أضيف بتاريخ : 13-01-2015


المنهج النبوي في تنمية الفاعلية(*)

فضيلة الدكتور محمد عيسى الشريفين / جامعة آل البيت

ملخص

تناولت في بحثي هذا تعريف الفاعلية في لسان أهل التربية وعلم النفس، ثم في ضوء الحديث النبوي الشريف، ثم تناولت السبل التي سلكتها السنة النبوية المطهرة في زيادة فاعلية الفرد المسلم، وقد كانت هذه السبل مستمدة مباشرة من الأحاديث النبوية الشريفة، ومن أهم هذه المسالك التي توصلت إليها كمسالك لزيادة الفاعلية: التوكل على الله، والصبر على النوازل، التميّز، والإيجابية...، وقد قسمت هذا البحث إلى تمهيد ومبحث وخاتمة سائلاً المولى التوفيق والسداد.

المقدمة

الحمد لله، والصلاة والسلام على سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم وبعد:

المجتمع الذي أسس له المصطفى صلى الله عليه وسلم مجتمع فعال، ويرجع السبب الرئيس في فاعلية هذا المجتمع إلى طبيعة الشخصية التي بناها المصطفى صلى الله عليه وسلم فلقد كانت شخصية فعالة، وكان السر في هذه السمة طبيعة المنهج الرباني وأثره البالغ في استثارة الهمم، وحسن توظيف الطاقات وبالتالي: أرقى النتائج بأقل التكاليف، ولتسليط الضوء على المنهج النبوي في زيادة الفاعلية؛ أحببت أن يكون موضوع بحثي: المنهج النبوي في تنمية الفاعلية، وهذا الموضوع في غاية الأهمية لسببين، الأول: أن غالب الدراسات في الفاعلية دراسات غربية متفقة مع قيم المجتمعات الغربية، وفي سنة نبينا ما يغنينا. والسبب الثاني: أن الهدي النبوي قد قدم لهذه الأمة في كل زمان ومكان أسس التقدم والنجاح، هذه الأسس واضحة وقابلة للتطبيق في نفس الوقت، وما على المسلمين إلا أن يصدقوا في تطبيقها، وأشير هنا إلى أن القواعد والمسالك التي توصلت إليها في هذا البحث لم تكن وليدة التكلف، بل هي غاية في الوضوح، يحتاج اكتشافها فقط إلى استنطاق النص وحسن التوظيف، وقد قسمت هذا البحث إلى تمهيد ومبحث وخاتمة، سائلاً المولى التوفيق إنه سميع قريب مجيب الدعاء.

التمهيد

تعريف الفاعلية في لسان أهل التربية:

الفاعلية بشكل عام تعني: العمل على بلوغ أعلى درجات الإنجاز، وتحقيق أفضل النتائج، بأقل التكاليف([1]).

معنى الفاعلية في ضوء دراسة الحديث النبوي الشريف: ومن خلال دراستي للأحاديث النبوية الشريفة الواردة في هذا الموضوع، ثم من خلال قراءتي ومطالعاتي في كتب التربية، أستطيع تعريف الفاعلية بأنها: عملية ارتقاء الفرد المسلم المؤطرة شرعاً لتحقيق الخيرية.

والفرق بين هذا التعريف وتعريف التربويين وعلماء النفس، أن الفاعلية في هذا التعريف مؤطرة بإطار الشرع أي منضبط، أما الفرق الثاني فيتمثل في الهدف، ألا وهو تحقيق الخيرية، فهدف الفاعلية شرعاً الوصول إلى الخيرية، قال تعالى: (كُنتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللّهِ وَلَوْ آمَنَ أَهْلُ الْكِتَابِ لَكَانَ خَيْرًا لَّهُم مِّنْهُمُ الْمُؤْمِنُونَ وَأَكْثَرُهُمُ الْفَاسِقُونَ)([2]) والخيرية التي تميزت بها الأمة الإسلامية، تعني: العيش من أجل الآخرين، وهي تفترق عن الأفضلية التي نشدها اليهود، حيث هي بفلسفتهم، تعني: تسخير الآخرين لهم أما الخيرية التي أرادها لنا الحق سبحانه وتعالى، فهي أن نكون للآخرين، وأستدل على ذلك بما أورده الإمام القرطبي في معرض تفسيره لهذه الآية قال: قال أبو هريرة: نحن خير الناس للناس نسوقهم بالسلاسل إلى الإسلام([3]).

مسالك زيادة الفاعلية

لقد سلكت السنة النبوية المطهرة في سعيها لتعزيز فاعلية الفرد المسلم مسالك متميزة واضحة مجدية، وكانت السمة العامة في هذه المسالك أنها مسالك مشروعة من شأنها إحداث التغيير الإيجابي وبالتالي تحقيق الأهداف المنشودة، وأرى أن مراجعة هذه المسالك من شأنه الإعانة على التطوير والتقدم، وقد عملت على استخلاص هذه المسالك من خلال دراستي للأحاديث النبوية الشريفة، وهذه المسالك تدل دلالة واضحة على مدى اهتمام المصطفى صلى الله عليه وسلم بتفعيل الفرد المسلم وصولاً إلى المجتمع الفعال، وبالتالي الأمة الفعالة المؤثرة، وهذه المسالك كثيرة، أذكر أهم ما توصلت إليه باجتهادي، وهي:

المسلك الأول

 التوكل على الله

التوكل على الله سبحانه وتعالى أمر في غاية الأهمية، ولا بد لأي عملية تفعيل منه، والمتأمل يجد أن التوكل على الله هو السر في تميز الفرد المسلم، وأنه عامل أساس في زيادة فاعليته، لذلك فقد ركز عليه القرآن الكريم، وأولته السنة المطهرة أهمية متميزة، وإذا أردنا معرفة سر أهمية التوكل على الله في عملية التفعيل فلا بد لنا من أن نأخذ بعين الاعتبار طبيعة النفس الإنسانية أولاً، فالنفس الإنسانية تحتاج إلى من تتوكل عليه، وتوقن به، والناس في سعيهم إلى إشباع هذه الحاجة متغايرون، فمنهم من يتوكل على الناس، ومنهم من يتوكل على الجن، ومنهم من يتوكل على المخلوقات من غير الجن والإنس، ولا نجاة إلا لمن يتوكل على الله سبحانه وتعالى، فهو خالق الكون ومدبر أموره وأمره بين الكاف والنون وإذا أراد شيئاً فإنما يقول له كن فيكون، كذلك لا بد من أن نعلم أن الإنسان محدود القدرة، لذلك كان المصطفى صلى الله عليه وسلم يذكر في دعائه توكله على خالقه مع أنه كان يقدم الأسباب الكافية، يُعلِّم المسلمين في كل زمان ومكان ضرورة التوكل على الحي الذي لا يموت، فعن ابْنَ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَالَ (كَانَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم إِذَا قَامَ مِنْ اللَّيْلِ يَتَهَجَّدُ قَالَ اللَّهُمَّ لَكَ الْحَمْدُ أَنْتَ قَيِّمُ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَنْ فِيهِنَّ وَلَكَ الْحَمْدُ... اللَّهُمَّ لَكَ أَسْلَمْتُ وَبِكَ آمَنْتُ وَعَلَيْكَ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْكَ أَنَبْتُ...)([4]) وكذلك فقد بينت السنة المطهرة ضرورة التوكل على الله في مواجهة كيد البشر وصدهم عن سبيل الله، فعَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ قال: (حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ قَالَهَا إِبْرَاهِيمُ عَلَيْهِ السَّلَام حِينَ أُلْقِيَ فِي النَّارِ وَقَالَهَا مُحَمَّدٌ صلى الله عليه وسلم حِينَ قَالُوا إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَانًا وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ)([5]).

ثم بيّن لنا المصطفى صلى الله عليه وسلم أن التوكل يكون على درجات أعلاها درجة حق التوكل، وبين لنا صلى الله عليه وسلم أن الإنسان إذا بلغ هذه المرتبة رزق كما ترزق الطير، فعن عَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: (لَوْ أَنَّكُمْ كُنْتُمْ تَوَكَّلُونَ عَلَى اللَّهِ حَقَّ تَوَكُّلِهِ لَرُزِقْتُمْ كَمَا يُرْزَقُ الطَّيْرُ تَغْدُو خِمَاصًا وَتَرُوحُ بِطَانًا) قَالَ أَبُو عِيسَى: هَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ صَحِيحٌ لَا نَعْرِفُهُ إِلَّا مِنْ هَذَا الْوَجْهِ([6]) ولذلك فقد وجهنا المصطفى صلى الله عليه وسلم إلى التوكل على الله في غدونا ورواحنا، فعَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم مَنْ قَالَ يَعْنِي إِذَا خَرَجَ مِنْ بَيْتِهِ (بِسْمِ اللَّهِ تَوَكَّلْتُ عَلَى اللَّهِ لَا حَوْلَ وَلَا قُوَّةَ إِلَّا بِاللَّهِ يُقَالُ لَهُ كُفِيتَ وَوُقِيتَ وَتَنَحَّى عَنْهُ الشَّيْطَانُ) قَالَ أَبُو عِيسَى: هَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ صَحِيحٌ غَرِيبٌ لَا نَعْرِفُهُ إِلَّا مِنْ هَذَا الْوَجْهِ([7]).

ولا بد هنا من أن أذكر أن التوكل لا يعني بحال ترك الأخذ بالأسباب، يقول الإمام الغزالي: وقد يظن أن معنى التوكل ترك الكسب بالبدن، وترك التدبير بالقلب والسقوط على الأرض كالخرقة الملقاة، وهذا ظن الجهال، فإن ذلك حرام في الشرع، والشرع قد أثنى على المتوكلين فكيف ينال مقام من مقامات الدين بمحظورات الدين([8]).

- علاقة التوكل بالفاعلية:

التوكل بما يتضمنه من الأخذ بالأسباب، يضمن استغلال الأسباب الموجودة لتحقيق النتائج المرجوة، وبما فيه من حق التوكل، والثقة بالله يضمن التفاني في أداء العمل الذي يرجى من خلاله تحقيق هدف معين، وهذا الدافع من الثقة والإتقان ركن مهم في جودة النتيجة؛ فحسن استغلال الأسباب، والتفاني في العمل المدفوع بالتوكل يشكلان صورة واضحة لما يقوم به شخص فعَّال ويؤديان إلى الثمرة المرجوة من عملية فاعلية.

