أضيف بتاريخ : 23-02-2015


تأصيل الأولويات وكيفية تحديدها(*)

 الدكتور علاء الدين حسين رحال، ونهيل علي صالح/ كلية الشريعة- جامعة اليرموك

ملخص

تناولت الدراسة موضوع مفهوم الأولويات لما له من أهمية خاصة لكثرة تداوله في واقعنا، وتوصلت إلى أنه القاعدة المبنية على فهم الأنسب والأجدر من الأعمال، ومعرفة فاضل الأعمال ومفضولها، وراجحها ومرجوحها، بناء على العلم بمراتبها، وبالواقع الذي يتطلبها، بغرض تحقيق أهم المصالح بأخف الأضرار، ومعرفة النتائج التي يؤول إليها تطبيق تلك الأعمال.

وقد قمنا بتأصيل مفهوم الأولويات شرعاً باستقراء نصوص القرآن الكريم، والسنة، وأقوال بعض العلماء وتحليل هذه النصوص والأقوال، وأبرزت الدراسة أن مبدأ مراعاة الأولويات ثابت ومحدد في الشريعة الإسلامية وأن الشواهد على ترتيب الأولويات كثيرة.

وتبين من خلال الدراسة أن هناك بعض المحددات التي تساعد على ضبط منهجية ترتيب الأولويات وكيفية مراعاتها.

المقدمة

الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف الخلق وسيد المرسلين سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم، وبعد،

فقد أعطى الإسلام العقل أهمية كبرى، فهو مناط التكليف وأساس التفكير، وأراد أن يصل بالعقل إلى أحسن مستوى بتقديم أفضل أداء، فالعقل شرط في معرفة العلوم وبه يكمل العلم والعمل.

ومن هنا أصبح لزاماً على كل فرد الحرص على ترتيب واجباته وحقوقه، وتنظيم احتياجاته وغاياته وذلك بمعرفة ماذا يقدّم؟ وماذا يؤخّر؟ وأي المجـالات أولى بالتقديم؟ وأي ميدان يجب أن يكون له القسط الأكبر من الرعاية والاهتمام عن غيره، حتى يكون قادراً على الإنتاج والعطاء، والمساهمة في بناء مجتمعه.

وهذا أصل عظيم في الشريعة إذ جاءت لتحصيل المصالح وتكميلها، وتعطيل المفاسد وتقليلها، كما أنها ترجح خير الخيرين، وشر الشرين وتحصل أعظم المصلحتين بتفويت أدناهما، وتدفع أعظم المفسدتين باحتمال أدناهما.

وقد كثر ترداد مصطلح الأولويات على الألسنة في حياتنا المعاصرة، فأمتنا لم تكن في يوم بحاجة إلى مراعاة تقديم الأولى كما هي اليوم، فمعرفة أولويات الأعمال، ومعرفة ترتيبها وضوابطها، تُعين المسلم على الخروج من الحيرة والتردد عندما تواجهه الحياة بمشكلات وأحوال يصعب ردّها إلى آحاد الأحكام والفتاوى التي صيغت في إطار نظري أُحادي، كما تُعين على تقدير الخصوصيات التي تُؤثر على اختيار حلّ من الحلول المتعددة والذي يحقق أكبر قدر من المصالح المعتبرة.

وعليه فإن موضوع مراعاة الأولويات الذي نود دراسته، والتعرف إلى مفهومه وتأصيله في القرآن الكريم والسنة النبوية الشريفة، وكذلك في أقوال العلماء، وإدراك كيفية تحديد الأولويات، سيؤدي - بلا شك - إلى رفع مستوى التفكير لدى المسلم بأسلوب مرن يتكيف مع الواقع، وبعقل نيّر وفق منهجية واضحة، وبالتالي سيساعد في تمكين الأمة الإسلامية من القدرة على مواجهة المتغيرات بحكمة، دون المعاناة من التعميمات والمتناقضات، وغير ذلك من انعكاسات سلبية على تربية الجيل.

وقد قسمنا البحث إلى ثلاثة مباحث:

المبحث الأول: مفهوم الأولويات، وفيه مطلبان:

المطلب الأول: تعريف الأولويات لغة.

المطلب الثاني: تعريف الأولويات اصطلاحاً.

المبحث الثاني: تأصيل الأولويات، وفيه ثلاثة مطالب:

المطلب الأول: نماذج من القرآن الكريم لمراعاة الأولويات.

المطلب الثاني: نماذج من السنة النبوية لمراعاة الأولويات.

المطلب الثالث: نماذج من أقوال العلماء في مراعاة الأولويات.

المبحث الثالث: كيفية تحديد الأولويات.

الخاتمة وفيها أهم نتائج البحث

المبحث الأول

مفهوم الأولويات

نتناول في هذا المبحث مطلبين، المطلب الأول: تعريف الأولويات لغة. المطلب الثاني: تعريف الأولويات اصطلاحاً.

المطلب الأول: تعريف الأولويات لغة

تعود كلمة أولويات إلى أصل (و، ل، ي) ولي، والوَلي: هو القُرب يقال: جلستُ مما يليه: أي مما يقاربه.([1]) ومن ذلك قوله تعالى: (أَوْلَى لَكَ فَأَوْلَى* ثُمَّ أَوْلَى لَكَ فَأَوْلَى)القيامة35/34  أي أهلكك الله تعالى هلاكاً أقرب لك من كلّ شرّ، وقال الأصمعي: قاربه ما يهلكه، بمعنى التهديد والوعيد([2]).

والأَوْلَى صيغة تفضيل على وزن أفعل للمقاربة، من باب أحرى، وفي التنزيل:(إِنَّ أَوْلَى النَّاسِ بِإِبْرَاهِيمَ لَلَّذِينَ اتَّبَعُوهُ وَهَذَا النَّبِيُّ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَاللَّهُ وَلِيُّ الْمُؤْمِنِينَ) آل عمران/ 68 بمعنى الأحق والأجدر([3]). يقال: فلان أولى بهذا الأمر من فلان: أي أحقّ به، وفلان أَولى بكذا: أي أحرى به وأجدر. وفي الحديث "ألحقوا الفرائض بأهلها، فما بقي فهو لأَولى رجل ذكر"([4]) أي أدنى وأقرب في النسب إلى المورث، فهو الأولى، وهم الأوالي والأَولون([5]).

ومنه تكون النسبة: أولوية، وجمعها: أَولويات، يقال: له الأولوية في هذا العمل، أي له الأحقية([6]). أما النسبة (أوّليات)، فهي النسبة من أَوَّل: نقيض الآخر، يقال: هذا أوّل بين الأولية ومؤنث الأول: الأولى، وجمعها: أوّليات([7]). وباختصار يمكن القول إن الاستعمال اللغوي لمصطلح الأولويات ينحصر في المعاني التالية: الأحق والأجدر والأرجح و الأقرب. وقد قمنا باستقراء لكلمة "أولى" في القرآن الكريم فوجدنا أنها قد تكررت في سبع آيات، تضمنت المعاني السابقة الذكر وهي على ترتيب المصحف:

1- قـوله تعـالى: (إِنَّ أَوْلَى النَّـاسِ بِإِبْرَاهِيمَ لَلَّذِينَ اتَّبَعُوهُ وَهَذَا النَّبِيُّ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَاللَّهُ وَلِيُّ الْمُؤْمِنِينَ) آل عمران/68 أي أحق الناس بمتابعة إبراهيم الخليل الذين اتبعوه على دينه وهذا النبي يعني محمداً صلى

الله عليه وسلم، والذين آمنوا من أصحـابه المهاجرين والأنصار ومن تبعهم بعدهم([8])، فالأولى في الآية بمعنى الأحقّ.

2- قوله تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَدَاءَ لِلَّهِ وَلَوْ عَلَى أَنفُسِكُمْ أَوْ الْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ إِنْ يَكُنْ غَنِيًّا أَوْ فَقِيرًا فَاللَّهُ أَوْلَى بِهِمَا) النساء/ 135 والأولى في الآية أيضاً بمعنى الأحقّ.

3- قوله تعالى: (وَالَّذِينَ آمَنُوا مِنْ بَعْدُ وَهَاجَرُوا وَجَاهَدُوا مَعَكُمْ فَأُوْلَئِكَ مِنْكُمْ وَأُوْلُوا الْأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ فِي كِتَابِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ) الأنفال/ 75، فالأولى في الآية بمعنى الأحقّ والأقرب([9]).

4- قوله تعالى: (ثُمَّ لَنَحْنُ أَعْلَمُ بِالَّذِينَ هُمْ أَوْلَى بِهَا صِلِيًّا) مريم/ 70، أي أحق بجهنم دخولاً واحتراقاً. إلى غيرها من الآيات([10])،  ويتّضح لنا مما سبق أن لفظ الأولى في الآيات الكريمة جاء بمعنى الأحقّ والأجدر والأقرب. وقد  ورد في السنة النبوية ما يدل على المعاني السابقة مثل:

1- عن جابر بن عبد الله رضي الله عنه قال: "كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا خطب احمرت عيناه وعلا صوته واشتد غضبه حتى كأنّه منذر جيش، ويقول: "بعثت أنا والساعة كهاتين ويقرن بين إصبعيه السبابة والوسطى، ويقول: أما بعد فإنّ خير الحديث كتاب الله، وخير الهدي هدي محمد، وشرّ الأمور محدثاتها، وكلّ بدعة ضلالة، ثم يقول: أنا أَوْلى بكل مؤمن من نفسه، من ترك مالاً فلأهله، ومن ترك ديناً أو ضياعاً فإليّ وعليَّ"([11]) فالمقصود بكلمة أولى في الحديث الأحقّ.

2- عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: قدِم رسول الله المدينة فوجد اليهود يصومون يوم عاشوراء فسئلوا عن ذلك، فقالوا: هذا اليوم الذي أظهر الله فيه موسى وبني إسرائيل على فرعون، فنحن نصومه تعظيماً له، فقال النبي: "نحن أَوْلى بموسى منكم" فأمر بصومه([12])، والمقصود بكلمة أولى الأجدر والأقرب.

3- عن رسول الله أنه قال: "أنا أَوْلى الناس بابن مريم، الأنبياء أولاد علاّت([13]) وليس بيني وبينه نبيّ"([14]) والأولى هنا بمعنى الأحقّ والأجدر والأقرب.

ويرى الباحث من خلال استعراض كلمة أولى في المعاجم اللغوية ومن استقرائها في القرآن الكريم وبعض الأحاديث أنها تدلّ على المعاني السابقة ولم تخرج عنها وكلها مجتمعة مُرادة في البحث عند قولنا أولويات، فإذا أردنا معرفة الحكم وتنفيذه، يُراعى دائماً ترتيب الأولى أي الأحقّ؛ وذلك بتقدير الأصلح والأرجح، واعتبار الأقرب للتحقيق.

المطلب الثاني: تعريف الأولويات اصطلاحاً

برز استعمال هذا المصطلح حديثاً في كتابات المهتمين بإدارة الذات، من الإداريين والتربويين ودعاة التغيير الاجتماعي، لذا نجد التعريفات الاصطلاحية للأولويات في معظمها حديثة وقليلة، فمنها:

أ- تعريف (السقا) بأنها "القطاعات والعمليات التي تُعطى أسبقية في الترتيب على غيرها، فهي نقطة البدء الأساسية في غايات المجتمع وأهدافه"([15]).

ب- تعريف (سعادة) بأنها وضع الأشياء أو الأمور في ترتيب معين حسب أهميتها، ومن الكلمات أو المفاهيم المرادفة لها مفهوم الترتيب([16]).

ج- تعريف (السليم) للأولويات بأنها الأعمال والأنشطة التي حقها التقديم على غيرها([17]). إلى غيرها من تعريفات تتناول العمل الإداري وضرورة ترتيب أولوياته.

 وقد ظهر مصطلح الأولويات في الفقه الإسلامي حديثاً، ويُعد (القرضاوي) رائداً من روّاد هذا المصطلح، وقد أضاف للأولويات كلمة فقه فأصبحت (فقه الأولويات)، ليُعطي بذلك دلالة على أنّ الأولويات لها فقهٌ خاصٌ بها، وسنوجز باختصار بعض تعريفات العلماء لفقه الأولويات، والتي تساعد في وضع تصوّر شامل للأولويات.

1- عرّف (القرضاوي) فقه الأولويات بأنه "وضع كل شيء في مرتبته بالعدل، من الأحكام والقيم والأعمال، بناءً على معايير صحيحة يهدي إليها نور الوحي،"([18]) فاستعمال لفظ الفـقه هنا جـاء بمعنى الفهم، أي فهـم الأولويات بأن تُرتّب وِفق الأهم.

2- وعرّف (العثماني) فقه الأولويات بأنه: "العلم بفاضل الأعمال ومفضولها، وحسن التصرف بالبدائل من خير أو شر، وذلك بمعرفة خير الخيرين، وشرّ الشرّين"([19]).

3- وقد عبّر (فتحي يكن) عنه: بأنه معرفة ما هو أجدر من غيره في التطبيق، بمعنى أن يقدم الأفضل والأجدر على غيره، وهذا  تابع لمعرفة طبيعة الوقت الذي يطبق فيه الأمر([20]). هذه باختصار بعض تعريفات المعاصرين([21])، وأهم ملحوظات الباحث هي:

أ- التعريفات تؤكّد أن القيم والأحكام والأعمال والتكاليف متفاوتة، وليست كلها في مرتبة واحدة، فمنها الكبير، ومنها الصغير، ومنها ما موضعه في الصلب، وما موضعه في الهامش، وأن الواجب على المسلمين أمةً وأفراداً المحافظة على النّسب التي جعلها الله بين التكاليف والأعمال بعضها مع بعض، حتى يبقى كلّ عملٍ في مرتبته الشرعية لا ينزل عنها، ولا يعلو عليها.

