جهود القاضي الباقلاني في تأسيس نظرية النظم القرآني وعلاقتها بقضية الإعجاز
دراسة تحليلية في كتاب «إعجاز القرآن»(*)
الدكتور جاد الله بسام/ دائرة الإفتاء العام
ملخص
تعدّ قضية النظم القرآني ركناً محورياً في الدراسات القرآنية المتعلقة بإعجاز القرآن الكريم، بل هي كذلك أيضاً في تفسير القرآن الكريم، خصوصاً لدى طبقة المفسرين المهتمين بدراسة بيان القرآن الكريم وبلاغته، لذلك وجدنا هذه القضية محوراً يدور حوله علماء الكلام وأصول الفقه والبلاغة والتفسير والأدباء عموماً.
وهذا البحث يتناول معالم قضية النظم القرآنيّ لدى الإمام الباقلانيّ باعتباره إماماً جامعاً لأصول العلوم العقلية والنقلية، كلاماً وأصولاً وتفسيراً ولغة وبلاغة، بل ناقداً في الشعر وموازناته.
وقد تناول المبحث الأول محددات البحث واصطلاحاته، وأما المبحث الثاني؛ فقد فصّل القول في مفهوم النظم القرآني عند الإمام الباقلاني، وذلك من خلال بيان معنى النظم ورصد معالمه وقانونه العام، وعالج المبحث الثالث العلاقة بين النظم القرآني والإعجاز البياني عند الإمام الباقلاني.
وقد خلص البحث إلى نتائج هامة في موضوعه، منها أنّ الإمام الباقلاني كان مؤسساً لما سمي بعد ذلك بنظرية النظم القرآني، وذلك ظاهر من خلال المعالم والخصائص والمميزات التي ذكرها لهذا النظم، كما خلص البحث إلى تحديد أثر هذا النظم على إدراك أحد أوجه الإعجاز القرآني، وهو الإعجاز البياني، وذكر البحث في ثناياه تفاصيل هذه الأمور، وأسندها إلى كتاب الإمام الباقلاني "إعجاز القرآن".
الكلمات المفتاحية: نظرية النظم. إعجاز القرآن. بلاغة. بيان. الباقلاني.
المقدمة
الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين، وبعد:
فهذا بحث أتناول فيه دراسة جانبٍ من معالم قضية النظم القرآني في كتاب الإمام الباقلاني "إعجاز القرآن"، وأحاول من خلال ذلك استخلاص جهود هذا الإمام في نظرية النظم القرآني التي ذاعت شهرتها ونسبتها إلى الإمام عبد القاهر الجرجاني.
مشكلة البحث
ومن المشهور عند كافة الباحثين أن نظرية النظم منسوبة في تقريرها وتنقيحها إلى الشيخ عبد القاهر الجرجاني، وذلك لما بذله من جهود جبارة في كتبه، ولما لاقته هذه الجهود من قبول ورعاية عند العلماء المتقدمين، حيث عكفوا على دراسة كتبه وازدهرت آراؤه في الكتابات اللاحقة متوناً وشروحاً وحواشي، بالإضافة إلى الكتب المستقلة، بل تعدى ذلك إلى تطبيق هذه النظرية على دراسة النصوص وتحليلها وتفسيرها.
ويأتي هذا البحث ليبين مشكلات بحثية في هذا الصدد، ويجيب عن أسئلة البحث، وهي: ما حدود مساهمة الإمام الباقلاني في تأسيس نظرية النظم القرآني، وما مدى تكامل نظرته تجاه هذه القضية، وما أثر بحوثه في هذه القضية على الدرس البلاغي والتفسيري ودراسات إعجاز القرآن عند العلماء؟
مسوغات البحث
تقع نظرية النظم موقعاً هاماً في إدراك إعجاز القرآن الكريم، وكذلك تتبوأ مكانة رفيعة في إدراك معاني القرآن الكريم وتفسيره على الوجه الأحسن، بل قد تؤثر في ترجيح وجه من التفسير على آخر، ولذلك فقد أولى العلماء هذه القضية رعاية خاصة في علوم وفنون شتى، فعلم النحو والبلاغة والتفسير، خصوصاً ذي اللون البياني، يتناول أطرافاً من هذه القضية.
وقد تناولت كتب الباحثين جهود الإمام الباقلاني بالدرس والتمحيص، وذلك من جوانب متعددة، قد تكون ضاربة في جذور المسائل اللغوية والأدبية، وقد تتسع لتشمل آراءه في قضية إعجاز القرآن الكريم، وقد يدقق بعضها في جوانب نقد الشعر وموازناته، ولا ريب أن الإمام الباقلاني قد حظي بقدر وافر من الدراسة في جوانب متعددة.
وأما قضية النظم على الخصوص، وبيان معالمها بصورة ملخصة؛ فتحتاج إلى مزيد من الدراسة والبحث، ومن ههنا احتيج إلى طرق جانب هذا الموضوع عند الإمام الباقلاني في كتابه إعجاز القرآن.
أهمية البحث
تعدّ نظرية النظم مظهر الإعجاز القرآني، فهذه القضية تأخذ أهميتها من أهمية بحث الإعجاز، فهي مطلعة على عظمة القرآن الكريم وتفوقه على كلّ كلام عربي، وفوق أهميتها في باب النبوات من مباحث العقيدة الإسلامية، تتميز بأنها تزرع في نفس المسلم اليقين والطمأنينة بصورة مفصلة فيما يتعلق بفرادة النظم القرآني وخروجه عن طوق البشر في التعبير وأداء المعاني بالكلام الفصيح المبين.
وعلاوة على ذلك؛ يستجلي هذا البحث صفحة من تاريخ التصنيف في هذه القضية، بل هي صفحة فريدة قام بها أصولي كبير وعالم متكلم من المحققين السابقين، لتكون صفحة أخرى في تاريخ تأسيس هذه النظرية ومبادئ تطورها لدى من جاء بعد الإمام الباقلاني.
منهجية البحث
انتهج البحث في أثناء مسيره للإجابة على الأسئلة البحثية مناهج الوصول إلى المعلومات وتصورها تصوراً صحيحاً، وذلك بالتوسل بالمناهج الآتية:
- المنهج الاستقرائي: حيث قصد الباحث إلى قراءة كتاب إعجاز القرآن الكريم كاملاً، ليكون مستحضراً لجميع كلام الإمام في القضية محل البحث، وليكون ذلك معيناً على تصور رأيه بصورة صحيحة.
- المنهج التحليلي: أراد الباحث من خلال هذا المنهج التوصل إلى المعاني الدقيقة التي أرادها الإمام من كلامه، وذلك بمعرفة مباني كلام الإمام الباقلاني وأساس تصوراته، وكيفية بناء آرائه عليها، ومعرفة لوازمها وصولاً إلى الاستنتاجات المطلوبة في البحث.
- المنهج المقارن: احتاج الباحث أن يقارن في بعض المواضع رأي الإمام الباقلاني بآراء غيره من الأئمة، وأن يقارن وجهات نظر الكاتبين في تراث الإمام.
- المنهج الاستنباطي: وقد وظف البحث هذا المنهج لاستخلاص النتائج الحاصلة من البحث بعد جمع المعلومات وتحليلها واستحضار نصوص الإمام الباقلاني.
الدراسات السابقة
كتب ودراسات وبحوث كثيرة تناولت نظرية النظم، وقد تندّ عن الحصر لكثرتها، وأما نظرية النظم عند الباقلاني خاصة، فقليلة هي الكتب التي تناولتها، وعلى كل حال، فههنا إشارة إلى دراسات هامة أشارت إلى الإمام الباقلاني وقضية النظم خصوصاً:
- الباقلاني وكتابه إعجاز القرآن، عبد الرؤوف مخلوف، دار مكتبة الحياة، 1978م: عرض مخلوف لقضية النظم عند الباقلاني في القسم الثاني من كتابه، وذلك من خلال مدخل إلى النظم، وقضايا ما قبل النظم، ثم بحوث خاصة في مسائل النظم نفسه.
- نظرية النظم، حاتم الضامن، منشورات وزارة الثقافة والإعلام، بغداد، 1979: تناول الضامن نظرية النظم عند الجرجاني، وذكر الإمام الباقلاني في صفحة تقريباً عند سرده لجهود العلماء في نظرية النظم قبل عبد القاهر.
