أضيف بتاريخ : 19-04-2018


تعديل السلوك اللفظي في القرآن الكريم

دراسة قرآنية تربوية

الدكتور عماد الشريفين، الدكتور يحيى شطناوي، الدكتور زكريا الخضر/ كلية الشريعة، جامعة اليرموك

ملخص

تعديل سلوك الإنسان هدف من أهداف القرآن الكريم بغرض تقويم حياته لينعم في الدارين، ولأجل ذلك كان إرسال الرسل عليهم السلام.

وبما أن السلوك اللفظي أحد أنواع السلوك، فقد أولاه الشرع الحنيف عناية خاصة، لما يترتب على اللفظ الصادر عن الإنسان من أمور قد تؤثر سلباً أو إيجاباً على مجريات الأمور.

وجاءت هذه الدراسة بهدف إلقاء الضوء على أسلوب القرآن الكريم في تعديل السلوك اللفظي، وقد خلصت الدراسة إلى أن القرآن الكريم استخدم عدة أساليب مثل الأسلوب المباشر ومبادلة الألفاظ والنهي عن ألفاظ بعينها، ثم عرّجت على الفئات المستهدفة من ذلك التعديل، ووقفت على أهم أهداف التعديل.

المقدمة

القرآن الكريم كتاب الله سبحانه وتعالى أنزله ليهدي البشرية ويخرجهم من الظلمات إلى النور يقول سبحانه: {وَقَالُوا لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى تَفْجُرَ لَنَا مِنَ الْأَرْضِ يَنْبُوعًا} الإسراء/90.

وقد توجه المسلمون إلى القرآن الكريم منذ عصر النبوة وحفظوه في الصدور والسطور، وقد عدت آياته وكلماته بل حروفه وطريقة أدائه ومخارج حروفه، وفي عصرنا الحاضر توجه الاهتمام إلى ميادين أخرى مثل الكشف عن الإعجاز العلمي في القرآن الكريم وكذلك الكشف عن مكنوناته التربوية والنفسية لما يزخر به من قضايا وأفكار وموضوعات متعددة، فقد تضمن القرآن الكريم عدداً من الآيات التي تبين طبيعة الإنسان ووصفت أحواله وكشفت عن أسباب انحرافه وطرائق تهذيبه وتربيته.

ومن أهم الموضوعات التربوية والنفسية التي عالجتها الآيات الكريمات الألفاظ الصادرة عن الإنسان وكيفية تغييرها، وهذا ما يعرف بعلم النفس الحديث بتعديل السلوك اللفظي، حيث أخذ حيزاً واسعاً في الدراسات النفسية الحديثة حيث تم بحثه من جميع جوانبه تعريفاً وبياناً للأهداف وتوضيحاً للوسائل والأساليب المستخدمة، لذا تأتي هذه الدراسة بهدف بيان الرؤية القرآنية لموضوع تعديل السلوك اللفظي.

مشكلة الدراسة وأسئلتها

يحاول البعض أن يقرر بأن السلوك غريزي فطري في الإنسان لا يمكن تعديله، وذلك لتسويغ كل عمل يقوم به ذلك الإنسان، وهذا يؤدي بطريق غير مباشر إلى إلغاء التكليف، وأن الإنسان مسيّر، الأمر الذي يتعارض مع تكليف الله تعالى للإنسان، فكان من الأهمية بيان خطأ هذا القول وبيان الصواب وفق دراسة قرآنية تربوية تكشف أن السلوك الإنساني يمكن تعديله وذلك من خلال معالجة موضوع السلوك اللفظي الصادر عن الإنسان.

أسئلة الدراسة

تحاول الدراسة الإجابة على الأسئلة الآتية:

1- ما مفهوم تعديل السلوك اللفظي؟

2- ما مشروعية تعديل السلوك؟

3- ماالفئات الستهدفة بتعديل السلوك وما أهم أهداف التعديل كما بينها القرآن الكريم.

4- ما الأساليب المستخدمة في القرآن الكريم لتعديل السلوك اللفظي؟

أهداف الدراسة

تسعى الدراسة إلى تحقيق الأهداف الآتية:

أولا: بيان مفهوم تعديل السلوك اللفظي.

ثانياً: الكشف عن مشروعية تعديل السلوك بشكل عام.

ثالثاً: الكشف عن الفئات المستهدفة بتعديل السلوك اللفظي كما بينها القرآن الكريم.

رابعاً: بيان أهم أهداف تعديل السلوك اللفظي كما بينها القرآن الكريم.

خامساً: الكشف عن الأساليب التي استخدمها القرآن الكريم لتعديل السلوك اللفظي.

منهجية الدراسة

تعتمد الدراسة على المنهجين الاستقرائي والتحليلي المتمثل في النقاط الآتية:

أولا: بيان مفاهيم الدراسة وتوضيحها توضيحاً دقيقاً.

ثانياً: استقراء وجمع النصوص المتعلقة بالألفاظ – موضوع الدراسة- في القرآن الكريم.

ثالثاً: تحليل النصوص للوقوف على الأساليب المستخدمة في التعديل.

خطة الدراسة

المقدمة: وتشمل أهمية الموضوع، وأسئلة الدراسة وأهدافها، ومنهج الدراسة وخطة البحث.

المبحث الأول: الأطر التمهيدية للدراسة ويشمل مفهوم تعديل السلوك اللفظي، ومشروعية تعديل السلوك، والفئات المستهدفة بتعديل السلوك وأهم أهداف التعديل.

المبحث الثاني: أساليب القرآن الكريم في تعديل السلوك اللفظي وتشمل: الأسلوب المباشر، والتنبيه على ألفاظ لا ينبغي استخدامها، ومبادلة الألفاظ.

الخاتمة: وتشمل النتائج والتوصيات.

المبحث الأول

الأطر التمهيدية للدراسة

ويشمل مفهوم تعديل السلوك اللفظي، ومشروعية تعديل السلوك، والفئات المستهدفة في تعديل السلوك وأهم أهداف التعديل

المطلب الأول: مفهوم تعديل السلوك اللفظي

الفرع الأول: السلوك لغة واصطلاحاً

السلوك لغة

الأصل الثلاثي للسلوك هو، "سَلَكَ" الذي يعني "الإدخال في الشيء، فأدخلته في الشيء تعني سلكته فيه، قال تعالى: {كَذَلِكَ نَسْلُكُهُ فِي قُلُوبِ الْمُجْرِمِينَ} الحجر/ 12. أي أدخلناه في قلوبهم([1]). وفي لسان العرب: أسلكته فيه "والله يسلك الكفار في جهنم، أي يدخلهم فيها، وفي قوله تعالى: {أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَسَلَكَهُ يَنَابِيعَ فِي الْأَرْضِ ثُمَّ يُخْرِجُ بِهِ زَرْعًا مُخْتَلِفًا أَلْوَانُهُ ثُمَّ يَهِيجُ فَتَرَاهُ مُصْفَرًّا ثُمَّ يَجْعَلُهُ حُطَامًا إِنَّ فِي ذَلِكَ لَذِكْرَى لِأُولِي الْأَلْبَابِ} الزمر/21. أي: أدخله ينابيع الأرض..، يقال سلكت الخيط في المخيط، أي أدخلته فيه، والمسلك هو الطريق"([2]). ويرد السلوك أيضاً بمعنى الاستقامة "السُلكى الطعنة المستقيمة والأمر المستقيم"([3]) ويلاحظ المتأمل أن معاني السلوك في اللغة دارت حول الدخول عموماً، وربما أفادت الاستقامة في الأمر كذلك.

السلوك اصطلاحاً:

يشير مصطلح السلوك إلى تصرفات الكائنات الحية وبخاصة الإنسان والحيوان، ويعرّف السلوك بأنه أخلاق الفرد وتعامله مع الآخرين، ويتأتى هذا الفهم من استخدام كلمة السلوك في الحياة اليومية فنقول فلان حسن السلوك([4]).

ويُعرّف السلوك من وجهة نظر أخرى بأنه: كل ما يقوم به الفرد ويظهر للآخرين، وهو تعريف غير وافٍ أيضاً؛ لأنه لا يتضمن السلوك المضمر([5]) ويعرف السلوك بانه: "ذلك النشاط الإنساني الذي يصدر عن الإنسان من قول أو فعل أو عمل سواء أكان إرادياً أم غير إرادي، ظاهراً أم باطناً"([6]).