ب- اتفقت التعريفات على أحقية تقديم عمل على آخر، وهذه الأحقية يفترض ألا تكون جزافاً، بل بناءً على ضوابط ومعايير تحكم التقديم، فالشريعة الإسلامية جاءت لتوازن بين المصالح والمفاسد، وتقديم الراجح منها وفق ضوابط يمكن أن تستنبط من نصوص الشريعة بطريق الاستقراء، ولا بد من الكشف عن كيفية تحديد وترتيب الأولويات، فعامة المصالح والمفاسد تكون مزدوجة؛ فالفعل الواحد يكون مناطاً لمصلحتين، أو مصلحة ومفسدة، فالقصاص مثلاً: مصلحة للجماعة في حفظ نفوسهم، وهي مصلحة ضرورية، ولكنه مفسدة في حق الجاني.

ج- معرفة الأولويات ومراعاتها لا تنحصر بالمختصين من المشتغلين بالفتوى واستنباط الأحكام، فكل مسلم مطالب بالاجتهاد حسب الحالة التي يواجهها.

د- الظروف التي تنشئ ضرورة مراعاة الأولويات هي حالات التزاحم، وكثرة البدائل، فيراعى حينئذٍ في تحصيلها ترتيب الأولى وتقدير الأصلح.

أما إذا بحثنا عن تعريفات الأقدمين للأولويات، فلا نجد لهم تعريفاً اصطلاحياً محدداً وقد يعود السبب إلى ما يأتي:

- كون المسألة بدهية عقلية، فالعقول السليمة تجمع على ما منفعته غالبة.

- كون مراعاة الأولويات حقيقة شرعية، يُصبّ الاهتمام على تطبيقها دون أن تُوَّلى حظُّها من التدوين، فعدم تبلور مصطلح الأولويات كمبحث مستقل وقضية تُدرس في ذلك الزمن يعني عدم وجود المبررات والحاجة إلى ظهوره.

وبما أن أحكام الشريعة في مجموعها مُعلّلة، وأن وراء ظواهرها مقاصد هدف الشارع إلى تحقيقها، فإن هذا الموضوع يندرج بشكل طبيعي تحت مباحث فقهية أصولية كثيرة منها: مقاصد الشريعة، والعلة، وأقسام الحكم التكليفي، والقياس والاستحسان، ومسائل رفع الحرج والتيسير، وسد الذرائع. وغيرها من المباحث الهامّة التي راعت الأولويات في الحكم على الأعمال، وقد عرف الأصوليون والفقهاء  باستقرائهم لطريقة الشارع في التشريع أن ترتيب الأولويات سنّة تشريعية، فبنوا عليها قواعدهم الفقهية واحتكموا إليها.

فالشريعة قدمت الفرض على النافلة، والنص على الاجتهاد، ودرء المفاسد فيها أولى من جلب المصالح، والمصلحة العامة مقدّمة على المصلحة الخاصة، ويُرْتكب أخفّ الضّررين وأهون الشرّين مخافة ضرر أكبر، وغيرها من التفصيلات. وخلاصة الأمر أن الباحث لم يجد تعريفاَ اصطلاحياً للأولويات عند الأقدمين، لكنه وجدهم مدركين لمفهوم الأولويات؛ أي تقديم الأهم على المهم في طرائق تفكيرهم وجزيئات فتاواهم.

وإن كان لا بدّ من تحديد تعريف للأولويات، فنقترح التعريف الآتي وهو مستمدّ من التعريفات السابقة مع تصرّف يخدم البحث.

فالأولويات: هي تلك القاعدة المَبْنيّة على فهم الأنسب والأجدر من الأعمال، ومعرفة فاضل الأعمال ومفضولها، وراجحها ومرجوحها، بناءً على العلم بمراتبها، وبالواقع الذي يتطلبها بغرض تحقيق أهم المصالح بأخف الأضرار، ومعرفة النتائج التي يؤول إليها تطبيق تلك الأعمال.

المبحث الثاني

تأصيل الأولويات

يهدف هذا المبحث إلى عرض نماذج لمراعاة الأولويات في الشريعة الإسلامية من مصادرها الأصلية:

القرآن الكريم والسنة النبوية الشريفة، كما يذكر بعض الأمثلة في أقوال العلماء. والاقتصار على بعض الأمثلة تفرضه طبيعة البحث، إذ ليس الهدف هو الحصر فهذا يستلزم الكثير وإنما حاولنا أن تكون الأمثلة المختارة متنوعة.

كما يجب التنويه على أنه لم يتم التعرض للاختلافات الفقهية في النماذج المذكورة إذ ليست الدراسة لذكر الاختلافات، وما ذكر من تعليقات العلماء كان مما يوضّح البحث فحسب.

المطلب الأول: نماذج من القرآن الكريم لمراعاة الأولويات

المتأمل في آيات القرآن الكريم يجد أنها لم تأت بأوامر مطلقة مجردة عن اعتبار الزمان والمكان والأشخاص، فجميع الأوامر والتوجيهات كانت تأتي مع إشارات واضحة إلى اعتبار ظروف التطبيق، وتقرير البديل الذي يتناسب مع حال المكلّف، وهذا الاعتبار لظروف تطبيق الأوامر الشرعية هو ما يسمى بمراعاة الأولويات، وهو منهج سار عليه القرآن الكريم في معالجة قضايا تقديم الأولى، الأهم فالمهم ومثاله بيّن في المحافظـة على الضروريات ثم الانتـقال إلى تحقيق الحاجيات فالتحسينيات.

وقد جاءت بعض الآيات لتؤصّل مراعاة  الأولويات كمبدأ وفكرة عامة دون تخصيص لمسألة عامة وحكم جزئي، وهي كُثر في القرآن الكريم مثل قوله تعالى: (عَبَسَ وَتَوَلَّى * أَنْ جَاءَهُ الْأَعْمَى* وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّهُ يَزَّكَّى* أَوْ يَذَّكَّرُ فَتَنْفَعَهُ الذِّكْرَى* أَمَّا مَنْ اسْتَغْنَى* فَأَنْتَ لَهُ تَصَدَّى* وَمَا عَلَيْكَ أَلَّا يَزَّكَّى* وَأَمَّا مَنْ جَاءَكَ يَسْعَى*وَهُوَ يَخْشَى*فَأَنْتَ عَنْهُ تَلَهَّى)عبس/1-10،  والقصة من الشهرة بمكان، فالسورة الكريمة تصور لنا مجلساً من مجالس رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يدعو فيه إلى الله تعالى، حريصاً على هداية زعماء قريش، إذ جاءه ابن أم مكتوم، وكان ضريراً أعمى، جاءه مقبلاً، فلما لم يلتفت إليه، وعبس في وجهه عبسة المهتم بأمر خطير وما ذاك إلا لشدة حرصه على أولئك الزعماء، نزلت هذه السورة([22]).

فلم تكن هذه الآيات مجرد تبيان لحقيقة كيف يُعامل فرداً من الناس؟ كما هو المعنى القريب للحادث، وإنما هي أبعد من هذا، وهي كيف يزن الناس كل أمور الحياة، وكيف يقدّمون الأَولى؟ ومن أين يستمدون القيم التي يزنون بها؟ وهذه القيم هي التي يحددها الله تعالى لا المتعارف عليها عند الناس([23]).

فهذه المعاتبة كانت بسبب التصرف بخلاف الأولى، فكان الاهتمام والاشتغال بأمر سؤال ابن أم مكتوم

عن الإسلام وأموره أَولى من الاشتغال بالكفار والإقبال على المدبر في الموازين الإلهية([24]).

وهناك آيات جاءت لتؤصل مراعاة الأولويات عن طريق مقارنة بين مسألتين فقهيتين ومفاضلة الأحكام التي يفضل بعضها بعضاً، مع إشارة واضحة إلى اعتبار ظروف التطبيق لكل حالة. فقد وردت بعض الآيات القرآنية بأحكام فيها مجموعة من البدائل فكانت تفاضل بين الأحكام وتقدم بعضها على بعض، وهي على قسمين:

القسـم الأول: منها ما كـان للمفاضـلة بين الأعمـال وإظهار التفاوت بين مراتبها.

القسم الثاني: ما كان للمفاضلة بين البشر وإظهار التفاوت بين مراتبهم.

القسم الأول: أدلة المفاضلة بين الأعمال في القرآن الكريم:

يقول العز بن عبد السلام: "أمر الله تعالى بإقامة مصالح متجانسة، وأخرج بعضها عن الأمر إما لمشقة ملابستها وإما لمفسدة تعارضها، وزجر عن مفاسد متماثلة وأخرج بعضها عن الزّجر، إما لمشقة اجتنابها وإما لمصلحة تعارضها، ويعبّر عن المصالح والمفاسد بالقرآن الكريم بالخير والشرّ، والنفع والضرّ، والحسنات والسيئات؛ لأن المصالح كلها خيور نافعات حسنات والمفاسد بأسرها شرور ومضرات وسيئات"([25]) . فللأولويات بين الأعمال ثلاثة أنواع:

1- الأولويات في المصالح (تقديم خير الخيرين).

2- الأولويات في المصالح والمفاسد (تقديم المصلحة على المفسدة).

3- الأولويات في المفاسد (تقديم أخف الضررين).

1-الأولويات في المصالح (تقديم خير الخيرين)

الشاهد الأول قوله تعالى: (إِنْ تُبْدُوا الصَّدَقَاتِ فَنِعِمَّا هِيَ وَإِنْ تُخْفُوهَا وَتُؤْتُوهَا الْفُقَرَاءَ فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَيُكَفِّرُ عَنْكُمْ مِنْ سَيِّئَاتِكُمْ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ) البقرة/271، فالآية فيها دلالة على أن إسرار الصدقة أفضل من إظهارها؛ لأنه أبعد عن الرياء، إلا إذا ترتب على الإظهار مصلحة راجحة من اقتداء الناس، فيكون أفضل من هذه الحيثية، ثم إنّ الآية عامة في أنّ إخفاء الصدقة أفضل سواء كانت مفروضة أو مندوبة وبذلك يحصل الخير ورفع الدرجات،([26]) فإخفاء الصدقة هو الأولى، وتستثنى حالة رجحان مصلحة إقتداء الآخرين بالمتصدق.

الشاهد الثاني قوله تعالى: (أَجَعَلْتُمْ سِقَايَةَ الْحَاجِّ وَعِمَارَةَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ كَمَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَجَاهَدَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ لَا يَسْتَوُونَ عِنْدَ اللَّهِ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ)التوبة/19، وقد علّق الشوكاني على الآية مُبيناً أن الله تعالى أنكر على من ساوى بين ما كانت تعمله الجاهلية من الأعمال التي صورتها صورة الخير، وإن لم ينتفعوا بها، وبين إيمان المؤمنين وجهادهم في سبيل الله، وقد كان المشركون يفتخرون بالسقاية والعمارة ويفضلونها على عمل المسلمين، فأنكر الله عليهم ذلك، ثم صرّح سبحانه بالمفاضلة بين الفريقين وتفاوت مراتبهم وعدم استوائهم فقال: "لا يستوون عند الله"، ودلّ سبحانه بنفي الاستواء على نفي الفضيلة التي يدعيها المشركون: أي إذا لم تبلغ أعمال الكفار إلى أن تكون مساوية لأعمال المسلمين فكيف تكون فاضلة عليها كما يدّعون([27]).

فبالنظر إلى ماهية الفعلين، نجد أنّ كلا الأمرين طاعة وقربة إلى الله تعالى، لكنّ العمل المقترن بالإيمان هو المقدّم دائماً، وهذا ما يجب إعطاؤه الأولوية في حياتنا، فمهما بلغت أعمال الكفار من الأهمية فهي بلا قيمة إذا ما قورنت بعملٍ صادرٍ عن مؤمنٍ بالله واليوم الآخر.

2- الأولويات في المصالح والمفاسد (تقديم المصلحة على المفسدة)

الشاهد الأول قوله تعالى: (وَلا تَحْلِقُوا رُءُوسَكُمْ حَتَّى يَبْلُغَ الْهَدْيُ مَحِلَّهُ فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ بِهِ أَذًى مِنْ رَأْسِهِ فَفِدْيَةٌ مِنْ صِيَامٍ أَوْ صَدَقَةٍ أَوْ نُسُكٍ) البقرة/ 197،  جاء في سبب نزول هذه الآية "عن كعب ابن عجرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم رآه وقمله يتساقط على وجهه، فقال: "أيؤذيك هوّامك([28])؟" قال: نعم، فأمره أن يحلق وهو بالحديبية، ولم يبين لهم أنهم يحلون بها، وهم على طمع أن يدخلوا مكة فأنزل الله الفدية، فأمره رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يطعم فرقاً([29]) بين ستة مساكين أو يهدي شاة أو يصوم ثلاثة أيام"([30]). فحلق الرأس من محظورات الإحرام، ولكن إذا ما ترتبت المفسدة من مرض وأذى، قدمت المصلحة، وهي حلق الرأس أي الإخلال في ترتيب مناسك الحج، بغرض التيسير ورفع المشقة، ففي هذه الحالة القيام بحلق الرأس مع الفدية أولى من المحافظة على المحظورات والتمسك بترتيب مناسك الحج.

