مقالات

الذكاء الاصطناعي .. مساعدًا أم مفتيًا؟!

الكاتب : المفتي الدكتور سعيد فرحان

أضيف بتاريخ : 16-07-2025


الذكاء الاصطناعي .. مساعدًا أم مفتيًا؟!

الحمد لله يُعز من يشاء ويُذل من يشاء، والصلاة والسلام على مَن بالهدى قد جاء، وعلى آله وصحبه الأتقياء، وعلى من استن سنته واقتفى أثره إلى يوم اللقاء، أما بعد:

فمن رحمة الله بالعالمين أن جعل شريعة الدين الذي ارتضاه للناس صالحةً وقائدةً لكل زمانٍ ومكانٍ، وأوجب الشرع وجود أهل الذكر من العلماء ليفتوا الناس ويبينوا لهم أحكام معاملاتهم في نواحي الحياة كافةً، قال الله تعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ إِلَّا رِجَالا نُوحِي إِلَيْهِمْ فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ} [النحل:43].

وكان من نَتاج التقدم والتطور وقفزات العلم الباهرة أن وصل الإنسان إلى ما يُعرف الآن بالذكاء الاصطناعي، وأفضل ما قيل في بيان حقيقته هو تعريف فيليب جانسن للذكاء الاصطناعي، حيث عرَّفه بأنه: "علم وهندسة الآلات ذات القدرات التي تعتبر ذكيةً وفقًا لمعايير الذكاء البشري"[1].

وقد بلغ الإنسان في ذلك مرحلة سخَّر فيها الآلة لخدمته في كل مناحي الحياة، حتى ما كان مختصًا بالدين والعبادة، وما زال ذلك مضطردًا حتى أقام الآلةَ مقامه في الإفتاء والتوجيه الديني للناس.

وثورة الذكاء الاصطناعي دخلت تقريبًا في كل مجالٍ: تعليمي وطبي ورياضي وتجاري وديني... وأصبحنا نرى خطواتٍ عملاقةً في تطور استخدام الذكاء الاصطناعي في شتى المجالات، ومنها استخدامه في الإفتاء الشرعي.

وقبل بيان حكم استخدام الذكاء الاصطناعي في الفتوى، لا بد من بيان واقع الحال في ذلك؛ فصناعة الفتوى ليست مجرد الحكم على الفعل أو الحادثة، بل هي أعم من ذلك، ولها أركانٌ: المفتي، والمستفتي، والحادثة المسؤول عنها، والحكم.

وكل ركنٍ منها له شروطٌ معينةٌ وجوانبُ محددةٌ، وقد توجد الأركان الثلاثة الأولى ولا يوجد الحكم؛ لوجود سبب ما كاحتياج المسألة لمزيد بحثٍ ودراسةٍ، أو إعراض المفتي عن الإجابة لمصلحة راجحة، وهذا الأمر مما لا تستطيع الآلة مهما عظمت تقديرَه.

واستخدام الذكاء الاصطناعي في الفتوى على ضربين:

الأول: استخدام الذكاء الاصطناعي كأداةٍ من أدوات المفتي، ويتمثل ذلك في الاستعانة به في مراحل إعداد الفتوى وصياغتها، والوصول إلى أقوال المذاهب الفقهية في المسألة المنظورة، أو شبيهاتها من المسائل، وهذا أشبه باستعانة المفتي بالكتب والمراجع المختصة، وهذا الاستخدام لا يمنعه أحدٌ، بل هو مُعين ومساعد جيد للمفتي، ينبغي لكل من اشتغل بالإفتاء الاستفادة منه، على آلا يغنيه ذلك عن الرجوع إلى الكتب والمصادر التي تؤخذ منها هذه المسائل.

أما الضرب الثاني: فاستخدام الذكاء الاصطناعي في الفتوى بدلًا من المفتي، وتقوم هذه الفكرة على استبعاد المفتي بالكلية وإحلال الآلة مكانه، وهذا ما حصل فيه الخلاف بين مؤيد ومعارض.

ولحسم الخلاف في هذا الأمر لا بد من استعراض شروط المفتي، ولا أريد الخوض في أدلة المجيزين لاستخدام الذكاء الاصطناعي في الفتوى وتنصيب الآلة مفتيًا للناس، ولا أدلة المانعين من ذلك، ولكن غاية ما في الأمر أن الهدف هو بيان بعض الموانع من استخدام الآلة في الإفتاء، وهذه الموانع استنتجها الباحث من شروط المفتي التي أقرها العلماء. وهذه الموانع تتلخص في الآتي:

أولًا:

وهو مانع من طريق أصولي؛ اتفق العلماء على أن الشرط الأول للمفتي كونه مكلَّفًا ثقةً، وهذا لأهمية الجانب الإنساني في المفتي.

قال الإمام النووي: "شرط المفتي كونه مكلَّفًا مسلمًا ثقةً مأمونًا متنزهًا عن أسباب الفسق وخوارم المروءة، فقيه النفس، سليم الذهن، رصين الفكر، صحيح التصرف والاستنباط متيقظًا"[2].

