة:179]، ثم باختيار رفيق الدرب من خيرة الأصحاب مستصحباً بذلك التوجه إلى الله بالدعاء: (اللهم أنت الصاحب في السفر والخليفة في الأهل)، وبتغيير الطريق المعهود لدى المشركين، مع الالتزام بمقام (اهدنا الصراط المستقيم)، فاكتملت بذلك أركان الامتثال لإرادة الحق سبحانه، وتجلت معاني الموائمة بين التشريع الرباني والعبودية الخالصة، واكتملت معاني الجمال في الجمع بين الوحي والرأي، في شخص النبي صلى الله عليه وسلم وفعله.
وحين وصل النبي صلى الله عليه وسلم إلى تلك الديار الجديدة، ووجد فيها ضالته التي نشدها حين خروجه عن قوم اختاروا العيش في ظلام الجاهلية فأعماهم نور الإيمان، وطاردوا آثار الهداية في الصحراء بحد السيوف، إلى قوم استقبلوا تلك الأنوار على أبواب المدينة بضرب الدفوف، وهم يؤمنون أن قوة التغيير في الأمة كامنةٌ في ذاتها، وأن سرَّ قوتها في وحدة أبنائها، وأن الإيمان لا يحتاج لرؤية المعجزات، ولكنه يحتاج إلى تطهير الذات، فكان إيمانهم بالنبي صلى الله عليه وسلم قبل أن يروه، ومحبتهم له قبل أن يلقَوه، لأن حلاوة الإيمان إذا تغلغلت في النفوس خضعت لها الأرواح وانقادت لها الأعضاء.
وقد استثمر النبي صلى الله عليه وسلم تلك القوة الإيمانية العظيمة، فبنى بها عمران في المدينة -وهو مسجد قباء- لعبادة الله تعالى، وارتجز الصحابة في بنائها ذلك النشيد الخالد، الذي يتردد صداه في القلوب قبل الآذان، ويدعونا للتفكر في كلماته التي تشكل منهج حياة:
لئن قعدنا والنبي يعملُ فذاك منا العمل المُضلل
هذا النشيد يبين لنا منهج الصحابة ونظرتهم لوطنهم الجديد، وهم يحملون على أكتافهم لبنات البناء ويرفعون بها صرح مستقبلهم التليد في أرض طيبة المنورة، يرسلون رسالة للأجيال من بعدهم أن وطنهم الجديد وطن لا تكاسل فيه عن العمل، وأن الاجتهاد مطلوب من كلّ فرد من أفراده، وأن شرف الأوطان لا يقوم إلا على كواهل الشرفاء، وأما التقاعس في بناء الأوطان ونمائها فهو من عمل المنافقين وأهل الضلال، لذلك كان الرد من النبي صلى الله عليه وسلم هو الدعاء لهم بالرحمة والمغفرة فقال:
لا عيش إلا عيش الآخرة اللهم ارحم الأنصار والمهاجرة
وقد استكمل النبي صلى الله عليه وسلم مسيرة بناء الأمة ببناء الإنسان تزامناً مع إنشاء العمران، فأمر بالمؤاخاة بين المهاجرين والأنصار؛ كي تتصافح قلوبهم كما تصافحت أيديهم، ولتلتقي أرواحهم كما التقت أجسادهم في طاعة الله وتقواه، وأمرهم صلى الله عليه وسلم بتطهير النفوس من عصبيات الجاهلية، وأدران الوثنية، فقامت بهم أمة الخير والمحبة، وسماهم الله تعالى (المفلحون)، الذين أفلح سعيهم، وأزهر كدُّهم، ورأوا ثمار عملهم في الدنيا قبل الآخرة، يقول الله تعالى: {لِلْفُقَراءِ الْمُهاجِرِينَ الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيارِهِمْ وَأَمْوالِهِمْ يَبْتَغُونَ فَضْلاً مِنَ اللهِ وَرِضْواناً وَيَنْصُرُونَ اللهَ وَرَسُولَهُ أُولئِكَ هُمُ الصّادِقُونَ * وَالَّذِينَ تَبَوَّؤُا الدّارَ وَالْإِيمانَ مِنْ قَبْلِهِمْ يُحِبُّونَ مَنْ هاجَرَ إِلَيْهِمْ وَلا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حاجَةً مِمّا أُوتُوا وَيُؤْثِرُونَ عَلى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كانَ بِهِمْ خَصاصَةٌ وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} [الحشر: 8-9].
فلما اكتمل هذا الركنان العظيمان في الأمة: أي ركن العلم والمعرفة -بالنور الذي سطع شعاعه من المسجد- وركن الوحدة والمحبة بين أبناء الشعب الواحد، أصبح الانقياد إلى أساس العدالة في المجتمع طوعاً، فأقام لهم النبي صلى الله عليه وسلم وثيقة تنظم أمورهم، وتعرفهم حقوقهم، وبنى لهم اقتصاداً قوياً يحمي قوتهم، وسحب بساط التحكم بالأموال من يد أعدائهم.
وبهذه الأركان استطاع النبي صلى الله عليه وسلم أن يبني أمة سماها الله تعالى في كتابه {كُنتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ} [آل عمران:110]، هذه الأمة المباركة التي ستبقى صفحة ناصعة بيضاء في كتاب الزمان، وتاريخاً سطّره المؤمنون بأحرف من نور، وستبقى بإذن الله تعالى شاهدةً بتفوقها وصلاحها وخيريتها على جميع الأمم تحت لواء سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم قائد الأمة وإمامها وقدوتها، في جميع العصور والأزمان، يقول الله تعالى: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِّتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا} [الإسراء:82].
والحمد لله ربّ العالمين