الشاهد الثاني قوله تعالى: (وَإِنْ كُنتُمْ مَرْضَى أَوْ عَلَى سَفَرٍ أَوْ جَاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنْ الْغَائِطِ أَوْ لَامَسْتُمْ النِّسَاءَ فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا صَعِيدًا طَيِّبًا فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَفُوًّا غَفُورًا) النساء/ 43، أخرج ابن أبي حاتم عن مجاهد قوله: نزلت هذه الآية في رجل من الأنصار كان مريضاً، ولم يستطع أن يقوم فيتوضأ، ولم يكن له خادم يناوله. وأخرج ابن جرير عن إبراهيم النّخعي، قال: نال أصحاب النبي جراحة، ففشت فيهم، ثم ابتلوا بالجنابة فشكوا للنبي فنزلت "وإن كنتم مرضى…"([31]). فالمقارنة حاصلة بين طهارة أصيلة: الوضوء، وطهارة بديلة: التيمم، وتقرير البديل يجب أن يناسب حال المكلف، واعتبار ظروف التطبيق، فإذا كان الوضوء يترتب عليه المشقة والحرج والمرض (مفسدة)، والتيمم بديل مناسب لرفع هذه الأمور (مصلحة)، فالنتيجة هي أولوية التيمم في هذه الظروف، هذه هي المنهجية التي تعلمنا إياها الآية الكريمة.

3- الأولويات في المفاسد (ارتكاب أخف الضررين)

الشاهد الأول قوله تعالى: (إِنَّمَا حَرَّمَ عَلَيْكُمْ الْمَيْتَةَ وَالدَّمَ وَلَحْمَ الْخِنزِيرِ وَمَا أُهِلَّ بِهِ لِغَيْرِ اللَّهِ فَمَنْ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلَا عَادٍ فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيم البقرة/ 173، أي من دعته الضرورة إلى تناول شيء من المحرمات المذكورة من غير ميل ورضاً منه، ومع انتفاء البغي والعدوان في الأكل؛ فله أن يأكل بما يسدّ رمقه، ليحافظ على حياته وهذا مقصد ضروري.

 الشاهد الثاني قوله تعالى: (إِنَّمَا يَفْتَرِي الْكَذِبَ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَأُوْلَئِكَ هُمْ الْكَاذِبُونَ* مَنْ كَفَرَ بِاللَّهِ مِنْ بَعْدِ إِيمَانِهِ إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْإِيمَانِ وَلَكِنْ مَنْ شَرَحَ بِالْكُفْرِ صَدْرًا فَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ مِنْ اللَّهِ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ) النحل/ 105- 106، ذكرت الآية أمرين وهما إما التلفظ بالكفر أو القتل دون ذلك، وكما يقال: أحلاهما مرّ، فكلا الأمرين مفسدة، فأما فوات النفس فمفسدة أعظم من مفسدة التلفظ بالكفر مكرهاً، وهذا ما قرره العلماء، "فإجراء كلمة الكفر على اللسان مفسدة، لكنه جائز بالحكاية والإكراه إذا كان قلب المكره مطمئناً بالإيمان؛ لأن حفظ المهج والأرواح أكمل مصلحة من مفسدة التلفظ بكلمةٍ لا يعتقدها الجنان، وقد نزلت هذه الآية في عمار بن ياسر، فقد أعطاهم ما أرادوا بلسانه مكرهاً"([32]) فأخف الضررين التلفظ بالكفر والنجاة من القتل.

القسم الثاني: أدلة المفاضلة بين البشر في القرآن الكريم

يتساوى الناس جميعاً في النسبة الطينية، وهم في درجة واحدة مهما كان نسبهم، ولكن فضّل الله تعالى في بعض الآيات الكريمة بعضهم على بعض بتقواهم وطاعتهم له ولرسوله صلى الله عليه وسلم وهو أصل كل تفاوت بين البشر، فإذا كانت طبيعة الإنسان تسعى دائماً إلى نيل أعلى الدرجات والحصول على الأفضلية والأسبقية في كل المجالات، فإنه يسعى إلى تحصيل معيار التفاضل، وهو ثابت لا يتغير، هذا المعيار تُبينه الآيات الآتية:

الشاهد الأول قوله تعالى: ( ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ وَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ وَمِنْهُمْ سَابِقٌ بِالْخَيْرَاتِ بِإِذْنِ اللَّهِ ذَلِكَ هُوَ الْفَضْلُ الْكَبِير) فاطر/32، قيل إن التقسيم في هذه الآية راجع إلى أمة سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم وقيل إنه راجع إلى العباد وقد كثرت الأقوال في تحديد هذه الفئات، والذي يعنينا منها أنّ البشر على درجات، وهم في هذه الآية ثلاث فرق، تفاضلت أعمالهم، كلّ له منزلته، فهناك الظالم وهناك المقتصد، وهناك السّابق بالخيرات، فالله تعالى ذكر أنهم متفاوتون عنده بالقُرب وإن كانوا متساوين في أصل الخلقة، وأساس التفاوت مبنيّ على العمل والتقوى([33]).

 الشاهد الثاني قوله تعالى:(يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِير) الحجرات/13، يقول تعالى مخبراً الناس أنه خلقهم من نفسٍ واحدة، وهما آدم وحواء -عليهما السلام- وجعلهم شعوباً وهي أعم من القبائل، فجميع الناس متساوون، وإنما يتفاضلون بالأمور الدينية وهي طاعة الله ومتابعة رسوله صلى الله عليه وسلم أي: بالتقوى لا بالأحساب([34]). والله تعالى فاضل بين البشر وقدّم بعضهم على بعض فالأولى والأحسن عنده هو الأتقى.

المطلب الثاني: نماذج من السنة النبوية لمراعاة الأولويات

 بانتقالنا إلى سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم نجد معنى مراعاة الأولويات مبثوثاً في كثير من المواقف والأوامر والتوجيهات التي تلقاها الصحابة رضي الله عنهم وفهموا منها ترتيب الأولى. فنجد فيها جملة من المعايير لبيان الأفضل والأحب إلى الله تعالى من الأعمال والقيم والتكاليف، وبيان ما بينها من تفاوت كبير. وفي الجانب المقابل وضعت معايير لبيان الأعمال السيئة، كما بينت تفاوتها عند الله من كبائر وصغائر ومكروهات وشبهات، وذكرت أحياناً بعض النسب بين الأعمال، وحذرت من أعمال أكثر شراً مما سواها.

ومن استقراء الأحاديث الشريفة نجد أن لمراعاة الأولويات بين الأعمال ثلاثة أنواع هي: الأولويات في المصالح، والأولويات في المصالح والمفاسد، والأولويات في المفاسد.

1- الأولويات في المصالح (أولوية خير الخيرين في السنة النبوية)

الحديث الأول: عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: "الإيمان بضع وسبعون شعبة: أعلاها لا إله إلا الله، وأدناها إماطة الأذى عن الطريق"([35]). نَبّه صلى الله عليه وسلم على أن للإيمان شعباً أفضلها: التوحيد المتعين على كل فرد والذي لا يصح شيء من الشعب إلا بعد صحّته، وأدناها: ما يُتوقع ضرره بالمسلمين من إماطة الأذى عن طريقهم، وبقي بين هذين الطرفين أعداد كثيرة من الشعب ترك رسول الله صلى الله عليه وسلم للعقول السليمة البحث عنها، ولو حاول المجتهد تحصيلها بغلبة الظـنّ وشـدّة التتبع لأمكنه ذلك.

وقد قام النووي بعملية إحصائية لما في الكتـاب من خصال الخير، فوجدها تنقص عن السبعين، ولما في السنة النبوية فوجدها كذلك، وجمع ما في القرآن وما في السنة فوجدها تزيد عن ذلك، فعرف أن المقصود ليس عين العدد([36]).

الحديث الثاني: صحّ عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم سُئل: أيّ العمل أفضل؟ فقال: "إيمان بالله ورسوله"، قيل: ثم ماذا؟ قال: "الجهاد في سبيل الله"، قيل: ثم ماذا؟ قال: "حج مبرور"([37]).

وقد كثرت الأحاديث النبوية في مثل هذا السياق، فكانت الأسئلة عن أي العمل أفضل؟ وأيها خير؟ وأيها أحب إلى الله ورسوله؟ ولم تكن الإجابة واحدة بل متعددة، والاختلاف قد يعود إلى اختلاف أحوال السائلين وظروفهم، وقد أعلم رسول الله صلى الله عليه وسلم كل قوم بما يحتاجون إليه، أو بما لهم فيه رغبة، أو بما هو لائق بهم، أو لاختلاف الأوقات وما يتناسب معها.

ونجد الحديث الشريف يُعطي الأولوية للإيمان، ثم الجهاد، ثم الحجّ، وفي حديث آخر عن عبد الله بن مسعود قال: سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم: أي العمل أفضل؟ قال: "الصلاة لوقتها"، قال: قلت: ثمّ أي؟ قال: "برّ الوالدين"، قلت: ثمّ أي: قال: "الجهاد في سبيل الله"، فما تركت أستزيده إلا إرعاءً([38]) عليه([39]).

فهذا الحديث يقرر إعطاء الأولوية للصلاة لوقتها، وبرّ الوالدين ثانياً، والجهاد ثالثاً، وما اختلاف الترتيب إلا ويرجع لأحد الأسباب السابقة.

الحديث الثالث: جاء رجل إلى النّبي صلى الله عليه وسلم يستأذنه في الجهاد، فسأله النبي: "أحيٌّ والداك؟" قال: نعم، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "ففيهما فجاهد"([40]). والحديث يبيّن فضل تعظيم الوالدين، وأن أعمال البرّ يَفضل بعضها على بعض، وفي هذا الحديث تقديم البرّ على الجهاد وتوقفه على إذن الوالدين، ومن لم يبرَّ والديه مع وفور حقهما عليه كان لغيرهما أقلّ براً([41]). والحديث دليل لعظم فضيلة البرّ وأنه آكد من الجهاد في حال السائل، وفيه حجة لما قاله العلماء: أنه لا يجوز الجهاد إلا بإذنهما إن كانا مسلمين،([42]) وهذه الإجابة ملائمة لحال السائل، فبرّ الوالدين مُقدّم على الجهاد إذا كان الجهاد في بلاد العدوّ، أما إذا كان العدو قد غزا بلاد المسلمين، فالجهاد فرض عين على كل مسلم، ولا يجب فيه الاستئذان.

وقد بوّب النووي لأحاديث رواها مسلم في صحيحه من هذا النوع فقال: "باب بيان تفاضل الإسلام أو أي أموره أفضل،"([43]) ذكر فيه أن رجلاً سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم: أي الإسلام خير؟ قال: "تطعم الطعام وتُقرأ السلام على من عرفت وعلى من لا تعرف"([44]). وفي رواية أخرى: "أيُّ المسلمين خير، قال:"من سَلِم المسلمون من لسانه ويده"([45]).

وقد ذكر العلماء أن معنى الرواية الأولى: أيُّ خصاله وأموره وأحواله أفضل، وقالوا: وقع الاختلاف في الجواب من خير المسلمين لاختلاف حال السائل والحاضرين، فكان في أحد الموضعين الحاجة إلى إفشاء السلام وإطعام الطعام أكثر وأهمّ  لِما حصل من إهمالهما والتساهل في أمورهما ونحو ذلك، وفي الموضع الآخر كان الكفّ عن إيذاء المسلمين بالقول والفعل أفضل([46]).

والأحاديث في هذا الباب كثيرة، ويرى الباحث أن أغلب الأحاديث التي تكون بصيغة الأحاديث السابقة تدل على أن أعمال البرّ كثيرة وهي ذات منزلة رفيعة عند الله، وذات دلالة واضحة على مبدأ الأولويات فأعلاها فرض العين، فالمستحب فالمباح وهكذا.

إلا أن بعض الناس يقع في خلل ترتيب الأَولى خاصةً في أعمال البرّ والخير؛ لأنهم يظنون أنها بالدرجة نفسها، ولها الأجر ذاته، فلا يفرّقون بينها ولهذا يضيع عليهم الأجر الكبير.

ومن الصور الحيّة لنماذج الإخلال في مراعاة الأولويات في واقعنا التبرع بالأموال الطائلة لبناء المساجد في بلدٍ تكثُر مساجده، مع وجود الحاجة لهذه الأموال في أعمال خير أخرى. أو القيام بالحج والعمرة عشرات المرات ، مع أن هنـاك من البـلدان المسلمة المجاهدة من تحتاج إلى اليسير من تكلفتها.

2- الأولويات في المصالح والمفاسد (أولوية المصلحة على المفسدة).

الحديث الأول: عن جابر قال: خرجنا في سفر فأصاب رجلاً منا حجر فشجّه([47]) في رأسه، ثم احتلم فسأل أصحابه فقال: هل تجدون لي رخصة في التيمم، فقالوا: ما نجد لك رخصة وأنت تقدر على الماء، فاغتسل فمات، فلما قدمنا إلى النبي صلى الله عليه وسلم أُخبر بذلك، فقال: "قتلوه قتلهم الله، ألا سألوا إذ لم يعلموا، فإنما شفاء العيّ السؤال، إنما يكفيه أن يتيمم ويعصر أو يعصب على جرحه خرقة ثم يمسح عليها، ويغسل سائر جسده"([48]).

والحديث دالّ على جواز العدول إلى التيمم خشية الضرر، فالمرض الذي يباح له التيمم هو الذي يُخافُ فيه فوات الروح أو فوات بعض الأعضاء لو استعمل الماء([49]).