ويعرف السلوك بأنه "مجموع أفعال الإنسان التي تتغير بتغير الأحوال والدواعي، وتختلف باختلاف الأشخاص، وقوة إرادتهم، ودرجة تعقلهم، فكل فرد يسلك سلوكه مدفوعاً بمحرك خلقي قاصداً أمراً مرغوباً فيه، وبذلك يختلف عن الحيوان الذي يتحرك بمحض الغريزة والشهوة"([7]).

يستخلص مما سبق، أن السلوك الإنساني كل ما يصدر عن الإنسان من أنماط النشاط وهذا من حيث عموم السلوك، أما السلوك في المنظور الإسلامي لم يعثر الباحث على تعريف مباشر له، إذ يُعبر عن السلوك في القرآن الكريم بمصطلح العمل، وهي كلمة تقابل كلمة السلوك في علم النفس، بحيث يقابل "العمل الصالح" السلوك المرغوب فيه، والعمل السيئ غير الصالح"، السلوك غير المرغوب فيه([8]).

وقد أن السلوك هو سيرة الإنسان ومذهبه في الحياة، وذلك من قولهم "سلك الطريق أي دخل ونفذ منه". والسلوك عند الصوفية هو الطريق لمعرفة الله عز وجل، بالرياضة والمشي على المقامات، بحال السالك لا بعلمه وتصوره"([9]).

ومن هنا يستطيع الباحث أن يعرف السلوك من المنظور التربوي الإسلامي بأنه: النشاط الإنساني الذي يوافق القرآن الكريم والسنة النبوية المطهرة، سواء ألاحظ الآخرون هذا النشاط أم لم يلاحظه أحد، وقد يلاحظه الإنسان نفسه أثناء حياته.

الفرع الثاني: اللفظ في اللغة والاصطلاح:

لفظ الرجل، مات ولفظ بالشئ يلفظ لفظا تكلم، وفي التنزيل قال تعالى: {مَا يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ} ق/ 18 ولفظت بالكلام وتلفظت به أي تكلمت به([10])

والسلوك اللفظي: التعبير عن فكر تجول بخاطر الشخص باللغة او النطق ([11])

ويرى الباحث أن السلوك اللفظي، ما يصدر عن الإنسان من كلام مفهوم أو غير مفهوم يعبر فيه عن فكره أو موقف ما.

الفرع الثالث: مفهوم تعديل السلوك اللفظي.

التعديل لغة:

ورد في لسان العرب "عدّل الشيء، أي وازنه، وتعديل الشيء تقويمه، وقيل العدل تقويمك الشيء بالشيء من غير جنسه حتى تجعل له مِثْلا، وعدّلُته، أي إذا أقمته فاعتدل، أي استقام، وقيل عدّلك، أي قوّمك وجعلك معتدلاً"([12])، وورد في تاج اللغة أن "تعديل الشيء يعني تقويمه، يقال عدّلته فاعتدل، أي قوّمته فاستقام"([13]).

تعديل السلوك اصطلاحاً:

إن تقديم تعريف لتعديل السلوك ليس أمراً سهلاً أو يسيراً، بل هو من أصعب الأمور التي تواجه علماء النفس، و الحقيقة أن هناك تعارضاً في الآراء حول ماهية تعديل السلوك، فليس الأمر مستقراً على تعريف واحد للمصطلح إذ إن هناك تعاريف عديدة متنوعة، أدت إلى جدل ليس على الصعيد النظري فحسب، بل على الصعيد التطبيقي كذلك([14])، ولعلماء النفس تعريفات عدة لتعديل السلوك منها:

يعرف بأنه: "مصطلح ذو مدلول واسع يشير إلى ذاك الميدان الذي يستمد أساليبه من البحوث المتصلة بسيكولوجية التعليم بخاصة"([15])، ويعرف بأنه: "محاولة تغيير السلوك الإنساني وفق نظرية التعلم"([16])، ويعرف بأنه: "العلم الذي يشتمل على التطبيق المنظم للأساليب التي انبثقت عن القوانين السلوكية، وذلك بغية إحداث تغيير جوهري ومفيد في السلوك الأكاديمي والاجتماعي، وهذا العلم يشتمل على تقديم الأدلة التجريبية التي توضح مسؤولية الأساليب التي تم استخدامها في التغيير الذي حدث في السلوك"([17]).

وعليه يمكن تعريف تعديل السلوك بأنه: إحداث تغيير هادف في أنماط السلوك غير المرغوب فيه نحو الأفضل، وتعزيز ما هو مرغوب فيه، وفق مرجعية خاصة، أي أن التغيرات التي تحدث في السلوك، تعدّ هدفاً نهائياً، وقد يطلق على هذه التغيرات إرشاداً أو علاجاً سلوكياً أو تعديلاً للسلوك.

وعليه يرى الباحث أن تعديل السلوك اللفظي هو: إحداث تغييرٍ هادف فيما يصدر عن الإنسان من كلام وفق مرجعية خاصة، ويكون التغيير إما بالتعليم المباشر، أو التنبيه على ألفاظ، أو مبادلة ألفاظ مكان أخرى.

المطلب الثاني: مشروعية تعديل السلوك وعناية الإسلام بالسلوك الإنساني وتعديله:

يُعدّ موضوع تعديل السلوك من أهم الموضوعات التي بحثتها نظريات علم النفس، حيث تدعي كل نظرية لنفسها القدرة على تعديل السلوك الإنساني. والواقع يشير بشكل واضح إلى أن هذه النظريات لم تصل إلى ما تدعيه من قدرة على تغيير السلوك؛ كون الأسس التي تقوم عليها هذه النظريات منقوصة بسبب ابتعادها عن منهج الحق سبحانه وتعالى.

ولمّا كان الإنسان أساس الخطاب القرآني ومحوره يدور عليه القول وترجع إليه معاني الآيات الكريمة، كان لا بد أن يعالج الخطاب القرآني أوضاعاً مختلفة للإنسان، منذ أن كان نطفة إلى أن يبعث ويحاسب بين يدي الله سبحانه وتعالى.

إن إصلاح الإنسان في الإسلام يبدأ من العقيدة إلى جزئيات حياته المختلفة، لذا فقد أرسل الله تعالى الرسل- عليهم الصلاة والسلام- وكان آخرهم سيدنا محمد -عليه الصلاة والسلام- وطلب إليه ولأمته استمرار الإصلاح، قال تعالى: {وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} آل عمران/104.

والإصلاح هنا يعني القيام بمهمة تعديل السلوك، فالله -سبحانه وتعالى- أرسل الرسل للقيام بمهام، منها تعديل سلوك البشر نحو السلوك الذي يريده الخالق -عز وجل- قال تعالى: {كَمَا أَرْسَلْنَا فِيكُمْ رَسُولًا مِنْكُمْ يَتْلُو عَلَيْكُمْ آيَاتِنَا وَيُزَكِّيكُمْ وَيُعَلِّمُكُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُعَلِّمُكُمْ مَا لَمْ تَكُونُوا تَعْلَمُونَ} [البقرة: 151]. وقد أشار الرسول عليه الصلاة والسلام، إلى أن المربي يستطيع بأساليب تربوية إكساب الفرد السلوك المطلوب، وتعديل سلوكه نحو الأفضل، حيث قال: "ما من مولود إلا يولد على الفطرة فأبواه يهودانه أو ينصرانه أو يمجسانه، كما تنتج البهيمة بهيمة جمعاء، هل تحسون فيها من جدعاء"([18]).

وعليه، فالإسلام كله دعوة كاملة لتعديل سلوك الإنسان، واتجاهاته وأفكاره ومعتقداته وآرائه بل ونظرته إلى الحياة، ويلمس هذا الهدف العظيم في كل آية من آيات القرآن الكريم، وفي كل حديث شريف، فالإسلام غيّر السلوك من الوثنية إلى التوحيد، ومن الكفر إلى الإيمان، ومن الظلم والطغيان إلى العدل، ومن سلوك التمرد والعصيان إلى سلوك الطاعة والالتزام، ومن سلوك وأد البنات إلى حبّهن، ولذا فإن الإسلام يعدل من سلوك الفرد، ويبني شخصيته على قيم الحق ومبادئ الخير([19])، بل ويرسم بوضوح حاسم الطرق المثلى، والأسلوب الرشيد الآمن لإحداث تغيير في سلوك الإنسان لا شر فيه.

