مقالات

الاجتهاد والتقليد

الكاتب : المفتي الدكتور حسان أبو عرقوب

أضيف بتاريخ : 08-01-2020

هذا المقال يعبر عن رأي كاتبه، ولا يعبر بالضرورة عن رأي دائرة الإفتاء العام


الاجتهاد والتقليد

من المسائل المهمة التي تثير جدلاً عند طلبة العلم مسألة (الاجتهاد والتقليد): من المجتهد، وما صفته، وما درجات المجتهدين؟ ومن المقلد، ومن يقلد، وهل يجب أن يلتزم مذهباً، وهل يجوز له الخروج عن مذهبه إلى مذهب آخر؟ في هذا المقال محاولة للإجابة عن هذه الأسئلة وغيرها.

أولاً: الاجتهاد

تعريف الاجتهاد:

الاجتهاد: استفراغ الفقيه الوسع لتحصيل ظنٍّ بحكم شرعي.

(استفراغ الفقيه الوسع) بأن يبذل المجتهد كامل طاقته في البحث والنظر، بحيث يحس من نفسه العجز عن بذل المزيد على ما قدّمه، (لتحصيل ظنٍّ بحكم شرعي) أي ليكون الحكم المحصَّل من الفقه؛ لأنه لا اجتهاد في القطعيات.

أقسام المجتهدين:

يمكن تقسيم المجتهدين إلى عدة درجات، وقد جعلهم الإمام التاج السبكي في (جمع الجوامع) ثلاث درجات، وكذلك فعل شيخ الإسلام زكريا الأنصاري في (لب الأصول) وشرحه، وهم على حسب علوّ درجتهم: المجتهد المطلق، المجتهد في المذهب، والمجتهد في الفتيا.

فالمجتهد المطلق: "هو من يعرف دلائل الفقه، والمرجحات، وقامت به صفات الاجتهاد"، فالمجتهد المطلق أعلى المجتهدين رتبة، وهو من يضع أصولاً يجتهد على أساسها، ويكوّن منهجاً أو مدرسة تتبع في الاجتهاد من حيث التعامل مع النصوص الشرعية، أو التعامل مع النوازل التي لا نص فيها، ومن أمثلته: الأئمة الأربعة رضي الله عنهم. وإذا أطلق العلماء كلمة المجتهد، فمرادهم المجتهد المطلق غالباً.

أهم صفات المجتهد المطلق:

البلوغ، والعقل، والملكة، وفقه النفس، ومعرفة الدليل العقلي والتكليف به، والدرجة الوسطى في اللغة، ومعرفة مواطن الإجماع، والناسخ والمنسوخ، وأسباب النزول، وشرط المتواتر والآحاد، والصحيح والضعيف من الحديث، وحال الرواة في القبول والرد، ولو بالرجوع إلى أئمة ذلك الفن، ولا تشترط الذكورة والحرية.

ويليه مجتهد المذهب: وهو المتمكن من تخريج الوجوه التي يبديها على نصوص إمامه، وهذا يجوز له الفتوى بمذهب إمامه قطعاً، ومن أمثلة هذه الطبقة، الإمامان: المزني والبويطي صاحبا الإمام الشافعي.

ويليه مجتهد الفتيا: وهو المتبحر في مذهب إمامه، المتمكن من ترجيح قول له على آخر، وهذا يجوز له الفتوى بمذهب إمامه مطلقاً، ومن أمثلة هذه الطبقة، الأئمة: أبو القاسم الرافعي، ومحيي الدين النووي، والشهاب ابن حجر الهيتمي، والشمس محمد الرملي.

من أحكام الاجتهاد:

الاجتهاد فرض كفاية على القادر عليه.

حكم خلوّ عصر عن مجتهد:

 ويجوز عقلاً وشرعًا خلوّ عصر عن مجتهد يمكن تفويض الفتوى إليه، سواء كان مجتهداً مطلقاً أو دونه.