المسلك الثاني

 الصبر على النوازل

لا بد لمن يحيا في هذه الحياة الدنيا من النوازل، فهي دارها، ودار الابتلاء، ولهذه النوازل أثر سلبي كبير على النفس الإنسانية، ولا يمكن تحمل هذه النوازل بحال، إلا بالاستناد إلى عقيدة صحيحة وإيمان وثيق، ولقد كان للسنة النبوية المطهرة أثر منفرد لا نظير له في التعامل مع المصائب والنوازل، حيث إن من أهم مسالك زيادة الفاعلية، أن لا تكون المصائب حائلا بين الفرد المسلم النجاح، ولقد كان لهذا المنهج في التعامل مع النوازل دوره الكبير في تفعيل الفرد المسلم، يقول الغزالي: إذا استحكمت الأزمات، وتعقدت حبالها، وترادفت الضوائق وطال ليلها، فالصبر وحده هو الذي يشع للمسلم النور العاصم من التخبط، والهداية الواقية من القنوط، والصبر فضيلة يحتاج إليه المسلم في دينه ودنياه، يجب عليه أن يوطن نفسه على احتمال المكاره دون ضجر، وانتظار النتائج مهما بعدت، ومواجهة الأعباء مهما ثقلت([9]). والمصائب التي يصاب بها الإنسان في هذه الحياة الدنيا إما أن تكون موت أو مرض أو فقر، هذا ولقد تعاملت السنة مع هذه الأخطار الثلاثة تعاملاً رائعاً، فبداية وضع المصطفى صلى الله عليه وسلم قانوناً عاماً يجمع هذه الأخطار الثلاة وغيرها، فعَنْ صُهَيْبٍ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: (عَجَبًا لِأَمْرِ الْمُؤْمِنِ إِنَّ أَمْرَهُ كُلَّهُ خَيْرٌ وَلَيْسَ ذَاكَ لِأَحَدٍ إِلَّا لِلْمُؤْمِنِ إِنْ أَصَابَتْهُ سَرَّاءُ شَكَرَ فَكَانَ خَيْرًا لَهُ وَإِنْ أَصَابَتْهُ ضَرَّاءُ صَبَرَ فَكَانَ خَيْرًا لَهُ)([10]) ثم قدم النبي صلى الله عليه وسلم مواساة لأهل البلاء تتمثل في بيان أنهم سيجازون جزاء عظيما على صبرهم حتى أن أهل العافية سيتمنون أن لو قرضت أجسادهم في الدنيا بالمقاريض، فعَنْ جَابِرٍ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم (يَوَدُّ أَهْلُ الْعَافِيَةِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ حِينَ يُعْطَى أَهْلُ الْبَلَاءِ الثَّوَابَ لَوْ أَنَّ جُلُودَهُمْ كَانَتْ قُرِضَتْ فِي الدُّنْيَا بِالْمَقَارِيضِ) قال الترمذي: وَهَذَا حَدِيثٌ غَرِيبٌ لَا نَعْرِفُهُ بِهَذَا الْإِسْنَادِ إِلَّا مِنْ هَذَا الْوَجْهِ وَقَدْ رَوَى بَعْضُهُمْ هَذَا الْحَدِيثَ عَنْ الْأَعْمَشِ عَنْ طَلْحَةَ بْنِ مُصَرِّفٍ عَنْ مَسْرُوقٍ قَوْلَهُ شَيْئًا مِنْ هَذَا([11]) قال المباركفوري: قال المنذري في الترغيب بعد ذكر هذا الحديث: رواه الترمذي وابن أبي الدنيا من رواية عبد الرحمن بن مغراء وبقية رواته ثقات([12]). قلت: هذا الحديث ضعيف بهذا السند، فيه عبد الرحمن بن مغراء صدوق تُكلم في حديثه عن الأعمش والحديث الذي بين يدينا من روايته عن الأعمش، وفيه الأعمش ثقة حافظ لكنه يدلس([13])، ولم يصرح بالسماع في هذا السند، ثم بينت لنا السنة الموقف الذي يجب علينا أن نقفه بعد المصاب، يمثل هذا الموقف ثقة بالله وبقدره سبحانه وتعالى، فعَنْ أُمِّ سَلَمَةَ أَنَّهَا قَالَتْ سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: (مَا مِنْ مُسْلِمٍ تُصِيبُهُ مُصِيبَةٌ فَيَقُولُ مَا أَمَرَهُ اللَّهُ إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ اللَّهُمَّ أْجُرْنِي فِي مُصِيبَتِي وَأَخْلِفْ لِي خَيْرًا مِنْهَا إِلَّا أَخْلَـفَ اللَّهُ لَهُ خَيْرًا مِنْهَا) ([14]) ، قال الإمام النووي: فيه فضيلة هذا القول، ومعنى أجره الله: أعطاه أجره([15]).

من خلال دراسة هذه الأحاديث تتضح لنا معالم منهج متميز في التعامل مع المصائب والنوازل، وأهم معالم هذا المنهج أنه يدعو إلى تقبل هذه النوازل والمصائب، بترتيب الأجر والثواب الجزيل عليها، ثم يدعو المصاب أن يتحلى بالصبر، ثم يجب على المصاب أن يدعو بأدعية خاصة لها أثرها المتميز على نفسية المؤمن بالله.

المسلك الثالث

 التميّز

إن هذا الدين العظيم جاء لتحقيق الاستخلاف الحقيقي الذي خلق الله له الناس كي يؤدوه ضمن نطاق العبودية، وجوهر هذا الاستخلاف لا يتحقق إلا بتحقق الفاعلية في كل فرد مستخلف، إذ على كل فرد أن يستغل ما أودع الله فيه من قدرات ليحقق الإعمار في محيطه الذي هو فيه، وما لم توجد الاستقلالية لدى كل فرد فإنه سيكون عالة على غيره مقتنعاً بما حوله دون تغيير، فهو قد جمَّد ما وهبه الله إياه، وقطع خيره عن غيره، يأخذ ولا يعطي ويقلد ولا يجدد، فعندئذ لا فاعلية ولا ثمرة ينتجها هذا الكائن؛ لذلك فقد أكدت السنة المطهرة على ضرورة تميّز الفرد المسلم، التميّز المؤطر بالشرع؛ لأن الفرد هو المكون الأول للمجتمع، ولأن تميّز الفرد يعني تميّز المجتمع، وبالتالي استقلالية الأمة التي ينتمي لها ذلك الفرد، إن وجود الفرد المستقل أمر في غاية الأهمية بالنسبة لفاعلية الأمة، ولا يمكن بحال أن يكون الفرد فاعلاً دون أن يكون مستقلاً، هذا ولقد ركز المصطفى صلى الله عليه وسلم على زرع الاستقلالية في روح الفرد المسلم، وحتى تنمو الاستقلالية في كيانه، فقد نبه صلى الله عليه وسلم على قضايا في غاية الأهمية، يجب الأخذ بها حتى يصبح الفرد مستقلاً، ومن أهم هذه القضايا التي تنمي روح الاستقلالية:

أولاً: النهي عن التشبه القيمي بالمخالفين.

إن التشبه القيمي بالآخرين يعني الانقياد خلفهم، وأن الأمة القوية لها قيمها الخاصة بها لا تقلد أحداً في ذلك بل تُقَلد، فإذا ما رأيت أمة تقلد أخرى في قيمها، فهي أمة هالكة، ليس لها أي اعتبار أو تقدير بين الأمم، وينقسم التشبه بالمخالفين إلى قسمين: القسم الأول: التشبه بالمخالفين بالمعتقد. القسم الثاني: التشبه بالمخالفين بالجنس.

1- النهي عن التشبه القيمي بالمخالفين بالمعتقد.

تركز الفاعلية على قضية إحداث التغيير الإيجابي وتحقيق الأهداف المنشودة، ولا يمكن بحال تحقيق هذين الأمرين إن لم يكن التغيير ذاتياً منطلقاً من صميم القيم التي نؤمن بها والمجتمع الإسلامي مجتمع مستقل له هويته الخاصة به، مجتمع له قيمه المتميزة، هذه القيم صالحة لكل زمان ومكان، قيم تستحق أن تُقلد لا أن تترك ويستبدل بها غيرها من القيم، وإنه لمن العجب أن تترك هذه القيم إلى غيرها، والأعجب من هذا: أن المقلد لقيم الآخرين من اليهود والنصارى وغيرهم يفتخر بتقليده.

الأحاديث الواردة في النهي عن التشبه بالكفار:

وردت أحاديث كثيرة في موضوع النهي عن التشبه بالكفار، منها: ما يخبر بما سيؤول إليه أمر هذه الأمة من شأن التقليد للأمم السالفة، ومنها: ما يحذر من هذا السلوك، مهددة ومتوعدة الذين دأبهم التشبه بالكفار، وأذكر من هذه الأحاديث:

الحديث الأول: عَنْ أَبِي سَعِيدٍ- رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ- أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: (لَتَتَّبِعُنَّ سَنَنَ مَنْ قَبْلَكُمْ شِبْرًا بِشِبْرٍ وَذِرَاعًا بِذِرَاعٍ حَتَّى لَوْ سَلَكُوا جُحْرَ ضَبٍّ لَسَلَكْتُمُوهُ قُلْنَا يَا رَسُولَ اللَّهِ الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى قَالَ فَمَنْ)([16]) قال الطيبي: السنن هنا جمع سنة وهي الطريقة، حسنة كانت أو قبيحة، والمراد بها هاهنا طريقة أهل الأهواء والبدع([17]). قال ابن حجر: وقد أخرج الطبراني من حديث المستورد بن شداد رفعه "لا تترك هذه الأمة شيئا من سنن الأولين حتى تأتيه" ووقع في حديث عبد الله بن عمرو عند الشافعي بسند صحيح "لتركبن سنة من كان قبلكم حلوها ومرها" قال ابن بطال: أعلم صلى الله عليه وسلم أن أمته ستتبع المحدثات من الأمور والبدع والأهواء كما وقع للأمم قبلهم، وقد أنذر في أحاديث كثيرة بأن الآخر شر، والساعة لا تقوم إلا على شرار الناس, وأن الدين إنما يبقى قائما عند خاصة من الناس. قلت: وقد وقع معظم ما أنذر به صلى الله عليه وسلم وسيقع بقية ذلك([18]).

الحديث الثاني: عن أَبي هُرَيْرَةَ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ- قَال: إِنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَال: إِنَّ الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى لَا يَصْبُغُونَ فَخَالِفُوهُمْ([19]).

الحديث الثالث: عَنْ عَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدِّهِ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: (لَيْسَ مِنَّا مَنْ تَشَبَّهَ بِغَيْرِنَا لَا تَشَبَّهُوا بِالْيَهُودِ وَلَا بِالنَّصَارَى فَإِنَّ تَسْلِيمَ الْيَهُودِ الْإِشَارَةُ بِالْأَصَابِعِ وَتَسْلِيمَ النَّصَارَى الْإِشَارَةُ بِالْأَكُف) قَالَ أَبُو عِيسَى: هَذَا حَدِيثٌ إِسْنَادُهُ ضَعِيفٌ وَرَوَى ابْنُ الْمُبَارَكِ هَذَا الْحَدِيثَ عَنْ ابْنِ لَهِيعَةَ فَلَمْ يَرْفَعْهُ([20]).

الحديث الرابع: عَنْ ابْنِ عُمَرَ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم خَالِفُوا الْمُشْرِكِينَ أَحْفُوا الشَّوَارِبَ وَأَوْفُوا اللِّحَى([21]).

الحديث الخامس: عَنْ ابْنِ عُمَرَ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم مَنْ تَشَبَّهَ بِقَوْمٍ فَهُوَ مِنْهُمْ([22]) قال ابن حجر في الفتح: سنده حسن([23]).

في هذا الحديث تحذير واضح للمتشبهين، حيث يبين المصطفى صلى الله عليه وسلم أن من قلد ناساً فهو منهم، أي على شاكلتهم، وفي هذا الحديث دعوة صريحة للمسلم أن يكون على حذر، وأن لا يقلد أحداً حتى يوقن أنه على هدى، لأنه لا يجوز للمؤمن بحال تقليد الشر والضلال، بل يجب عليه أن يكون سعيه التقليد في الخير، فأي دعوة للاستقلالية أوضح من هذه الدعوة؟ إن أثر هذه الدعوة كبير على زيادة الفاعلية.

يقول صاحب عون المعبود: قال العلقمي: أي من تشبه بالصالحين يكرم كما يكرمون, ومن تشبه بالفساق لم يكرم، ومن وضع عليه علامة الشرفاء أكرم وإن لم يتحقق شرفه انتهى. قال شيخ الإسلام ابن تيمية في الصراط المستقيم: وقد احتج الإمام أحمد وغيره بهذا الحديث, وهذا الحديث أقل أحواله أن يقتضي تحريم التشبه بهم كما في قوله: (وَمَن يَتَوَلَّهُم مِّنكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ إِنَّ اللّهَ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ)([24]) وهو نظير قول عبد الله بن عمرو أنه قال: من بنى بأرض المشركين وصنع نيروزهم ومهرجانهم وتشبه بهم حتى يموت حشر معهم يوم القيامة فقد يحمل هذا على التشبه المطلق فإنه يوجب الكفر, ويقتضي تحريم أبعاض ذلك، وقد يحمل على أنه منهم في القدر المشترك الذي يشابههم فيه، فإن كان كفرا أو معصية أو شعارا لها كان حكمه كذلك. قال السخاوي: فيه ضعف لكن له شواهد، وقال ابن تيمية: سنده جيد، وقال ابن حجر في الفتح: سنده حسن([25]).

من مجموع هذه الأحاديث نصل إلى أن السنة النبوية المطهرة أولت قضية الاستقلالية أهمية كبيرة، ولم يكن هذا الاهتمام من فراغ، بل لما في تقليد الكفار القيمي من مضاعفات خطيرة، تهدد كيان الأمة ووجودها، كذلك لما لقضية الاستقلالية من أثر كبير في مضاعفة العطاء والتقدم والتطور، حيث إن الشخصية المستقلة واثقة من نفسها موقنة أن بإمكانها تقديم الأفضل دائماً.

2- النهي عن التشبه بالمخالفين بالنوع.