فالقصة توضّح سوء الفهم للأولويات، فعند سؤال الرجل أصحابه هل يصلح في حاله التيمم أو الاغتسال، كان حكمهم بالاغتسال لعلّة وجود الماء فلا حاجة للتيمم، فلما رجعوا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم أوضح لهم أن المقارنة يجب أن تحصل بين: الاغتسال والتيمم في حالة المرض أو خوف فوات النفس، فالتيمم يؤدي إلى مصلحة وهي الحفاظ على النفس، والاغتسال يؤدي إلى مفسدة الضرر وفوات النفس. فاعتبار رخصة التيمم مقدّمة على واجب الغسل للتطهر من الجنابة عند المرض. و في الحديث إشارة صريحة إلى وجوب التفقه بالأولويات لعامّة الناس وإلا لما دعا عليهم رسول الله صلى الله عليه وسلم بسبب فتواهم بغير علم.

3- الأولويات في المفاسد (أولوية أخفّ الضررين)

 الحديث الأول: عن أنس بن مالك أن أعرابياً بال في المسجد، فقـاموا إليـه، فقال رسـول الله صلى الله عليه وسلم: "لا تزرموه"([50])، ثم دعا بدلوٍ من ماء، فصبّ عليه([51]).

ولم ينكر النّبي صلى الله عليه وسلم على أصحابه -رضوان الله عليهم- فعلهم، ولم يقل لهم لم نهيتم الأعرابي، بل أمرهم بالكفّ عنه لدفع أعظم المفسدتين باحتمال أيسرهما([52]).

فلو قمنا بمقارنة سريعة للوصول إلى الحكم بأولوية أحد الأمرين على الآخر فستكون على النحو التالي:

- لو تُرك الصحابة ينهونه عن فعله فقطع بوله، فما النتائج المترتبة على ذلك؟

أولاً: احتمال حدوث داء في بطنه جرّاء ذلك.

ثانياً: لنجس بدنه وثيابه أو مواضع أخرى من المسجد.

أمّا القيام بتركه وعدم زجره فنتيجته واحدة: وهي حصول المنهي عنه بتنجيس موضع واحد من المسجد.

فالأولوية تكون لدفع أعظم المفسدتين، وارتكاب أخف الضررين وهي تركه ومعالجة فعله بتطهير النجاسة، وهذا هو خيار رسول الله صلى الله عليه وسلم إذ أمر بدلوٍ من ماء لتطهير مكان النجاسة.

الحديث الثاني: عن عبد الله بن مسعود قال:" قلت يا رسول الله: أي الذنب أعظم؟ قال: أن تجعل لله ندّاً وهو خلقك قلت: ثمّ أي؟ قال: أن تقتل ولدك خشية أن يأكل معك قلت: ثمّ أي؟ قال: "أن تزاني حليلة جارك"([53]).

والحديث دلّ على أن بعض الذنوب أعظم من بعض، فإذا كانت الذنوب الثلاثة المذكورة على ترتيبها في العظم فهناك ذنوب أخرى قد تساوي ما ذُكر في التقدير، أو تكون هي أعظم من تلك المذكورة، ولكن قُصد بالأعظم ما تكثر مواقعته، ويظهر الاحتياج إلى بيانه في ذلك الوقت([54]).

ولا يمتنع أن يكون الذنب أعظم من غيره، وبعض أفراده أعظم من بعض، فهو على درجات ومستويات، فأعلاها الكفر، وأدناها المكروه تنزيهاً، حتى الكفر على درجات فمنه كفر الإلحاد وكفر الشـرك وكفر النفـاق، وغيرها، وكذلك الصغائر فهي أيضا على مراتب.

المطلب الثالث: نماذج من أقوال العلماء في مراعاة الأولويات

اهتم العلماء بموضوع مراعاة الأولويات وجوهرها- وان لم يذكروها اسماً- وألمحوا إلى أهميتها في الشريعة الإسلامية، فكثرت أقوالهم وفتاواهم وتعليقاتهم على الأوامر والتوجيهات التي وردت في القرآن الكريم والسنّة النبوية الشريفة، والتي تنبع بوضوح من فكرة الأولويات وتعدّ شواهد على وجودها.

وهذه الأقوال تعمل على توضيح ما سبق من الآيات الكريمة والأحاديث الشريفة بصيغة قواعد ترشد الخلق لما به صلاحهم، وتُحفظ بها النِّسب الشرعية بأسرها. والعلماء الذين عُنوا بموضوع مراعاة الأولويات كُثر، وأقوالهم هي التي تدل على ذلك من خلال استقراء كتبهم ومؤلفاتهم، ومن هؤلاء العلماء: الغزالي، والعز بن عبد السلام، وابن تيمية، وابن القيم، وابن الجوزي، والشاطبي، وغيرهم. ويكتفي الباحث هنا بذكر ثلاثة نماذج من أقوال العلماء هي: بعض  أقوال للعز بن عبد السلام، وابن تيميه، وابن القيم، وسيتم انتقاء بعضها للدلالة على الموضوع.

أولاً: العز بن عبد السلام (ت660ﻫ).

يُعدّ العز بن عبد السلام من أوائل من أشار إلى علم المقاصد([55])، ومن أبرع من تكلم في مراعاة

الأولويات خاصةً في كتابه القواعد الكبرى أو قواعد الأحكام في مصالح الأنام، وقد قال في مقدمة كتابه: "الغرض بوضع هذا الكتاب بيان مصالح الطاعات والمعاملات وسائر التصرفات، ليسعى العباد في كسبها، وبيان مقاصد المخالفات ليسعى العباد في درئها، وبيان مصالح المباحات ليكون العباد على خبرة منها، وبيان ما يقدّم من المصالح على بعض، وما يؤخّر من بعض المفاسد عن بعض، مما يدخل تحت إكساب العباد دون ما لا قدرة لهم عليه، ولا سبيل لهم إليه"([56]).

ومقاصد الشريعة تُعدّ ضابطاً هاماً لتحديد الأولويات في كل مكانٍ وزمان، والحديث عن المقاصد يتطلب تناولها في ثلاثة محاور، أولاها: أقسام مقاصد الشريعة ومراتبها. وثانيها: دور مقاصد الشريعة في تحديد الأولويات وأهميتها في ذلك، وثالثها: تطبيق عملي لكيفية تحديد الأولويات عن طريق فهم المقاصد.

1-    أقسام مقاصد الشريعة وترتيبها.

وغيرها من الفصول التي تبيّن رتب الأعمال وتقديمها وتأخيرها، وكل فصل يحوي مجموعة من الجزئيات التي تُفصّل وتوضح مبدأ مراعاة الأولويات، ولهذا سيقوم الباحث بانتقاء بعض الأقوال الموجودة في الكتاب.

الشاهد الأول قوله: "أما مصالح الدارين ومفاسدهما في رتب متفاوتة، فمنها ما هو في أعلاها، ومنها ما هو في أدناها، ومنها ما يتوسط بينهما، وهو منقسم إلى متفقٍ عليه ومختلفٍ فيه، فكل مأمورٍ به ففيه مصلحة في الدارين أو أحدهما، وكل منهيٌ عنه ففيه مفسدة فيهما أو في إحداهما، فما كان من الأكساب محصِّلاً لأحسن المصالح فهو أفضل الأعمال، وما كان منها محصِّلاً لأقبح المفاسد فهو أرذل الأفعال"([57]).

ولو قمنا بتحليل كلام العز بن عبد السلام لوجدناه يقسّم مراتب المصالح والمفاسد إلى قسمين: الأول في الدنيا، والثاني في الآخرة، وكلُّ قسم يقسّم إلى ثلاثة مراتب:

- المرتبة العليا.

- المرتبة المتوسطة.

- المرتبة الدنيا.

وهذه المراتب للمصالح، وثلاث غيرها للمفاسد. وقد عرّف لنا ما هي المصلحة، وما هي المفسدة، فالمأمورات هي مصالح، والمنهيات هي مفاسد، كما عرّف لنا أعلى مرتبة في المصالح بأنها ما كان من الأعمال محصِّلاً لأحسن المصالح، وعليها نقيس المراتب الأخرى، وعرّف المرتبة العليا في المفاسد بأنها ما حصل أرذل الأعمال وعليها نقيس ما دونه.

الشاهد الثاني قوله: "فمن وفّقه الله تعالى للوقوف على رتب المصالح عَرف فاضلها من مفضولها، ومقدّمها من مؤخّرها، وقد يختلف العلماء في بعض رتب المصالح، فيختلفون في تقديمها عند تَعذّر الجمع، وكذلك من وفّقه الله لمعرفة رتب المفاسد، فإنه يدرأ أعظمها بأخفها عند تزاحمها وقد يختلف العلماء في بعض رتب المفاسد، فيختلفون فيما يُدرأ منها عند تعذّر دفع جميعها"([58]).

يُشير العز بن عبد السلام إلى ما يأتي:

- ضرورة مراعاة الأولويات ومن عرف هذا الأمر فهو بتوفيق من الله عزّ وجل، فيستطيع تقديم الفاضل على المفضول، ويدرأ أعظم المفاسد بأخفها.

- حالات التزاحم تُنشئ هذه الضرورة، ويترتب على ذلك اختلاف العلماء في التقديم والتأخير وقد يرجع هذا إلى اعتبار ظروف التطبيق ومكانه وزمانه.

- يؤكد في موضع آخر بقوله: "بأن الاعتماد في جلب معظم مصالح الدارين ودرء مفاسدهما يُبنى في الأغلب على ما يظهر من الظنون"([59])، على أن الحكم بالأولوية مبنيّ على غلبة الظنّ، كما أن أهل الدنيا يتصرفون بناءً على غلبة الظن، فالبشر يأخذون الدواء لعلهم يشفون ويبرؤون، ومعظم هذه الظنون صادق، فاعتمد عليها لأن الغالب صدقها عند قيام أسبابها.

الشاهد الثالث قوله: "تنقسم المصالح والمفاسد إلى نفيس وخسيس، ودقٍّ وجلّ، وكُثر وقلٍّ، وجليّ وخفيّ، وآجل أخروي، وعاجل دنيوي، والدنيوي منقسم إلى متوقّع وواقع، ومختلف فيه ومتفق عليه، وكذلك ترجيح بعض المصالح على بعض، وترجيح بعض المفاسد على بعض، وتقسم إلى المتفق عليه، والمختلف فيه"([60]).

وقد أوضح أيضاً  أن من أخذ بمبدأ الحيطة بالتزام المتفق عليه واجتناب المختلف فيه فقد نال صلاح الدنيا والآخرة، وذكر أن الناس في معرفة الأولويات ثلاثة هم:

العامّة: ويعرفون قسماً من المصالح والمفاسد ويعملون على ترجيح الأفضل بحدود علمهم.

الخاصّة: ينفردون بقسم لا تعرفه الفئة الأولى، فيقومون بالترجيح على نطاق أوسع.

خاصّة الخاصّة: وفّقهم الله تعالى للوقوف على الخفي من الترجيح، فهم يعرفون ما لا تعرفه الفئات السابقة لاختصاصهم وسعة فقههم وعلمهم. والحقيقة أن كتاب العز بن عبد السلام كله شواهد دالة على وضوح مراعاة الأولويات وتبلورها في ذهنه، سواء في أقواله أو أمثلته.

ثانياً: ابن تيمية (728ﻫ).

لُقّب أحمد بن تيمية بشيخ الإسلام، فهو إمام عصره وعالم أمته، وكانت له المؤلفات الكثيرة؛ التي جمعت أغلب العلوم النافعة والمتنوعة بأسلوب واضح سديد المنهج سواءً في علوم النقل أم العقل، وعلوم الأخلاق، وحِكَم الأحكام، والردّ على الفرق الضالة، بالإضافة إلى توسّعه في الحديث عن مسائل المقاصد والوسائل والمصالح والمفاسد، فكانت أقواله المتناثرة في كتبه بهذه المواضيع مادةً علميةً يُعتمد عليها في هذه الدراسة، وقد قام الباحث بانتقاء بعض الشواهد من كتب ابن تيمية للدلالة على موضوع مراعاة الأولويات ومنها:

الشاهد الأول يقول ابن تيمية: "إن الشريعة جاءت بتحصيل المصالح وتكميلها وتعطيل المفاسد وتقليلها، وأنها ترجح خير الخيرين وشرّ الشرّين، وتحصيل أعظم المصلحتين بتفويت أدناهما وتدفع أعظم المفسدتين باحتمال أدناهما"([61]).

وكلامه هذا يكوّن مفهوماً لمراعاة الأولويات، فيصلح أن يستخلص منه تعريفاً اصطلاحياً، كما أنه أصل عام في الشريعة الإسلامية وقد أوضح بعدها أن الأمور لا تجري بسهولة بل لا بدّ من وجود حالات التعارض حيث قال: "فالتعارض إما بين حسنتين لا يمكن الجمع بينهما فتقدم أحسنهما بتفويت المرجوح، وإما بين سيئتين لا يمكن الخلو منهما فيدفع أسوأهما باحتمال أدناهما، وإما بين حسنة وسيئة لا يمكن التفريق بينهما؛ بل فعل الحسنة مستلزم لوقوع السيئة وترك السيئة مستلزم لترك الحسنة؛ فيرجح الأرجح من منفعة الحسنة ومضرة السيئة،"([62]) وهو بذلك يقسّم الأولويات إلى ثلاثة أقسام:

1- الأولويات بين المصالح: أي بين حسنتين فتُقَدّم أحسنهما، ومثاله تقديم الواجب على المستحب، أو تقديم نفقة الأهل على نفقة الجهاد.

2- الأولويات بين المفاسد: أي بين سيئتين فتُدفَع أسوأهما، ومثاله تقديم السفر للمرأة المهاجرة بلا محرم على بقائها بدار الحرب.