- البيان العربي، بدوي طبانه، مكتبة الإنجلو المصرية، 1958م: تناول فيه طبانه كتاب إعجاز القرآن في بضع صفحات فقط، تكلم فيها عن مسائل من بلاغة القرآن الكريم، وعرج على قضية النظم عند الباقلاني بصورة مقتضبة، وما ذكره فيها الإمام من باب العرض.
- نظرية النظم وقيمتها العلمية، وليد مراد، دار الفكر، دمشق، 1983م: أشار مراد إلى الإمام الباقلاني في بحث تطور نظرية النظم، ولكنه ذكره بصورة وجيزة جداً.
خطة البحث
عالج هذا البحث موضوعه باستقراء كتاب إعجاز القرآن للإمام الباقلاني، ورصد ما يتعلق بنظرية النظم، من خلال ملاحظة تأسيسها عند الإمام الباقلاني وتسجيل معالمها وملامحها، واقتضى ذلك أن يكون البحث وفق الخطة الآتية:
المبحث الأول: مفاهيم بلاغية متعلقة بالنظم القرآني
المطلب الأول: مفهوم نظرية النظم القرآني
المطلب الثاني: مفهوم الفصاحة والبلاغة والبيان والبديع
المبحث الثاني: النظم القرآني عند الإمام الباقلاني
المطلب الأول: معنى النَّظم والنظام
المطلب الثاني: معالم النَّظم القرآني عند الباقلاني
المطلب الثالث: قانون الإعجاز في النَّظم القرآني
المبحث الثالث: موقع النَّظم القرآني من البيان والإعجاز البياني
المطلب الأول: وجوه البديع في النظم القرآني
المطلب الثاني: وجوه البلاغة في النظم القرآني
المطلب الثالث: مدى تحقيق وجوه البديع والبلاغة لإعجاز النظم القرآني عند الباقلاني
الخاتمة
وأسأل الله تعالى أن يوفقني فيما كتبت، وأن يغفر فيما قصرت، إنه ولي ذلك والقادر عليه. والحمد لله رب العالمين.
المبحث الأول
مفاهيم بلاغية متعلقة بالنظم القرآني
المطلب الأول: مفهوم نظرية النظم القرآني
يتضمن عنوان نظرية النظم القرآني، شيئين: النظرية، والنظم القرآني، فلا بدَّ من الكلام على كلِّ واحد منهما، ليفهم مجموعهما.
أولاً: النظرية لغة واصطلاحاً
النظرية لغة:
قال ابن فارس: "النون والظاء والراء أصل صحيح يرجع فروعه إلى معنى واحد وهو تأمل الشيء ومعاينته"([1])، وقال الزبيدي: "وَالنَّظَر أَيْضا تَقليبُ البَصيرةِ لإدراكِ الشيءِ ورُؤيتِه وَقد يُراد بِهِ التَّأَمُّل والفَحْص، وَقد يُراد بِهِ المعرفةُ الحاصلةُ بعد الفحْص"([2]).
والنظري هو المنسوب إلى النظر، والتاء إما أن تكون للوصفية، أو للاسمية، وعندئذ تكون أنسب بالمعنى الاصطلاحي.
النظرية اصطلاحاً:
المراد بالنظرية على ما ذكره كثير من الباحثين هو النظام المنطقي الذي يربط الأشياء بعضها ببعض، فالنظرية مفهوم قد يكون مفترضاً يسعى من خلالها إلى تفسير ظواهر معينة، وهذا المعنى يكاد يكون متفقاً عليه عند تناول مفهوم كلمة "نظرية" في فنون ومعارف عامة، كالفلسفة والأدب واللغة والاجتماع وحتى العلوم الطبيعية.
وقد عرف المعجم الوسيط ومعجم اللغة العربية المعاصرة (النظرية) في الفلسفة بأنها مجموعة المسلمات التي تفسر الفروض العلمية أو الفنية([3]).
وتعرف النظرية عند بعض الباحثين بأنها "عبارة عن مجموعة من البناءات والمفاهيم والتعريفات والافتراضات المتداخلة التي تعطي منظوراً نظامياً للظاهرات بتحديد العلاقات بين المتغيرات بغرض التفسير والتنبؤ بالظاهرات"([4]).
وتعرف كذلك بأنها "مجموعة من القضايا التي تتخذ ترتيباً خاصاً في النسق، بحيث تكون مترابطة منطقياً ومتميزة بالتدرج المنظم غير المتناقض، وتشير القضايا العامة في النظريات إلى المقدمات، أما القضايا المستنبطة فتمثل النتائج"([5])، وأيضاً تعرف بأنها: "فرضية أو مجموعة من الفرضيات المتناسقة والمترابطة منطقياً"([6]).
ثانياً: النظم لغة واصطلاحاً
النظم القرآني له مفهوم محدد مقصود عند من يستعمله من العلماء، وهذا المعنى ليس منبتاً عن أصل المعنى اللغوي له، بل يمكن أن يقال إنه نفس المعنى اللغوي، لكن يكتسب ويكتسي معاني أخرى إذا أضيف النظم إلى القرآن، فإذا قيل: نظم القرآن، والنظم القرآني، لم يكن المراد شيئاً غير أصل الوضع اللغوي مضافاً إليه خصيصة يوجبها القرآن الكريم للنظم بطريقة الإضافة (نظم القرآن)، أو الوصف (النظم القرآني)، وهذا يستوجب دراية معنى النظم في اللغة، ليتهيأ بعد ذلك معرفة مفهوم النظم القرآني.
والنظم في اللغة بمعنى التأليف والجمع والضمّ، قال ابن فارس: "(نظم) النون والظاء والميم: أصل يدل على تأليف شيء وتأليفه، ونظمت الخرز نظما، ونظمت الشعر وغيره. والنظام: الخيط يجمع الخرز. والنظامان من الضب: كشيتان من جنبيه، منظومان من أصل الذنب إلى الأذن"([7])، و: نَـظْمٌ من لؤلؤ، وهو في الأصل مصدر، و(الانتظام) الاتساق([8])، وجاء في القاموس المحيط: "النظم: التأليف، وضمّ شيء إلى شيء آخر"([9]).
والنظم كما يكون في الجواهر والخرز، يكون أيضاً في الكلمات، فالكلمة المفردة نظم للحروف، والجملة نظم الكلمات، والخطبة مثلاً نظم للجمل، فالكلمة إن لوحظت من حيث هي وحدة مستقلة فليست منظومة بل هي مفردة، ولكنها تكون منظومة إن ضمت إلى أخرى، ولا يكون النظم نظماً إلا إذا كان مستوفياً لهيئة التأليف المقصودة.
إذن، من خلال جمع مفهوم (النظرية) إلى معنى (النظم) في اللغة مضافاً إلى (القرآن الكريم)، يحصل لنا أنّ مفهوم نظرية النظم القرآني في الاصطلاح هو: الأفكار والقضايا والأنساق التي تحدّد طبيعة التأليف لألفاظ القرآن الكريم التي بها يتحقق مفهوم نظم القرآن الكريم.
ويمكن القول: إنَّ سبب نشوء نظرية النظم هو البحث عن الإعجاز القرآني، وعن مفهومه وعن المعنى الذي حصل به التحدّي، وقد نبه إلى ذلك الدكتور صالح بلعيد، حيث قال: "كان الإعجاز القرآني سبباً مباشراً في البحث عن النظم القرآني، باعتباره معجزاً متحدياً لما ألفه العرب من كلامهم، وليس باعتباره تنزيهاً عن المشابهة والمماثلة، بل لما يحمله من أنماط تفوق خيال العرب ومحاسن كلامهم"([10]).
المطلب الثاني: مفهوم الفصاحة والبلاغة والبيان والبديع
استعمل القاضي الباقلاني في كتابه (إعجاز القرآن) كثيراً من الألفاظ التي لها علاقة بموضوع البلاغة والإعجاز البلاغي، وكان استعماله لتلك الألفاظ ممهداً لإظهار معنى النظم وموقعه من الإعجاز القرآني، ولأجل ذلك كان لا بد من إلقاء نظرة على هذه المفاهيم كما نجدها عند القاضي، ويجدر التنبه إلى أن عصر الباقلاني لم تجر فيه الاصطلاحات على وجوه الدقة التي تقررت عند المتأخرين، فقد يحصل تساوق بين هذه الألفاظ، باعتبار أنها صالحة لأن تكون أوصافاً للكلام البليغ والفصيح والمبين والبديع.