نهت السنة المطهرة عن التشبه الإرادي للرجال بالنساء، وللنساء بالرجال، إدراكاً منها أن في ذلك الفعل تهديد للشخصية السوية التي ينشدها الشارع من الرجل والمرأة، وفيه خطر كبير على فاعلية الفرد المسلم، ويطلق باينس على التشبه المتبادل: الالتباس الجنسي، وبعد حديثه عن المتشبهين من الرجال بالنساء والمتشبهات من النساء بالرجال، قال: إن استمرار حالة الالتباس الداخلي (فقدان الهوية) يشوش النمو السوي للشخصية، ويسبب فقدان الاهتمام بأي شيء يتجاوز حدود الصراع النفسي، فالشخص الخنثوي يصعب عليه أن يعمل على تقوية شخصيته وإرادته، لأن الصراع الذي يعاني منه لا يترك وقتاً كافياً لكي يقوم بأي عمل أبعد من الحصول على هوية خارجية تضفي عليه قيمة في نظر أنداده، فإذا نجح في بحثه عن الهوية الخارجية فإنه سيلجأ أكثر فأكثر إلى العالم الخارجي، ومن غير المحتمل أن يطرح على نفسه أسئلة بطريقة تشجعه على تحليل شخصيته وسلوكه، فعبث الشخص يعميه عن إدراك القيمة المهمة، والأكثر عمقاً لمسائل الوضع الإنساني، وكل من يحاول أن يوطد أهميته وفقاً لهذه المعايير سيدفع الثمن عن طريق معاناته من فراغ داخلي لا يمكن تحمله([26]).

هذا وقد وردت أحاديث صحيحة صريحة في النهي عن هذه الصورة المنفرة، من التشبه الإرادي المتبادل بين الرجال والنساء، أذكر منها:

الحديث الأول: عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَالَ: (لَعَنَ رَسُولُ اللَّهِ r الْمُتَشَبِّهِينَ مِنْ الرِّجَالِ بِالنِّسَاءِ وَالْمُتَشَبِّهَاتِ مِنْ النِّسَاءِ بِالرِّجَالِ)([27]).

لقد كان موقف السنة حازماً من قضية التشبه المتبادل، ونستدل على هذا الحزم من خلال ترتب اللعن على من يتشبه من الرجال بالنساء ومن النساء بالرجال، فالرجل مختلف عن المرأة: (فَلَمَّا وَضَعَتْهَا قَالَتْ رَبِّ إِنِّي وَضَعْتُهَا أُنثَى وَاللّهُ أَعْلَمُ بِمَا وَضَعَتْ وَلَيْسَ الذَّكَرُ كَالأُنثَى...)[36: آل عمران] يقول محمد فضل الله: ليس وارداً في مقام تفضيل الذكر على الأنثى في القيمة الإنسانية الدينية، لتكون دليلاً على الفكرة التي تؤكد ذلك، بل الظاهر أنها واردة في المورد الخاص وهو مسألة خدمة البيت المقدس التي كانت مخصصة للذكور دون الإناث من خلال التوزيع الطبيعي للمهام بين الذكور والإناث، مما يعني توزيع الأدوار باعتبار أن كل واحد ميسر لما خلق له([28]). وفي المحافظة على هذا الفرق بين الذكر والأنثى محافظة على قوة المجتمع وفاعليته، ولتوضيح هذا الأمر أنظر إلى الأسرة التي هي المكون الأساس للمجتمع، فدور الأم يختلف عن دور الأب وكلاهما معد لذلك، فلكل منهما خصوصياته الخَلقية والخُلُقية، وفي المحافظة على هذه الأدوار نصل إلى الأسرة المتماسكة المترابطة، ولذلك فالأسرة في الإسلام أمر مقدس لا يجوز العبث به، والغرب يراجع حساباته في هذه الأيام لنظام الأسرة ويدعو إلى تقوية الأسرة، إن دعوة السنة النبوية لاستقلالية المرأة عن الرجل ليست بحال دعوة للتفريق أو التفضيل بل هي دعوة لبناء أسرة قوية وبالتالي مجتمع قوي مترابط متماسك فعَّال.

الحديث الثاني: عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم أُتِيَ بِمُخَنَّثٍ قَدْ خَضَّبَ يَدَيْهِ وَرِجْلَيْهِ بِالْحِنَّاءِ فَقَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم مَا بَالُ هَذَا فَقِيلَ يَا رَسُولَ اللَّهِ يَتَشَبَّهُ بِالنِّسَاءِ فَأَمَرَ بِهِ فَنُفِيَ إِلَى النَّقِيعِ فَقَالُوا يَا رَسُولَ اللَّهِ أَلَا نَقْتُلُهُ فَقَالَ إِنِّي نُهِيتُ عَنْ قَتْلِ الْمُصَلِّينَ قَالَ أَبُو أُسَامَةَ وَالنَّقِيعُ نَاحِيَةٌ عَنْ الْمَدِينَةِ وَلَيْسَ بِالْبَقِيعِ([29]) قلت: حديث ضعيف بهذا الإسناد، فيه أبو يسار مجهول الحال([30]).

من خلال استعراضنا لهذه الأحاديث وغيرها في هذا الموضوع، نلاحظ شدة اهتمام السنة النبوية المطهرة بقضية التشبه الإرادي بين الرجال والنساء، ولقد وقفت السنة المطهرة موقفاً حازماً من هذه القضية التي تؤثر تأثيراً سلبياً واضحاً على المتشبه؛ حيث أنه يتقمص شخصية غيره لضعف فيه، وقد تمثل هذا الموقف الحازم بالتهديد تارة حيث هددت السنة النبوية المطهرة من مغبة تقليد الكفار ببيانها أن من تشبه بقوم فهو منهم، وأخرى بلعن المتشبهين والمتشبهات، وفي هذا اللعن زجر كبير يجب على العاقل أن لا يغفله بحال، ثم في الحديث الأخير - إن صح- أن النبي صلى الله عليه وسلم قد أنزل العقوبة على من سلك هذا السلوك.

ثانياً: اختبار النفس قبل الاعتماد على الآخرين.

وينقسم اختبار النفس قبل الاعتماد على الآخرين إلى قسمين: القسم الأول مادي. والقسم الثاني: معنوي. أما المادي، فمن أهم الأمور التي يجب على الشخص أن يرعاها: أن يعش أبد الدهر معتمداً على نفسه وأن يستغل ما أودعه الله فيها ما استطاع إلى ذلك سبيلاً؛ ذلك أن من أكثر خصال الخير مدحاً اليد العليا، ومن أقبح القبائح أن يعيش الإنسان معتمداً على غيره، مع أن باستطاعته الاعتماد على نفسه، لهذه الأسباب وغيرها كان تركيز السنة النبوية المطهرة منصباً على تنمية اعتماد المسلم على نفسه بدعوته إلى استغلال قدراته، وقد تمثل هذا الاهتمام بمدح اليد العليا تارة، وتارة بمدح المؤمن القوي، وتارة كان بالتوجيه المباشر للعمل للوصول إلى درجة الاستقلال، وتارة ببيان عدم جواز المسألة إلا لعاجز عن الاعتماد على نفسه، وأخرى بتوجيه المؤمن أن يغني ورثته لكيلا يكونوا عالة على الناس، أما الجانب المعنوي في الاعتماد على النفس فيتمثل في وجوب أن يثق الإنسان المسلم بنفسه، وأن يعتقد أنه قادر على فعل الخير، وأنه قادر بدون الاعتماد على الآخرين دخول الجنة، وهذا ما رعاه المصطفى صلى الله عليه وسلم، حين كان يسأل الجنة أو يسأل عن الساعة، والأحاديث الواردة في هذا الموضوع كثيرة أذكر منها:

الحديث الأول: عَنْ حَكِيمِ بْنِ حِزَامٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ الْيَدُ الْعُلْيَا خَيْرٌ مِنْ الْيَدِ السُّفْلَى وَابْدَأْ بِمَنْ تَعُولُ وَخَيْرُ الصَّدَقَةِ عَنْ ظَهْرِ غِنًى وَمَنْ يَسْتَعْفِفْ يُعِفَّهُ اللَّهُ وَمَنْ يَسْتَغْنِ يُغْنِهِ اللَّهُ([31]).

هذا وقد ورد تفسير اليد العليا واليد السفلى في رواية ابن عمر، فعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا- أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ r قَالَ وَهُوَ عَلَى الْمِنْبَرِ وَذَكَرَ الصَّدَقَةَ وَالتَّعَفُّفَ وَالْمَسْأَلَةَ (الْيَدُ الْعُلْيَا خَيْرٌ مِنْ الْيَدِ السُّفْلَى فَالْيَدُ الْعُلْيَا هِيَ الْمُنْفِقَةُ وَالسُّفْلَى هِيَ السَّائِلَةُ)([32]) وفي هذا البيان النبوي الشريف دعوة صريحة للمؤمن بالله أن يحرص كل الحرص ألاَّ يكون أدنى، وأن يعتمد على نفسه، وأقول: إن في هذه الدعوة الصريحة أثراً واضحاً في زيادة فاعلية الفرد المسلم، وتميز شخصيته عن غيره، فكأن السنة المطهرة بهذا التفضيل تقول للمؤمن: كن صاحب اليد العليا، لا تكن صاحب اليد الدنيا، أي كن مستقلاً.

الحديث الثاني: عَنْ أَنَـسِ بْنِ  مَالِكٍ أَنَّ رَجُلًا مِنْ

الْأَنْصَارِ أَتَى النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم يَسْأَلُهُ فَقَالَ: (أَمَا فِي بَيْتِكَ شَيْءٌ قَالَ بَلَى حِلْسٌ نَلْبَسُ بَعْضَهُ وَنَبْسُطُ بَعْضَهُ وَقَعْبٌ نَشْرَبُ فِيهِ مِنْ الْمَاءِ قَالَ ائْتِنِي بِهِمَا قَالَ فَأَتَاهُ بِهِمَا فَأَخَذَهُمَا رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم بِيَدِهِ وَقَالَ مَنْ يَشْتَرِي هَذَيْنِ قَالَ رَجُلٌ أَنَا آخُذُهُمَا بِدِرْهَمٍ قَالَ مَنْ يَزِيدُ عَلَى دِرْهَمٍ مَرَّتَيْنِ أَوْ ثَلَاثًا قَالَ رَجُلٌ أَنَا آخُذُهُمَا بِدِرْهَمَيْنِ فَأَعْطَاهُمَا إِيَّاهُ وَأَخَذَ الدِّرْهَمَيْنِ وَأَعْطَاهُمَا الْأَنْصَارِيَّ وَقَالَ اشْتَرِ بِأَحَدِهِمَا طَعَامًا فَانْبِذْهُ إِلَى أَهْلِكَ وَاشْتَرِ بِالْآخَرِ قَدُومًا فَأْتِنِي بِهِ فَأَتَاهُ بِهِ فَشَدَّ فِيهِ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم عُودًا بِيَدِهِ ثُمَّ قَالَ لَهُ اذْهَبْ فَاحْتَطِبْ وَبِعْ وَلَا أَرَيَنَّكَ خَمْسَةَ عَشَرَ يَوْمًا فَذَهَبَ الرَّجُلُ يَحْتَطِبُ وَيَبِيعُ فَجَاءَ وَقَدْ أَصَابَ عَشْرَةَ دَرَاهِمَ فَاشْتَرَى بِبَعْضِهَا ثَوْبًا وَبِبَعْضِهَا طَعَامًا فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم هَذَا خَيْرٌ لَكَ مِنْ أَنْ تَجِيءَ الْمَسْأَلَةُ نُكْتَةً فِي وَجْهِكَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّ الْمَسْأَلَةَ لَا تَصْلُحُ إِلَّا لِثَلَاثَةٍ لِذِي فَقْرٍ مُدْقِعٍ أَوْ لِذِي غُرْمٍ مُفْظِعٍ أَوْ لِذِي دَمٍ مُوجِعٍ)([33]). حديث ضعيف بهذا الإسناد، فيه أبو بكر الحنفي، لا يعرف حاله([34]).