3- الأولويات بين المصالح والمفاسد: أي بين حسنة وسيئة فيرجح الأرجح من منفعة الحسنة ومضرة السيئة، ومثاله شرب الخمر للدواء([63]).

الشاهد الثاني قوله: "فتفطّن لحقيقة الدين، وانظر ما اشتملت عليه الأفعال من المصالح الشرعية والمفاسد؛ بحيث تعرف ما مراتب المعروف ومراتب المنكر، حتى تقدِّم أهمها عند الازدحام، فإن هذا حقيقة العلم بما جاءت به الرسل، فإن التمييز بين جنس المعروف وجنس المنكر، أو جنس الدليل وغير الدليل يتيسر كثيراً، فأما مراتب المعروف والمنكر ومراتب الدليل؛ بحيث يقدَّم عند التزاحم أعرف المعروفين، وينكر أنكر المنكرين، ويرجح أقوى الدليلين؛ فإنه هو خاصة العلماء بهذا الدين"([64]).

يُبيّن كلام ابن تيمية الأمور الآتية:

- أهمية معرفة الأولويات وأنه أصل هام في الشريعة الإسلامية فهو يُوصل لحقيقة الدين، وهو حقيقة العلم الذي جاءت به الرسل.

- الأفعال جميعها لها مراتب ودرجات، وتطرأ عليها حالات التزاحم والتعارض فنحتاج لمعرفة الأولويات وذلك بمعرفة مراتب المعروف، ومراتب المنكر حتى نقدم الأهم على المهم.

- يقسّم ابن تيمية الناس في معرفة الأولويات إلى قسمين:

القسم الأول عامة الناس: وهم الذين عندهم قسم من معرفة مراعاة الأولويات ولا يطلعون إلا على الظاهر واليسير منها، أي يعرفون جنس المعروف وجنس المنكر وجنس الدليل وغير الدليل.

القسم الثاني العلماء: وهم الذين حَصّلوا بمعرفتهم وعلومهم القسم السابق بالإضافة إلى ما خفي على العامة من معرفة الدقائق؛ وذلك بتمييز مراتب المعروف والمنكر، فيعرفون بالضبط أعرف المعروفين وأنكر المنكرين، كما يستطيعون فحص الأدلة وتمييز أقواها وبهذا يكون حكمهم بالدلالة على الأولوية أدقّ وأنفع.

الشاهد الثالث قوله: "فإذا كان المعروف أكثر أمر به، وإن استلزم ما هو دونه من المنكر، ولم يَنه عن المنكر وان استلزم تفويت معروف أعظم منه؛ بل يكون النهي حينئذٍ من باب الصدّ عن سبيل الله، فالسعي في زوال طاعته وطاعة رسوله زوال فعل الحسنات، وإن كان المنكر أغلب نهى عنه وإن استلزم فوات ما هو دونه من المعروف، ويكون الأمر بذلك المعروف المستلزم للمنكر الزائد عليه أمراً بمنكر وسعياً في معصية الله ورسوله، وإن تكافأ المعروف والمنكر المتلازمان لم يؤمر بهما ولم يُنه عنهما"([65]).

يُقعّد ابن تيمية لصورة من صور اختلاط الأولويات وهي: أن الفعل الواحد يختلطه مصلحة ومفسدة في آنٍ واحد وتتساويان، ففي هذه الحالة يحلّل ابن تيمية الفعل ويُقارن بين أركانه كالتالي:

- فعل فيه معروف أكثر من المنكر، حكمه: الأمر بالمعروف واجب، والنهي عن المنكر الذي فيه معصية، لأن فيها فوات فعل الحسنات، وزوال طاعة الله وطاعة رسوله صلى الله عليه وسلم.

- فعل فيه منكر أكثر من المعروف، حكمه: الأمر بالمعروف القليل معصية ومنكر، والنهي عن المنكر واجب.

- فعل تكافأ فيه المعروف والمنكر، حكمه: التوقف.

وقد بيّن ابن تيمية سبب وجود مثل هذه المسائل في موضع آخر، حيث ذكر أن باب التعارض واسع جداً، وتكثر مسائله في المكان والزمان الذي يقلّ فيه اتّباع الناس لسنّة رسول الله صلى الله عليه وسلم، فالعلاقة طردية بينهما، فكلما زاد نقص الإتباع ازدادت هذه المسائل، الأمر الذي يؤدي إلى وجود أسباب الفتنة([66]).

وهذا كما نعرف حال أمتنا، فكثرة المسائل المختلطة ليس في الأحكام الشرعية فحسب بل في الواجبات اليومية، وعدم القدرة على تقرير البديل المناسب حتى في أبسط الأمور هو دليل قوي على أن زمننا نقصت فيه آثار النبوة إلى حدٍّ كبير.

ثالثاً: ابن القيّم (751ﻫ)

كثرة التقسيمات وتعداد الأصناف والأنواع هي من السمات الغالبة على كتب ابن القيم  فالكفر له أنواع، والجهاد له مراتب، والعبادات والنعم والمعرفة والذكر والتوكل والسعادة وغيرها من الطاعات أو المعاصي فلها مراتب وأقسام، وحتى البشر هم أنواع وأصناف. فمن عرف هذه الأنواع والمراتب، ضُبطت لديه النّسب في الأعمال وكان ممن يميّزون الفروق الدقيقة بين الأحداث والأشخاص، وبالتالي تتبلور قضية مراعاة الأولويات عنده.

ومن الشواهد الدالة على مراعاة الأولويات عند ابن القيّم ما يأتي:

الشاهد الأول قوله:"ومن أصول الشريعة أنه إذا تعارضت المصلحة والمفسدة قُدِّم أرجحهما والضرر إنما نُهي عنه لما فيه من الضرر بهما أو بأحدهما، وفي المنع مما يحتاجون إليه من البيع ضررٌ أعظم من ضرر المخاطرة؛ فلا يزيل أدنى الضررين بأعلاهما بل قاعدة الشريعة ضد ذلك، وهو دفع أعلى الضررين باحتمال أدناهما"([67]).

وبالنظر إلى كلامه تُستنبط الفوائد الآتية:

- مراعاة الأولويات من أصول الشريعة الإسلامية وهذا ثابت باتفاق.

- بيع الغرر([68]) مثال على تعارض المصلحة والمفسدة، فقدّم أرجحها وهو حرمة هذا البيع لما فيه من المفسدة، ففيه جهل بالمبيع وجهل بالثمن فكلاهما يضرّ.

- هناك قواعد فقهية في الشريعة الإسلامية تفيد في ضبط مراعاة الأولويات وقد ذكر ابن القيم إحداها وهي: دفع أعلى الضررين باحتمال أدناهما.

ويعبّر عن هذه القاعدة بصيغ أخرى مثل: يُختار أهون الشرين، أو إذا تعارضت مفسدتان رُوعي أعظمهما ضرراً بارتكاب أخفهما، أو الضرر الأشد يزال بالضرر الأخف، أو يُتحمّل الضرر الأخصّ لأجل دفع الضرر الأعم.

الشاهد الثاني قوله: "فأما الكفر فنوعان: كفر أكبر، وكفر أصغر، فالأول هو الموجب للخلود في النار والأصغر: موجب لاستحقاق الوعيد دون الخلود"([69]).

وقوله: "الجهاد أربع مراتب: جهاد النفس، وجهاد الشيطان، وجهاد الكفار، وجهاد المنافقين،"([70]) وقد ذكر بعدها مراتب كل نوع، فجهاد النفس أربع مراتب، وجهاد الشيطان مرتبتان وجهاد الكفار والمنافقين أربع مراتب([71]).

فهذا التفصيل الدقيق يدل على سعة معرفة ابن القيم بالأولويات فمن عرف مراتب الشيء عرف منزلته ومقامه، وبالتالي عرف أيهما يقدّم من المراتب وأيها يؤخر.

ويرى الباحث أن نقله لأقوال ابن عبد السلام وابن تيمية وابن القيّم بالنصّ هو تأصيل لمراعاة الأولويات عند العلماء وهم قلةٌ من كُثر، ولكن مجال البحث يستلزم الاقتصار على نماذج معينة، فالكثير من العلماء قد عمل على إيضاح فكرة مراعاة الأولويات.

المبحث الثالث

كيفية تحديد الأولويات

يُقدّم هذا المبحث خلاصة لأهم المحدّدات التي يُرجع إليها عند التزاحم، وهذه المحدّدات هي:

أولاً: معرفة مقاصد الشريعة والإلمام بها
المقاصد لغةً: جمع مقصِد وهو استقامة الطريق، أو الاعتماد، أو العدل، أو التوسط([72]). واصطلاحاً: "هي المعاني والحِكَم الملحوظة للشارع في جميع أحوال التشريع أو معظمها"([73]).

ومقاصد الشريعة تُعدّ ضابطاً هاماً لتحديد الأولويات في كل مكانٍ وزمان، والحديث عن المقاصد يتطلب تناولها في ثلاثة محاور، أولاها: أقسام مقاصد الشريعة ومراتبها. وثانيها: دور مقاصد الشريعة في تحديد الأولويات وأهميتها في ذلك، وثالثها: تطبيق عملي لكيفية تحديد الأولويات عن طريق فهم المقاصد.

1-    أقسام مقاصد الشريعة وترتيبها.

تتعدد أقسام مقاصد الشريعة حسب الاعتبارات؛ فمنها ما هو باعتبار مدى شمولها لمجالات التشريع فهي عامة وخاصة، وباعتبار آثارها في قوام الأمة، وباعتبار تعلقها بعموم الأمة أو أفرادها، وباعتبار مدى تحققها في نفسها أو نسبية ثبوتها، إلى غير ذلك من الاعتبارات([74]). ويمكن الإفادة من مقاصد الشريعة عن طريق حفظ المقاصد الشرعية للعناصر الخمسة التي تدور أحكام الشريعة حول رعايتها وحمايتها، ويعبّر عنها (بحفظ الكليات الخمس) وهي على الترتيب الآتي: حفظ الدين، وحفظ النفس، وحفظ العقل، وحفظ النسل، وحفظ المال.

وتُقسّم المقاصد من حيث مدى الحاجة إليها إلى ثلاث مراتب هي:

1- مقاصد ضرورية: وهي التي لا بدّ منها في قيام مصالح الدنيا والآخرة، ويترتب على فقدها فساد وخسران،([75]) فأي خلل في قيامها يؤدي إلى اختلال نظام الحياة بشكل كامل.

2- مقاصد حاجية: وهي ما تحتاج الأمة إليه لاقتناء مصالحها وانتظام أمورها،([76]) وهي مُفتَقر إليها من حيث التوسعة ورفع الضيق([77]) المؤدي في الغالب إلى الحرج والمشقة، فبعدم وجودها يدخل الخلل إلى معنى الحياة ولكن ليس كما لو ذهبت المصالح الضرورية.

3- مقاصد تحسينية: وهي الأخذ بما يليق من محاسن العادات، وتجنُّب المدنسات التي تأنفها العقول الراجحة، وذلك كمكارم الأخلاق والعادات الفردية والجماعية،([78]) فهذه الأمور تزيد الحياة جمالاً، وتركها بالجملة يؤدي إلى صعوبة الحياة.

وهذان الترتيبان (الكليات الخمس وترتيب المقاصد إلى ثلاث مراتب) متداخلان، وقد ذكر الآمدي أن المقدّم منها ما هو ضروري، فهو أولى لزيادة مصلحته، فإذا قورنت إحدى العلّتين من الحاجات بالأخرى من باب التحسينات قُدّمت الحاجات، وما كان مقصده حفظ أصل الدين ومقصود غيره ما سواه من المقاصد الضرورية فهو أولى بالتقديم نظراً إلى مقصده([79]).

وقد لاحظنا من استقراء أحكام الشريعة أن الأحكام مرتبة على خمسة عشرة مرتبة،([80]) وهذا اجتهاد بحاجة إلى تصويب، لكن الهدف منه محاولة فهم الأحكام وترتيب الأولى منها فالأولى، وهي محاولة بحاجة إلى مزيد بحث ودراسة.

 ينبغي التعرف إلى دور مقاصد الشريعة وأهميتها في تحديد الأولويات.

- دور مقاصد الشريعة وأهميتها في تحديد الأولويات ترجع صعوبـة تحديـد الأولويـات إلى تعـدد الأحوال والملابسات، فينبغي تحليل هذه الظروف واختيار ما يتوجب ترجيحه وفق خطوات مدروسة، وللإفادة من الرسم السابق نقوم بأربع خطوات:

1- تحديد السلوك الذي سيقوم الإنسان به، هل يتعلق بالدين أو بالنفس أو بالعقل أو بالنسل أو بالمال، فكل تصرف أو سلوك يصدر عن الإنسان فإن للدين الإسلامي فيه حكماً واضحاً.

2- تحديد مرتبة هذا السلوك، هل هو من الضروريات أو الحاجيات أو التحسينيات فنُلحق كل سلوك بمرتبته، فتتكون لدينا مجموعة من الأعمال لكلٍّ منها مرتبة خاصة بها.

3- إعطاء كل سلوك رقماً خاصاً به ونقارنه بما يزاحمه، ونستخلص النتيجة وذلك بتقديم الفئة المتقدمة على الفئة المتأخرة، فما ينتمي للفئة رقم (3) مقدّم على السلوك المنتمي للفئة رقم (7) وهكذا.

4- التنبّه لأقسام الفئات الموجودة هل هي من المصالح أو من المفاسد، فإذا كانت المقارنة بين مصلحتين عملنا بالفئة المتقدمة على الفئة المتأخرة ، وإذا كانـت بيـن مفسدتين عملنا بالفئة المتأخرة على الفئة المتقدمة؛ لأننا ندفع أعظم المفسدتين ونرتكب أخف الضررين.