أولاً: الفصاحة
إن المستقرئ للمواضع التي ذكر فيها الباقلاني الفصاحة باشتقاقاتها جميعاً (فصح، فصيح، فصاح، فصاحة، تفاصح) يجد أن القاضي لم يخرج عن المعنى اللغوي لهذه الكلمة، أي لم يعطها دلالة فوق ما تعطيها اللغة في أصل الوضع، وهذا أمر ليس بمستغرب ولا مستهجن، إذ ليس الشأن أن يعطي معنى جديداً للفصاحة في كتابه، بل الشأن أن يبين أن القرآن في أي شيء كان فصيحاً.
وقد وردت هذه اللفظة على مختلف اشتقاقاتها أكثر من سبعين مرة، لم يخرج في واحدة منها –والله تعالى أعلم- عن أصل المعنى اللغوي، ومن جملة تلك المواضع قول القاضي: "ولذلك قلنا: إن المتناهي في الفصاحة والعلم بالأساليب التي يقع فيها التفاصح، متى سمع القرآن عرف أنه معجز، لأنه يعرف من حال نفسه أنه لا يقدر عليه، وهو يعرف من حال غيره مثل ما يعرف من حال نفسه، فيعلم أن عجز غيره كعجزه هو"([11])، وقوله: "البليغ المتناهي في وجوه الفصاحة يعرف إعجاز القرآن"([12])، وقد قرن في بعض المواضع الفصاحة بالنظم، قال: "ويبلغ أمده في الفصاحة والنظم العجيب"([13]).
وأما معنى الفصاحة في اللغة، فهو يدور على النقاء من الشوائب، قال ابن فارس: "(فصح) الفاء والصاد والحاء أصل يدل على خلوص في شيء ونقاء من الشوب. من ذلك: اللسان الفصيح: الطليق. والكلام الفصيح: العربي. والأصل أفصح اللبن: سكنت رغوته. وأفصح الرجل: تكلم بالعربية"([14]).
فهذا المعنى هو الذي يدور عليه استعمال القاضي للفظ الفصاحة في الكتاب.
وكذلك يحسن التنبه إلى أن الفصاحة عند القاضي ليست واحدة، بل منها ما يكون أفصح من بعض، وهي فصاحات عنده([15])، قال رحمه الله: "وإنما يقع بين كلامه وكلام غيره، ما يقع من التفاوت بين كلام الفصيحين، وبين شعر الشاعرين، وذلك أمر له مقدار معروف، وحد -ينتهى إليه- مضبوط"([16]).
ومما يؤكد هذا أن القاضي نفسه نقل معنى الفصاحة عن البيان والتبيين للجاحظ بما لا يخرج عن أصل الوضع اللغوي، قال: "وأما (الفصاحة) فقد اختلفوا فيها: فمنهم من عبر عن معناها بأنه: ما كان جزل اللفظ، حسن المعنى. وقد قيل: معناها: الاقتدار على الإبانة عن المعاني الكامنة في النفوس، على عبارات جلية، ومعان نقية بهية"([17]).
ثانياً: البلاغة
لم يكن عصر القاضي الباقلاني عصراً استقر فيه مصطلح البلاغة الذي نعرفه الآن، أو الذي عرفته العصور التي جاءت بعده من تحرير وتهذيب لمحتويات العلوم والكتب، ومع ذلك فقد استعمل القاضي هذا اللفظ كثيراً جداً في كتابه.
ويمكن استخلاص بعض المحددات لهذا اللفظ عند القاضي من خلال استعماله، منها: أنه ملازم للفصاحة، فليس البليغ إلا فصيحاً، وقد اقترنت الفصاحة بالبلاغة كثيراً في كلامه رحمه الله تعالى، يقول القاضي: "فليس يصح أن تقع فيه فصاحة أو بلاغة، فيطلب فيه الممتنع، أو يوضع فيه الإعجاز"([18])، ويقول: "وطرق البلاغة والفنون التي يمكن فيها إظهار الفصاحة، فهو متى سمع القرآن عرف إعجازه"([19]).
ويستفاد من كلامه هذا أيضاً أنّ البلاغة هي محلّ الإعجاز، وقد صرّح بذلك في مواضع كثيرة من كتابه، ولذلك يمكن القول إنّ الباقلاني لم يستخدم البلاغة باصطلاح خاصّ، وإنما استخدمها بحسب أصل الوضع اللغوي.
والبلاغة في الوضع تعني الوصول والإدراك، فبلاغة الكلام معناها وصوله إلى التعبير عن ما في النفس، بل نجد بعض المعاجم تعرف البلاغة بالفصاحة، جاء في مختار الصحاح: "(بلغ) المكان وصل إليه، وكذا إذا شارف عليه ومنه قوله تعالى: (فإذا بلغن أجلهن)[البقرة: 234] أي قاربنه. و(بلغ) الغلام أدرك وبابهما دخل. و(الإبلاغ) و(التبليغ) الإيصال، والاسم منه (البلاغ)، والبلاغ أيضا الكفاية. وشيء (بالغ) أي جيد. و(البلاغة) الفصاحة"([20]).
ثالثاً: البيان
يمكن القول إنّ لفظ (البيان) وقع في كلام القاضي بإزاء أمرين؛ الأول: إظهار المعاني مطلقاً، ولا يتعلق بهذا غرض بلاغي، والثاني: حسن الكلام وبلاغته وفصاحته، وهذا هو ما يتعلق به غرض البحث، وقد ورد (البيان) في كلام الباقلاني مقترناً بالفصاحة، قال القاضي: "ومواقع البيان والبراعة ووجه التقدم في الفصاحة"([21])، وقال أيضاً: "وأهل البيان واللسن، والفصاحة والفطن"([22]).
رابعاً: البديع
استعمل الباقلاني البديع بصورة مخصوصة في المحسنات اللفظية التي يستعملها أهل الصنعة، لا في مجرد المعنى اللغوي الذي يدل عليه اللفظ، وذلك خلافاً للألفاظ السابقة (الفصاحة والبيان والبلاغة)، يقول رحمه الله: "في ذكر البديع من الكلام إن سأل سائل فقال: هل يمكن أن يعرف إعجاز القرآن من جهة ما تضمنه من البديع؟ قيل: ذكر أهل الصنعة ومن صنف في هذا المعنى من صفة البديع ألفاظاً نحن نذكرها"([23])، ويدلّ على أنه استعمل البديع بالمعنى الاصطلاحي أنه عدد أنواعاً من البديع مثل: الغلو والإفراط في الصفة([24]).
فهذه الألفاظ التي تدور في ثنايا كتاب الإمام الباقلاني مما له أوثق علاقة بموضوع البحث، ونلحظ فيه أن الباقلاني لم يخرج في شيء من هذه الألفاظ عن أوضاع اللغة.
المبحث الثاني
النظم القرآني عند الإمام الباقلاني
المطلب الأول: معنى النَّظم والنظام
برزت نظرية النظم بصورة جلية عند القاضي الباقلاني، إذ هي مدار معظم الكتاب، بخلاف وجوه الإعجاز الأخرى التي ذكرها في كتابه، ويرى بعض الباحثين أن الباقلاني بنى رأيه في إعجاز القرآن على ما سبق من أفكار عند الخطابي([25])، ويلخص الدكتور وليد مراد مفهوم النظم عند القاضي، فيقول: "إن ترتيب الألفاظ في العبارة خاضع لترتيب معانيها في النفس، وذكر أنّ النظم القرآني بوجه عام هو تأليف الألفاظ بعضها مع بعض، وأن أسلوبه مختلف عن الكلام المعتاد عند البشر"([26]).
لكني أقول: لا شك أنَّ الباقلاني طالع كتب غيره من العلماء الذين سبقوه، لكنه بين في مطلع كتابه أنه لم يجد كلامهم مغنياً، فلا مانع عندئذٍ من التبصّر في كلام الباقلاني نفسه، لعلنا نعثر على جهد خاصٍّ به في موضوع النظم.
لقد قسم الباقلاني الآيات القرآنية إلى قسمين، حيث قال: "قد اعتمدنا على أنّ الآيات تنقسم إلى قسمين: أحدهما: ما يتم بنفسه، أو بنفسه وفاصلته، فينير في الكلام إنارة النجم في الظلام. والثاني: ما يشتمل على كلمتين أو كلمات، إذا تأملتها وجدت كل كلمة منها في نهاية البراعة، وغاية البلاغة"([27]).
فيمكن أن نفهم من ههنا أن القاضي يعطي كلاً من اللفظ والمعنى حقه من الحسن والبراعة والبلاغة، فليس النظم مجرد معنى، وإنما هو لفظ حامل للمعنى كذلك، فهذه علامة بارزة دالة على النظم عند القاضي، وهي موافقة لمن قبله من العلماء كالخطابي.