في هذا الحديث منهج نبوي رائع للتعامل مع البطالة ولزيادة فاعلية الفرد المسلم، يتمثل هذا المنهج في التوجيه نحو المشاريع الإنتاجية، والتنفير من الاعتماد على المسألة في آن واحد، أنظر كيف تعامل النبي صلى الله عليه وسلم مع السائل، لقد كان من أسهل الأمور على المصطفى صلى الله عليه وسلم أن يعطي هذا الرجل أو أن يأمر صلى الله عليه وسلم أصحابه الكرام بذلك، ولكن المصطفى صلى الله عليه وسلم بعيد نظر يدرك صلى الله عليه وسلم أن هذا ليس حلاً لمشكلة هذا الرجل، لأنه سيعود مرة أخرى، وسيسأل غير النبي صلى الله عليه وسلم، ولأن في تعويد هذا الرجل على المسألة تمويت لهمته ودفن لقدراته، وبالتالي يصبح عالة على المجتمع، علماً بأنه قادر على الإنتاج، فماذا فعل المصطفى صلى الله عليه وسلم، لقد وجهه إلى العمل إلى الإنتاج، والآلية التي سلكها النبي صلى الله عليه وسلم مع هذا الرجل أنه أمره أن يأتي بمتاعه ثم باع هذا المتاع بدرهمين، وأمره بشراء قدوم، ثم وجهه للعمل والإنتاج، فماذا كانت النتيجة، لقد ربح هذا الرجل خمسة أضعاف رأس ماله في أقل من شهر بل بنصف شهر، وعندما جاء إلى المصطفى صلى الله عليه وسلم بين له أن هذا خير له من المسألة ونفره منها، وكان في ذلك درس بليغ لذلك الرجل ثم للصحابة رضوان الله عليهم وللمسلمين في كل زمان ومكان، وفي العمل الذي قام به المصطفى صلى الله عليه وسلم تنمية للإنتاج وحد من البطالة، تنمية للإيجابية وحد من السلبية.

الحديث الثالث: عَنْ عَامِرِ بْنِ سَعْدِ بْنِ أَبِي وَقَّاصٍ عَنْ أَبِيهِ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ- قَالَ: كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَعُودُنِي عَامَ حَجَّةِ الْوَدَاعِ مِنْ وَجَعٍ اشْتَدَّ بِي فَقُلْتُ إِنِّي قَدْ بَلَغَ بِي مِنْ الْوَجَعِ وَأَنَا ذُو مَالٍ وَلَا يَرِثُنِي إِلَّا ابْنَةٌ أَفَأَتَصَدَّقُ بِثُلُثَيْ مَالِي قَالَ: لَا فَقُلْتُ بِالشَّطْرِ فَقَالَ لَا ثُمَّ قَالَ الثُّلُثُ وَالثُّلُثُ كَبِيرٌ أَوْ كَثِيرٌ إِنَّكَ أَنْ تَذَرَ وَرَثَتَكَ أَغْنِيَاءَ خَيْرٌ مِنْ أَنْ تَذَرَهُمْ عَالَةً يَتَكَفَّفُونَ النَّاسَ...)([35]) في هذا الحديث توجيه نبوي رائع لولاة الأمور ألا وهو أن يساهموا في بناء الأبناء من الناحية المالية بأن يتركوا لهم إن استطاعوا ما يعتمدون عليه في حياتهم وبين له أن هذا أفضل من الصدقة، وهذا منهج يلفت الأنظار إلى أن النبي صلى الله عليه وسلم أراد تربية المسلمين على الاستقلالية وأراد كذلك اجتثاث ظواهر الاعتماد على الآخرين.

الحديث الرابع: عن رَبِيعَةُ بْنُ كَعْبٍ الْأَسْلَمِيُّ قَالَ كُنْتُ أَبِيتُ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَأَتَيْتُهُ بِوَضُوئِهِ وَحَاجَتِهِ فَقَالَ لِي: (سَلْ فَقُلْتُ أَسْأَلُكَ مُرَافَقَتَكَ فِي الْجَنَّةِ قَالَ أَوْ غَيْرَ ذَلِكَ قُلْتُ هُوَ ذَاكَ قَالَ فَأَعِنِّي عَلَى نَفْسِكَ بِكَثْرَةِ السُّجُودِ)([36]).

في هذا الحديث توجيه نبوي يتمثل في توجيه الفرد المسلم أن لا يتكل على غيره بل عليه أن يعتمد على نفسه فالنبي صلى الله عليه وسلم لا يملك أن يصحب أحداً معه إلى الجنة إن لم يلتزم بما أراد الله ولذلك وجه النبي صلى الله عليه وسلم بأسلوب حكيم السائل أن يعينه على تحقيق ما طلب منه، وكان ذلك بأن طلب منه صلى الله عليه وسلم أن يكثر السجود.

الحديث الخامس: عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: (الْمُؤْمِنُ الْقَوِيُّ خَيْرٌ وَأَحَبُّ إِلَى اللَّهِ مِنْ الْمُؤْمِنِ الضَّعِيفِ وَفِي كُلٍّ خَيْرٌ احْرِصْ عَلَى مَا يَنْفَعُكَ وَاسْتَعِنْ بِاللَّهِ وَلَا تَعْجَزْ وَإِنْ أَصَابَكَ شَيْءٌ فَلَا تَقُلْ لَوْ أَنِّي فَعَلْتُ كَانَ كَذَا وَكَذَا وَلَكِنْ قُلْ قَدَرُ اللَّهِ وَمَا شَاءَ فَعَلَ فَإِنَّ لَوْ تَفْتَحُ عَمَلَ الشَّيْطَانِ)([37]).

قال القاضي عياض: القوة هنا المحمودة يحتمل أنها الطاع، من شدة البدن، فيكون أكثر عملاً، وأطول قياماً، وأكثر صياماً وجهاداً وحجاً، وقد تكون القوة هنا في عزيمة النفس، فيكون أقدم على العدو في الجهاد، وأشد عزيمة في تغيير المنكر، أو تكون القوة في المال فيكون أكثر نفقة في سبيل الخير، وأقل ميلاً إلى طلب الدنيا، وكل هذه الوجوه ظاهرة في القوة([38]).

قلت: ومن قوة المؤمن أنه معتمد على نفسه، معتز بما عنده من قيم، يميز بين الخير والشر، يقلد الخير ولا يقلد الشر.

ثالثاً: عدم الاعتماد على نجاحات الآخرين.

إن النجاح الذي يحققه شخص ما، هو لنفسه لا يجوز لأي إنسان الاعتماد عليه، وتجييره لصالحه بحجة أن محقق النجاح تربطه معه علاقة أسرية أو غيرها، وقد جاءت دعوة المصطفى صلى الله عليه وسلم صريحة لقومه أنه لا يملك لهم - إن لم يتبعوه ويعملوا صالحاً - من الله شيئاً، لذلك يجب على الفرد المسلم أن يعتمد على نجاحاته لا نجاحات الآخرين وهذا ما جاءت السنة النبوية مؤكدة له، فعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ- أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: (يَا بَنِي عَبْدِ مَنَافٍ اشْتَرُوا أَنْفُسَكُمْ مِنْ اللَّهِ يَا بَنِي عَبْدِ الْمُطَّلِبِ اشْتَرُوا أَنْفُسَكُمْ مِنْ اللَّهِ يَا أُمَّ الزُّبَيْرِ بْنِ الْعَوَّامِ عَمَّةَ رَسُولِ اللَّهِ يَا فَاطِمَةُ بِنْتَ مُحَمَّدٍ اشْتَرِيَا أَنْفُسَكُمَا مِنْ اللَّهِ لَا أَمْلِكُ لَكُمَا مِنْ اللَّهِ شَيْئًا سَلَانِي مِنْ مَالِي مَا شِئْتُمَا)([39]).

دعوة صريحة من سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم لأقرب الناس له فهو لا يملك لهم من الله شيئاً إن لم يؤمنوا، وفي هذه الدعوة تنبيه لضرورة الاعتماد على النفس، وإلى ضرورة العلم بأن نجاح الآخرين لهم يسجل في سجلهم، لا يغني عنا شيئاً، يجب علينا أن ننظر إلى هذا النجاح على أنه محفز لنا لكي نصل إلى مثله لا أن نعتمد عليه، وعلى هذه الدعوة يجب علينا أن نربي أبنائنا، فيجب علينا أن نفقههم أنه ثمة فرق بين نجاح الأب ونجاح الولد، ويجب على الابن أن يحذو حذو أبيه في النجاح لا أن يسرق من مكتسبات أبيه أو قريبه، وما أكثر الذين يسرقون مكتسبات غيرهم، ويساعدهم على ذلك أصحاب المكتسبات، فالأب الغني يساعد ابنه على سرقة مكتسباته، فترى أكسل الناس أولاد الأغنياء، وصاحب المنصب يساعد ابنه على سرقة مكتسباته، فتراه لا يعرف الجد ولا الاجتهاد لأنه يعتدي بشكل أو بآخر على مكتسبات أبيه.

المسلك الرابع

 الإيجابية

من أهم معالم الشخصية المسلمة أنها شخصية إيجابية، آمنت بالخير وأحبت الآخرين، وأحبت أن توصل للآخرين الخير، آمنت بإتقان العمل وعلمت أن فيه النفع للبشرية فأتقنت عملها، آمنت بأن التفكير الإيجابي ضرورة من ضرورات الحياة فكانت إيجابية التفكير، علمت أن اليأس والتشاؤم لا يأتي بخير فابتعدت عنه، ويكمن جمال الإيجابية في أنها موافقة لطبيعة النفس الإنسانية بغض النظر عن انتمائها، فالنفس الإنسانية إيجابية تستمتع بالإنجاز والتفاؤل والحب والعطاء، وتكره نقيض ذلك، لذلك جاءت الأحاديث النبوية لتركز على الإيجابية بشقيها المادي والمعنوي، المادي بالعطاء والتفاعل مع ما حول الإنسان تفاعلاً إيجابياً في كل زمان ومكان، ومعنوي بطبيعة النفس التي يجب أن يملكها الفرد المسلم، فعن أَنَسَ بْنَ مَالِكٍ قَالَ قَالَ: رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم (إِنْ قَامَتْ السَّاعَةُ وَبِيَدِ أَحَدِكُمْ فَسِيلَةٌ فَإِنْ اسْتَطَاعَ أَنْ لَا يَقُومَ حَتَّى يَغْرِسَهَا فَلْيَفْعَلْ)([40]) قلت: سنده صحيح رجاله ثقات.

في هذا الحديث دعوة للإيجابية المادية والمعنوية معاً، ففيه توجيه واضح لإعمار الدنيا ويتمثل هذا التوجيه بأنه يحض المسلم على أن يهتم ويحرص على إعمار هذه الحياة في كل أحواله حتى في أشد الأوقات، وهل أشد من ساعة قيام الساعة.

المسلك الخامس

 بث روح المنافسة

طبيعة من طبائع النفس البشرية أنها تتأثر بالآخرين، وتتنافس معهم لأنها في بحث دؤوب لكي تصل إلى الكمال، ولقد استغل الشرع الحكيم هذه الحاجة وضبطها بضابط الخير، فلا تنافس في الأمور المنهي عنها في ديننا، ولعل هذا التنافس من أهم مسالك زيادة فاعلية الفرد المسلم؛ حيث يدفعه وبطاقة مضاعفة إلى الخير ولا يقتصر الخير على العبادات، بل يتعداها إلى كل ما من شأنه إصلاح الدنيا والآخرة، والأحاديث الواردة في التنافس في الخير كثيرة، أذكر منها:

ما روي عن عَبْد اللَّهِ بْنَ مَسْعُودٍ قَالَ قَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم (لَا حَسَدَ إِلَّا فِي اثْنَتَيْنِ رَجُلٌ آتَاهُ اللَّهُ مَالًا فَسُلِّطَ عَلَى هَلَكَتِهِ فِي الْحَقِّ وَرَجُلٌ آتَاهُ اللَّهُ الْحِكْمَةَ فَهُوَ يَقْضِي بِهَا وَيُعَلِّمُهَا)([41]).

قال ابن حجر: كأنه قال في الحديث: لا غبطة أعظم - أو أفضل - من الغبطة في هذين الأمرين - ووجه الحصر أن الطاعات إما بدنية أو مالية أو كائنة عنهما، وقد أشار إلى البدنية بإتيان الحكمة والقضاء بها وتعليمها([42]).