ويدرك الجميع أن ما قام به الرسول عليه الصلاة والسلام من تغيير في سلوك الناس ما هو إلا عمل تربوي فريد مقدس على درجة من الدقة والتنظيم، فهو تغيير بأسلوب يقنع الإنسان، ويجعله مؤمناً باعتقاده والالتزام به في حياته، كما حدث للأعرابي الذي بال في ناحية المسجد، ظناً منه أن المسجد مثل البيت، فمنع النبي -صلى الله عليه وسلم- الصحابة من ضربه، ولما انتهى من بوله بين له الخطأ السلوكي الذي ارتكبه، فكان ذلك درساً سلوكياً حكيماً منه عليه الصلاة والسلام، عن أنس بن مالك – رضي الله عنه- قال: بينما نحن في المسجد إذا جاء أعرابي فقام يبول في المسجد فقال أصحاب رسول الله – صلى الله عليه وسلم- مه مه قال قال رسول الله- صلى الله عليه وسلم- لا تزرموه دعوه فتركوه ثم إن النبي- صلى الله عليه وسلم- دعاه فقال له إن هذه المساجد لا تصلح لشيءٍ من هذا البول ولا القذر إنما هي لذكر الله – عز وجل- والصلاة وقراءة القرآن أو كما  قال -صلى الله عليه سلم- قال فأمر رجلاً من القوم فجاء بدلوٍ من ماء فنشه عليه" ([20]).

والمتأمل في كتاب الله، وسنة نبيه -عليه الصلاة والسلام- عند البحث عن أي علم يلحظ فيه خطوطاً عريضة تحتاج إلى تأمل وتدبر، وإعمال فكر وبحث، وهذا ما ينطبق على مصطلح تعديل السلوك، فلم يرد على لسان الرسول -عليه الصلاة والسلام-، أو من خلال قراءة القرآن الكريم هذا اللفظ، فإحداث تغيير في السلوك الإنساني أحد أهداف الشريعة الإسلامية، إذ قد ورد المصطلح بشرح غايته وهدفه ولم يرد هو بصورته اللفظية.

ومن جهة أخرى هل بإمكاننا تغيير وتحويل الأخلاق السيئة إلى أخلاق حميدة؟ في البداية لا بد من الإشارة إلى أن الأخلاق الإسلامية وسط بين غلاة المثاليين الذين تخيلوا الإنسان ملاكاً، فوصفوا له من الأخلاق ما لا يمكن له تطبيقها، وبين غلاة الواقعيين الذين تخيلوا الإنسان حيواناً، فأرادوا له من الأخلاق ما لا يليق به([21])، لذا فالإنسان يتحول بخلقه من خلق الملاك إلى خلق الحيوان، ومن خلق الحيوان إلى خلق الملاك، والواقع يؤيد ذلك. فتربية الأخلاق والسمو بها وكسب الفضائل والتحلي بالآداب الكريمة، والتخلي عن الأخلاق الرديئة يعبر عن روح التربية الإسلامية، فبلوغ الخلق الكامل هو الهدف والغرض للتربية المحمدية.

ويقول عليه الصلاة والسلام: "إنما بعثت لأتمم مكارم الأخلاق"([22]). وفي رواية صالح الأخلاق وإتمام مكارم الأخلاق يعني الإبقاء على الحسن منها وتعديل وتغيير السيئ منها، والواقع أثبت ذلك.

ولفظ العمل في القرآن الكريم يقابله لفظ السلوك في علم النفس، وورد في كتاب الله سبحانه وتعالى أن الإنسان يستطيع أن يبدل عمله من عمل سيئ إلى عمل حسن، قال تعالى: {وَإِذَا جَاءَكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِآيَاتِنَا فَقُلْ سَلَامٌ عَلَيْكُمْ كَتَبَ رَبُّكُمْ عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ أَنَّهُ مَنْ عَمِلَ مِنْكُمْ سُوءًا بِجَهَالَةٍ ثُمَّ تَابَ مِنْ بَعْدِهِ وَأَصْلَحَ فَأَنَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ} الأنعام/54.

لقد أشار القرآن الكريم إلى أن السلوك الإنساني قابل للتشكيل والتعديل، ودليل ذلك فتح باب التوبة للنادمين، ومنح الفرصة للعاصين للعودة إلى شرع الله سبحانه وتعالى. فإذا تاب الفرد وأقلع عن ذنوبه، وعقد العزم على عدم العودة إلى تلك الذنوب، وأصلح عمله في المستقبل، فإن باب الرحمة مفتوح على مصراعيه، له ولكل من أراد تغيير سلوكه([23]).

والتربية الإسلامية لا تسلّم بأن السلوك لا يقبل التغيير والتبديل، إذ لو سلّمت بهذا لبطل كثير من الأمور التي حث عليها الإسلام، مثل المواعظ وغيرها، التي لها تأثير واضح في سلوك الإنسان يشعر به كل منصف. وقد ورد في السنة الكريمة ما يؤكد هذا المعنى من أن السلوك قابل للتعديل والتغيير والتبديل قوله صلى الله عليه وسلم: "إنما العلم بالتعلم..."([24]).

المطلب الثالث: الفئات المستهدفة في تعديل السلوك اللفظي واهم أهداف التعديل.

يلحظ المتأمل في النصوص التي طلب فيها إحداث تغيير في اللفظ أمرا غاية في الأهمية وهو أن هذه النصوص تخاطب في أغلبها فئة المكلفين وفي مقدمتهم صاحب الرسالة سيدنا محمد -صلى الله عليه وسلم-، يقول سبحانه: {فَاصْفَحْ عَنْهُمْ وَقُلْ سَلَامٌ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ} الزخرف/89. وللمؤمنين، يقول سبحانه: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَقُولُوا رَاعِنَا وَقُولُوا انْظُرْنَا وَاسْمَعُوا وَلِلْكَافِرِينَ عَذَابٌ أَلِيمٌ} البقرة/104، وكذلك وجه الخطاب للمنافقين والكفار أحياناً آخرى يقول سبحانه: {وَيَقُولُ الَّذِينَ آمَنُوا لَوْلَا نُزِّلَتْ سُورَةٌ فَإِذَا أُنْزِلَتْ سُورَةٌ مُحْكَمَةٌ وَذُكِرَ فِيهَا الْقِتَالُ رَأَيْتَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ يَنْظُرُونَ إِلَيْكَ نَظَرَ الْمَغْشِيِّ عَلَيْهِ مِنَ الْمَوْتِ فَأَوْلَى لَهُمْ، طَاعَةٌ وَقَوْلٌ مَعْرُوفٌ فَإِذَا عَزَمَ الْأَمْرُ فَلَوْ صَدَقُوا اللَّهَ لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ} محمد/20-21 وهنا يثار السؤال الآتي لماذا لم يركز الخطاب القرآني على تعديل ألفاظ الكفار والمنافقين كما ركز على فئة المؤمنين؟ وتكمن الإجابة في أمرين: الأول: أن الخطاب لم يوجه إلى أولئك الذين كفروا بالرسالة لأنهم بحاجة إلى أمر أعظم من تعديل الألفاظ، فهم بحاجة إلى تغيير في العقائد، ولا يمكن أن يكون الاهتمام بالجزئيات وهم قد تركوا الكليات، والثاني: أن الخطاب كان للمؤمنين بهدف إتمام النعمة والإيمان.

ومن أهم أهداف تعديل السلوك اللفظي في القرآن الكريم:

1-حسن الأدب مع النبي صلى الله عليه وسلم:

قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَقُولُوا رَاعِنَا وَقُولُوا انْظُرْنَا وَاسْمَعُوا وَلِلْكَافِرِينَ عَذَابٌ أَلِيمٌ} البقرة/104، فقد أمر المؤمنون باستخدام كلمة انظرنا كبديل لكلمة راعنا لأنها موهمة وربما تعطي فهماً غير صحيح.