ومن المعلوم أن نظرية النظم لم تقرر دفعة واحدة على يد عالم واحد، بل بنيت لبنة لبنة حتى استوت على عودها على يد عبد القاهر الجرجاني.
والنظم عند القاضي تأليف ورصف، يقول: "وهو الذي بيناه من الإعجاز الواقع في النظم والتأليف والرصف"([28])، ويقول الجندي مصوراً نظرة الباقلاني في النظم: "وأن التحدي إنما كان بأن يأتوا بمثل الحروف التي هي نظم القرآن منظومة كنظمها متتابعة كتتابعها مطردة كاطرادها"([29])، وأيضاً نبه إلى هذا المعنى الضامن([30]).
وأيضاً فصّل الباقلاني مفهومه للنظم بقوله في كتاب التمهيد: "وليس نظمها أكثر من وجودها متقدمة ومتأخرة ومترتبة في الوجود وليس لها نظم سواها"([31])، لكن لا يجوز أن يفهم من قوله هذا أن المزية فقط هي بحسب التقدم والتأخر الظاهر في اللفظ والمتعاقب بحسب زمان النطق، لأن ذلك لا يقوله عاقل، فكل كلام متقدم بعضه على بعض، ويتأخر بعضه عن بعض، بل مراد الإمام التقدم والتأخر الذي يفيد المعاني على صورتها الخارقة.
وسلك الباقلاني في تحديد مفهوم النظم القرآني خصوصاً طريقة السلب، فالنظم القرآني عنده ليس شعراً ولا سجعاً ولا مجرد كلام موزون من كلام العرب، قال: "قلنا: إنه نظم خارج عن جميع وجوه النظم المعتاد في كلامهم، ومباين لأساليب خطابهم. ومن ادّعى ذلك لم يكن له بدّ من أن يصحّح أنه ليس من قبيل الشعر، ولا السجع، ولا الكلام الموزون غير المقفى، لأنّ قوماً من كفار قريش ادّعوا أنه شعر"([32]).
يفهم من هذا أنّ النظم القرآني عند الباقلاني ليس مجرد رصف للكلمات وتأليف لها، كما قد يتوهّم لأول نظرة، بل هو معنى آخر زائد على ذلك، وهو أن يكون النظم على طريقة مخصوصة، بحيث تخرج عن المعتاد من الكلام، وقد نبه إلى ذلك الجندي في كتابه عن نظرية النظم([33]).
ويبين الباقلاني مكانة نظم القرآن من نظم غيره من الكلام، قال: "فأما شأو نظم القرآن، فليس له مثال يحتذى عليه ولا إمام يقتدي به، ولا يصح وقوع مثله اتفاقا، كما يتفق للشاعر البيت النادر، والكلمة الشاردة، والمعنى الفذ الغريب، والشيء القليل العجيب"([34]).
وقد يعبّر الباقلاني عن النظم بالنظام، ومراده واحد، إذ إنه كان يعنى بالأفكار أكثر من التدقيق في الألفاظ.
ومن محدّدات النظم عند الباقلاني أنه النظم العربي، فليس النظم الحامل لميزة الإعجاز أي نظم، بل هو النظم العربي بخصوصه، قال: "فلو كان يمكن في لسان العجم إيراد مثل فصاحته، لم يكن ليرفعه عن هذه المنزلة. وإنه وإن كان يمكن أن يكون من فائدة قوله: إنه عربي مبين، أنه مما يفهمونه ولا يفتقرون فيه إلى الرجوع إلى غيرهم، ولا يحتاجون في تفسيره إلى سواهم، فلا يمتنع أن يفيد ما قلناه أيضاً، كما أفاد بظاهره ما قدمناه. ويبين ذلك أنّ كثيراً من المسلمين قد عرفوا تلك الألسنة، وهم من أهل البراعة فيها، وفي العربية، فقد وقفوا على أنه ليس فيها من التفاضل والفصاحة، ما يقع في العربية"([35]).
المطلب الثاني: معالم النَّظم القرآني عند الباقلاني
ذكر القاضي الباقلاني في كلام بديع معتصر من خلاصة الخلاصة في الفهم ودقة النظر عشرة معانٍ هي التي يرجع إليها إعجاز نظم القرآن، وقد اخترت أن أستخلص منها معالم نظرية النظم عند القاضي، وليس تسمية هذه الأشياء بالمعالم مجازفة، بل هو مطابق للواقع، فهذه المعالم هي علامات على النظم المعجز، ومميزات له عن غيره من التآليف والتراكيب التي تقع في الشعر والخطب والمحاورات الفصيحة.
وههنا تحليل لهذه المعاني التي ذكرها القاضي رحمه الله تعالى([36])، خصوصاً أنه اعتبر هذه المعاني تفصيلاً منه لما أطلقه العلماء في حقّ إعجاز القرآن من أنه "بديع النظم عجيب التأليف متناهٍ في البلاغة إلى الحدّ الذي يعلم عجز الخلق عنه"([37]).
وقد قال بعض الباحثين إن نظرية النظم لم تتبلور تماماً في كتاب إعجاز القرآن الكريم([38])، ومع ذلك فقد اخترت أن أدرس كلام القاضي محاولاً إبراز نظريته أو تأسيسيه لنظرية النظم، ولست أزعم أنّ العلم توقف عند القاضي الباقلاني، ولكني أقدر العمل الذي عمله.
وأما تحليل المعاني العشرة التي ذكرها القاضي فيفضي بنا إلى معالم معدودة، وهي:
المعلم الأول: مباينة النظم للمألوف والخروج عن المعهود
يتلخص هذا المعلم بأنّ القرآن متميز عن كل كلام، فمهما وجدت كلاماً للعرب فلاحظت نظامه، فليس فريداً في بابه، بل يمكن أن يكون هناك له مثل أو نظير أو فائق أو مقارب، لكن القرآن له الفرادة والتميز وذلك من جميع الأنحاء والجهات؛ في الأسلوب والترتيب والتصرف في الكلام والمذاهب في التعبيرات، وذلك التميز في جميع القرآن لا في بعض منه دون بعض.
قال الباقلانيّ موضحاً ذلك: "منها ما يرجع إلى الجملة، وذلك أنَّ نظم القرآن على تصرّف وجوهه، وتباين مذاهبه - خارج عن المعهود من نظام جميع كلامهم، ومباين للمألوف من ترتيب خطابهم، وله أسلوب يختص به ويتميز في تصرفه عن أساليب الكلام المعتاد"([39])، وقال: "وهذه خصوصية ترجع إلى جملة القرآن، وتميز حاصل في جميعه"([40]).
كما يرى القاضي أنّ من وجوه تميز النظم القرآني أنه مشتمل على الكثير من البلاغة والفصاحة ووجوه الحسن ممّا لا يكون في أيّ كلام، يقول القاضي: "ومنها أنه ليس للعرب كلام مشتمل على هذه الفصاحة والغرابة، والتصرف البديع، والمعاني اللطيفة، والفوائد الغزيرة، والحكم الكثيرة، والتناسب في البلاغة، والتشابه في البراعة، على هذا الطول، وعلى هذا القدر. وإنما تنسب إلى حكيمهم كلمات معدودة وألفاظ قليلة، وإلى شاعرهم قصائد محصورة، يقع فيها ما نبينه بعد هذا من الاختلال"([41]).
ولم يقتصر القاضي على خروج القرآن عن المعهود من كلام العرب، بل أوجب أن يكون خارجاً عن كلام الجنّ أيضاً، قال القاضي: "وهو أنَّ نظم القرآن وقع موقعاً في البلاغة يخرج عن عادة كلام الجنّ، كما يخرج عن عادة كلام الإنس، فهم يعجزون عن الإتيان بمثله كعجزنا، ويقصرون دونه كقصورنا، وقد قال الله عزّ وجل: (قل لئن اجتمعت الإنس والجنّ على أن يأتوا بمثل هذا القرآن، لا يأتون بمثله، ولو كان بعضهم لبعض ظهيراً)"([42]).
وكذلك من ملامح هذا المعلم ومظاهره أن القرآن ينقسم خطابه إلى أقسام، وهو في كلها خارج عن المعهود، قال القاضي: "وهو أن الذي ينقسم عليه الخطاب، من البسط والاقتصار، والجمع والتفريق، والاستعارة والتصريح، والتجوز والتحقيق، ونحو ذلك من الوجوه التى توجد في كلامهم - موجودة في القرآن. وكل ذلك مما يتجاوز حدود كلامهم المعتاد بينهم في الفصاحة والإبداع والبلاغة"([43]).