من خلال هذا الحديث السابق نرى مدى اهتمام السنة المطهرة بتصويب وضع التنافس المجبولة عليه النفوس، وفي الحديث بين المصطفى صلى الله عليه وسلم أن ما يستحق أن نغبط الآخرين عليه هو عمل الخير، كالإنفاق في سبيل الله، وكذلك الحكمة المعمول بها، وكأنه يوجه المسلمين في كل زمان ومكان يقول لهم إن ما تتنافسون به لا يستحق التنافس، ومن أراد التنافس فلينافس أمثال هؤلاء: الغني المنفق، والحكيم الذي يعمل بحكمته، وتكون السنة المطهرة بذلك قد نمت التنافس في الخير، وخففت من حدة التنافس في غير ذلك، من خلال مدحها للتنافس في الأمور المرغوب بها وذمها ونهيها عن التنافس في الأمور غير المرغوب بها، فعن عُرْوَةُ بْنُ الزُّبَيْرِ عَنْ الْمِسْوَرِ ابْنِ مَخْرَمَةَ أَنَّهُ أَخْبَرَهُ أَنَّ عَمْرَو بْنَ عَوْفٍ الْأَنْصَارِيَّ وَهُوَ حَلِيفٌ لِبَنِي عَامِرِ بْنِ لُؤَيٍّ وَكَانَ شَهِدَ بَدْرًا أَخْبَرَهُ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم بَعَثَ أَبَا عُبَيْدَةَ بْنَ الْجَرَّاحِ إِلَى الْبَحْرَيْنِ يَأْتِي بِجِزْيَتِهَا وَكَانَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم هُوَ صَالَحَ أَهْلَ الْبَحْرَيْنِ وَأَمَّرَ عَلَيْهِمْ الْعَلَاءَ بْنَ الْحَضْرَمِيِّ فَقَدِمَ أَبُو عُبَيْدَةَ بِمَالٍ مِنْ الْبَحْرَيْنِ فَسَمِعَتْ الْأَنْصَارُ بِقُدُومِ أَبِي عُبَيْدَةَ فَوَافَتْ صَلَاةَ الصُّبْحِ مَعَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فَلَمَّا صَلَّى بِهِمْ الْفَجْرَ انْصَرَفَ فَتَعَرَّضُوا لَهُ فَتَبَسَّمَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم حِينَ رَآهُمْ وَقَالَ (أَظُنُّكُمْ قَدْ سَمِعْتُمْ أَنَّ أَبَا عُبَيْدَةَ قَدْ جَاءَ بِشَيْءٍ قَالُوا أَجَلْ يَا رَسُولَ اللَّهِ قَالَ فَأَبْشِرُوا وَأَمِّلُوا مَا يَسُرُّكُمْ فَوَاللَّهِ لَا الْفَقْرَ أَخْشَى عَلَيْكُمْ وَلَكِنْ أَخَشَى عَلَيْكُمْ أَنْ تُبْسَطَ عَلَيْكُمْ الدُّنْيَا كَمَا بُسِطَتْ عَلَى مَنْ كَانَ قَبْلَكُمْ فَتَنَافَسُوهَا كَمَا تَنَافَسُوهَا وَتُهْلِكَكُمْ كَمَا أَهْلَكَتْهُمْ)([43]).

المسلك السادس

 استغلال الوقت

الوقت هو الحياة، وكل ثانية تمر على ابن آدم تقربه من ساعة اللحد، والوقت هو وعاء أفعالنا؛ لا يمكننا بدونه أن نفعل شيئا، وقد قسم الله تعالى لكل إنسان وقتاً محدداً، ولقد بينت السنة النبوية أهمية الوقت، حيث أمر المصطفى صلى الله عليه وسلم باستغلاله بما يعود نفعه على الفرد المسلم في الدارين، ثم حذر صلى الله عليه وسلم أشد التحذير أن الفرد المسلم سيسأل أمام الله سبحانه وتعالى - يوم لا ينفع مال ولا بنون - عن وقته ماذا فعل به، ثم بينت السنة النبوية أن الكثير من الناس لا يحسن استخدام الوقت. ويعتبر الوقت هو العامل الأساس لتطور أي أمة ورقيها، وأي أمة إذا أرادت أن تنهض، وإذا أرادت التقدم والرفعة فلا بد لها من تعليم أبنائها حسن استغلال الوقت، أما الأحاديث الواردة في الموضوع فأذكر منها:

عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ-رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا- قَالَ قَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: (نِعْمَتَانِ مَغْبُونٌ فِيهِمَا كَثِيرٌ مِنْ النَّاسِ الصِّحَّةُ وَالْفَرَاغُ)([44]).

قال ابن بطال: قال بعض العلماء: إنما أراد عليه السلام بقوله الصحة والفراغ نعمتان تنبيه أمته على مقدار عظيم نعمة الله على عباده في الصحة والكفاية؛ لأن المرء لا يكون فارغاً حتى يكون مكفياً مؤنة العيش في الدنيا، فمن أنعم الله عليه بهما فليحذر أن يغبنهما... ومما يستعان به على دفع الغبن أن يعلم العبد أن الله تعالى خلق الخلق من غير ضرورة إليهم، وبدأهم بالنعم الجليلة من غير استحقاق منهم لها، فمن عليهم بصحة الأجسام وسلامة العقول، وتضمن أرزاقهم، وضاعف لهم الحسنات ولم يضاعف لهما السيئات... فمن أنعم النظر في هذا كان حريا ً أن لا يذهب عنه وقت من صحته وفراغه إلا ينفقه في طاعة ربه، ويشكره على عظيم مواهبه... فمن لم يكن هكذا وغفل وسها عن التزام ما ذكرناه ومرت أيامه عنه في سهو ولهو وعجز عن القيام بما لزمه لربه تعالى فقد غبن أيامه، وسوف يندم حيث لا ينفعه الندم([45]).

قال ابن حجر: قال ابن الجوزي: قد يكون الإنسان صحيحا ولا يكون متفرغا لشغله بالمعاش، وقد يكون مستغنيا ولا يكون صحيحا، فإذا اجتمعا فغلب عليه الكسل عن الطاعة فهو المغبون، وتمام ذلك أن الدنيا مزرعة الآخرة، وفيها التجارة التي يظهر ربحها في الآخرة، فمن استعمل فراغه وصحته في طاعة الله فهو المغبوط، ومن استعملهما في معصية الله فهو المغبون([46]).

هذا ولقد بين المصطفى صلى الله عليه وسلم أن الفرد سيسأل أمام الله يوم القيامة عن وقته ماذا فعل به، وفي هذا تحفيز للمسلم أن يحرص كل الحرص على استغلال وقته، فإنه عندما يعلم أنه سيسأل أمام الله عن ذلك لا يبقى له عذر للتقصير أو المماطلة، فعَنْ ابْنِ مَسْعُودٍ عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: (لَا تَزُولُ قَدَمُ ابْنِ آدَمَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مِنْ عِنْدِ رَبِّهِ حَتَّى يُسْأَلَ عَنْ خَمْسٍ عَنْ عُمُرِهِ فِيمَ أَفْنَاهُ وَعَنْ شَبَابِهِ فِيمَ أَبْلَاهُ وَمَالِهِ مِنْ أَيْنَ اكْتَسَبَهُ وَفِيمَ أَنْفَقَهُ وَمَاذَا عَمِلَ فِيمَا عَلِمَ) قَالَ أَبُو عِيسَى: هَذَا حَدِيثٌ غَرِيبٌ لَا نَعْرِفُهُ مِنْ حَدِيثِ ابْنِ مَسْعُودٍ عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم إِلَّا مِنْ حَدِيثِ الْحُسَيْنِ بْنِ قَيْسٍ وَحُسَيْنُ بْنُ قَيْسٍ يُضَعَّفُ فِي الْحَدِيثِ مِنْ قِبَلِ حِفْظِهِ وَفِي الْبَاب عَنْ أَبِي بَرْزَةَ وَأَبِي سَعِيدٍ([47])، ولقد فقه صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم هذا المعنى، واهتموا به وكانوا يتواصون بذلك، وكان قدوتهم بذلك المصطفى صلى الله عليه وسلم الذي كان يحرص على توصيتهم باستغلال الوقت، فعَنْ عَبْدِ اللَّهِ ابْنِ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - قَالَ أَخَذَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم بِمَنْكِبِي فَقَالَ كُنْ فِي الدُّنْيَا كَأَنَّكَ غَرِيبٌ أَوْ عَابِرُ سَبِيلٍ وَكَانَ ابْنُ عُمَرَ يَقُولُ إِذَا أَمْسَيْتَ فَلَا تَنْتَظِرْ الصَّبَاحَ وَإِذَا أَصْبَحْتَ فَلَا تَنْتَظِرْ الْمَسَاءَ وَخُذْ مِنْ صِحَّتِكَ لِمَرَضِكَ وَمِنْ حَيَاتِكَ لِمَوْتِكَ([48]).

المسلك السابع

 تنمية روح العمل الجماعي

تنهض الأمة بالتجمع والاتحاد، وفي ظل الشريعة الإسلامية يعامل الفرد على أنه جزء من أمة، كيانه كيان هذه الأمة، والاعتداء عليه اعتداء على الأمة بأسرها، ولقد قامت بعض الغزوات في حياة النبي صلى الله عليه وسلم من أجل امرأة، لا لأنها امرأة، إنما لأنها في ذلك الحدث تمثل الأمة، ومن اعتدى على فرد من أفراد هذه الأمة فمعنى ذلك أنه مستهتر بها، لذلك فقد حرصت السنة النبوية على بث روح العمل الجماعي، وتنميته للوصول إلى الاتحاد وبالتالي إلى قوة الأمة، هذا ولقد سلكت السنة النبوية السبل الكفيلة في سبيل الوصول إلى تنمية روح العمل الجماعي وكانت أبرز هذه السبل:

أولاً: الحض على وحدة الأمة.

قال تعالى: (وَإِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاتَّقُونِ)([49])، وقد وردت أحاديث كثيرة تحض المسلمين على التجمع والاتحاد، وتحذرهم من الفرقة والاختلاف، أذكر منها:

الحديث الأول: عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ حَرْمَلَةَ عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيَّبِ أَنَّهُ كَانَ يَقُولُ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم (الشَّيْطَانُ يَهمُّ بِالْوَاحِدِ وَالْاثْنَيْنِ فَإِذَا كَانُوا ثَلَاثَةً لَمْ يَهمَّ بِهِم)([50]) قلت: فيه عبد الرحمن بن حرملة، وهو صدوق ربما أخطأ([51])، ثم هو مرسل، فالحديث ضعيف بهذا الإسناد.

الحديث الثاني: عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ (نَضرَ اللَّهُ عَبْدًا سَمِعَ مَقَالَتِي هَذِهِ فَحَمَلَهَا فَرُبَّ حَامِلِ الْفِقْهِ فِيهِ غَيْرُ فَقِيهٍ وَرُبَّ حَامِلِ الْفِقْهِ إِلَى مَنْ هُوَ أَفْقَهُ مِنْهُ ثَلَاثٌ لَا يُغِلُّ عَلَيْهِنَّ صَدْرُ مُسْلِمٍ إِخْلَاصُ الْعَمَلِ لِلَّهِ عَزَّ وَجَلَّ وَمُنَاصَحَةُ أُولِي الْأَمْرِ وَلُزُومُ جَمَاعَةِ الْمُسْلِمِينَ فَإِنَّ دَعْوَتَهُمْ تُحِيطُ مِنْ وَرَائِهِمْ)([52]) فيه معان بن رفاعة لين الحديث.

من خلال هذين الحديثين وغيرهما من الأحاديث الواردة في موضوع وحدة الأمة، ندرك مدى اهتمام السنة المطهرة بوحدة الأمة؛ ذلك أننا نصل بالوحدة إلى ما نريد من عزة ومن تفوق مادي ومعنوي، ولقد سلكت السنة المطهرة سبيل التخويف من الفرقة لتصل إلى الوحدة حيث بينت أن الشيطان أقرب إلى الواحد ويهم بالاثنين أما إذا كانوا ثلاثة فلا يهم بهم، ثم بينت أن لزوم جماعة المسلمين من الأمور التي يجب أن لا تفارق القلوب.

ثانياً: في العبادات

والمتأمل في العبادات يلحظ أنها تنمي روح العمل الجماعي، فكثير منها عبادات جماعية،، يقول الشيخ الغزالي: تقوم شرائع الإسلام وآدابه على اعتبار الفرد جزءاً لا ينفصم من كيان الأمة، وعضوا موصولاً بجسمها لا ينفك عنها... فإذا وقف المسلم بين يدي الله ليناجيه ويتضرع إليه لم تجر العبادة على لسانه كعبد منفصل عن إخوانه، بل كطرف من مجموع متسق مرتبط يقول: (إِيَّاكَ نَعْبُدُ وإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ) لا إياك أعبد وإياك أستعين، إن إتلاف القلوب والمشاعر، واتحاد الغايات والمناهج، من أوضح تعاليم الإسلام وألزم خلال المسلمين المخلصين، ولا ريب أن توحيد الصفوف واجتماع الكلمة هما الدعامة الوطيدة لبقاء الأمة، ودوام دولتها، ونجاح رسالتها ولئن كانت كلمة التوحيد باب الإسلام فإن توحيد الكلمة سر البقاء فيه([53]).