2-الإرشاد إلى استخدام الألفاظ الدقيقة المعبرة عن الحقيقة.

قال تعالى {قَالَتِ الْأَعْرَابُ آمَنَّا قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا وَلَكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنَا وَلَمَّا يَدْخُلِ الْإِيمَانُ فِي قُلُوبِكُمْ وَإِنْ تُطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ لَا يَلِتْكُمْ مِنْ أَعْمَالِكُمْ شَيْئًا إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} الحجرات/14.

3-إتمام العبادة من دون نقص أو خلل

قال تعالى: {الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُومَاتٌ فَمَنْ فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَّ فَلَا رَفَثَ وَلَا فُسُوقَ وَلَا جِدَالَ فِي الْحَجِّ وَمَا تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ يَعْلَمْهُ اللَّهُ وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى وَاتَّقُونِ يَا أُولِي الْأَلْبَابِ} البقرة/197

4-حسن الخلق في التعامل مع الناس:

قال تعالى {وَهُدُوا إِلَى الطَّيِّبِ مِنَ الْقَوْلِ وَهُدُوا إِلَى صِرَاطِ الْحَمِيدِ} الحج/24.

5-التمتع بالصحة النفسية

قال تعالى: {لَا يُؤَاخِذُكُمُ اللَّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمَانِكُمْ وَلَكِنْ يُؤَاخِذُكُمْ بِمَا كَسَبَتْ قُلُوبُكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ حَلِيمٌ} البقرة/225، فقد رفع عنهم الإثم والقلق الناتجين عن اللغو في الأيمان.

6-نشر الدعوة

قال تعالى: {وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلًا مِمَّنْ دَعَا إِلَى اللَّهِ وَعَمِلَ صَالِحًا وَقَالَ إِنَّنِي مِنَ الْمُسْلِمِينَ} فصلت/33.

المبحث الثاني

أساليب القرآن الكريم في تعديل السلوك اللفظي

سلك القرآن الكريم أساليب عدة لتعديل السلوك اللفظي، منها الأسلوب المباشر، والتنبيه على ألفاظ لا ينبغي استخدامها ومبادلة الألفاظ.

المطلب الأول: الأسلوب المباشر:

وذلك بأن ينص الله سبحانه وتعالى صراحة على وجوب أن يكون اللفظ الصادر من المكلف حسناً.

وجاء هذا الأسلوب في آيات كثيرة نذكر بعضاً منها كنماذج تطبيقية.

1- قول الله سبحانه: {وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَ بَنِي إِسْرَائِيلَ لَا تَعْبُدُونَ إِلَّا اللَّهَ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا وَذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَقُولُوا لِلنَّاسِ حُسْنًا وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ ثُمَّ تَوَلَّيْتُمْ إِلَّا قَلِيلًا مِنْكُمْ وَأَنْتُمْ مُعْرِضُونَ} البقرة/83.

أمر الله تعالى بني إسرائيل بأن يكون خطابهم للناس بالحسنى، عن طريق التلفظ بالكلام الحسن، وهذا يشمل جميع المكلفين بأن يكون سلوكهم كذلك مع الناس جميعا بلا استثناء، وهذا يقع في دائرة وسع المكلف واستطاعته بخلاف الإحسان الفعلي، الذي لا يستطيعه كل أحد، والأمر يقتضي أن يكون ما يضمره الشخص تجاه الآخرين فيه الخير لا يشوبه الشر؛ لأن القول يترجم ما في نفس الإنسان، وجاء تعليم الله تعالى لعباده بالدعاء بأن لا يجعل في قلوبهم غلاً لغيرهم  {وَالَّذِينَ جَاءُوا مِنْ بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالْإِيمَانِ وَلَا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلًّا لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا إِنَّكَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ } الحشر/10.

وإذا حصل شيء من الكدر مع الآخرين، فإن القول الحسن يزيل ما في نفس القائل من ذلك الكدر ويحل محله الصفاء، وقد شملت الآية الكريمة جميع آداب الدين والدنيا([25]).

ومثل هذه الآية قوله تعالى: {وَقُلْ لِعِبَادِي يَقُولُوا الَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ الشَّيْطَانَ يَنْزَغُ بَيْنَهُمْ إِنَّ الشَّيْطَانَ كَانَ لِلْإِنْسَانِ عَدُوًّا مُبِينًا} الإسراء/53.

فهو توجيه للسلوك اللفظي المطلوب، بأن يقولوا التي هي أحسن: " على وجه الإطلاق وفي كل مجال، فيختاروا أحسن ما يقال ليقولوه، وبذلك يتقون أن يفسد الشيطان ما بينهم من مودة، فالشيطان ينزغ بين الإخوة بالكلمة الخشنة تفلت، وبالرد السيئ يتلوها، فإذا جو الود والمحبة والوفاق مشوب بالخلاف ثم بالجفوة ثم بالعداء، والكلمة الطيبة تأسوا جراح القلوب، تندّي جفافها وتجمعها على الود الكريم"([26]).

وهذا السلوك دائم في جميع الأحوال، وليس مجرد مقالة واحدة عابرة، على غرار قول الحق سبحانه {ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ ضَلَّ عَنْ سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ} النحل/125.

قال ابن عاشور: " والمقصد الأهم من هذا التأديب تأديب الأمة في معاملة بعضهم بعضا ً بحسن المعاملة وإلآنة القول، لأن القول ينم عن المقاصد، بقرينة قوله {وَقُلْ لِعِبَادِي يَقُولُوا الَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ الشَّيْطَانَ يَنْزَغُ بَيْنَهُمْ إِنَّ الشَّيْطَانَ كَانَ لِلْإِنْسَانِ عَدُوًّا مُبِينًا} الإسراء/53. "ثم تأديبهم في مجادلة المشركين اجتناباً لما تثيره المشادة والغلظة من ازدياد مكابرة المشركين وتصلبهم، فذلك من نزغ الشيطان بينهم وبين عدوهم"([27]).

2- ومن الآيات الكريمة التي أرشدت إلى تعديل السلوك اللفظي قوله سبحانه: {قَوْلٌ مَعْرُوفٌ وَمَغْفِرَةٌ خَيْرٌ مِنْ صَدَقَةٍ يَتْبَعُهَا أَذًى وَاللَّهُ غَنِيٌّ حَلِيمٌ} البقرة/263.

فعلى الرغم من أن أجر الصدقة عظيم جداً، إلا أنه إذا تبعها أي أذى للفقير، فلا داعي لها، إذ إن " القول المعروف والمغفرة في هذه الحالة يؤديان الوظيفة الأولى للصدقة: من تهذيب النفوس وتأليف القلوب"([28]).

وتنكير "قول معروف" للتقليل، أي أقل معروف خير من صدقة يتبعها أذى([29]) وهذا يدل على أهمية اللفظ الحسن الذي يصدر من الشخص تجاه الآخرين، حيث إنه يتضمن إدخال السرور إلى قلوبهم دون أن يقترن به إضرار، فكان هذا خيراً من الصدقة التي يشوبها الإيذاء بسوء القول أو سوء المقابلة([30]).

3- قوله تعالى: {الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَانًا وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ} آل عمران/173.

إرشاد إلى سلوك لفظي حين تضيق الأرض على الإنسان بما رحبت، وتنقطع كل السبل، فيلجأ إلى مسبب الأسباب ومن بيده مقاليد الأمور، بل إن إيمانه يزداد في ساعة الشدة، ويقول في مواجهة تخويف الناس: حسبنا الله ونعم الوكيل، وهي كلمة إذا صدرت من لسان صادق وقلب عارف، فلا تعدلها كلمة أخرى، ولعظم هذه الكلمة فقد تكون ألهمت لهم أو تلقوها عن النبي صلى الله عليه وسلم([31]).

قال الرازي: " والمراد أنهم كلما ازدادوا إيماناً في قلوبهم أظهروا ما يطابقه، فقالوا: حسبنا الله ونعم الوكيل"([32]).