المعلم الثاني: عدم تفاوت النّظم
والذي يريده القاضي هنا أنّ العادة قاطعة بأنّ الكلام يتفاوت مع اختلاف الموضوعات التي يتناولها والمذاهب التي يسلكها، وفي ذلك يقول: "عجيب نظمه، وبديع تأليفه لا يتفاوت ولا يتباين، على ما يتصرف إليه من الوجوه التي يتصرف فيها: من ذكر قصص ومواعظ واحتجاج، وحكم وأحكام، وإعذار وإنذار، ووعد ووعيد، وتبشير وتخويف، وأوصاف، وتعليم أخلاق كريمة، وشيم رفيعة، وسير مأثورة. وغير ذلك من الوجوه التي يشتمل عليها"([44]).
ويتبع ذلك أيضاً بأن مقاطع الكلام من فصل ووصل وعلو ونزول وشتى أنواع الخطابات في القرآن على طريقة متناسبة لا تفاوت فيها، يقول رحمه الله: "كلام الفصحاء يتفاوت تفاوتاً بيناً في الفصل والوصل، والعلو والنزول، والتقريب والتبعيد، وغير ذلك مما ينقسم إليه الخطاب عند النظم، ويتصرف فيه القول عند الضم والجمع، ألا ترى أن كثيراً من الشعراء قد وصف بالنقص عند التنقل من معنى إلى غيره، والخروج من باب إلى سواه"([45]).
المعلم الثالث: تعذر معارضة نظم القرآن
لاحظ القاضي أن القرآن توافق فيه الحسن من جهة المعنى ومن جهة اللفظ، فاللفظ لا يقدر على المجيء بمثله، والمعنى رائع لا يقدر عليه، وذلك يتجلى في المعاني التي هي وضع الشريعة والأحكام وأصول الدين وغيرها، ويعبر عن ذلك بقوله: "المعاني التى تضمنها في أصل وضع الشريعة والأحكام، والاحتجاجات في أصل الدين، والرد على الملحدين، على تلك الألفاظ البديعة، وموافقة بعضها بعضاً في اللطف والبراعة، مما يتعذر على البشر ويمتنع، وذلك أنه قد علم أن تخير الألفاظ للمعاني المتداولة المألوفة، والأسباب الدائرة بين الناس، أسهل وأقرب من تخير الألفاظ لمعان مبتكرة، وأسباب مؤسسة مستحدثة، فإذا برع اللفظ في المعنى البارع، كان ألطف وأعجب من أن يوجد اللفظ البارع في المعنى المتداول المتكرر، والأمر المتقرر المتصور، ثم انضاف إلى ذلك التصرف البديع في الوجوه التي تتضمن تأييد ما يبتدأ تأسيسه، ويراد تحقيقه - بأن التفاضل في البراعة والفصاحة، ثم إذا وجدت الألفاظ وفق المعنى، والمعاني وفقها، لا يفضل أحدهما على الآخر - فالبراعة أظهر، والفصاحة أتـمّ"([46]).
وقال أيضاً: "أنه سهل سبيله، فهو خارج عن الوحشي المستكره، والغريب المستنكر، وعن الصنعة المتكلفة، وجعله قريباً إلى الأفهام، يبادر معناه لفظه إلى القلب، ويسابق المغزى منه عبارته إلى النفس، وهو مع ذلك ممتنع المطلب، عسير المتناول، غير مطمع مع قربه في نفسه، ولا موهم مع دنوه في موقعه أن يقدر عليه، أو يظفر به. فأما الانحطاط عن هذه الرتبة إلى رتبة الكلام المبتذل، والقول المسفسف، فليس يصحُّ أن تقع فيه فصاحة أو بلاغة، فيطلب فيه الممتنع، أو يوضع فيه الإعجاز، ولكن لو وضع في وحشي مستكره، أو غمر بوجوه الصنعة، وأطبق بأبواب التعسف والتكلف - لكان لقائل أن يقول فيه ويعتذر، أو يعيب ويقرع. ولكنه أوضح مناره، وقرب منهاجه، وسهل سبيله، وجعله في ذلك متشابهاً متماثلاً، وبين مع ذلك إعجازهم فيه"([47]).
المعلم الرابع: تميز الكلمة القرآنية في الأسماع والنفوس
ذكر الباقلاني وصفاً نفيساً للكلمة القرآنية المفردة، فهي عنده مميزة عن غيرها من الكلمات، بحيث إذا ألفيت في جملة أخذت تلك الكلمة بالمسامع والألباب لحسنها وبهائها، وطريقة هذه المعرفة بالنسبة للباقلاني أن تضمن الكلمة في ضمن جملة أو شعر، فتكون لها الميزة والخصوصية في ضمن ذلك الكلام.
قال القاضي: "الكلام يتبين فضله ورجحان فصاحته بأن تذكر منه الكلمة في تضاعيف كلام، أو تقذف ما بين شعر، فتأخذها الأسماع، وتتشوف إليها النفوس، ويرى وجه رونقها بادياً غامراً سائر ما تقرن به، كالدرة التي ترى في سلك من خرز، وكالياقوتة في واسطة العقد. وأنت ترى الكلمة من القرآن يتمثل بها في تضاعيف كلام كثير، وهي غرة جميعه، وواسطة عقده، والمنادى على نفسه بتميزه وتخصصه، برونقه وجماله"([48]).
المطلب الثالث: قانون الإعجاز في النَّظم القرآني
المراد بالقانون هو المعيار الذي يضبط، والعلامة الفارقة التي يحصل بها التمييز بين الأشياء، وهو ههنا ما يمكن أن يلحظ في كل معلم من المعالم التي سبق ذكرها في المطلب السابق، بحيث تجد النظم القرآني المعجز متفقاً مع هذا القانون في كل موضع منه، وقد نبه القاضي إلى هذا القانون بصورة مستفيضة لا غبار عليها، بل أعاد ذكرها مراراً لا مرّة واحدة.
وذلك القانون أن النظم القرآني لا يدرك ولا يستطاع مثله بوجه من وجوه التصنع أو التكلف أو التعمل، بل هو خارج عن ذلك كله، لعدم وقوعه تحت جنس قدرة البشر، بل هو واقع موقعه من الحسن والبراعة بغير تعمّل أو تصنع.
ويبين القاضي هذا القانون فيقول: "ولولا هذه الوجوه([49]) التي بيناها، لم يتحير فيه أهل الفصاحة، ولكانوا يفزعون إلى التعمل للمقابلة، والتصنع للمعارضة، وكانوا ينظرون في أمرهم، ويراجعون أنفسهم، أو كان يراجع بعضهم بعضاً في معارضته ويتوقفون لها"([50]).
ويتأكد هذا المعنى عند القاضي، فيستدل عليه بأنّ النظم القرآني لو كان يمكن دركه أي صنع مثله بنوع من التعمل والتصنع لما قصر صناديد الكفار بالتعمل والتصنع لمعارضته والمجيء بمثله، قال: "ولا يمتنع أن يلتبس - على من لم يكن بارعاً فيهم، ولا متقدماً في الفصاحة منهم - هذا الحال، حتى لا يعلم إلا بعد نظر وتأمل، وحتى يعرف حال عجز غيره، إلا أنا رأينا صناديدهم وأعيانهم ووجوههم سلموا ولم يشتغلوا بذلك، تحققاً بظهور العجز وتبيناً له"([51]).
وأيضاً يؤكد القاضي هذا المعنى مرة أخرى، وذلك بعد أن ساق وجوه البديع التي وقعت في كلام العرب ووقع في القرآن من قبيلها أشياء([52])، فينص على أن كل أنواع البديع لكونها تدرك بالتعمل والتدرب ليست هي محل الإعجاز، وإن كانت مما يزين الكلام ويحسنه، قال الباقلاني: "لا سبيل إلى معرفة إعجاز القرآن من البديع الذي ادّعوه في الشِّعر ووصفوه فيه. وذلك: أنّ هذا الفنّ ليس فيه ما يخرق العادة، ويخرج عن العرف، بل يمكن استدراكه بالتعلم والتدرب به والتصنع له، كقول الشعر، ورصف الخطب، وصناعة الرسالة، والحذق في البلاغة، وله طريق يسلك، ووجه يقصد، وسلم يرتقى فيه إليه، ومثال قد يقع طالبه عليه، فربَّ إنسان يتعوَّد أن ينظم جميع كلامه شعراً، وآخر يتعود أن يكون جميع خطابه سجعاً، أو صنعة متصلة، لا يسقط من كلامه حرفاً، وقد يتأتى له لما قد تعوّده"([53]).