ثالثاً: في الجهاد

وجه المصطفى صلى الله عليه وسلم الجيش وحتى في مسيره إلى الجهاد أن يعمل بروح الفريق الواحد، حتى أن المصطفى صلى الله عليه وسلم نهى عن نزول الجيش للراحة متفرقين من عمل الشيطان فعن أبي ثَعْلَبَةَ الْخُشَنِيُّ قَالَ كَانَ النَّاسُ إِذَا نَزَلَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم مَنْزِلًا فَعَسْكَرَ تَفَرَّقُوا عَنْهُ فِي الشِّعَابِ وَالْأَوْدِيَةِ فَقَالَ (إِنَّ تَفَرُّقَكُمْ فِي الشِّعَابِ إِنَّمَا ذَلِكُمْ مِنْ الشَّيْطَانِ) قَالَ فَكَانُوا بَعْدَ ذَلِكَ إِذَا نَزَلُوا انْضَمَّ بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ حَتَّى إِنَّكَ لَتَقُولُ لَوْ بَسَطْتُ عَلَيْهِمْ كِسَاءً لَعَمَّهُمْ أَوْ نَحْوَ ذَلِكَ([54])، إسناده صحيح، فيه الوليد ابن مسلم ثقة يدلس ولكنه صرح بالسماع في رواية أحمد.

ثم أن المصطفى صلى الله عليه وسلم ولكي لا يهن هذا الاتحاد ولكي لا يضعف هذا الاجتماع نهى عن عبادة الصيام في حال الجهاد، فعَنْ قَزَعَةُ قَالَ أَتَيْتُ أَبَا سَعِيدٍ الْخُدْرِيَّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ- وَهُوَ مَكْثُورٌ عَلَيْهِ فَلَمَّا تَفَرَّقَ النَّاسُ عَنْهُ قُلْتُ إِنِّي لَا أَسْأَلُكَ عَمَّا يَسْأَلُكَ هَؤُلَاءِ عَنْهُ سَأَلْتُهُ عَنْ الصَّوْمِ فِي السَّفَرِ فَقَالَ سَافَرْنَا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم إِلَى مَكَّةَ وَنَحْنُ صِيَامٌ قَالَ فَنَزَلْنَا مَنْزِلًا فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم (إِنَّكُمْ قَدْ دَنَوْتُمْ مِنْ عَدُوِّكُمْ وَالْفِطْرُ أَقْوَى لَكُمْ فَكَانَتْ رُخْصَةً فَمِنَّا مَنْ صَامَ وَمِنَّا مَنْ أَفْطَرَ ثُمَّ نَزَلْنَا مَنْزِلًا آخَرَ فَقَالَ إِنَّكُمْ مُصَبِّحُو عَدُوِّكُمْ وَالْفِطْرُ أَقْوَى لَكُمْ فَأَفْطِرُوا وَكَانَتْ عَزْمَةً فَأَفْطَرْنَا ثُمَّ قَالَ لَقَدْ رَأَيْتُنَا نَصُومُ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم بَعْدَ ذَلِكَ فِي السَّفَرِ)([55]) وعَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ قَالَ كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ أَبُو النَّضْرِ يَعْنِي هَاشِمًا فِي سَفَرٍ قَالَ يَزِيدُ يَعْنِي ابْنَ هَارُونَ بَيْنَا رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فِي سَفَرٍ فَرَأَى رَجُلًا قَدْ اجْتَمَعَ النَّاسُ عَلَيْهِ وَقَدْ ظُلِّلَ عَلَيْهِ قَالُوا هَذَا رَجُلٌ صَائِمٌ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم (لَيْسَ الْبِرُّ أَنْ تَصُومُوا)([56]) وكذلك ومن أجل رفع همم الأفراد فقد كان صلى الله عليه وسلم يفدي أفراد الجيش، فعن عَلِي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ- يَقُولُ مَا رَأَيْتُ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم يُفَدِّي رَجُلًا بَعْدَ سَعْدٍ سَمِعْتُهُ يَقُولُ ارْمِ فِدَاكَ أَبِي وَأُمِّي([57]) قلت: حديث صحيح رجاله ثقات، فيه محمد بن جعفر ثقة صحيح الكتاب إلا أن فيه غفلة([58]) وهو من شيوخ الإمام أحمد وقد روى الإمام أحمد هذا الحديث عنه.

ثالثاً: تنمية روح التكافل الاجتماعي بين أفراد المجتمع.

لقد حرصت السنة المطهرة على ضرورة تنمية روح التكافل بين أفراد المجتمع، ولقد بينت أن المؤمنين وحدة واحدة مثلها مثل الجسد فعَنْ النُّعْمَانِ بْنِ بَشِيرٍ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم مَثَلُ الْمُؤْمِنِينَ فِي تَوَادِّهِمْ وَتَرَاحُمِهِمْ وَتَعَاطُفِهِمْ مَثَلُ الْجَسَدِ إِذَا اشْتَكَى مِنْهُ عُضْوٌ تَدَاعَى لَهُ سَائِرُ الْجَسَدِ بِالسَّهَرِ وَالْحُمَّى([59]) ومن هذا المنطلق فقد عدت السنة المطهرة أن كل فرد في هذا المجتمع مسؤول، يجب عليه أن لا يقصر بمسؤوليته، وبدأت بالإمام ثم من يليه، وفي إلقاء المسؤولية على كل فرد من أفراد المجتمع لفت لنظر الجميع أن لا يتهاون أي منه في تنفيذ مسؤوليته تجاه الآخر ومن أولى المسؤوليات التي تقع على عاتق الجميع التكافل الاجتماعي، فعن ابْنَ عُمَرَ قال: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ (كُلُّكُمْ رَاعٍ وَكُلُّكُمْ مَسْؤولٌ عَنْ رَعِيَّتِهِ الْإِمَامُ رَاعٍ وَمَسْؤولٌ عَنْ رَعِيَّتِهِ وَالرَّجُلُ رَاعٍ فِي أَهْلِهِ وَهُوَ مَسْؤولٌ عَنْ رَعِيَّتِهِ وَالْمَرْأَةُ رَاعِيَةٌ فِي بَيْتِ زَوْجِهَا وَمَسْؤولَةٌ عَنْ رَعِيَّتِهَا وَالْخَادِمُ رَاعٍ فِي مَالِ سَيِّدِهِ وَمَسْؤولٌ عَنْ رَعِيَّتِهِ قَالَ وَحَسِبْتُ أَنْ قَدْ قَالَ وَالرَّجُلُ رَاعٍ فِي مَالِ أَبِيهِ وَمَسْؤولٌ عَنْ رَعِيَّتِهِ وَكُلُّكُمْ رَاعٍ وَمَسْؤولٌ عَنْ رَعِيَّتِهِ)([60]) ثم وجهت السنة المطهرة إلى إنهاء مشكلة الرقيق الموروثة من الجاهلية، فعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ (مَنْ أَعْتَقَ رَقَبَةً مُسْلِمَةً أَعْتَقَ اللَّهُ بِكُلِّ عُضْوٍ مِنْهُ عُضْوًا مِنْ النَّارِ حَتَّى فَرْجَهُ بِفَرْجِهِ([61])) ثم وجهت السنة المطهرة إلى ضرورة كفالة اليتيم، والسعي على الأرملة، فعَنْ سَهْلٍ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم :(أَنَا وَكَافِلُ الْيَتِيمِ فِي الْجَنَّةِ هَكَذَا وَأَشَارَ بِالسَّبَّابَةِ وَالْوُسْطَى وَفَرَّجَ بَيْنَهُمَا شَيْئًا)([62])، وعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ قَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم (السَّاعِي عَلَى الْأَرْمَلَةِ وَالْمِسْكِينِ كَالْمُجَاهِدِ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَوْ الْقَائِمِ اللَّيْلَ الصَّائِمِ النَّهَارَ)([63]) ووجهت السنة المطهرة أيضاً إلى عيادة المريض وفكاك الأسير وإجابة الدعوة، فعَنْ أَبِي مُوسَى عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ (فُكُّوا الْعَانِيَ وَأَجِيبُوا الدَّاعِيَ وَعُودُوا الْمَرِيضَ)([64]).

المسلك الثامن

 بث روح المبادرة

من الشروط الأساسية التي لا بد من توافرها في الشخص الفعال: المبادرة، أي: أن يكون مبادراً، فالمبادرة تعني أن يسارع الفرد بالأعمال قبل أن يطلب ذلك منه، وهذه هي قمة العطاء والإنجاز: أن لا ننتظر أوامر الآخرين حتى نقوم بالواجبات الموكلة إلينا، بل نقوم بها وعلى أحسن وجه دون أي توجيه من الآخرين، وهذه قضية في غاية الأهمية، وتبرز أهميتها أنها إن وجدت في أسرة نجحت تلك الأسرة وكانت أسرة قوية، فإذا ما عرف الزوج الواجبات الموكلة إليه وقام بها دون تردد ودون أن يطلب منه ذلك، وإذا ما قابلته الزوجة بنفس الفعل ثم ربي الأولاد على ذلك نجحت الأسرة، وإذا ما توفر هذا الخلق في أي مؤسسة أنجحها وبلا أدنى شك، أما أن يتكل الجميع على الجميع فلا يمكن لأسرة ولا لمجتمع أن ينجح، ولذلك فقد وصت السنة المطهرة المسلمين في كل زمان أن يبادروا بالأعمال، فعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ (بَادِرُوا بِالْأَعْمَالِ فِتَنًا كَقِطَعِ اللَّيْلِ الْمُظْلِمِ يُصْبِحُ الرَّجُلُ مُؤْمِنًا وَيُمْسِي كَافِرًا أَوْ يُمْسِي مُؤْمِنًا وَيُصْبِحُ كَافِرًا يَبِيعُ دِينَهُ بِعَرَضٍ مِنْ الدُّنْيَا)([65]) كذلك فقد كان المصطفى صلى الله عليه وسلم ينمي روح المبادرة في السؤال حيث كان يثني على سؤال السائل، فعَنْ مُعَاذِ بْنِ جَبَلٍ قَالَ كُنْتُ مَعَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فِي سَفَرٍ فَأَصْبَحْتُ يَوْمًا قَرِيبًا مِنْهُ وَنَحْنُ نَسِيرُ فَقُلْتُ يَا رَسُولَ اللَّهِ أَخْبِرْنِي بِعَمَلٍ يُدْخِلُنِي الْجَنَّةَ وَيُبَاعِدُنِي عَنْ النَّارِ قَالَ: (لَقَدْ سَأَلْتَنِي عَنْ عَظِيمٍ وَإِنَّهُ لَيَسِيرٌ عَلَى مَنْ يَسَّرَهُ اللَّهُ عَلَيْهِ...) قَالَ أَبُو عِيسَى: هَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ صَحِيحٌ([66]).

وعن أبي أَيُّوب أَنَّ أَعْرَابِيًّا عَرَضَ لِرَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَهُوَ فِي سَفَرٍ فَأَخَذَ بِخِطَامِ نَاقَتِهِ أَوْ بِزِمَامِهَا ثُمَّ قَالَ يَا رَسُولَ اللَّهِ أَوْ يَا مُحَمَّدُ أَخْبِرْنِي بِمَا يُقَرِّبُنِي مِنْ الْجَنَّةِ وَمَا يُبَاعِدُنِي مِنْ النَّارِ قَالَ فَكَفَّ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم ثُمَّ نَظَرَ فِي أَصْحَابِهِ ثُمَّ قَالَ: لَقَدْ وُفِّقَ أَوْ لَقَدْ هُدِيَ قَالَ كَيْفَ... دَعْ النَّاقَةَ([67]).