ومثل هذه الآية قوله تعالى: {وَلَوْ أَنَّهُمْ رَضُوا مَا آتَاهُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ سَيُؤْتِينَا اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَرَسُولُهُ إِنَّا إِلَى اللَّهِ رَاغِبُونَ} التوبة/٥٩.

وكذا قوله تعالى: {فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُلْ حَسْبِيَ اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَهُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ} التوبة/129.

والجامع بين الآيات الكريمة إرشادها للسلوك اللفظي الصحيح في ساعة الشدة أو ساعة المقابلة بين متاع الحياة الدنيا وما عند الله تعالى، فيلجأ المرء إلى الله وحده لأنه تعالى يكفي عبده.

4- قوله تعالى: {وَلَا تُؤْتُوا السُّفَهَاءَ أَمْوَالَكُمُ الَّتِي جَعَلَ اللَّهُ لَكُمْ قِيَامًا وَارْزُقُوهُمْ فِيهَا وَاكْسُوهُمْ وَقُولُوا لَهُمْ قَوْلًا مَعْرُوفًا} النساء/5.

وهذه آية كريمة ترشد إلى السلوك القولي المطلوب تجاه هذه الفئة، فيسلم إعطاؤهم للنفقة والكسوة من الأذى، فشأن من يخرج المال أن يستثقل من يطلبه في الغالب، فكيف إذا كان طالب المال سفيهاً؟ ومعلوم أن السفيه من عادته التوسع في المطالب، فربما صدر من جانب الولي كلمات تدل على الضجر، فلا جرم أن أمرَ بالقول المعروف الذي يشمل كل قول فيه صلاح أمر السفيه([33])، ويشبه هذه الآية آية أخرى وهي قوله تعالى { وَإِذَا حَضَرَ الْقِسْمَةَ أُولُو الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينُ فَارْزُقُوهُمْ مِنْهُ وَقُولُوا لَهُمْ قَوْلًا مَعْرُوفًا} النساء/8.

فالقول المعروف هنا أمر مطلوب لجبر خاطر هذه الفئة لعدم أخذها شيئاً من الميراث، فالميراث له قسمة معروفة ومقدرة، فإذا فات البعض هذا الحق لعدم استحقاقه، فلا أقل من أن يحظى بالقول الحسن من باب التسلية([34]) وكم كلمة أحدثت فعلها في نفس الشخص وخرج راضياً على الرغم من عدم حصوله على شي من المال، والعكس كذلك، إذ ربما يخرج المرء منكسر النفس حزينا على الرغم من حصوله على المال لكونه سمع كلمة جارحة هنا، وهمزاً ولمزاً هناك، فلله در الشرع الحنيف الذي خبر نفسية الإنسان وعلم ما يصلحها.

ويدخل في السياق ذاته قول الحق سبحانه وتعالى: {وَلَا تَقْرَبُوا مَالَ الْيَتِيمِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ حَتَّى يَبْلُغَ أَشُدَّهُ وَأَوْفُوا الْكَيْلَ وَالْمِيزَانَ بِالْقِسْطِ لَا نُكَلِّفُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا وَإِذَا قُلْتُمْ فَاعْدِلُوا وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَى وَبِعَهْدِ اللَّهِ أَوْفُوا ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ} الأنعام/152.

وفيها إرشاد للشخص بأن يقول كلمة الحق والعدل، على هدى من الاعتصام بالله وحده، ومراقبة الله وحده، وبخاصة إذا كانت تلك الكلمة أمام القرابة الذين يضعف الإنسان أمامهم في موقف الشهادة لهم أو عليهم، فكان التعقيب (وَبِعَهْدِ اللَّهِ أَوْفُوا) ومن عهد الله قولة الحق والعدل ولو كان ذا قربى([35]).

ولا يعني أن يقتصر الإنسان على قول كلمة الحق في الشهادة وحسب، بل يشمل جميع الأحوال ويدخل فيه كل ما يتصل بالقول في الدعوة إلى الدين، وفي الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وحكايات الرجل فلا يزيد فيها ولا ينقص عنها، وتبليغ الرسالات عن الناس إلى غير ذلك([36]).

قال السعدي في تفسير قوله تعالى: {وَإِذَا قُلْتُمْ فَاعْدِلُوا}: "وإذا قلتم قولاً تحكمون به بين الناس، وتفصلون بينهم الخطاب، وتتكلمون به على المقالات والأحوال (فاعدلوا) في قولكم بمراعاة الصدق فيمن تحبون ومن تكرهون والإنصاف، وعدم كتمان ما يلوم بيانه، فإن الميل على من تكره بالكلام فيه أو في مقالته من الظلم المحرم، بل إذا تكلم العالم على مقالات أهل البدع فالواجب عليه أن يعطي كل ذي حقٍ حقه، وأن يبين ما فيها من الحق والباطل، ويعتبر قربها من الحق وبعدها منه. وذكر الفقهاء أن القاضي يجب عليه العدل بين الخصمين في لحظه ولفظه" ([37]).

وقال ابن عاشور في الآية الكريمة نفسها: "هذا جامع كل المعاملات بين الناس بواسطة الكلام وهي الشهادة والقضاء والتعديل والتجريح والمشاورة والصلح بين الناس، والأخبار المخبرة عن صفات الأشياء في المعاملات: من صفات المبيعات والمؤاجرات والعيوب وفي الوعود والوصايا والأيمان، وكذلك المدائح والشتائم كالقذف، فكل ذلك داخلً فيما يصدر عن القول"([38]).

5- قوله تعالى {وَإِمَّا يَنْزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطَانِ نَزْغٌ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ إِنَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ} الأعراف/200. وهذا إرشاد إلى سلوك لفظي يمنع تسرب وسوسة الشيطان إلى نفس الإنسان، فيلتجئ إلى الله تعالى، ويعبر عن ذلك بالقول اللفظي: أعوذ بالله من الشيطان الرجيم، وهذا يحمي الشخص ويصرف عنه تأثير نزغ الشيطان بتزيين الشر([39]).

والالتجاء إلى الله تعالى لا بد أن يكون باللسان والقلب، ولا يكتفى بالقول اللفظي والاقتصار عليه، قال الرازي: " قوله تعالى ( إنه سميع عليم) يدل على أن الاستعاذة باللسان لا تفيد إلا إذا حضر في القلب العلم بمعنى الاستعاذة، فكأنه تعالى قال اذكر لفظ الاستعاذة بلسانك فإني سميع، واستحضر معاني الاستعاذة بعقلك وقلبك فإني عليم بما في ضميرك، وفي الحقيقة القول اللساني بدون المعارف القلبية عديم الفائدة والأثر"([40])، ومثل هذه  الآية قول الله تبارك وتعالى {فَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ } النحل/98.

6- قوله تعالى {وَقِيلَ لِلَّذِينَ اتَّقَوْا مَاذَا أَنْزَلَ رَبُّكُمْ قَالُوا خَيْرًا لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا فِي هَذِهِ الدُّنْيَا حَسَنَةٌ وَلَدَارُ الْآخِرَةِ خَيْرٌ وَلَنِعْمَ دَارُ الْمُتَّقِينَ} النحل/30.

والآية الكريمة ترشد إلى السلوك اللفظي المطلوب من المتقين الذين يدركون أن الخير هو قوام هذه الدعوى، وقوام ما أنزل ربهم من أمر ونهي وتوجيه وتشريع، فيلخصون الأمر كله في كلمة: قالوا خيراً، وهو بيان موجز وجامع شامل لكل خير في الدنيا وكل خير في الآخرة([41]).

كما يدل الجواب " خيراً" بالنصب على أن المتقين لما سئلوا لم يتلعثموا وأطبقوا الجواب على السؤال بيناً مكشوفاً مفعولاً للإنزال، فقالوا خيراً، أي أنزل خيراً([42]).

7- قوله تعالى {وَقَضَى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِنْدَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُمَا أَوْ كِلَاهُمَا فَلَا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ وَلَا تَنْهَرْهُمَا وَقُلْ لَهُمَا قَوْلًا كَرِيمًا} الإسراء/23.

وهنا إرشاد لسلوك لفظي مع نوع خاص من الناس- مع الوالدين- إذ على الولد أن يكون تعامله في منتهى اللطف والأدب، وأول مراتب تلك الرعاية أن يكون كلامه حسناً طيباً، ولا يند منه ما يدل على الضجر والضيق([43]) حتى لو كانت كلمة يسيره مثل "أف".