وذكر الإمام الباقلاني هذا القانون في كتاب البيان، حيث قال: "فلا يؤمن أن يكون نظم القرآن على هذا الحدّ من البلاغة إنما تأتى لمورده لفضل عمله وتقدمه في البراعة واللسن ومعرفته بوجوه تصاريف الكلام ونظومه وأوزانه، وإن تعذر ذلك على غيره"([54]).
وأكد هذا القانون مرة أخرى في كتابه إعجاز القرآن، فقال: "وقد قدر مقدرون أنه يمكن استفادة إعجاز القرآن من هذه الأبواب التي نقلناها، وأن ذلك مما يمكن الاستدلال به عليه. وليس كذلك عندنا، لأنَّ هذه الوجوه إذا وقع التنبيه عليها أمكن التوصل إليها بالتدريب والتعوّد والتصنّع لها، وذلك كالشعر الذي إذا عرف الإنسان طريقه صحّ منه التعمل له وأمكنه نظمه. والوجوه التي تقول: إنَّ إعجاز القرآن يمكن أن يعلم منها فليس مما يقدر البشر على التصنّع له والتوصّل إليه بحال"([55]).
وفي خواتيم كتابه؛ أكد الباقلاني هذا المعنى نفسه، فذكر العلامة الفاصلة بين ما ينبغي أن يكون من العادات وبين ما يكون من خوارقها، فقال: "إن الذي يمكن أن يتوصل إليه بالتعلم يتقارب فيه الناس، وتتناهى فيه العادات، وهو كما يعلم من مقادير القوى في حمل الثقيل، وأن الناس يتقاربون في ذلك، فيرمون فيه إلى حدّ، فإذا تجاوزوه وقفوا بعده ولم يمكنهم التخطي، ولم يقدروا على التعدي، إلا أن يحصل ما يخرق العادة وينقض العرف؛ ولن يكون ذلك إلا للدلالة على النبوات على شروط في ذلك"([56]).
وقد توصلت إلى كون هذا المعنى قانوناً عند الباقلاني من خلال تكرر هذا المعنى في مواضع متعددة من كتابه، حتى إنه ذكره في غير كتاب إعجاز القرآن، أعني كتاب البيان الذي نقلت عنه سابقاً.
إذن؛ فالمعيار الذي به يعرف كون القرآن معجزاً هو اشتمال نظمه على ما لا يمكن مقاربته، ولا يطمع فيه أصلاً، وأما ما يمكن فيه ذلك، فلا يصلح أن يكون الإعجاز بسببه، هذا هو ما يقرره الباقلاني، وبناء عليه أخرج أنواعاً من البديع والبلاغة أن يكون الإعجاز بسببها، كما سأبينه بالنقل المفصل في المبحث الآتي، إن شاء الله تعالى، ومن هنا تأتي ثمرة معرفة هذا القانون، إذ إنه الذي يظهر لنا وجه الإعجاز في القرآن.
المبحث الثالث
موقع النَّظم القرآني من البيان والإعجاز البياني
لا شك أن النظم القرآني في نظرة الباقلاني ممتلئ بصنوف الحسن والجمال والبديع من الألفاظ والبليغ من التراكيب، وقد أطال الإمام الباقلاني النفس في عرض كثير من أنواع البديع المشتمل على الحسن والفصاحة، وذكر كثيراً من الأمثلة القرآنية في ثنايا تحليلاته الفنية والبلاغية، لكنها ليست كلها سبباً في الإعجاز القرآني.
وقد جعلت تحت هذا المبحث مطالب ثلاثة، أولها: فيما ذكره الباقلاني من البديع، وثانيها: فيما ذكره من وجوه البلاغة، وثالثها: في مرتبة هذه الفنون البلاغية من إعجاز النظم.
وتظهر أهمية هذا المبحث في استقراء مواضع كلام الباقلاني يقرر فيها أن الإعجاز الثابت في القرآن الكريم ليس ناشئاً عن وجوه البديع، ولا هو ناشئ عن كل الوجوه من البلاغة، بل هو راجع إلى البيان القرآني الذي يتعذر الإتيان بمثله، بل لا مطمح ولا مطمع لأحد أن يأتي بما يقاربه.
وقد جعلت وجوه البديع في مطلب، وأتبعتها بوجوه البلاغة في مطلب آخر، تبعاً للإمام الباقلاني نفسه، الذي جعل كل واحد من الأمرين في موضع، ولست أدعي أن الباقلاني يرى في هذا الشأن اصطلاحاً خاصاً يجعل فيه البديع شيئاً والبلاغة شيئاً مغايراً تماماً، وإنما أحاول تحليل كلام الباقلاني والتوصل إلى موقع البديع والبلاغة من إعجاز النظم القرآني.
المطلب الأول: وجوه البديع في النظم القرآني
بدأ الإمام الباقلاني عرضه للبديع في اللغة ببيان مصادره وموارده، فذكر أن البديع يقع في أنواع من الكلام، وهي: القرآن الكريم، وجوامع الكلم الحكيم، والألفاظ الفصيحة، والألفاظ الإلهية، وكلام النبيّ عليه الصَّلاة والسَّلام، وقول البلغاء، والشِّعر([57])، ويحسن التنبيه إلى أن كتاب الباقلاني رحمه الله إنما ألف قبل استقلال مصطلحات العلوم، وقد نبهت إلى ذلك في تمهيد هذا البحث.
وقد وقع للباقلاني من البديع سبعة وعشرون وجهاً([58])، أقتصر على ذكر بعضها:
1. الإرداف: أن يريد الشاعر دلالة على معنى، فلا يأتي باللفظ الدالّ على ذلك المعنى، بل بلفظ هو تابع له وردف، وإنما قال الإمام: (الشاعر)، لأنه ينقل عن أهل الصنعة، لكن ذلك يجوز لكل متكلم وفي كل كلام، وبعضهم يسميها استعارة، لأنَّ الاصطلاح لم يكن مقرراً بعد تمام التقرّر.
ومن قبيله: قول الله تعالى: (وَاشْتَعَلَ الرَّأْسُ شَيْبًا)[مريم: 4]، فلفظ الشيب دالّ على بياض شعر الرأس، لكن المعنى المراد هو كبر السنّ والشيخوخة، بحيث لا يكون في العادة للرجل ولد في تلك السنّ.
2. التشبيه الحسن: وهو جعل شيء مشابهاً لشيءٍ بجامع ما.
ومن قبيله قوله تعالى: (وَلَهُ الْجَوَارِ الْمُنْشَآتُ فِي الْبَحْرِ كَالْأَعْلَامِ)[الرحمن: 24]، وقوله تعالى: (كَأَنَّهُنَّ بَيْضٌ مَكْنُونٌ)[الصافات: 49].
3. الاستعارة: وهو كما مرّ أن يعبر عن المعنى بلفظ استعير له وليس له في أصل الوضع.
ومن قبيله: قوله تعالى: (وَإِنَّهُ لَذِكْرٌ لَكَ وَلِقَوْمِكَ وَسَوْفَ تُسْأَلُونَ)[الزخرف: 44].
4. المطابقـة: وقد اختلف فيها الأدباء، فهي عند بعضهم: ذكر الشيء وضدِّه، كاللَّيل والنَّهار، وعند آخرين أن يشترك معنيان بلفظةٍ واحدة.
ومن قبيله على المعنى الأول: قوله تعالى: (يُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهَارِ وَيُولِجُ النَّهَارَ فِي اللَّيْلِ)[الحج: 61]، وقوله تعالى: (يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَيُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ)[الروم: 19].
ومثاله على المعنى الثّاني: قول الشاعر:
عهدت لها منزلاً دائراً وآلاً على الماء يحملن آلا
فالآل الأول: أعمدة الخيام، والثاني: السراب.
5. المقابلة: التوفيق بين معانٍ ونظائرها والمضادّ بضدِّه.
ومن قبيله: قوله تعالى: (ثُمَّ إِذَا مَسَّكُمُ الضُّرُّ فَإِلَيْهِ تَجْأَرُونَ* ثُمَّ إِذَا كَشَفَ الضُّرَّ عَنْكُمْ إِذَا فَرِيقٌ مِنْكُمْ بِرَبِّهِمْ يُشْرِكُون)[النحل: 53، 54].