واختلف في وقوعه بعد جوازه، حيث رجح التاج السبكي في (جمع الجوامع) أنه لم يثبت وقوعه، ورجح شيخ الإسلام زكريا الأنصاري في (غاية الوصول) أنه يقع.

حكم تجزؤ الاجتهاد:

ويجوز تجزؤ الاجتهاد، وذلك بأن يكون للبعض قدرة على الاجتهاد في بعض أبواب الفقه دون بعضها الآخر.

حكم من أصاب أو أخطأ من المجتهدين:

والمصيب من المجتهدين في الخلافيات واحد وله أجران، والمخطئ لا يأثم وله أجر، لكن متى قصّر مجتهد في اجتهاده أثم لتقصيره، وتركه واجب بذل الوسع في الاجتهاد.

حكم نقض الاجتهاد:

ولا ينقض الحكم في الاجتهاديات إلا إن خالف نصاً أو إجماعاً أو قياساً جلياً أو حكم حاكم بخلافه؛ لأنه لو جاز نقض الاجتهاد السابق باللاحق، لجاز نقض النقض وهلم جرا، فتفوت مصلحة استقرار الأحكام بين الناس، ولا يبقى لتنصيب الحاكم فائدة، لذلك يقال: لا ينقض الاجتهاد بالاجتهاد.

ثانياً: التقليد

تعريف التقليد:

التقليد: أخذ قول الغير دون معرفة دليله.

(أخذ قول الغير) يعني الأخذ بمذهب سواء كان ذلك المذهب قولاً أو فعلاً أو تقريراً (دون معرفة دليله) حتى لو أخذ المقلد القول مع دليله من كلام المجتهد لا يكون مجتهداً، غاية الأمر أنه عرف القول من مذهبه مع دليله لا أنه استخرج القول بالدليل الذي هو شأن المجتهد.

من أحكام التقليد:

يجب على غير المجتهد: عامياً كان أو عالماً لم يبلغ رتبة الاجتهاد المطلق أن يقلد مجتهداً؛ لقول الله تعالى: {فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ} [النحل: 43].

 أما المجتهد الذي استجمع شروط الاجتهاد، فيحرم عليه التقليد فيما يقع له؛ لتمكنه من الاجتهاد فيه.

حكم التمذهب بمذهب معيّن:

ولا يلزم من لم يبلغ رتبة الاجتهاد التمذهب بمذهب بعينه، بل يستفتي من شاء أو من اتفقَ لكن من غير تلقّط الرخص، ورجحه النووي في (روضة الطالبين)، لكن التاج السبكي رجح خلاف ذلك في (جمع الجوامع)، ونص شيخ الإسلام زكريا الأنصاري في (غاية الوصول) على أنه الأصح، حيث قال: " والأصح أنه يلزم المقلد التزام مذهب معين من مذاهب المجتهدين".

حكم الخروج من مذهب إلى آخر:

وإذا التزم العاميّ مذهباً معيّناً، فيجوز له الخروج عنه إلى مذهب آخر، لكن دون تتبع للرخص المركبة في الفعل الواحد، كي لا يقع في حكم مركب من اجتهادين، كمن توضأ ومسح بعض الرأس على مذهب الشافعي، ثم صلى بعد لمس مجرد عن الشهوة عند مالك، فالشافعي ينقض وضوء من لمس بغير شهوة، ومالك ينقض وضوء من لم يمسح جميع رأسه، فهذا قول من منع التلفيق في التقليد.

يقول ابن حجر الهيتمي: "أما على الصحيح وهو التخيير مطلقاً وجواز الانتقال إلى أي مذهب من المذاهب المعتبرة ولو بمجرد التشهي، ما لم يتتبع الرخص، بل وإن تتبعها على ما مَرَّ، فله وإن أفتى بحكم أن ينتقل إلى خلافه بأن يقلد القائل به ويفتي به، ما لم يترتب على ذلك تلفيق التقليد المستلزم بطلان تلك الصورة باجتماع المذهبين" [الفتاوى الكبرى 4/ 316].