ومثل التعامل مع الوالدين بالقول الطيب، ينبغي أن يكون التعامل ذاته مع الآخرين وبخاصة ذوي القربى والمساكين وابن السبيل، ولذا قال سبحانه {وَإِمَّا تُعْرِضَنَّ عَنْهُمُ ابْتِغَاءَ رَحْمَةٍ مِنْ رَبِّكَ تَرْجُوهَا فَقُلْ لَهُمْ قَوْلًا مَيْسُورًا} [الإسراء: 28].

" والقول الميسور: اللين الحسن المقبول عندهم، شبه المقبول بالميسور في قبول النفس إياه لأن غير المقبول عسير، أمر الله بإرفاق عدم الإعطاء لعدم الموجدة بقول ليّن حسن بالإعتذار والوعد عند الموجدة، لئلا يحمل الإعراض على قلة الاكتراث والشح"([44]).

8- قوله تعالى {اذْهَبَا إِلَى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغَى، فَقُولَا لَهُ قَوْلًا لَيِّنًا لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَى} طه/ 43- 44.

وهنا تعديل لسلوك لفظي موجه إلى نبيين كريمين أمرهما الله تعالى بدعوة الطاغية فرعون، ومع ذلك فكان الإرشاد لاستخدام القول الليّن، برفق وأدب في اللفظ دون غلظة أو فظاظة.

"والقول الليّن لا يثير العزة بالإثم، ولا يهيج الكبرياء الزائف الذي يعيش به الطغاة، ومن شأنه أن يوقظ القلب فيتذكر ويخشى عاقبة الطغيان"([45]).

وهذا المنهج شعار الدعوة إلى الله تعالى {ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ ضَلَّ عَنْ سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ} النحل/125، لأن "المقصود من دعوة الرسل حصول الإهتداء لا إظهار العظمة وغلظة القول بدون جدوى"([46]).

9- قوله: {وَقُلْ رَبِّ أَنْزِلْنِي مُنْزَلًا مُبَارَكًا وَأَنْتَ خَيْرُ الْمُنْزِلِينَ} المؤمنون/29.

وهذا سلوك لفظي يعلمه الله تعالى لأحد أنبيائه، يقوله شكراً لله على نجاته، واللفظ عام يشمل كل أحد ويكون على كل نعمة، قال صاحب الظلال " فهكذا يحمد الله، وهكذا يتوجه إليه، وهكذا يوصف سبحانه بصفاته، ويعترف له بآياته، وهكذا يتأدب في حقه العباد، وفي طليعتهم النبيون، ليكونوا أسوة للآخرين"([47]).

10- قوله تعالى: {وَاقْصِدْ فِي مَشْيِكَ وَاغْضُضْ مِنْ صَوْتِكَ إِنَّ أَنْكَرَ الْأَصْوَاتِ لَصَوْتُ الْحَمِيرِ} لقمان/19.

وهذه الآية الكريمة ليس فيها تعديلاً للسلوك اللفظي بالمعنى المباشر، ولكنه إرشاد لأن يكون المسلم في أحسن صورة وأجملها، فيكون قوله معتدلاً أثناء الحديث، وهذا كمال الأدب والثقة بالنفس، بخلاف من يغلظ في الخطاب ويزعق.

يقول صاحب الظلال: " والغض من الصوت فيه أدب وثقة بالنفس واطمئنان إلى صدق الحديث وقوته، وما يزعق أو يغلظ في الخطاب إلا سيئ الأدب، أو شاك في قيمة قوله أو قيمة شخصه، يحاول إخفاء هذا الشك بالحدة والغلظة والزعاق"([48]).

11- قوله تعالى: {طَاعَةٌ وَقَوْلٌ مَعْرُوفٌ فَإِذَا عَزَمَ الْأَمْرُ فَلَوْ صَدَقُوا اللَّهَ لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ (21) فَهَلْ عَسَيْتُمْ إِنْ تَوَلَّيْتُمْ أَنْ تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ وَتُقَطِّعُوا أَرْحَامَكُمْ} محمد/21- 22.

وهذه آية أخرى تحمل تعديلاً لفظياً لفئة أخرى من الناس، وهي فئة المنافقين، فترشدهم إلى السلوك الأمثل إذا أرادوا الانقياد لأوامر الله ورسوله، ويتمثل هذا في " طاعة تستسلم لأمر الله عن طمأنينة وتنهض بأمره عن ثقة، وقول معروف يشي بنظافة الحس واستقامة القلب وطهارة الضمير، وأولى لهم إذا عزم الأمر وجد الجد وواجهوا الجهاد أن يصدقوا الله، يصدقوه عزيمة ويصدقوه شعوراً، فيربط على قلوبهم، ويشد من عزائهم، ويثبت أقدامهم وييسر المشقة عليهم... " ([49])، وهذا يدل على عظمة الإسلام الذي لم يغلق الأبواب حتى في وجه اؤلئك الماكرين بالإسلام وأهله، وفتح لهم باباً لتعديل سلوكهم ومنحهم فرصاً لا نجد لها نظيراً في قوانين البشر.

12- قوله: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَرْفَعُوا أَصْوَاتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ وَلَا تَجْهَرُوا لَهُ بِالْقَوْلِ كَجَهْرِ بَعْضِكُمْ لِبَعْضٍ أَنْ تَحْبَطَ أَعْمَالُكُمْ وَأَنْتُمْ لَا تَشْعُرُونَ} الحجرات/ 2.

وهذا تعديل للسلوك اللفظي يستهدف المؤمنين – كما استهدفهم من قبل- .... ولكن هذه المرة مع خير خلق الله تعالى محمد صلى الله عليه وسلم- وذلك بعدم رفع صوتهم في حضرته. "لأن رفع الصوت دليل قلة الإحتشام وترك الاحترام"([50]). والمطلوب خفض الصوت لأنه حد الاعتدال، والدليل على الاتزان في الشخصية والسلوك.

13- قوله تعالى: {الَّذِينَ يُظَاهِرُونَ مِنْكُمْ مِنْ نِسَائِهِمْ مَا هُنَّ أُمَّهَاتِهِمْ إِنْ أُمَّهَاتُهُمْ إِلَّا اللَّائِي وَلَدْنَهُمْ وَإِنَّهُمْ لَيَقُولُونَ مُنْكَرًا مِنَ الْقَوْلِ وَزُورًا وَإِنَّ اللَّهَ لَعَفُوٌّ غَفُورٌ} المجادلة/2.

وهذه آية أخرى ترشد المؤمنين إلى السلوك اللفظي الصحيح بأن لا ينطقوا؛ بالقول المنكر المتثمل في جعل الزوجة الحليلة كالأم المحرمة، وهو ما يسمى بالظهار.

"إن هذا الظهار قائم على غير أصل، فالزوجة ليست أماً حتى تكون محرمة كالأم، فالأم هي التي ولدت، ولا يمكن أن تستحيل الزوجة أماً بكلمة تقال، إنها كلمة منكرة ينكرها الواقع، وكلمة مزورة ينكرها الحق، والأمور في الحياة يجب أن تقوم على الحق والواقع، في وضوح وتحديد، فلا تختلط ذلك الاختلاط ولا تضطرب هذا الاضطراب"([51]).

إنه في الحقيقة قولٌ منكر، لا يمكن لمؤمن أن يتفوه به، لأنه تزوير للحقيقة، والمؤمن الحق لا يزور الحقائق، وفي الوقت نفسه يراعي كل كلمة يقولها حتى لا يعرض نفسه للعقوبة في الدنيا والآخرة.