فمن خلال ما سبق تظهر لنا أهمية مقاصد الشريعة في ضبط الأولويات، فهي طريقة دقيقة ترتكز على منح كل سلوك درجة أو فئة، فيرتب الإنسان أعماله أياً كانت حسب هذا التسلسل.

ولطريقة تحديد وضبط الأولويات بالمقاصد جملة من الفوائد منها:

- نستعين بالمقاصد لفهم الأحكام الشرعية، خاصة ما يبدو منها غامضاً، كما نستعين بها في فهم النصوص وتوجيهها،([81]) ومعلوم أن السلوك الإنساني لا ينفكّ أن يكون أحد هذه الأحكام.

- تُفيد المقاصد في معرفة علل الأحكام التي قد تُتّخذ أساساً للقياس،([82]) وهذه العلل هامة جداً في ترتيب الأولويات وضبطها.

- استنباط الأحكام للوقائع المستجدة مما لم يدل عليه دليل، ولا وُجِد له نظير يٌقاس عليه، فمعرفة مختلف أنواع المصالح التي قصد الشارع إلى تحقيقها تُحصّل لنا أصولاً كلية نقيس عليها ما يَجُدّ من حوادث،([83]) وبناءً على مرتبتها نحدد أيها أولى.

- التطبيق العملي لكيفية تحديد وضبط المقاصد للأولويات

1- مثال الرجل الذي أصابه شجّ في رأسه وقد أصابته جنابة([84]).

نبدأ بالخطوة الأولى: وهي تحديد السلوك (الواجبات المتزاحمة)، وهي هنا إما الاغتسال للتطهر من الجنابة، أو التيمم لحفظ النفس، وكلاهما متعلق بحفظ النفس.

والخطوة الثانية: هي تحديد مرتبة كل فعل، فالاغتسال للتطهر من التحسينيات، والتيمم مع المرض لحفظ النفس من الضروريات.

أما الخطوة الثالثة: فهي تحديد الفئات، فالاغتسال من فئة التحسيني في حفظ النفس أي فئة رقم (12)، والتيمم من الضروري في حفظ النفس؛ أي فئة رقم (2) فلا نتردد في تقديم التيمم في مثل هذه الحالة ولا حرج في ذلك بل إنه الواجب.

2- مثال كشف العورة للتداوي.

التداوي لأجل حفظ النفس، إما أن يكون ضرورياً أي رقم (2) أو حاجياً أي رقم (7)، وكشف العورة حكم يتعلق بحفظ النظام الاجتماعي– أي حفظ النسل - وهو إما أن يكون حاجياً أي رقم (9) أو تحسينياً أي رقم (14).

فنصل إلى النتيجة الواضحة وهي تقديم فئة رقم (7) وهي التداوي (في أدنى الحالات) على الفئة رقم (9) وهي كشف العورة (في أحسن الحالات) فالتداوي واجب ومقدّم.

3- مثال الرحم المؤجرة([85]).

الإنجاب مقصد من مقاصد حفظ النسل، وهو مقصد حاجي للحفاظ على النوع البشري أي فئة رقم (9)، وإدخال المادتين من ماء الرجل وماء المرأة  إلى رحم امرأة أجنبية لحصول الحمل مفسدة لها حكم الزنا وهي حرمة ضرورية لحفظ النسل أي فئة رقم (4). والنتيجة هي تحريم الرحم المؤجرة لما ينجم عنها من انتهاك حرمة الدين وحصول التنازع والاختلاف على المولود، فعدم الإنجاب أخف ضرراً من ارتكاب تلك الأخطار.

ومن هنا يمكن القول إن الباحث لو أجرى تطبيقاً شاملاً لكثير من الأمثلة لوجد أن المقاصد خير محدّد وضابط للأولويات، حيث إنها تبين ما يجب اعتباره أو إهماله من الأفعال، مع ضرورة التنبيه على أن هذه الطريقة نستعملها عند التعارض والتزاحم، فيتعلم المسلم حسن الموازنة بين المصالح والمفاسد والترجيح بينها، أما في الظروف الاعتيادية فهو مطالب بجميع الأحكام بقدر استطاعته.

ثانياً: الإفادة من القواعد الفقهية.

القاعدة لغةً: هي الأساس والأصل([86])، وفي الاصطلاح: هي حكم كلي ينطبق على جميع جزئياته أو أكثرها لتعرف أحكامها منه([87]). وقد توصّل الفقهاء إلى مجموعة كبيرة من القواعد، من خلال تتبعهم للمسائل الفقهية ثم صاغوها صياغةً قانونية بأسلوب رصين وتركيب محكم([88]).

وبما أن القواعد الفقهية مبادئ عامة تتضمن أحكاماً شرعية تنطبق على الوقائع والحوادث فنستطيع أن نرجع إليها عند تعارض الواجبات المتزاحمة لتحديد ما يُقدّم منها وما يؤخر، فهي تُعدّ خطوطاً عريضة يُستعان بها في ترتيب الأولى من الأحكام. وفيما يلي بعض القواعد الفقهية التي توازن بين الأعمال:

- قواعد المصالح والمفاسد ومنها: درء المفاسد أولى من جلب المصالح، ويجوز ارتكاب أخف الضررين لتحقيق أعظم المصلحتين، و إذا تعارضت مفسدتان رُوعي أعظمهما ضرراً بارتكاب أخفهما.

ونلحظ من القواعد السابقة مقارنة حاصلة إما بين مسمّى المصالح ومسمّى المفاسد بشكل عام، أو بين مفسدتين أو بين مصلحتين، ومعلوم أن المقصد العام من التشريع إما دفع مفسدة أو جلب مصلحة, وليس هناك مصلحة محضة أو مفسدة محضة إلا ما ندر([89]).

من هنا يمكن أن تكون هذه القواعد ضابطة للأولويات التي تندرج تحت موضوعها، فإذا ما ازدحمت المفاسد، تمّ انتقاء أخفها ضرراً، وإذا تزاحمت المصالح، تمّ انتقاء أعظمها نفعاً، وإذا تزاحمت المصلحة مع المفسدة تمّ تقديم درء المفسدة على جلب المصلحة. فالشريعة جاءت لتحصيل المصالح وتكميلها وتعطيل المفاسد وتقليلها بحسب الإمكان وكان هدفها ترجيح خير الخيرين إذا لم يمكن أن يجتمعا جميعاً، ودفع شرّ الشرّين إذا لم يندفعا جميعاً([90]).

- قواعد الضرر ومنها: لا ضرر ولا ضرار، والضرر يُزال، والضرر الأشدّ يُزال بالضرر الأخف،  ويُتحمّل الضرر الخاص لدفع الضرر العام.

تُبيّن هذه القواعد أن الضرر لا يجوز؛ لأنه ظلم فلا يجوز الإضرار ولا مقابلته بالضرر، وهو يُزال بقدر الإمكان بحيث يحقق أعظم مصلحة، فإذا ما قارنّا بين ما هو أخف وما هو أشدّ دفعنا الضرر الأشد بالضرر الأخف، وإذا قارنا بين الضرر العام والضرر الخاص  فيدفع العام بالخاص وهكذا([91]).

وغيرها من القواعد التي تُعدّ دستوراً يُتّبع عند ازدحام الأولويات، ويقترح الباحث أن يعتنى أكثر بالقواعد الفقهية وأن تدرس مجتمعه كمبادئ، فنقول قواعد المصالح والمفاسد ثم قواعد الضرر وهكذا، ويا حبذا لو تُدرّس هذه القواعد في المراحل المبكرة في المدارس قبل الجامعات لكي تصبح ثقافة شعبية عامة يعرفها العوام كما يعرفها العلماء.

التطبيق العملي لكيفية تحديد القواعد الفقهية للأولويات وضبطها:

1- قطع يد السارق: وهذا الحكم تطبيق لقاعدة "يُتحمّل الضرر الخاص لدفع الضرر العام" فقطع يد السارق ضرر فردي أما انتشار الفساد لعدم وجود رادع لجريمة السرقة فضرر جماعي.

2- حكم أكل الميتة: أبيح أكل الميتة للمضطر تبعاً لقاعدة "الضرورات تبيح المحظورات" فحفظ النفس من الهلاك أولى من المحافظة على المحظور.

3- حكم التدخين: يترتب على التدخين ضرر بدني إما ضرر فوري أو ضرر تدريجي، أو ضرر مالي فما يُنفق لا يُفيد الجسم ولا ينفع في الدنيا ولا في الآخرة، فيحكم بتحريمه استناداً إلى قاعدة لا ضرر ولا ضرار([92]).

4- حكم الاستنساخ البشري([93]) يترتب على حِلّ الاستنساخ مفاسد كثيرة، ومهما تكن المصلحة المحصلة للبشرية من حله فهي قليلة أمام المفاسد، فاستناداً إلى قاعدة "درء المفاسد أولى من جلب المصالح" يُحكم بتحريمه.

ثالثاً: الإفادة من ترتيب القيم في الإسلام

ترتبط القيم بالحكم التكليفي في الإسلام فهو الذي يجعل للأشياء قيمة، لذا فإن لها نظاماً تكاملياً ترتبط فيه كل قيمة بالأخرى، والمطلوب من المسلم أن يضع كلاً منها حسب أهميتها بحيث يُهيمن الأعلى على الأدنى، كما أن لها مبادئ ضرورية في تحديد وضبط مراعاة الأولويات، ومن هذه المبادئ([94]):

- القيمة التي تعد أساساً لغيرها هي الأولى، فقيمة التوحيد أولى من أي قيمة أخرى.

- القيمة التي تعد غاية أولى من القيمة التي تعد وسيلة، فالصلاة أعلى مرتبة من الوضوء.

- القيمة التي تتصل بالصالح العام أهم وأولى من القيمة التي تتصل بصالح الفرد، فالجهاد في سبيل الله أعلى قيمة من صلاة النفل، والعلم أعلى قيمة من العبادة.

- القيمتان اللتان تنضم إحداهما إلى الأخرى أولى من القيمة الواحدة، فصلة ذي القرابة الفقير المريض أعلى مرتبة من صلة ذي القرابة الفقير أو المريض، وهذه أعلى مرتبة من صلة ذي القرابة الذي لا هو فقير ولا هو مريض لقوله صلى الله عليه وسلم "الصدقة على المسكين صدقة وهي على ذي الرحم اثنتان صدقة وصلة"([95]). إلى غيرها من مباديء تساعد في ترتيب سلم القيم وفق الأدلة الشرعية وإعطائها مكانها المناسب، وبالتالي تحديد الأولويات فمعظم اختلال الأولويات عند بعض المسلمين سببه اضطراب سلّم القيم. 

رابعاً: تقديم العمل الدائم على العمل المنقطع

العمل الدائم هو الذي يداوم عليه فاعله ويواظب عليه، فيقع منه عدة مرات ويتكرر ذلك يومياً([96]).

وقد أمرنا الشارع الحكيم أن نأخذ من الأعمال ما نطيق الدوام عليه([97])، وأن نقدّمه حال الازدحام، ويُعد هذا الأمر ضابطاً عاماً في مثل هذه الأعمال، فالدائم له الخيرية والأفضلية على المنقطع وذلك لعدة أسباب:

- أولها وأهمها الأدلة من القرآن الكريم، حيث يقـول

تعالى: (الَّذِينَ هُمْ عَلَى صَلَاتِهِمْ دَائِمُونَ) المعارج/ 23، كما يتكرر قوله تعالى: (الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ)الأنفال/3، وإقامة الصلاة بمعنى الدوام عليها، وجاءت في معرض المدح الذي هو دليل قصد الشارع إليه([98]). فمن أطاع الله بما افتُرض عليه من الصلاة وهو على أدائها مقيم على الدوام لا يضيِّع منها شيئاً فهو الشخص المقصود في هذه الآية([99]).

وقد ذمّ الله تعالى من اعتاد عملاً ثم فرَّط فيه فقال: (ورهبانيةً ابتدعوها ما كتبناها عليهم إلا ابتغاء رضوان الله فما رعوها حق رعايتها)الحديد/27، وعدم مراعاتهم لها هو تركها بعد الشروع فيها وعدم المداومة عليها.

وأن المداومة على العمل أمر من الصعوبة بمكان، فهي بحاجة إلى الصبر لذلك قال تعالى: (واستعينوا بالصبر والصلاة وإنها لكبيرة إلا على الخاشعين) البقرة/45.

- ثانيها الأدلة من السنة النبوية، فقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "عليكم بما تطيقون فوالله لا يملّ الله حتى تملوا، وكان أحب الدين إليه ما داوم عليه صاحبه،"([100]) وكذلك قوله صلى الله عليه وسلم: "أحب الأعمال إلى الله ما دام وإن قلّ"([101]).

وفي الحديثين حث على لزوم الطريق المعتدل الوسط، فليست الشدة في العبادة دليلاً على الخشية لله، فالمتشدّد لا يأمن من الملل بخلاف المقتصد فإنه أمكن لاستمراره ودوامه([102]).

- ثالثها أن المداومة على الخير كملازمة الخدمة، وليس من خدم في كل يوم وقتاً محدداً كمن خدم يوماً كاملاً ثمّ انقطع وترك([103]). فالعمل الدائم يُظهر حرص صاحبه وإخلاصه وشدة التزامه به، كما يُظهر الكثير من جوانب الشخصية المتّزنة لديه.

- رابعها العمل الدائم يُثمر بحيث يزيد على العمل المنقطع أضعافاً كثيرة([104])، فالله تعالى لا يَملّ من الثواب حتى يملّ العبد من العمل([105]).