وفي سبيل تنمية روح المبادرة فقد كان المصطفى يشاور أصحابه، وفي هذا استثارة لعقولهم، وإشراك واضح لهم في اتخاذ القرارات، فعَنِ الْمِسْوَرِ ابْنِ مَخْرَمَةَ وَمَرْوَانَ بَنِ الْحَكَمِ يُصَدِّقُ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا حَدِيثَ صَاحِبِهِ قَالَا خَرَجَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم زَمَانَ الْحُدَيْبِيَةِ فِي بِضْعَ عَشْرَةَ مِائَةً مِنْ أَصْحَابِهِ حَتَّى إِذَا كَانُوا بِذِي الْحُلَيْفَةِ قَلَّدَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم الْهَدْيَ وَأَشْعَرَهُ وَأَحْرَمَ بِالْعُمْرَةِ وَبَعَثَ بَيْنَ يَدَيْهِ عَيْنًا لَهُ مِنْ خُزَاعَةَ يُخْبِرُهُ عَنْ قُرَيْشٍ وَسَارَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم حَتَّى إِذَا كَانَ بِغَدِيرِ الْأَشْطَاطِ قَرِيبٌ مِنْ عُسْفَانَ أَتَاهُ عَيْنُهُ الْخُزَاعِيُّ فَقَالَ إِنِّي قَدْ تَرَكْتُ كَعْبَ بْنَ لُؤَيٍّ وَعَامِرَ بْنَ لُؤَيٍّ قَدْ جَمَعُوا لَكَ الْأَحَابِشَ وَجَمَعُوا لَكَ جُمُوعًا وَهُمْ مُقَاتِلُوكَ وَصَادُّوكَ عَنْ الْبَيْتِ فَقَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم أَشِيرُوا عَلَيَّ أَتَرَوْنَ أَنْ نَمِيلَ إِلَى ذَرَارِيِّ هَؤُلَاءِ الَّذِينَ أَعَانُوهُمْ فَنُصِيبَهُمْ فَإِنْ قَعَدُوا قَعَدُوا مَوْتُورِينَ مَحْرُوبِينَ وَإِنْ نَجَوْا وَقَالَ يَحْيَى بْنُ سَعِيدٍ عَنِ ابْنِ الْمُبَارَكِ مَحْزُونِينَ وَإِنْ يَحْنُوا تَكُنْ عُنُقًا قَطَعَهَا اللَّهُ أَوْ تَرَوْنَ أَنْ نَؤُمَّ الْبَيْتَ فَمَنْ صَدَّنَا عَنْهُ قَاتَلْنَاهُ فَقَالَ أَبُو بَكْرٍ اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَعْلَمُ يَا نَبِيَّ اللَّهِ إِنَّمَا جِئْنَا مُعْتَمِرِينَ وَلَمْ نَجِئْ نُقَاتِلُ أَحَدًا وَلَكِنْ مَنْ حَالَ بَيْنَنَا وَبَيْنَ الْبَيْتِ قَاتَلْنَاهُ فَقَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم فَرُوحُوا إِذًا قَالَ الزُّهْرِيُّ وَكَانَ أَبُو هُرَيْرَةَ يَقُولُ: مَا رَأَيْتُ أَحَدًا قَطُّ كَانَ أَكْثَرَ مَشُورَةً لِأَصْحَابِهِ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم...([68]).

المسلك التاسع

 الترغيب والترهيب

للعبادات دور متميز في تفعيل الفرد المسلم وهي عبارة عن محطات يتزود منها الفرد المسلم لحياة أفضل، يقول الشيخ الغزالي، والعبادات التي شرعت في الإسلام واعتبرت أركاناً في الإيمان به ليست طقوساً مبهمة من النوع الذي يربط الإنسان بالغيوب المجهولة، ويكلفه بأداء أعمال غامضة، وحركات لا معنى لها، كلا، كلا، فالفرائض التي ألزم الإسلام بها كل منتسب إليه، هي تمارين متكررة لتعويد المرء أن يحيا بأخلاق صحيحة، وأن يظل متمسكاً بهذه الأخلاق مهما تغيرت أمامه الظروف إنها أشبه بالتمارين الرياضية التي يقبل الإنسان عليها بشغف؛ملتمساً من المداومة عليها عافية البدن وسلامة الحياة([69]). ولهذه المعاني وغيرها كان اهتمام السنة بالعبادات متميزاً، حتى أن المصطفى صلى الله عليه وسلم قد ربط خيرية الفرد بمحافظته على النوافل من العبادات، فعَنْ سَالِمٍ عَنْ أَبِيهِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ كَانَ الرَّجُلُ فِي حَيَاةِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم إِذَا رَأَى رُؤْيَا قَصَّهَا عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَتَمَنَّيْتُ أَنْ أَرَى رُؤْيَا فَأَقُصَّهَا عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَكُنْتُ غُلَامًا شَابًّا وَكُنْتُ أَنَامُ فِي الْمَسْجِدِ عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَرَأَيْتُ فِي النَّوْمِ كَأَنَّ مَلَكَيْنِ أَخَذَانِي فَذَهَبَا بِي إِلَى النَّارِ فَإِذَا هِيَ مَطْوِيَّةٌ كَطَيِّ الْبِئْرِ وَإِذَا لَهَا قَرْنَانِ وَإِذَا فِيهَا أُنَاسٌ قَدْ عَرَفْتُهُمْ فَجَعَلْتُ أَقُولُ أَعُوذُ بِاللَّهِ مِنْ النَّارِ قَالَ فَلَقِيَنَا مَلَكٌ آخَرُ فَقَالَ لِي لَمْ تُرَعْ فَقَصَصْتُهَا عَلَى حَفْصَةَ فَقَصَّتْهَا حَفْصَةُ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ: نِعْمَ الرَّجُلُ عَبْدُ اللَّهِ لَوْ كَانَ يُصَلِّي مِنْ اللَّيْلِ فَكَانَ بَعْدُ لَا يَنَامُ مِنْ اللَّيْلِ إِلَّا قَلِيلا([70]).

المسلك العاشر

 التوبة

من الأمور التي تؤثر في فاعلية الفرد المسلم إيجاباً أن باب التوبة مفتوح، وبدون واسطة والعلاقة فيه بين الفرد وخالقه مباشرة، وهذا له أثره المتميز حيث أن الذنوب في هذه الحالة لا تكون عائقاً بين الإنسان والعمل، فالمذنب لا يقعد عن العمل لأنه مذنب لا توبة له، بل يسارع إلى التوبة، ولقد أولت السنة موضوع التوبة أهمية منقطعة النضير، حيث بينت أن الخطأ طبيعة من طبائع البشر، فعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لَوْ لَمْ تُذْنِبُوا لَذَهَبَ اللَّهُ بِكُمْ وَلَجَاءَ بِقَوْمٍ يُذْنِبُونَ فَيَسْتَغْفِرُونَ اللَّهَ فَيَغْفِرُ لَهُمْ([71])، ثم أن المصطفى صلى الله عليه وسلم بين لنا كيف أنه يجب على المسلم أن يداوم على الاستغفار احترازاً من الذنوب صغيرها وكبيرها، فلقد كان صلى الله عليه وسلم كثير الاستغفار مع أنه قد غفر له ما تقدم وما تأخر، فعَنْ أَبِي بُرْدَةَ قَالَ سَمِعْتُ الْأَغَرَّ وَكَانَ مِنْ أَصْحَابِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم يُحَدِّثُ ابْنَ عُمَرَ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَا أَيُّهَا النَّاسُ تُوبُوا إِلَى اللَّهِ فَإِنِّي أَتُوبُ فِي الْيَوْمِ إِلَيْهِ مِائَةَ مَرَّةٍ([72]) ثم بينت لنا السنة المطهرة أن الله سبحانه وتعالى يفرح بتوبة عبده وفي هذا دعوة واضحة إلى ضرورة المسارعة في التوبة، فعَنْ الْحَارِثِ بْنِ سُوَيْدٍ حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مَسْعُودٍ حَدِيثَيْنِ أَحَدُهُمَا عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم وَالْآخَرُ عَنْ نَفْسِهِ قَالَ: (إِنَّ الْمُؤْمِنَ يَرَى ذُنُوبَهُ كَأَنَّهُ قَاعِدٌ تَحْتَ جَبَلٍ يَخَافُ أَنْ يَقَعَ عَلَيْهِ وَإِنَّ الْفَاجِرَ يَرَى ذُنُوبَهُ كَذُبَابٍ مَرَّ عَلَى أَنْفِهِ فَقَالَ بِهِ هَكَذَا) قَالَ أَبُو شِهَابٍ بِيَدِهِ فَوْقَ أَنْفِهِ ثُمَّ قَالَ لَلَّهُ أَفْرَحُ بِتَوْبَةِ عَبْدِهِ مِنْ رَجُلٍ نَزَلَ مَنْزِلًا وَبِهِ مَهْلَكَةٌ وَمَعَهُ رَاحِلَتُهُ عَلَيْهَا طَعَامُهُ وَشَرَابُهُ فَوَضَعَ رَأْسَهُ فَنَامَ نَوْمَةً فَاسْتَيْقَظَ وَقَدْ ذَهَبَتْ رَاحِلَتُهُ حَتَّى إِذَا اشْتَدَّ عَلَيْهِ الْحَرُّ وَالْعَطَشُ أَوْ مَا شَاءَ اللَّهُ قَالَ أَرْجِعُ إِلَى مَكَانِي فَرَجَعَ فَنَامَ نَوْمَةً ثُمَّ رَفَعَ رَأْسَهُ فَإِذَا رَاحِلَتُهُ عِنْدَهُ([73]) كذلك فقد شجعت السنة النبوية على الاستغفار من الذنوب، وبينت أن هذا الأمر أمر المغفرة يقع للناس في كل لحظة، فعَنْ أَبِي مُوسَى عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: (إِنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ يَبْسُطُ يَدَهُ بِاللَّيْلِ لِيَتُوبَ مُسِيءُ النَّهَارِ وَيَبْسُطُ يَدَهُ بِالنَّهَارِ لِيَتُوبَ مُسِيءُ اللَّيْلِ حَتَّى تَطْلُعَ الشَّمْسُ مِنْ مَغْرِبِهَا)([74]).

المسلك الحادي عشر
 زيادة فاعلية الأفراد على المستوى الاقتصادي

اهتمت السنة المطهرة بزيادة فاعلية الأفراد على المستوى الاقتصادي، ذلك أنه ثمة ارتباط وثيق، بين الفاعلية والمال والاقتصاد، وقد تمثل هذا الاهتمام بخطوات كثيرة أذكر منها:

1- الحض على العمل والإنتاج.

اعتبرت السنة المطهرة أن أفضل طعام يأكله المسلم ما كان من كسب يده، وفي هذا الاهتمام تفعيل للفرد المسلم بزيادة دخله واستقلاله عن الآخرين، فعَنْ خَالِدِ بْنِ مَعْدَانَ عَنْ الْمِقْدَامِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: (مَا أَكَلَ أَحَدٌ طَعَامًا قَطُّ خَيْرًا مِنْ أَنْ يَأْكُلَ مِنْ عَمَلِ يَدِهِ وَإِنَّ نَبِيَّ اللَّهِ دَاوُدَ عَلَيْهِ السَّلَام كَانَ يَأْكُلُ مِنْ عَمَلِ يَدِهِ)([75]) وفي هذا الحديث تشجيع واضح للمسلم أن يحرص على كسب يده، وقد جاء هذا التشجيع من خلال بيان السنة المطهرة أن طعام كسب اليد أفضل طعام، مادياً ومعنوياً، ثم بينت أنه وحتى الأنبياء كانوا يأكلون من كسب أيديهم، فإذا كان الأنبياء يأكلون من كسب أيديهم، فالناس ومن باب أولى يجب عليهم أن يحرصوا على أن يأكلوا من كسب أيديهم.

2- الدعوة إلى استثمار الأراضي.

تمثل الزراعة واستغلال الأرض المحرك القوي لعجلة الاقتصاد الوطني، لذلك فقد نبهت السنة المطهرة إلى ضرورة الزراعة واستغلال الأرض، فلقد بينت أن المسلم يؤجر على زراعته واستغلاله الأرض، وفي ترتيب الأجر على الزراعة واستغلال الأرض دعوة واضحة وصريحه للعمل في الميدان الزراعي الذي هو ميدان أساسي في الاقتصاد، فعَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: (مَا مِنْ مُسْلِمٍ يَغْرِسُ غَرْسًا أَوْ يَزْرَعُ زَرْعًا فَيَأْكُلُ مِنْهُ طَيْرٌ أَوْ إِنْسَانٌ أَوْ بَهِيمَةٌ إِلَّا كَانَ لَهُ بِهِ صَدَقَةٌ)([76]) كذلك فقد شجعت السنة استغلال الأرض وكان هذا التشجيع غاية في الإغراء حيث أن من أحيا أرضاً عامة مواتاً فهي له، فعن سَعِيدِ ابْنِ زَيْدٍ عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ (مَنْ أَحْيَا أَرْضًا مَيْتَةً فَهِيَ لَهُ وَلَيْسَ لِعِرْقٍ ظَالِمٍ حَقٌّ، وعَنْ يَحْيَى بْنِ عُرْوَةَ عَنْ أَبِيهِ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ مَنْ أَحْيَا أَرْضًا مَيْتَةً فَهِيَ لَهُ)([77]).