المطلب الثاني: التنبيه على ألفاظ لا ينبغي استخدامها:

من الأساليب الهادفة لتعديل السلوك اللفظي التي استخدمها القرآن الكريم أسلوب التنبيه على ألفاظ بعينها والمنع من استخدامها، وعلى هذا أمثلة كثيرة نذكر أبرزها:

1- قوله تعالى {الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُومَاتٌ فَمَنْ فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَّ فَلَا رَفَثَ وَلَا فُسُوقَ وَلَا جِدَالَ فِي الْحَجِّ وَمَا تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ يَعْلَمْهُ اللَّهُ وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى وَاتَّقُونِ يَا أُولِي الْأَلْبَابِ} البقرة/197، قال النسفي: " الرفث هو الجماع أو ذكره عند النساء أو الكلام الفاحش، (ولا فسوق) هو المعاصي أو السباب لقوله عليه السلام: (سباب المسلم فسوق)"([52]) أو التنابز بالألقاب، لقوله تعالى: {وَلَا تَلْمِزُوا أَنْفُسَكُمْ وَلَا تَنَابَزُوا بِالْأَلْقَابِ} الحجرات/١١ ولا جدال في الحج ولا مراء مع الرفقاء والخدم والمكارين، وإنما أمر باجتناب ذلك وهو واجب الاجتناب في كل حال؛ لأنه مع الحج أسمج كلبس الحرير في الصلاة، والتطريب في قراءة القرآن...ثم حث على الخير عقيب النهي عن الشر، وأن يستعملوا مكان القبيح من الكلام الحسن، ومكان الفسوق البر والتقوى، ومكان الجدال الوفاق والأخلاق الجميلة بقوله تعالى: {الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُومَاتٌ فَمَنْ فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَّ فَلَا رَفَثَ وَلَا فُسُوقَ وَلَا جِدَالَ فِي الْحَجِّ وَمَا تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ يَعْلَمْهُ اللَّهُ وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى وَاتَّقُونِ يَا أُولِي الْأَلْبَابِ} البقرة/197 ([53]).

ويلاحظ هنا أن النهي عن الرفث من القول جاء بصورة مباشرة، أي لا ينبغي لأحد الرفث أو الفسوق لا قولاً ولا عملاً، وهذا نهي عن عموم القول الفاحش وما يندرج تحته من ألفاظ نابية أو آفة من آفات اللسان.

2- قوله تعالى: {وَلَا تَجْعَلُوا اللَّهَ عُرْضَةً لِأَيْمَانِكُمْ أَنْ تَبَرُّوا وَتَتَّقُوا وَتُصْلِحُوا بَيْنَ النَّاسِ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ} البقرة/224، في هذه الآية نهي عن الحلف واليمين واعتياد الحلفان عن الأشياء، فنهى الشارع عن استخدام لفظ الجلالة وجعله حجة للامتناع عن فعل الخير، وهذا فيه توجيه إلى أن خير عادة أن لا يختار المرء عادة، حتى لا يكون للأمر المعتاد عليه تبعات، ويقرب منه قوله تعالى: {لَا يُؤَاخِذُكُمُ اللَّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمَانِكُمْ وَلَكِنْ يُؤَاخِذُكُمْ بِمَا كَسَبَتْ قُلُوبُكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ حَلِيمٌ} البقرة/ 225. قال السيوطي: " قال ابن عباس: يقول الله تعالى: لا تجعلني عرضة ليمينك أن لا تصنع الخير، ولكن كفَّر عن يمينك واصنع الخير، أخرجه ابن أبي حاتم، ففيه استحباب الحنث والتكفير لمن حلف يميناً فرأى غيرها خيراً منها، وقيل أراد به النهي عن كثرة الحلف؛ لأنه نوع جراءة على الله تعالى وابتذال لاسمه في كل حق وباطل ([54])".

3- قوله تعالى: {وَهُدُوا إِلَى الطَّيِّبِ مِنَ الْقَوْلِ وَهُدُوا إِلَى صِرَاطِ الْحَمِيدِ} الحج/24.

الطيب من القول: أحسنه، وقد جاء هذا وصفاً للمؤمنين الذين وفقهم -الله تعالى- لهدايته، وفي هذا المدح حث على التمسك بمقتضاه، والطيب من القول جنس يشتمل تحته على أفراده، وأعلى ما يكون من طيب القول كلمة التوحيد، قال البيضاوي: " وهو قولهم الحمد لله الذي صدقنا وعده، أو كلمة التوحيد" ([55])، ويفهم من الآية الكريمة النهي عن استخدام غير الطيب من القول، وهو أسلوب تربوي فريد، حيث يفهم المكلف المراد دون الخطاب المباشر.

4- قوله تعالى: {ذَلِكَ وَمَنْ يُعَظِّمْ حُرُمَاتِ اللَّهِ فَهُوَ خَيْرٌ لَهُ عِنْدَ رَبِّهِ وَأُحِلَّتْ لَكُمُ الْأَنْعَامُ إِلَّا مَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ فَاجْتَنِبُوا الرِّجْسَ مِنَ الْأَوْثَانِ وَاجْتَنِبُوا قَوْلَ الزُّورِ} الحج/30.

قال البيضاوي: " تعميم بعد تخصيص؛ فإن عبادة الأوثان رأس الزور؛ لأنه لما حث على تعظيم الحرمات، أتبعه ذلك رداً لما كانت الكفرة عليه من تحريم البحائر والسوائب وتعظيم الأوثان والافتراء على -الله تعالى- بأنه حكم بذلك، وقيل: شهادة الزور لما روي أنه عليه السلام قال: (عدلت شهادة الزور الإشراك بالله تعالى ثلاثاً) وتلا هذه الآية، والزُّور من الزَّور، وهو: الانحراف، كما أن الإفك من الأفك، وهو: الصرف؛ فإن الكذب منحرف مصروف عن الواقع" ([56])، ويلحظ في الآية الكريمة التوجيه المباشر لعدم قول الزور، بل بالغت بأن قالت: واجتنبوا، وهو أبلغ وأوقع في نفس المكلف.

5- قوله تعالى: {وَلَوْلَا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ قُلْتُمْ مَا يَكُونُ لَنَا أَنْ نَتَكَلَّمَ بِهَذَا سُبْحَانَكَ هَذَا بُهْتَانٌ عَظِيمٌ} النور/16.

يلحظ في الآية الكريمة أن القرآن نهى عن سلوك لفظي خطير وهو البلوغ في الأعراض، قال ابن كثير: " هذا تأديب آخر بعد الأول الأمر بظن الخير، أي إذا ذكر ما لايليق من القوى في شأن الخيرة فأولى ما ينبغي الظن بهم خيراً، وأن لا يشعر نفسه سوى ذلك، ثم إن علق بنفسه شيء من ذلك وسوسةً أو خيالاً فلا ينبغي أن يتكلم به، فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (إن الله تعالى تجاوز لأمتي عما حدَّثت به أنفسها مالم تقل أو تعمل، أخرجاه في الصحيين([57]) وقال الله تعالى: (ولولا إذ سمعتموه قلتم ما يكون لنا أن نتكلم بهذا) أي ما ينبغي لنا أن نتفوَّه بهذا الكلام ولا نذكره لأحد (سبحانك هذا بهتان عظيم) أي سبحان الله أن يقال هذا الكلام على زوجة رسوله وحليلة خليله" ([58])، نلاحظ أن هذا الأمر عظيم في حق غير أزواج النبي -عليه الصلاة والسلام- فكيف بحق أزواجه (وتحسبونه هيَّناً وهو عند الله عظيم).

6- قوله تعالى: {إِنَّمَا كَانَ قَوْلَ الْمُؤْمِنِينَ إِذَا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ أَنْ يَقُولُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} النور/51.

هذا مدح للمؤمنين على أنهم إذا دعوا إلى الإيمان ومقتضى قول الله تعالى ورسوله صلى الله عليه وسلم- أن يبادروا بالقول: سمعنا وأطعنا، وهذا توجيه مهم، وهو أنه في الأمور المحسومة المعروف خيرها ونفعها لا يملك الإنسان إلا الموافقة عليها و قبولها؛ لأنه يعبر بذلك عن سلوك سوي، ويقرب من هذا أنه إذا سمع شيئاً مشيناً عن من هو معهود عنه الصلاح والخير أن يتوقف ولا يبادر بالقول فيه وهذا ما أرشدت إليه الآية: {لَوْلَا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ ظَنَّ الْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بِأَنْفُسِهِمْ خَيْرًا وَقَالُوا هَذَا إِفْكٌ مُبِينٌ} النور/12، وعلى هذا فإن التوجيه هنا للكلمة المسؤولة أمام الحدث والموقف، حيث ينبغي أن يكون لها صيغة لفظية مناسبة.