وهذا معيار صادق لضبط أولويات الناس، سواءً الدينية منها أو الاجتماعية أو الاقتصادية... إلى غيرها من الواجبات اليومية، فالمطلوب في مثل هذه الأعمال المتكررة اتباع قول رسول الله صلى الله عليه وسلم: "سددوا وقاربوا، واعلموا أن لن يُدخل أحدكم عمله الجنة، وأن أحب الأعمال أدومها إلى الله وإن قلّ"([106]).

فالأعمال لا تؤخذ جملة ولا تترك جملة، فعلى المسلم انتقاء العمل النافع الدائم فهو خير من العمل النافع المنقطع وإن فاقه في القيمة، فليس من الحكمة أن نكلّف أنفسنا عدداًَ كثيراً من صلوات التطوع فنُثقل على أنفسنا إلى أن نتكاسل عن الفرائض،  وليس من الحكمة أن نُغالي في صلة الرحم، فتثقُل علينا فنقطعها، إلى غير ذلك من النتائج السلبية في حال عدم أخذ هذا المعيار في الحسبان.

خامساً: تقديم العمل المتعدي النفع على العمل الأحادي النفع

تتفاوت الأعمال فيما بينها، وأفضلية العمل تتحدّد كلما كَثُر نفعه، فعلى قدر نفعه للآخرين يكون فضله وأجره عند الله تعالى، لأن انعكاساته تكون أكبر على صاحب العمل وعلى من يحيطون به، فكلما تعلّقت فائدة العمل بعدد أكبر من الخلق زادت أولويته، فالعلم أعلى رتبة من العبادة لأن نفعه يعمّ ويتعدى إلى الآخرين، لقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: "فضل العالم على العابد كفضلي على أدناكم"([107]).

فأحق الخلق بالفضيلة أنفعهم لجماعة المسلمين من إمام عدل أو عالم مجتهد أو مُعين لعامتهم وخاصتهم، لأن نفعهم يتعدى إلى الخلق الكثير([108]).

سادساً: تقديم العمل الذي ينبني عليه غيره

العمل الذي ينبني عليه غيره مقدّم في الشريعة الإسلامية ومفضل وله الأولوية لأنه أكثر نفعاً وأبقى أثراً، وهذا الضابط مختص بأساس العمل، فما يعد أساساً لغيره أولى عند الشارع، وهذا يتطلب التنبه إلى أن الأعمال التي ينبني عليها غيرها يجب إتقانها وإحكامها، وتقديمها على بقية الأعمال، فالتوحيد أعلى مرتبة من غيره لأنه أساس بقية الأعمال وهي تُبنى عليه كالعناية بإعداد الأجيال، والعناية بالعلم الشرعي، لأنه أساس لغيره، وقد جاء عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إذا مات الإنسان انقطع عمله إلا من ثلاث: صدقة جارية، أو علم يُنتفع به، أو ولد صالح يدعو له،"([109]) فكم من الأجر يمتد بعد القيام بهذه الأعمال، فهي مستمرة الأثر، باقية الأجر إلى يوم القيامة. وبهذا المقياس نستطيع الحكم على الأشياء، ومن هذا الضابط نستخلص ضوابط فرعية مثل:

- أولوية عمل القلب على عمل اللسان؛ فهو أساس أعمال الجوارح كلها، ومدار صلاحها.

- أولوية الفهم على مجرد الحفظ؛ فالحفظ مقترن بالذاكرة ويقع في حدودها، أما الفهم فإن بدأ بموضوع امتدّ إلى مواضيع كثيرة تكون نتيجتها دراسة أمور الدنيا والتخطيط المنظم لها([110]).

- أولوية الكيف على الكم، فمدار الاختيار على النوعية والكيفية فهو ما تنبني عليه الأعمال الجادة وليس الكمية([111]).

وبهذا نكون قد قدمنا أهم المحدّدات التي تحكم منهجية ترتيب الأولويات ومراعاتها، الأمر الذي يجعل المسلم يسير على بصيرة، دون تردد أو حيرة ليواجه مختلف الحالات في جميع البيئات والأزمان بنظام واحد ثابت.

الخاتمة

في نهاية هذا البحث نحمد الله تعالى الموفق على إتمامه، ونسرد أهم النتائج التي توصلنا إليها:

1- يمكن أن تعرّف الأولويات بالقاعدة المَبْنيّة على فهم الأنسب والأجدر من الأعمال، ومعرفة فاضل الأعمال ومفضولها، وراجحها ومرجوحها، بناءً على العلم بمراتبها، وبالواقع الذي يتطلبها، بغرض تحقيق أهم المصالح بأخف الأضرار، ومعرفة النتائج التي يؤول إليها تطبيق تلك الأعمال.

2- تبيّن من خلال تأصيـل مراعـاة الأولويـات في القرآن الكريم والسنة النبوية وأقوال العلماء أن مراعاة الأولويات ثابت ومحدّد في الشريعة الإسلامية والشواهد على ترتيب الأولويات كثيرة, فأغلب الأوامر والنواهي اقترنت بإشارات واضحة إلى اعتبار ظروف التطبيق مكاناً وزماناً, وتقرير البديل الذي يناسب حال المكلف.

3- تبيّن من خلال الدراسة أن هناك بعض المحدّدات التي تساعد على ضبط الأولويات، وتظهر كيفية مراعاتها.

كانت هذه أهم نتائج البحث, أما عن التوصيات فهي:

1- أن تقوم المؤسسات التربوية بتعليم النشء مهارة مراعاة الأولويات عبر آليات مختلفة، من دورات تدريبية، وورش عمل، وبرامج عملية وإرشادية لجميع المراحل العمرية.

2- ضرورة ترتيب المسلمين لأولوياتهم، وتوجيه قادة الرأي في المجتمع الإسلامي الناس إلى أهمية بناء العقليات وفق الأولويات.

 

(*) المجلة الأردنية في الدراسات الإسلامية، المجلد الثاني، العدد(2)، 1427ه/2006م.

 

الهوامش:

 


 ([1]) انظر أبو الحسين أحمد بن فارس (توفي 395ﻫ)، مجمل اللغة، تحقيق: شهاب الدين أبو عمر، بيروت، دار الفكر للطباعة والنشر والتوزيع، 1994م، د. ط، مادة ولي، ص762.

([2]) انظر محمود بن عبد الله الحسيني الألوسي (توفي 1270ﻫ)، روح المعاني في تفسير القرآن والسبع المثاني، ضبط: علي عبد البار عطية، بيروت، دار الكتب العلمية 1994م، ط1، ج29، ص149.

([3]) انظر المنظمة العربية للتربية والثقافة والعلوم، المعجم العربي الأساسي للناطقين بالعربية ومتعلميها، (د. ط، د. م، د. ت)، مادة ولي، ص1334.

([4]) متفق عليه: أخرجه البخاري في صحيحه، كتاب الفرائض، باب ميراث الولد من أبيه، ج6، ص2476، حديث رقم (6351). وأخرجه مسلم في صحيحه، كتاب الفرائض، باب ألحقوا الفرائـض بأهلهـا، ج3،

     ص1233، حديث رقم (1615).

([5]) انظر أبو الفضل جمال الدين ابن منظور (توفي711ﻫ)، لسان العرب، بيروت، دار إحياء التراث العربي، مؤسسة التاريخ العربي، 1999م، ط3، ج5، ص401، وانظر سعدي أبو جيب، القاموس الفقهي لغةً واصطلاحاً، دمشق، دار الفكر، 1982م، ط1، ص388.

([6]) انظر المعجم العربي الأساسي، مادة ولي، ص1334.

([7]) انظر أبو الحسين أحمد بن فارس، معجم مقاييس اللغة، بيروت، الدار الإسلامية للطباعة والنشر، مادة أول: ج1، ص158. وانظر ابن منظور، لسان العرب، مادة أول، ج5، ص195.

([8]) انظر إسماعيل بن عمر الدمشقي أبو الفداء ابن كثير (توفي 747ﻫ)، تفسير القرآن العظيم، بيروت، دار الفكر، د. ط، 1401ه‍، ج1، ص495.

([9]) انظر محمد بن علي بن محمد الشوكاني (توفي 1250ﻫ)، فتح القدير الجامع بين فني الرواية والدراية في علم التفسير، بيروت، دار الكتاب العربي، 1999، د. ط، ج2، ص436.

([10]) انظر جلال الدين عبد الرحمن بن أبي بكر السيوط (توفي911ﻫ)، تفسير الجلالين، القاهرة، دار الحديث، ط1، د. ت، ص403. وقوله تعالى: (النَّبِيُّ أَوْلَى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ وَأَزْوَاجُهُ أُمَّهَاتُهُمْ)[6: الأحزاب]، أي قد علم الله تعالى شفقة رسوله على أمته ونصحه لهم، فجعله أولى بهم من أنفسهم أي أحقّ بذلك، وحكمه فيهم كان مقدّماً على اختيارهم لأنفسهم. انظر ابن كثير، تفسير القرآن العظيم، ج3، ص617. وقوله تعالى: (وَيَقُولُ الَّذِينَ آمَنُوا لَوْلَا نُزِّلَتْ سُورَةٌ فَإِذَا أُنزِلَتْ سُورَةٌ مُحْكَمَةٌ وَذُكِرَ فِيهَا الْقِتَالُ رَأَيْتَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ يَنظُرُونَ إِلَيْكَ نَظَرَ الْمَغْشِيِّ عَلَيْهِ مِنْ الْمَوْتِ فَأَوْلَى لَهُمْ)[20: محمد] والأَولى في الآية بمعنى الأفضل والأرجح لهم طاعة الله تعالى وقولٌ معروف. وقوله تعالى: (أَوْلَى لَكَ فَأَوْلَى * ثُمَّ أَوْلَى لَكَ فَأَوْلَى) [35، 34: القيامة] فالأَولى في الآية بمعنى الأقرب، أي قاربه ما يهلكه.

([11]) متفق عليه: أخرجه البخاري في صحيحه، كتاب الكفالة، باب الدين، ج2، ص805، حديث رقم (2176). وأخرجه مسلم في صحيحه، كتاب الجمعة، باب تخفيف الصلاة والخطبة، ج2، ص592، حديث رقم (867).

([12]) متفق عليه: أخرجه البخاري في صحيحه، كتاب أحاديث الأنبياء، باب قوله تعالى وهل أتاك حديث موسى، ج2، ص1244، حديث رقم (3216). وأخرجه مسلم في صحيحه، كتاب الصيام، باب صوم يوم عاشوراء، ج2، ص795، حديث رقم (1130).

([13]) علاّت: أي أمهاتهم شتى وأبوهم واحد، والأنبياء شرائعهم شتى والدين واحد.

([14]) متفق عليه: أخرجه البخاري في صحيحه، كتاب أحاديث الأنبياء، باب واذكر في الكتاب مريم، ج3، ص1270، حديث رقم (3258). وأخرجه مسلم في صحيحه، كتاب الفضائل، باب فضائل عيسى عليه السلام ج4، ص1837، حديث رقم (2365).

([15]) امتثال محمد السقا، تطوير أنموذج لتحديد الأولويات في التخطيط التربوي، رسالة ماجستير غير منشورة، عمان، الأردن، 1995م، ص13.

([16]) انظر جودت أحمد سعادة، تدريس مهارات التفكير، عمان، دار الشروق للنشر والتوزيع، ط1، 2003م، ص217.

([17]) انظر عادل بن محمد السليم، الأولويات وضوابطها، مجلة البيان، العدد 177، ص22.

([18]) يوسف القرضاوي، في فقه الأولويات دراسة جديدة في ضوء القرآن والسنة، القاهرة، مكتبة وهبة، ط1، 1995م، ص9.

([19]) سعد الدين العثماني، فقه مراتب الأعمال، مجلة البيان، العدد 97، ص2.

([20]) انظر فتحي يكن، نحو صحوة إسلامية في مستوى العصر، بيروت، مؤسسة الرسالة للطباعة والنشر والتوزيع، ط1، 1998م، ص158.

([21]) انظر ناصح نشيط، حاجة الأمة إلى فقه الأولويات، سلسلة مقالات منشورة في منتديات ناصح، الخامس من أيلول، 2003م) على شبكة الإنترنت www. Alrewak. com/montada/index. php. 2003/5/2.

([22]) انظر ابن كثير، تفسير القرآن العظيم، ج4، ص604.

([23]) انظر سيد قطب (توفي1385ﻫ)، في ظـلال القرآن، بيروت، دار الشروق، ط1، 1994م، ج6، ص3823.

([24]) انظر شهاب الدين محمود الألوسي، روح المعاني في

تفسير القرآن والسبع المثاني، بيروت، دار الكتاب العربي، د. ط، 1404ه‍، ج30، ص41-42.

([25]) عز الدين بن عبد السلام (توفي660ﻫ‍‍)، القواعد الكبرى الموسوم بقواعد الأحكام في إصلاح الأنام، دمشق، دار القلم، 2000م، ج1، ص7.

([26]) انظر ابن كثير، تفسير القرآن العظيم، ج1، ص431.

([27]) انظر الشوكاني، فتح القدير، ج2، ص500.

([28]) هوّامك: الهوام ما كان من خشاش الأرض، وهنا أراد القمل، سماها بذلك لأنها تدبّ في الرأس وتهيم فيه.

([29]) فرقاً: الفرق، بالتحريك: مكيال يسع ستة عشر رطلاً وهي اثنا عشر مُداً.