6. الموازنة: أن يقابل بين الألفاظ بالعدد نفسه على سبيل التوازن.
ومن قبيله: قوله تعالى: (وَالسَّمَاءِ ذَاتِ الْبُرُوجِ* وَالْيَوْمِ الْمَوْعُودِ* وَشَاهِدٍ وَمَشْهُودٍ)[البروج: 1-3]، وقول بعضهم: اصبر على حر اللقاء ومضض النزال، وشدة المِصاع.
7. المساواة: أن يكون اللفظ مساوياً للمعنى، لا يزيد عليه ولا ينقص عنه.
ومثاله: قول الشاعر:
ومهما تكن عند امرئ من خليقةوإن خالها تخفى على الناس تعلم
8. الإيغال: وهو في القوافي من الشعر، أو الفواصل من القرآن، ومعناه أنْ يوغلَ في الوصف ويؤكد التشبيه مع أنَّ المعنى قد يستقلّ دون ذلك الإيغال.
ومثاله: قول الشاعر:
كأنَّ عيون الوحش حول خبائناوأرحلنا الجزع الذي لم يثقَّبِ
فهذه الوجوه من البديع التي ذكرها الإمام الباقلاني رحمه الله تعالى، وقد نصّ على وجود غيرها، وأنه اقتصر كراهة التطويل.
وتأتي أهمية ذكرها في هذا البحث وعرض شيء منها أن نبين عن وجهة نظر الإمام الباقلاني في علاقتها بالإعجاز، وهو يصرح في هذا الشأن بأن البديع يدرك بالتصنع والتكلف، فلا يمكن القول بأنه سبب في حصول الإعجاز.
المطلب الثاني: وجوه البلاغة في النظم القرآني
نقل الإمام الباقلاني فصلاً في آخر كتابه من كلام نسبه إلى بعض أهل الأدب والكلام، وهو الرماني، وذلك أن البلاغة على عشرة أقسام، وسوف أذكرها وأشرحها إن شاء الله تعالى في هذا المطلب، على النسق السابق في المطلب الأول، وذلك بذكر النوع البلاغي ومفهومه ومثال له من القرآن الكريم إن أمكن وإلا فمن الشعر وغيره منَّ فصيح الكلام.
ويجدر التنبه إلى أن ذكر هذه الوجوه إنما كان للتوطئة إلى ما يريده الإمام الباقلاني من عدم كون أكثر هذه الوجوه البلاغية سبباً في إعجاز النظم القرآني.
ومن وجوه البلاغة([59]):
1. الإيجاز: وهو الدلالة على المعنى الكثير باللفظ القليل، لكن الباقلاني شرط له شرطاً ليكون حسناً، وهو عدم الإخلال باللفظ والمعنى، وقسم الإيجاز إلى:
- إيجاز الحذف: إسقاط بعض الألفاظ لتخفيف الكلام، ومنه قوله تعالى: (وَاسْأَلِ الْقَرْيَةَ)[يوسف: 82]، أي: أهلها، وقوله تعالى: (طَاعَةٌ وَقَوْلٌ مَعْرُوفٌ)[محمد: 21].
- إيجاز القصر: يكون من غير إسقاط، بل يكون باشتمال اللفظ التام القليل على المعنى الغزير الذي يصعب إيراده إلا بالألفاظ الكثيرة، ومنه قوله تعالى: (وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ)[البقرة: 179].
وأشارَ الإمام إلى أنَّ الإطناب بلاغة، وهو مقابل الإيجاز، وهو تفصيل المعنى باللفظ الكثير.
2. التشبيه: عرّفه الإمامُ بأنه: العقد على أنَّ أحدَ الشيئين يسدُّ مسدَّ الآخر في حسٍّ أو عقلٍ.
مثاله: قول الله تعالى: (وَإِذْ نَتَقْنَا الْجَبَلَ فَوْقَهُمْ كَأَنَّهُ ظُلَّةٌ)[الأعراف: 171]، وقوله تعالى: (مَثَلُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ أَعْمَالُهُمْ كَرَمَادٍ اشْتَدَّتْ بِهِ الرِّيحُ فِي يَوْمٍ عَاصِفٍ)[إبراهيم: 18].
3. الاستعارة: وهو أمر غير التشبيه، كما ذكر الباقلانيّ.
مثاله: (فَضَرَبْنَا عَلَى آذَانِهِم)[الكهف: 11]، يريد: أن لا إحساس بآذانهم من غير صمم، وأيضاً قوله تعالى: (وَلَمَّا سُقِطَ فِي أَيْدِيهِمْ)[الأعراف: 149]، قال الباقلاني: وهذا أوقع من اللفظ الظاهر، وأبلغ من الكلام الموضوع له.
4. التلاؤم: وهو تعديل الحروف في التأليف، وحسن الكلام في السمع، وسهولته في اللفظ، ووقع المعنى في القلب، وهو نقيض التنافر، والتنافر ما يلفظ بتتعتع فيه، أي صعوبة ومشقة.
وقد جعل الباقلانيُّ التلاؤمَ على ضربين: تلاؤم في الطبقة الوسْطى، وتلاؤم في الطبقة العليا.
أما الذي في الطبقة الوسطى، فمنه قول الشاعر:
رمتني وستر الله بيني وبينها عشية آرام الكناس رميم
رميم التي قالت لجارات بيتها ضمنت لكم أن لا يزال يهيم
ولا يكون في القرآن الكريم.
وأما التلاؤم الذي في الطبقة العليا، فمنه القرآن كله، إذ ليس فيه متنافر ولا نازل عن التلاؤم التام الكامل.
5. الفواصل: حروف متشاكلة في المقاطع، يقع بها إفهام المعاني، وفيها بلاغة، وليست سجعاً، بل هي تابعة للمعاني.
وكل آيات القرآن فواصل، كما هو معلوم.
6. التجانس: بيان بأنواع الكلام الذي يجمعه أصل واحد، وهو نوعان: مزاوجة ومناسبة.
أما المزاوجة، فكقوله تعالى: (فَمَنِ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى عَلَيْكُم)[البقرة: 194]، وقوله سبحانه: (وَمَكَرُوا وَمَكَرَ اللَّه)[آل عمران: 54].
وأما المناسبة، فكقوله تعالى: (ثُمَّ انْصَرَفُوا صَرَفَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لَا يَفْقَهُونَ)[التوبة: 127]، وقوله تعالى: (يَخَافُونَ يَوْمًا تَتَقَلَّبُ فِيهِ الْقُلُوبُ وَالْأَبْصَارُ)[النور: 37].
7. التّصريف: إجراء الكلام في المعاني، وكذلك تكرار المعنى في مواضع مختلفة، كتكرار قصة سيدنا موسى عليه السلام في أكثر من سورة في القرآن.
8. التضمين: حصول معنى فيه من غير ذكره له باسم أو صفة هي عبارة عنه، وهو إيجاز دائماً، ويكون على وجهين:
- تضمين توجبه البنية، مثاله: قولنا: معلوم، يوجب عالماً.
- تضمين يوجبه معنى العبارة من حيث لا يصح إلا به، وهو اقتضاء الكلام لفظاً غير مذكور لأن العادة تستوجبه.
ومنه قوله تعالى: (بسم الله الرحمن الرحيم)، لأنه يحصل به تعليم الناس الاستفتاح في الأمور باسمه العظيم وذكره الكريم، على جهة التعظيم أو التبرّك.
9. المبالغة: الدلالة على كثرة المعنى، مثاله: الرحمن عدل به عن راحم، وغفار عدل عن غافر، وأيضاً قد تحصل المبالغة بذكر الصفة العامة، كقول الله تعالى: (خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ)[الأنعام: 102].
10. حسن البيان: نقيضه العِيّ، وكل القرآن بيان حسن، لا شيء فيه من العي والغموض، وهو على مراتب.
المطلب الثالث: مدى تحقيق وجوه البديع والبلاغة لإعجاز النظم القرآني عند الباقلاني
تناول الإمام الباقلاني في كتابه البارع موضوع إعجاز القرآن الكريم، وبين فيه مسائل كثيرة، وكان من جملة ما تناوله وأخذ عهدة بيانه مجمله وشرح مفصله، ما يظهر به إعجاز القرآن الكريم من فنون البلاغة التي خرج فيها القرآن الكريم عن عادة فصحاء العرب وبلغائهم في كلامهم وخطبهم ومواعظهم وأشعارهم.