حكم تقليد غير المذاهب الأربعة:

وأجاز فريق من العلماء تقليد غير المذاهب الأربعة في عمل النفس لا في الإفتاء والقضاء إذا ثبت المذهب عند المقلد، وغلب على ظنه صحته عنده، وعرف شروطه وسائر معتبراته، يقول ابن حجر الهيتمي: "الذي تحرر: أن تقليد غير الأئمة الأربعة رضي الله تعالى عنهم لا يجوز في الإفتاء ولا في القضاء، وأما في عمل الإنسان لنفسه فيجوز تقليده لغير الأربعة ممن يجوز تقليده لا كالشيعة وبعض الظاهرية، ويشترط معرفته بمذهب المقلد بنقل العدل عن مثله وتفاصيل تلك المسألة أو المسائل المقلد فيها وما يتعلق بها على مذهب ذلك المقلَّد، وعدم التلفيق لو أراد أن يضم إليها أو إلى بعضها تقليد غير ذلك الإمام.... ولا يشترط موافقة اجتهاد ذلك المقلد لأحد المذاهب الأربعة، ولا نقل مذهبه تواترا كما أشرت إليه، ولا تدوين مذهبه على استقلاله، بل يكفي أخذه من كتب المخالفين الموثوق بها المعوّل عليها" [الفتاوى الكبرى 4/ 325].

ومنع فريق تقليد غير المذاهب الأربعة من أقوال العلماء؛ لعدم تدوين مذاهبهم وعدم معرفتنا بشروطها وقيودها، وعدم وصول ذلك إلينا بطريق التواتر.

حكم تقليد أهل الاختيار في المذهب:

 يجوز تقليد المختارين في المذهب كالنووي وابن المنذر والسيوطي في اختياراتهم؛ لأنهم مجتهدون في تلك المسألة.

حكم العمل بالأقوال والطرق الضعيفة في المذهب:

ويجوز العمل لنفسه بالأقوال والطرق والوجوه الضعيفة إلا بمقابل الصحيح؛ لأن الغالب فيه الفساد. ويجوز الإفتاء به للغير بمعنى الإرشاد.

حكم نقل المقلد فتوى من يقلده:

ويجوز للمقلد الذي لم يبلغ رتبة (مجتهد الفتيا) الفتوى بمذهب إمامه؛ لأنه مجرد ناقل لما يفتي به عنه، ولو لم يصرح بنقله عنه، ويعقب شيخ الإسلام زكريا الأنصاري في (غاية الوصول) على الحكم السابق بقوله: " وهذا هو الواقع في الأعصار المتأخرة".

حكم من استفتى ورجع عن الفتوى:

لو أُفتيَ عامي في واقعة ما، فله الرجوع عن الفتوى بشرطين:

الأول: إن لم يعمل بالفتوى، فإن عمل بها فليس له الرجوع عنها جزماً.

الثاني: أن يكون ثمّ مفتٍ آخر، وإلا فليس له الرجوع.

 

رقم المقال [ السابق | التالي ]

اقرأ للكاتب



اقرأ أيضا

الفتاوى

   القول الشاذ في الفقه وحكم العمل به

   ضوابط التلفيق والخروج عن المذهب الفقهي

   طلب الفتوى من أهل العلم المختصين


التعليقات



تنبيه: هذه النافذة غير مخصصة للأسئلة الشرعية، وإنما للتعليق على الموضوع المنشور لتكون محل استفادة واهتمام إدارة الموقع إن شاء الله، وليست للنشر. وأما الأسئلة الشرعية فيسرنا استقبالها في قسم " أرسل سؤالك "، ولذلك نرجو المعذرة من الإخوة الزوار إذا لم يُجَب على أي سؤال شرعي يدخل من نافذة " التعليقات " وذلك لغرض تنظيم العمل. وشكرا


Captcha