([30]) جلال الدين عبد الرحمن بن أبي بكر السيوطي، أسباب النزول، دمشق، دار قتيبة، د. ط، 1987م، ص67. رواه البخاري في صحيحه، كتاب الحج، باب النسك شاة، ج2، ص645، حديث رقم 1722.

([31]) انظر السيوطي، أسباب النزول، ص134.

([32]) أبو عبد الله محمد بن أحمد الأنصاري القرطبي (توفي 671 ﻫ‍‍)، الجامع لأحكام القرآن، القاهرة، دار الشعب، ط2، ج10، ص118-119.

([33]) انظر القرطبي، الجامع لأحكام القرآن، ج14، ص348.

([34]) انظر ابن كثير، تفسير القرآن العظيم، ج4، ص277.

([35]) متفق عليه: أخرجه مسلم في صحيحه، كتاب الإيمان، باب بيان عدد شعب الإيمان وأفضلها وأدناها، ج1، ص63 حديث رقم (35). كما أخرجه البخاري في صحيحه بلفظ "الإيمان بضع وستون شعبة والحياء شعبة من الإيمان، كتاب الإيمان، باب بيان أمور الإيمان، ج1، ص51، حديث رقم (9).

([36]) انظر النووي، شرح النووي على صحيح مسلم، ج2، ص4.

([37]) متفق عليه: رواه البخاري في صحيحه، كتاب الإيمان، باب من قال إن الإيمان هو العمل، ج1، ص18 حديث رقم (18)، وأخرجه مسلم في صحيحه، كتاب الإيمان، باب كون الإيمان بالله أفضل الأعمال، ج1 ص88، حديث رقم (83).

([38]) ارعاءً: رفقاً به وإبطاءً عليه.

([39]) أخرجه مسلم في صحيحه، كتاب الإيمان، باب كون الإيمان أفضل الأعمال، ج1، ص89، حديث رقم (85).

([40]) متفق عليه: أخرجه البخاري في صحيحه، كتاب الجهاد والسير، باب الجهاد بإذن الوالدين، ج3، ص1094 حديث رقم (2842)، وأخرجه مسلم في صحيحه، كتاب البر والصلة، باب برّ الوالدين وأنهما أحق به، ج4 ص1974، حديث رقم (2549).

([41]) انظر العسقلاني، فتح الباري، ج2، ص10.

([42]) انظر النووي، شرح النووي على صحيح مسلم، ج16، ص104.

([43]) النووي، شرح النووي على صحيح مسلم، ج2، ص9.

([44]) متفق عليه: أخرجه البخاري في صحيحه، كتاب الإيمان، باب سنان الطعام من الإسلام، ج1، ص13 حديث رقم (12). وأخرجه مسلم في صحيحه، كتاب الإيمان، باب تفاضل الإسلام ونصف أموره أفضل  ج1، ص65، حديث رقم (39).

([45]) متفق عليه: أخرجه البخاري في صحيحه، كتاب الإيمان، باب أي الإسلام أفضل، ج1، ص13، حديث رقم (11)، وأخرجه مسلم في صحيحه، كتاب الإيمان، باب تفاضل الإسلام، ج1، ص65، حديث رقم (40).

([46]) انظر النووي، شرح النووي على صحيح مسلم، ج2، ص9-10.

([47]) الشجّ: الكسر في الرأس.

([48]) رواه أبو داود في سننه، كتاب الطهارة، باب المجروح يتيمم، ج1، ص93، حديث رقم (336)، كما أخرجه ابن ماجه في سننه، كتاب الطهارة وسننها، باب في المجروح تصيبه الجنابة فيخاف على نفسه إن اغتسل ج1، ص189، حديث رقم (572). وقال البوصري اسناده منقطع.

([49]) انظر القرطبي، الجامع لأحكام القرآن، ج5، ص217.

([50]) تزرموه: تقطعوا عليه بوله.

([51]) متفق عليه: أخرجه البخاري في صحيـحه، كتـاب

الأدب، باب الرفق في الأمر كله، ج5، ص2242، حديث رقم (5679). وأخرجه مسلم في صحيحه، كتاب الطهارة، باب وجوب غسل البول وغيره من النجاسات إذا حصلت في المسجد، ج1، ص239، حديث رقم (284).

([52]) انظر العسقلاني، فتح الباري، ج1، ص323-325.

([53]) متفق عليه: أخرجه البخاري في صحيحه، كتاب الأدب، باب قتل الولد خشية أن يأكل معك، ج5، ص2236، حديث رقم (5655). وأخرجه مسلم في صحيحه، كتاب الأدب، باب كون الشرك أقبح الذنوب وبيان أعظمها بعده، ج1، ص90، حديث رقم (86).

([54]) انظر العسقلاني، فتح الباري، ج12، ص116.

([55]) ابن عبد السلام، القواعد الكبرى، ج1، مقدمة المحقق ص37م.

([56]) ابن عبد السلام، القواعد الكبرى، ج1، ص14.

([57]) ابن عبد السلام، القواعد الكبرى، ج1، ص11.

([58]) ابن عبد السلام، القواعد الكبرى، ج1، ص74-75.

([59]) ابن عبد السلام، القواعد الكبرى، ج1، ص6.

([60]) ابن عبد السلام، المرجع السابق، ج1، ص79-80.

([61]) أحمد بن عبد الحليم ابن تيمية (توفي 728ﻫ)، مجموع الفتاوى، جمع: عبد الرحمن بن قاسم، الرياض، مكتبة ابن تيمية، ط2، د. ت، ج20، ص48.

([62]) ابن تيمية، المرجع السابق، ج20، ص48.

([63]) وقد ذكر ابن تيمية هذا التقسيم في فصل بعنوان "جامع تعارض الحسنات أو السيئات".

([64]) أحمد بن عبد الحليم ابن تيمية، اقتضاء الصراط المستقيم لمخالفة أصحاب الجحيم، تحقيق: ناصر بن عبد الكريم العقل، الرياض، مكتبة الرشد، ط3، 1413ه‍م، ج2، ص623.

([65]) أحمد بن عبد الحليم ابن تيمية، الاستقامة، تحقيق: محمد رشاد سالم، المدينة المنورة، جامعة الإمام محمد

ابن سعود، ط1، د. ت، ج2، ص16.

([66]) انظر ابن تيمية، مجموع فتاوى شيخ الإسلام ابن تيمية، ج20، ص57.

([67]) محمد بن أبي بكر ابن القيّم (توفي751ﻫ)، أعلام الموقّعين عن ربّ العالمين، ضبط وتعليق: محمد المعتصم بالله البغدادي، بيروت، دار الكتاب العربي، ط1، 1416ﻫ، ج2، ص25.

([68]) بيع الغرر: هو كل بيع احتـوى جهالـة أو تضمـن

مخاطرة أو قماراً. فهو من الخداع الذي هو مضنّة عدم الرضا عند تحققه، فيكون من باب أكل أموال الناس بالباطل. وقد نهى الشارع عنه.

([69]) أبي عبد الله محمد بن أبي بكر ابن القيّم، مدارج السالكين بين منازل إياك نعبد وإياك نستعين، بيروت، دار الكتب العلمية، 2004م، ص58.

([70]) أبي عبد الله محمد بن أبي بكر ابن القيّم، زاد المعاد في هدي خير العباد، تحقق: شعيب الأرناؤوط، بيروت، مؤسسة الرسالة، ط1، ج3، ص5.

([71]) انظر ابن القيم، زاد المعاد في هدي خير العباد، ج3، ص5-11.

([72]) انظر ابن منظور، لسان العرب، ج5، ص3642.

([73]) محمد الطاهر ابن عاشور (توفي 1393ﻫ)، مقاصد الشريعة الإسلامية، تحقيق ودراسة: محمد الطاهر الميساوي، د.م، البصائر للإنتاج العلمي، ط1، 1418ه‍، ص171.

([74]) انظر نعمان جغيم، طرق الكشف عن مقاصد الشارع، عمان، دار النفائس، ط1، 1422ه‍م، ص26-34.

([75]) انظر أبو إسحاق ابراهيم بن موسى الشاطبي (توفي 790ﻫ)، الموافقات في أصول الشريعة، بيروت، إحياء التراث العربي، ط1، 1422ه‍م، ج2، ص9.

([76]) انظر ابن عاشور، مقاصد الشريعة الإسلامية، ص210.

([77]) انظر الشاطبي، الموافقات، ج2، ص11.

([78]) الشاطبي، المرجع السابق، ج2، ص12.

([79]) انظر على بن محمد الآمدي (توفي 631ﻫ)، الإحكام في أصول الأحكام، تحقيق: سيد جميلي، بيروت، دار

الكتاب العربي، د. ط، 1404ه‍، ج4، ص286.

([80]) أُخذَت فكرة ترتيب الأحكام على خمس عشرة مرتبة من مقال بعنوان أولويات الأحكام الشرعية فقام الباحث بتعديلها وتطويرها برسم توضيحي ونماذج تطبيقية. انظر رياض أدهمي، أولويات الأحكام الشرعية، مقال

منشور على شبكة الإنترنت 12/3/2003، ص 14.

Www. alrashas. org/ahath/Awlawigat-Adhami. htm

([81]) انظر جغيم، طرق الكشف عن مقاصد الشارع، ص45.

([82]) انظر جغيم، المرجع السابق، ص50.

([83]) انظر جغيم، المرجع السابق، ص57-58.

([84]) سبق تخريجه.

([85]) جاء في قرار مجلس مجمع الفقه الإسلامي التابع لمنظمة المؤتمر الإسلامي الذي انعقد في الأردن 1986م تحريم صورة الرحم المؤجرة.

 Www islamonline. net/fatawa/arabic/fatawa display. asp

([86]) انظر ابن منظور، لسان العرب، ج3، ص362.

([87]) انظر عبد الكريم زيدان، المدخل لدراسة الشريعة الإسلامية، بيروت، مؤسسة الرسالة، ط16، 1424ﻫ، ص76.

([88]) انظر زيدان، المرجع السابق، ص76.

([89]) انظر ابن عبد السلام، القواعد الكبرى، ج1، ص125.

([90]) انظر ابن تيمية، مجموع فتاوى شيخ الإسلام، ج23، ص343.

([91]) انظر السيوطي، الأشباه والنظائر، ج1، ص86.

([92]) من العلماء من حكم بالكراهة التحريمية، ومهما يكن فإن الإصرار على الصغائر يقربها من الكبائر، كما يجب التنبيه على أن تحريم التدخين لا يجعله في مرتبة شرب الخمر أو الزنى فالحرام درجات كما أن الحرام المختلف فيه ليس في درجة الحرام المتفق عليه.

انظر يوسف القرضاوي، هدى الإسلام فتاوى معاصرة، الكويت، دار القلم للنشر والتوزيع، ط3، 1989م.

([93]) الاستنساخ هو تكوين مخلوقين أو أكثر كلٌ منهما نسخة إرثية من الآخر، حُكم بتحريمه في الندوة الفقهية الطبية التاسعة والتي بعنوان: "المواد الإضافية في الغذاء والدواء والاستحالة والمفطرات- الاستنساخ" في المغرب بتاريخ 14-17 يونيو 1997م. Www. islamset. com/ambic/abioethics/clone. htm

([94]) انظر القيسي، سلم القيم من منظور إسلامي، ص14-26.

([95]) أخرجه الترمذي في سننه، كتاب الزكاة، باب ما جاء في الصدقة على ذي القرابة، ج3 ص46، حديث رقم (658). وأخرجه ابن ماجه في سننه، كتاب الزكاة، باب فضل الصدقة، ج1، ص591، حديث رقم (1844). وقال الترمذي حديث حسن.

 

([96]) انظر القرضاوي، في فقه الأولويات، ص101.

([97]) انظر النووي، شرح النووي على صحيح مسلم، ج6، ص70.

([98]) انظر الشاطبي، الموافقات، ج2، ص197.

([99]) انظر الطبري، جامع البيان في تفسير القرآن، ج29، ص79.

([100]) متفق عليه: أخرجه البخاري في صحيحه، كتاب الإيمان، باب أحب الدين إلى الله أدومه، ج1، ص24، حديث رقم (43). وأخرجه مسلم في صحيحه، كتاب الصلاة، باب أمر من نعس في صلاته أو استعجم عليه القرآن أو الذكر بأن يرقد، ج1، ص2542، حديث رقم (785).

([101]) متفق عليه: أخرجه البخاري في صحيحه، كتاب اللباس، باب الجلوس على الحصير، ج5، ص2201، حديث رقم (5523)، وأخرجه مسلم في صحيحه، كتاب الصلاة، باب فضيلة العمل الدائم عن قيام الليل وغيره، ج1، ص540، حديث رقم (782).

([102]) انظر العسقلاني، المرجع السابق، ج9، ص105.

([103]) انظر العسقلاني، المرجع السابق، ج1، ص103.

([104]) انظر النووي، شرح النووي على صحيح مسلم، ج6، ص70.

([105]) انظر العسقلاني، فتح الباري، ج1، ص102.

([106]) سبق تخريجه.

([107]) أخرجه الترمذي في سننه، كتاب العلم، ج5، ص50، حديث رقم (2685). وقال الترمذي هذا حديث غريب.

([108]) انظر الشافعي: أبو عبد الله محمد بن إدريس

الشافعي، الأم، بيروت: دار المعرفة، ط2، 1993م، ج6، ص207.

([109]) أخرجه مسلم في صحيحه، كتاب الوصية، باب ما يلحق الإنسان من الثواب بعد وفاته، ج3، ص2255، حديث رقم (1631).

([110]) انظر القرضاوي، في فقه الأولويات، ص113-118.

([111]) انظر القرضاوي، المرجع السابق، ص41.