وقد ذكرت في المطلبين الأولين من هذا المبحث ما وقع للإمام الباقلاني من فنون البلاغة والبراعة، لكنه لم يقصد أن البلاغة القرآنية الواقعة في النظم الشريف واقعة في ما ذكره، قال: "وإنما لم نطلق القول إطلاقاً، لأنا لا نجعل الإعجاز متعلقاً بهذه الوجوه الخاصة ووقفاً عليها ومضافاً إليها، وإن صحَّ أن تكون هذه الوجوه مؤثرة في الجملة، آخذة بحظها من الحسن والبهجة، متى وقعت في الكلام على غير وجه التكلف المستبشع والتعمل المستشنع"([60]).
والإعجاز القرآني يبنى عليه نبوة النبي صلى الله عليه وسلم، وهذا أمر يفارق كل الكتب المنزلة على الأنبياء، ومحلّ المفارقة بين القرآن وغيره من الكتب هو النظم، إذ المعجز الفارق هو النظم، وإن كان يمكن اشتراك الكتب كلها في بعض وجوه الإعجاز كالإخبار بالغيب، قال الباقلاني: "بناء نبوته صلى الله عليه وسلم على دلالة القرآن ومعجزته، وصار له من الحكم في دلالته على نفسه وصدقه أنه يمكن أن يعلم أنه كلام الله تعالى، وفارق حكمه حكم غيره من الكتب المنزلة على الأنبياء، لأنها لا تدلّ على أنفسها إلا بأمر زائد عليها، ووصف منضاف إليها، لأنَّ نظمها ليس معجزاً، وإن كان ما تتضمنه من الإخبار عن الغيوب معجزاً، وليس كذلك القرآن، لأنه يشاركها في هذه الدلالة، ويزيد عليها"([61]).
ويمكن تلخيص ما ذهب إليه الباقلاني في العلاقة بين وجوه البلاغة والبديع وبين إعجاز النظم القرآني في مجموع ثلاثة أمور:
أولاً: الإعجاز في النظم القرآني لا يقع في اللفظة الواحدة ولا في الوجه الواحد من البديع
تناولَ الإمامُ الباقلانيّ كلام الرمانيّ بالتحليل، وهو ما ادّعاه من أنَّ هذه الوجوه العشرة تعرف بها البلاغة، فذكر أنَّ الرمّاني يُفهم كلامه على وجهين:
الأوّل: أن هذه الوجوه هي محلّ الإعجاز، قال القاضي: "وإنما ننكر أن يقول قائل: إنّ بعض هذه الوجوه بانفرادها قد حصل فيه الإعجاز من غير أن يقارنه ما يصل به من الكلام ويفضي إليه"([62])، ومعنى هذا أنه يقال: التشبيه معجز، والتضمين معجز، كلٌّ منهما بنفسه، وهذا القول غير صحيح، كما ذكر الباقلانيّ، لأنّ التشبيه والتضمين مثلاً موجودان في غير القرآن، بلا شكّ ولا مرية.
الثاني: أن الإعجاز هو في المجيء بالطبقة العالية من الكلام على أحسن الوجوه، قال القاضي: "فإنْ كان إنما يعني هذا القائل إنه إذا أتى في كلِّ معنىً يتفق في كلامه بالطبقة العالية، ثمّ كان ما يصل به كلامه بعضه ببعض وينتهي منه إلى متصرفاته على أتمّ البلاغة وأبدع البراعة، فهذا مما لا نأباه، بل نقول به"([63]).
وبين الباقلاني أنَّ الإعجاز إنما يقع في شيء غير مجرَّد اللفظة الواحدة والوجه البليغ، وهو النظم، فقال: "قد بينا في نظم القرآن أنَّ الجملة تشتمل على بلاغة منفردة، والأسلوب يختص بمعنى آخر من الشَّرف"([64])، فالأسلوب والبلاغة جميعهما ومجموعهما المجتمع في النظم الشريف هو ما تحصل به البلاغة القرآنية المعجزة.
ثانياً: البديع والبليغ في القرآن كثير لا ينحصر
استخدم الإمام الباقلاني حرف الجرِّ (مِن) للتبعيض في كثير من المواضع التي ذكر فيها البديع والبلاغة، مريداً أنَّ هذه الأنواع من الفصاحة ليست هي كلّ الفصاحة والبلاغة، بل هي قليل من كثير، وقد نصَّ الإمام على زيادة البديع والبليغ على ما ذكر، فقال: "ووجوه البديعِ كثيرة جداً، فاقتصرنا على ذكر بعضها، ونبهنا بذلك على ما لم نذكر، كراهة التطويل، فليس الغرض ذكر جميع أبواب البديع"([65]).
ثالثاً: بلاغة القرآن تجاوزت حدّ البلاغة المقدور لأهل الصنعة
بين الإمام الباقلاني تفريعاً على ما سبق من أنَّ اللفظة الواحدة والوجه الواحد من البلاغة قد يشترك فيها القرآن مع غيره، لكن القرآن في نظمه وما يتصل من كلامه يفوق الحدّ الذي يمكن أن يشتمل عليه كل كلام غيره من تلك الوجوه البلاغية، سواء كان في الشعر أو النثر من البلاغات، وهذا الذي يضمن تفوق القرآن على غيره من الكلام يقع في الأسلوب الشريف الذي يتحقق باتصال الكلام وجريانه في وصله وفصله وأوله وختامه وسوره وآياته.
وفي ذلك يقول الباقلاني رحمه الله: "فإذا بلغ الكلام غايته في هذا المعنى كان بالغاً وبليغاً، فإذا تجاوز حدَّ البلاغة إلى حيث لا يقدر عليه أهل الصناعة، وانتهى إلى أمد يعجز عنه الكامل في البراعة، صحّ أن يكون له حكم المعجزات، وجاز أن يقع موقع الدلالات"([66])، يريد بالدلالات أي الدالة على النبوة، ثم قال: "وقد ذكرنا أنه بجنسه وأسلوبه مباين لسائر كلامهم، ثمَّ بما يتضمن من تجاوزه في البلاغة الحدَّ الذي يقدر عليه البشر"([67]).
الخاتمة
الحمد لله أولاً وآخراً، وصلى الله على سيدنا محمد دائماً وأبداً، وبعد:
فقد توصلت في ختام هذا البحث إلى مجموعة من النتائج، أذكرها فيما يأتي:
- سبب البحث في نظرية النظم عند الإمام الباقلاني هو السعي في تقرير الإعجاز القرآني، والذي هو الدليل على نبوة سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم.
- نظرية النظم في كتاب الباقلاني لها معالم واضحة، تتمثل في مباينة النظم القرآني للمألوف والخروج عن المعهود، وعدم تفاوت هذا النّظم، وتعذر معارضته، وتميز الكلمة القرآنية في الأسماع والنفوس عن الكلمة في غير نظم القرآن من الكلام المنظوم.
- المعيار الدال على وجوه إعجاز النظم القرآني أن كل وجه من وجوه الإعجاز لا يدرك بوجه من وجوه التصنع أو التكلف أو التعمل، فما كان يدرك بذلك لم يكن من وجوه الإعجاز، ومن ههنا قال الباقلاني بأن الإعجاز في النظم القرآني لا يقع في اللفظة الواحدة ولا في الوجه الواحد من البديع.
- يعدّ جهد الإمام الباقلاني حلقة وصل في تاريخ نشوء نظرية النظم وتطورها، وتكمن أهمية هذه الجهود تنقيحه لكثير من الآراء السابقة وتنصيصه الواضح على أن ما حصل به الإعجاز ليس هو الوجوه الإفرادية في الكلام، وإنما هي الوجوه التركيبية المعبر عنها بالنظم، وذلك بشرط الخروج عن طاقة البشر.
- تعدّ مقررات الإمام الباقلاني في شأن نظرية النظم ناشئة عن بعض مباحث العقيدة والكلام، أعني مسائل المعجزة، وتوظيفه لقضية خرق العادة في إدراك ما وقع به الإعجاز، والتهدي من خلال ذلك إلى أنه النظم والتركيب، لا الوجوه الإفرادية من البديع والبلاغة.
والحمد لله رب العالمين
(*) مجلة الفتوى والدراسات الإسلامية، دائرة الإفتاء العام، المجلد الثاني، العدد السادس، 1444هـ/ 2022م.
الهوامش
([1]) ابن فارس، أبو الحسين أحمد بن فارس بن زكريا (ت 395هـ)، معجم مقاييس اللغة، دط، (تحقيق عبد السلام هارون)، دار الفكر، بيروت، 1979م: ج5، ص444.