وهذا لا يتوفر في الذكاء الاصطناعي؛ فالآلة ليست مكلَّفة، وهي جماد صرف.

ثانيًا:

مانع من طريق اجتهادي، فكما هو معروف أن العرف بطريقة ما مصدر يرجع إليه المفتي في فتواه، وربما كان العرف مرجِّحًا لأحد أمرين لا مزيةً لأحدهما على الآخر إلا بهذا الترجيح، والعرف يشمل معرفة الناس ودقائق النفس البشرية، وعاداتهم الاجتماعية.

قال الإمام أحمد بن حنبل: "لا ينبغي للرجل أن ينصب نفسه [يعني للفتيا] حتى يكون فيه خمسُ خصال:

أما أولها: أن تكون له نية؛ فإنه إن لم تكن له نية لم يكن على كلامه نور، ولم يكن عليه نور.

وأما الثانية: فيكون له حلم ووقار وسكينة.

وأما الثالثة: فيكون قويًّا على ما هو فيه، وعلى معرفته.

وأما الرابعة: فالكفاية، وإلا مَضَغَه الناس.

والخامسة: فمعرفة الناس"[3].

ومن أين للآلة مهما حُشيت بالمعلومات وأُترست بالمراجع أن تتعرف على ذلك كله؟!

ثالثًا:

مانع من طريق السلوك، ويتمثل هذا المانع في الفرق بين الآلة ومخترعها، وهو المسلم المكلف العارف بالله عز وجل، يقول الإمام الشاطبي: "إن العلم كان في صدور الرجال، ثم انتقل إلى الكتب، وصارت مفاتحه بأيدي الرجال... إذ من شروطهم في العالم بأي علم اتفق؛ أن يكون عارفًا بأصوله وما ينبني عليه ذلك العلم، قادرًا على التعبير عن مقصوده فيه، عارفًا بما يلزم عنه"[4].

والإمام الشاطبي كغيره من العلماء نبه وبشدة على أهمية تلقي العلم من العلماء؛ وقال: "والكتب وحدها لا تفيد الطالب منها شيئًا، دون فتح العلماء، وهو مشاهد معتاد"[5].

فالمفتي المتصل مع الله تعالى، الذي يضع تقوى الله بين عينيه؛ لا شك في أن المدد الإلهي والفتوحات الربانية ستنزل عليه مؤيدة.

قال الإمام الشمس الرملي: "قال تعالى: {واتقوا الله ويُعلِّمكم الله}. وقد ورد: لا يتوفق عبد حتى يوفقه الله، ولما كان عزيزًا لم يذكره الله في القرآن إلا في محل واحد في قوله: {وما توفيقي إلا بالله}... إن فهمت وأتبعت بالعمل وعد منه بأن من اتقاه علمه، بأن يجعل في قلبه نورًا يفهم به ما يلقى إليه، وفرقانًا أي فيصلًا يفصل به بين الحق والباطل، قال تعالى: {يا أيها الذين آمنوا إنْ تتقوا الله يجعل لكم فرقانًا}؛ فبتقوى الله تزداد المعارف"[6].

وأنَّى لهذه الفتوحات أن تتنزل على الآلة الصماء؟! فالمعتمِد على الآلة في الإفتاء بالكلية؛ كحاطب ليل لا يدري ما يجني.

ويُضاف إلى ذلك كله الدور الدعوي والنصح الإرشادي الأخوي من المفتي للمستفتي، ولا يخفى ما لذلك من أثر في سلوكه والتزامه.

ولكل ما سبق يتبين لنا أن الاعتماد على الذكاء الاصطناعي في الفتوى لا سبيل إليه في حياة المسلم، وقد أثبتت بعض التجارب العملية فشل الذكاء الاصطناعي في الإجابة الصحيحة عن الأسئلة الشرعية، خاصة المسائل التي لا تحتمل الخطأ مثل فتاوى الطلاق.

نسأل الله العلي العظيم أن يرشدنا إلى الحق والصواب، وأخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.

 


[1]  مارك كوكلبيرج، أخلاقيات الذكاء الاصطناعي، ترجمة هبة عبدالعزيز غانم، ص: 51.

[2]  النووي، يحيى بن شرف، آداب الفتوى والمفتي والمستفتي، ص: 19.

[3]  أبو يعلى محمد بن الحسين بن محمد، العدة في أصول الفقه، ج5، ص1599.

[4]  الشاطبي، الموافقات، ج1، ص140.

[5]  الموافقات، ج1، ص148.

[6]  غاية البيان شرح زبد ابن رسلان، ص: 4.

رقم المقال [ السابق ]

اقرأ للكاتب




التعليقات



تنبيه: هذه النافذة غير مخصصة للأسئلة الشرعية، وإنما للتعليق على الموضوع المنشور لتكون محل استفادة واهتمام إدارة الموقع إن شاء الله، وليست للنشر. وأما الأسئلة الشرعية فيسرنا استقبالها في قسم " أرسل سؤالك "، ولذلك نرجو المعذرة من الإخوة الزوار إذا لم يُجَب على أي سؤال شرعي يدخل من نافذة " التعليقات " وذلك لغرض تنظيم العمل. وشكرا


Captcha