المسلك الثاني عشر

 الإتقان والإحسان

إتقان العمل أمر يعود بالنفع على العامل والمجتمع، ويؤثر إيجاباً في زيادة فاعلية الفرد من خلال زيادة دخله، فالأمة الجادة المتقنة لصناعاتها أمة متقدمة متطورة يدها عالية، وأكثر ما نشتكي منه هذه الأيام هو عدم إتقان العمل مع أن دعوة ديننا إلى الإتقان واضحة وصريحة، فعَنْ شَدَّادِ بْنِ أَوْسٍ أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: (إِنَّ اللَّهَ كَتَبَ الْإِحْسَانَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ فَإِذَا قَتَلْتُمْ فَأَحْسِنُوا الْقِتْلَةَ وَإِذَا ذَبَحْتُمْ فَأَحْسِنُوا الذِّبْحَةَ وَلْيُحِدَّ أَحَدُكُمْ شَفْرَتَهُ وَلْيُرِحْ ذَبِيحَتَهُ)([78]).

هذا ما توصلت إليه باجتهادي القاصر من مسالك خطتها السنة النبوية في زيادة فاعلية الفرد المسلم، أسأل الله العلي العظيم أن أكون قد وفقت في عرضها، والحمد لله على التـمام والصـلاة والسلام على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.

الخاتمة

حرص المصطفى صلى الله عليه وسلم على تفعيل الفرد المسلم ليصل به إلى أعلى درجات العطاء، وليكون كما أريد له مؤثراً في محيطه إيجابياً، ولقد اتبع سبلاً متعددة تتوافق مع طبائع البشر، ومن أهم النتائج التي توصلت إليها في ميدان الفاعلية: أن التوكل على الله ليس لفظاً يقال بل سلوكاً من شأنه أن يزيد من فاعلية الفرد المسلم، كما أن في الصبر على النوازل أثراً واضحاً في زيادة فاعلية الفرد المسلم، كذلك التميز فهو من أهم المسالك التي ركز عليها المصطفى صلى الله عليه وسلم لتفعيل الفرد المسلم، هذا ولقد كان لهذه السبل الأثر المتميز في تفعيل الفرد المسلم وبالتالي المجتمع المسلم، وكان نتاج هذا التفعيل واضح على الأمة المسلمة، حيث تكونت الأمة المسلمة المتكاملة في فترة وجيزة، ثم على العالم بأسره، حيث كان أثر هذا النتاج واضحاً على البشرية جمعاء، وهذا يدل دلالة واضحة أن بناء المجتمع الإسلامي، ثم بناء الأمة المسلمة لم يكن بحال وليد الصدفة، إنما كان وليد عمل مخلص دؤوب متقن مخطط له، وهذا يقودنا إلى حقيقة ألا وهي أن الأمة الإسلامية لن تتقدم بالأماني أو بالدعاء إنما تتقدم بالعمل المخلص الدؤوب المتقن، ولذلك أوصي بأن تتوجه الدراسات إلى تلك الجوانب التي أدت إلى نهضت الأمة الإسلامية، وأن تستخلص الأسرار من النصوص النبوية أسرار التقدم والازدهار خير من أن تتجه الدراسات إلى ما لا يتعدى نفعه إلى الأمة.

 

(*) منشور في "المجلة الأردنية في الدراسات الإسلامية"، المجلد الثاني، العدد (2)، 1427ه‍/ 2006م.

الهوامش:

 

 

([1]) الكيلاني، ماجد عرسان، التربية والتجديد، وتنمية الفاعلية عند المسلم المعاصر، مؤسسة الريان، لبنان، ط1، 11.

([2]) سورة آل عمران، الآية 110.

([3]) القرطبي، محمد بن أحمد، الجامع لأحكام القرآن، دار الكتب العلمية، 1993، 4/ 109.

([4]) البخاري، الجمعة، باب التهجد بالليل، برقم1120.

([5]) البخاري، تفسير القرآن، باب قوله تعالى: (إن النـاس

قد جمعوا لكم...( الآية، برقم 4563.

([6]) الترمذي، الزهد عن رسول الله، باب في التوكل، برقم 2266، وابن ماجة، الزهد، باب التوكل واليقين، برقم4154.

([7]) الترمذي، الدعوات عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، باب ما جاء فيما يقول إذا خرج من بيته، برقم 3348.

([8]) إحياء علوم الدين، 4/ 354.

([9]) خلق المسلم، 134.

([10]) مسلم، الزهد والرقائق، باب المؤمن أمره كله خير، برقم 5318.

([11]) الترمذي، الزهد عن رسول الله، باب ما جاء في ذهاب البصر، برقم 2326.

([12]) المباركفوري، محمد بن عبد الرحمن، تحفة الأحوذي بشرح جامع الترمذي، دار الفكر، ط3، 1979م، 7/ 84.

([13]) ابن حجر، أحمد بن علي، تقريب التهذيب، بتحقيق محمد عوامة، دار الرشيد، سوريا، حلب، ط4 1992م، ص350، أما ترجمة الأعمش.

([14]) مسلم، الجنائز، باب ما يقال عند المصيبة، برقم 1525، و أبو داود، الجنائز، باب في الاسترجاع، برقم 2713.

([15]) النووي، محيى الدين، المنهاج شرح صحيح مسلم بن الحجاج، دار المعرفة، لبنان، 1997م، 6/ 459.

([16]) البخاري، أحاديث الأنبياء، باب ما ذكر عن بني إسرائيل، برقم3456، مسلم، العلم، باب اتباع سنن اليهود والنصارى، برقم2822.

([17]) الطّيبي، الحسين بن محمد، الكاشف عن حقائق السنن، دار الكتب العلمية، بيروت، 2001م، 10/ 32، وأورد نفس المعنى كذلك: الزركشي، محمد بن بهادر، التنقيح لألفاظ الجامع الصحيح، دار الكتب العلمية، بيروت، 2004م، 8/ 331.

([18]) فتح الباري، 13/ 301.

([19]) البخاري، أحاديث الأنبياء، باب ما ذكر عن بني إسرائيل، برقم3462، مسلم، اللباس والزينة، باب في مخالفة اليهود بالصبغ، برقم3926.

([20]) الترمذي، الاستئذان والآداب عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، باب

ما جاء في كراهية إشارة اليد بالسلام، برقم 2619.

([21]) مسلم، الطهارة، باب خصال الفطرة، برقم 382.

([22]) أبو داود، اللباس، باب في لبس الشهرة، برقم 3512.

([23]) العظيم آبادي، محمد شمس الحق، عون المعبود شرح سنن أبي داود، المكتبة السلفية، ط2، 1389/ 1969، المدينة المنورة، 11/ 74، 45.

([24]) سورة المائدة، من الآية 51.

([25]) العظيم آبادي، محمد شمس الحق، عون المعبود شرح سنن أبي داود، المكتبة السلفية، ط2، 1389هـ/1969م، المدينة المنورة، 11/ 74، 45.

([26]) باينس، أخلاقيات القرن الحادي والعشرين، 69، 70.

([27]) البخاري، اللباس، باب المتشبهون بالنساء والمتشبهات بالرجال، برقم 5885.

([28]) فضل الله، محمد، تفسير من وحي القرآن، دار الملاك، لبنان، ط2، 1998م، 5/ 349.

([29]) أبو داود، الأدب، باب في الحكم في المخنثين، برقم 4280.

([30]) تقريب التهذيب، 685.

([31]) البخاري، الزكاة، باب لا صدقة إلا عن ظهر غنى، برقم1428.

([32]) البخاري، الزكاة باب لا صدقة إلا عن ظهر غنى، برقم1429.

([33]) أبو داود، الزكاة، باب ما تجوز فيه المسألة، برقم 1398.

([34]) تقريب التهذيب، 330.

([35]) البخاري، الجنائز، باب رثاء النبي صلى الله عليه وسلم سعد بن خولة، برقم1269.

([36]) مسلم، الصلاة، باب فضل السجود والحث عليه، برقم 754.

([37]) مسلم، القدر، باب في الأمر بالقوة وترك العجز والاستعانة بالله، برقم 4816.

([38]) اليحصبي، عياض بن موسى بن عياض، إكمال المعلم بفوائد مسلم، دار الوفاء، مصر، ط1، 1419/ 1998، 8/ 157.

([39]) البخاري، المناقب، باب من انتسب إلى آبائه في الإسلام والجاهلية، برقم 3527.

([40]) أحمد، باقي مسند المكثرين، برقم12512.

([41]) البخاري، العلم، باب الاغتباط في العلم والحكمة، برقم73، مسلم، صلاة المسافر وقصرها، باب فضل من يقوم بالقرآن ويعلمه...، برقم 1350.

([42]) فتح الباري، 1/ 166، 167.

([43]) البخاري، الجزية، باب الجزية والموادعة مع أهل الحرب، برقم 3158.

([44]) البخاري، الرقاق، باب لا عيش إلا عيش الآخرة، برقم 6412.

([45]) ابن بطال، علي بن خلف، شرح البخاري، مكتبة الرشيد، الريا 1420/ 2000، 10/ 146، 147.

([46]) فتح الباري، 11/ 231، 232.

([47]) الترمذي، صفة القيامة والرقائق...، باب ما جاء في شأن الحساب والقصاص، برقم 2340.

([48]) البخاري، الرقاق، باب قول النبي صلى الله عليه وسلم كن في الدنيا كأنك غريب...، برقم 6416.

([49]) سورة المؤمنون، الآية 52.

([50]) مالك، برقم 1549.

([51]) تقريب التهذيب، 339.

([52]) أحمد، باقي مسند المكثرين، برقم 12871.

([53]) خلق المسلم، 183.

([54]) أحمد، برقم 17070، وأبو داود، الجهاد، باب ما يؤمر من انضمام العسكر وسعته، برقم 2259.

([55]) مسلم، الصيام، باب أجر المفطر في السفر، برقم 1888.

([56]) مسند الإمام أحمد، مسند جابر بن عبد الله، برقم 13678.

([57]) البخاري، الجهاد والسير، باب المجن ومن يترس بترس صاحبه، برقم 2905، مسلم، فضائل الصحابة، باب في فضل سعد بن أبي وقاص، برقم 4429.

([58]) تقريب التهذيب، 472.

([59]) مسلم، البر والصلة والآداب، باب تراحم المؤمنين وتعاطفهم وتعاضدهم، برقم 2586.

([60]) البخاري، الجمعة، باب الجمعة في المدن والقرى، برقم893، مسلم، الإمارة، باب فضيلة الإمام العادل....، برقم 3408.

([61]) البخاري، كفارات الأيمان، باب قول الله تعالى (أو تحرير رقبة).

([62]) البخاري، الطلاق، باب اللعان، برقم 5304.

([63]) البخاري، النفقات، باب فضل النفقة على الأهل، برقم5353، مسلم، الزهد والرقائق، باب الإحسان إلى الأرملة والمسكين، برقم 5295.

([64]) البخاري، النكاح، باب حق إجابة الوليمة، برقم 5174.

([65]) مسلم، الإيمان، باب الحث على المبادرة بالأعمال قبل تظاهر الفتن، برقم 169.

([66]) الترمذي، الإيمان عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، باب ما جاء في حرمة الصلاة، برقم 2541.

([67]) مسلم، الإيمان، باب بيان الإيمان الذي يدخل به الجنة، برقم 14.

([68]) أحمد، أول مسند الكوفيين، برقم 18166.

([69]) خلق المسلم، 11.

([70]) البخاري، الجمعة، باب فضل قيام الليل، برقم 1122.

([71]) مسلم، التوبة، باب سقوط الذنوب...، برقم 2749.

([72]) مسلم، الذكر والدعاء والتوبة والاستغفار، برقم 2702.

([73]) البخاري، الدعوات، باب التوبة، برقم 6308.

([74]) مسلم، التوبة، باب قبول التوبة من الذنوب وإن تكررت، برقم 2759.

([75]) البخاري، البيوع، باب كسب الرجل وعمله بيده، برقم 2073.

([76]) البخاري، المزارعة، باب فضل الزرع والغرس إذا أكل منه، برقم 2320، مسلم، المساقاة، باب فضل الغرس والزرع، برقم 2901.

([77]) أبو داود، الخراج والإمارة والفيء، باب في إحياء الموات، برقم 2671، رواه الترمذي قال أبو عيسى هذا حديث حسن صحيح.

([78]) الترمذي، الديات عن رسول الله، باب ما جاء في النهي عن المثلة، برقم 1329.