الحمد لله، والصلاة والسلام على سيدنا رسول الله
يتميز دين الإسلام بمصادره الأصيلة الثابتة، وكلها يرجع إلى ما في كتاب الله تعالى، يقول الله سبحانه: {طس تِلْكَ آيَاتُ الْقُرْآنِ وَكِتَابٍ مُبِينٍ* هُدًى وَبُشْرَى لِلْمُؤْمِنِينَ} [النمل: 1، 2]، ومما أرشد إليه القرآن الكريم وأوجب اتباعه سنة النبي صلى الله عليه وسلم، وذلك لقول الله تعالى: {وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ} [الحشر: 7]، بل إن القرآن الكريم سوّى بين طاعة الله وطاعة الرسول صلى الله عليه وسلم، لقوله تعالى: {وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَاحْذَرُوا فَإِنْ تَوَلَّيْتُمْ فَاعْلَمُوا أَنَّمَا عَلَى رَسُولِنَا الْبَلَاغُ الْمُبِينُ} [المائدة: 92]، والآيات في ذلك كثيرة جداً.
وقد بين النبيّ صلى الله عليه وسلم حالَ قوم من الناس ينكرون السنة النبوية الشريفة، وحثّ فيه على لزوم السنة، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (أَلَا هَلْ عَسَى رَجُلٌ يَبْلُغُهُ الحَدِيثُ عَنِّي وَهُوَ مُتَّكِئٌ عَلَى أَرِيكَتِهِ، فَيَقُولُ: بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ كِتَابُ اللَّهِ، فَمَا وَجَدْنَا فِيهِ حَلَالًا اسْتَحْلَلْنَاهُ. وَمَا وَجَدْنَا فِيهِ حَرَامًا حَرَّمْنَاهُ، وَإِنَّ مَا حَرَّمَ رَسُولُ اللَّهِ كَمَا حَرَّمَ اللَّهُ) رواه الترمذي، وهذا هو مذهب أهل الحقّ بالإجماع، لا اختلاف فيه ولا نزاع، قال الإمام الشافعي رحمه الله تعالى في [الرسالة 1/ 212]: "كلُّ ما سَنَّ رسولُ الله مَعَ كِتاب الله مِن سنةٍ فهي مُوَافِقة كتابَ الله في النصِّ بِمِثْلِهِ، وفي الجُمْلة بالتَّبْيِينِ عَن الله، والتبيينُ يكون أكثرَ تَفْسِيراً مِن الجُمْلة، وما سَنَّ مِمَّا ليس فيه نصُّ كتابِ الله فبِفرض الله طاعتَه عامَّةً في أمْرِه تَبِعْنَاه".
فمن أنكر السنة النبوية المشرفة من حيث الأصل لا يأخذ بشيء منها، فهو ضالّ عن سواء السبيل، تارك للقرآن الكريم قبل تركه للسنة النبوية، وهو على خطر عظيم إن كان يعدّ نفسه من المسلمين؛ لأنه لا سبيل لإقامة فرائض الدين الضرورية من صلاة أو صيام أو زكاة أو حج إلا من طريق الكتاب والسنة مجتمعين، وهو فوق ذلك متناقض في تصديقه بالقرآن الكريم وإنكاره للسنة النبوية، فالواجب تفهيمه وجه الضلال الذي وقع فيه، والتناقض الذي تنطوي عليه مقولته، بحيث تقوم عليه الحجة ولا تبقى له شبهة، فإن حصل ذلك وبقي مصراً على إنكاره للسنة فقد دخل في تكذيب شريعة الله تعالى وهو سبب الكفر.
وأما إن كان المقصود بإنكار السنة النبوية إنكار حكم خاصّ ورد فيها لا إنكارها كلها، فهو كذلك ضلال وخروج عن الحق المجمع عليه، ولا ينبغي المسارعة في التكفير ههنا؛ لأن قاعدة أهل السنة والجماعة من المتكلمين وعلماء الأصول والفقهاء أنه لا تكفير إلا بإنكار معلوم من الدين بالضرورة، فإن كان الحكم الذي أنكره منكر السنة قطعياً ضرورياً لا يخفى على مسلم فهو من الكفر، وإلا فإنه دون ذلك.
وقد بين الإمام السبكي رحمه الله هذا التفصيل، جاء في [شرح المحلي على جمع الجوامع 2/ 238]: "جاحد المجمع عليه المعلوم من الدين بالضرورة كوجوب الصلاة والصوم وحرمة الزنا والخمر كافر قطعاً؛ لأن جحده يستلزم تكذيب النبي صلى الله عليه وسلم فيه، وكذا المجمع عليه المشهور بين الناس المنصوص عليه، كحل البيع، جاحده كافر في الأصح، وقيل: لا، لجواز أن يخفى عليه، وفي غير المنصوص من المشهور تردد، قيل: يكفر جاحده لشهرته، وقيل: لا، لجواز أن يخفى عليه، ولا يكفر جاحد المجمع عليه الخفي بأن لا يعرفه إلا الخصوص، ولو كان منصوصا".
وعليه؛ فإنّ إنكار السنة النبوية وحجيتها ومنزلتها في الشريعة الإسلامية ضلال عن الحق، وخطر عظيم على صاحبه، وهو مخالف للقرآن الكريم والمتفق عليه بين المسلمين، ولا يحكم على منكر السنة النبوية بالكفر إلا وفق الضوابط المذكورة. والله تعالى أعلم.