7- قوله تعالى: {وَعِبَادُ الرَّحْمَنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الْأَرْضِ هَوْنًا وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الْجَاهِلُونَ قَالُوا سَلَامًا} الفرقان/63.

هذا سلوك لفظي مدحه -الله تعالى- لعباد الرحمن، والمقصود بالسلام هنا: سلام المتاركة والترفع باللفظ عن الكلمة النابية، ويقرب هذا من قول الله تعالى: {وَإِذَا سَمِعُوا اللَّغْوَ أَعْرَضُوا عَنْهُ وَقَالُوا لَنَا أَعْمَالُنَا وَلَكُمْ أَعْمَالُكُمْ سَلَامٌ عَلَيْكُمْ لَا نَبْتَغِي الْجَاهِلِينَ} القصص/55. ولقد كان هذا خلق الأنبياء، وقد صدر عن أبي الأنبياء -عليه الصلاة والسلام- سيدنا إبراهيم، حيث قال -الله تعالى- عنه راداً على تهديد والده له بالرجم إن لم ينته عن دعوته للتوحيد: {قَالَ سَلَامٌ عَلَيْكَ سَأَسْتَغْفِرُ لَكَ رَبِّي إِنَّهُ كَانَ بِي حَفِيًّا} مريم/47.

والمدح في هذا المقام يدل على أن مقتضاه مطلوب، فالكلمة في مثل هذا الموقف تدل على السلوك، وعلى الرغبة في كف الأذى، ومنابذة الجهل، والترفع عن الجهلاء، وإن كان في الأمر صعوبة، إلا أن ضبط النفس عن فحش القول، وكبت التصرف والنطق بما ليس لائقاً يوقف النفس عند حد الاعتدال الذي تتزن به الشخصية الإنسانية.

قال السعدي:"(وإذا خاطبهم الجاهلون) خاطبوهم خطاباص يسلمون فيه من الإثم، ويسلمون من مقابلة الجاهل بجهله، وهذا مدح لهم بالحلم الكثير، ومقابلة المسيئ بالإحسان، والعفو عن الجاهل، ورزانة العقل الذي أوصلهم إلى هذه الحال". ([59])

وبالإضافة إلى هذا الامتداح الذي جاء بصيغة الإخبار فقد طلب ذلك مباشرة من نبينا -صلى الله عليه وسلم-: {فَاصْفَحْ عَنْهُمْ وَقُلْ سَلَامٌ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ} الزخرف/89.

8- قوله تعالى: {طَاعَةٌ وَقَوْلٌ مَعْرُوفٌ فَإِذَا عَزَمَ الْأَمْرُ فَلَوْ صَدَقُوا اللَّهَ لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ} محمد/21.

هذا توجيُهُ مباشر، أي المطلوب طاعة وقول معروف، والمعروف كلمة جامعة لمعاني الخير، ومثل هذا قوله سبحانه: {وَلَا تُؤْتُوا السُّفَهَاءَ أَمْوَالَكُمُ الَّتِي جَعَلَ اللَّهُ لَكُمْ قِيَامًا وَارْزُقُوهُمْ فِيهَا وَاكْسُوهُمْ وَقُولُوا لَهُمْ قَوْلًا مَعْرُوفًا} النساء/5.

وهذا القول المعروف، معروف بحسنه، معروف بطيبه، معروف بما يؤدي إليه؛ لأن فيه تطييب للخواطر وتهدئة للمشاعر والعواطف.

9- قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَرْفَعُوا أَصْوَاتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ وَلَا تَجْهَرُوا لَهُ بِالْقَوْلِ كَجَهْرِ بَعْضِكُمْ لِبَعْضٍ أَنْ تَحْبَطَ أَعْمَالُكُمْ وَأَنْتُمْ لَا تَشْعُرُونَ} الحجرات/2.

رفع الصوت مستقبح إلا إذا كان بالحق والحسنى، وهذا مقام في الأدب، ينهى فيه القرآن المسلمين بشكل مباشر أن يرفعوا الأصوات عالياً في حضرة النبي -صلى الله عليه وسلم-؛ لأن هذا نوع إيذاء {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَدْخُلُوا بُيُوتَ النَّبِيِّ إِلَّا أَنْ يُؤْذَنَ لَكُمْ إِلَى طَعَامٍ غَيْرَ نَاظِرِينَ إِنَاهُ وَلَكِنْ إِذَا دُعِيتُمْ فَادْخُلُوا فَإِذَا طَعِمْتُمْ فَانْتَشِرُوا وَلَا مُسْتَأْنِسِينَ لِحَدِيثٍ إِنَّ ذَلِكُمْ كَانَ يُؤْذِي النَّبِيَّ فَيَسْتَحْيِي مِنْكُمْ وَاللَّهُ لَا يَسْتَحْيِي مِنَ الْحَقِّ وَإِذَا سَأَلْتُمُوهُنَّ مَتَاعًا فَاسْأَلُوهُنَّ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ ذَلِكُمْ أَطْهَرُ لِقُلُوبِكُمْ وَقُلُوبِهِنَّ وَمَا كَانَ لَكُمْ أَنْ تُؤْذُوا رَسُولَ اللَّهِ وَلَا أَنْ تَنْكِحُوا أَزْوَاجَهُ مِنْ بَعْدِهِ أَبَدًا إِنَّ ذَلِكُمْ كَانَ عِنْدَ اللَّهِ عَظِيمًا } الأحزاب/53. ومثله: {لَا تَجْعَلُوا دُعَاءَ الرَّسُولِ بَيْنَكُمْ كَدُعَاءِ بَعْضِكُمْ بَعْضًا قَدْ يَعْلَمُ اللَّهُ الَّذِينَ يَتَسَلَّلُونَ مِنْكُمْ لِوَاذًا فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} النور/63، فالكلمة ينبغي أن تُنتقى، وأن يكون لها درجُةُ من الخفض في حضرة المخاطب، ولهذا قال -الله تعالى-: {إِنَّ الَّذِينَ يُنَادُونَكَ مِنْ وَرَاءِ الْحُجُرَاتِ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْقِلُونَ} الحجرات/4.

وقد جعل القرآن الخفض من درجة الصوت علامة على السلوك القويم الذي ينم عن شخصية قويمة، وأن مراعاة الأدب في النطق مسؤولية ترفع من سوية الإنسان {وَاقْصِدْ فِي مَشْيِكَ وَاغْضُضْ مِنْ صَوْتِكَ إِنَّ أَنْكَرَ الْأَصْوَاتِ لَصَوْتُ الْحَمِيرِ} لقمان/19.

ولو تأملنا في هذه الآية لوجدناها تعطينا تعديلاً سلوكياً عميقاً في محتواه؛ إذ إن مفهوم المخالفة من الآية يفيد أن الصوت الحسن وغير المرتفع في العادة الجارية في النطق هو المنظور إليه، وهو حد الاعتدال المنشود.

المطلب الثالث: مبادلة الألفاظ

ومن الأساليب التي استخدمها القرآن الكريم في تعديل السلوك اللفظي، أسلوب مبادلة الألفاظ أي إبدال لفظ مكان آخر، وهو أسلوب تربوي إيجابي يعطي البديل ولا يقتصر على النهي فحسب، ومن الأمثلة على ذلك:

1- قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَقُولُوا رَاعِنَا وَقُولُوا انْظُرْنَا وَاسْمَعُوا وَلِلْكَافِرِينَ عَذَابٌ أَلِيمٌ} البقرة/104.

يوجه القرآن هنا المؤمنين إلى اختيار اللفظة الأفضل، والكلمة الأحسن كبديلٍِِِ لكلمةٍ موهمةٍ ربما تعطي فهماً غير صحيح، أو تُحمل على غير محاملها الصحيحة، وربما كان القصد وحده غير مجدٍ في مثل هذه الكلمات، فمن أجل هذا على المرء أن يختار البديل الأمثل.

فكلمة (راعنا) إذا أطلقها المؤمنون أرادوا بها خيراً، ولكن لأجل استعمالها عند اليهود أراد القرآن أن لا تُتداول على ألسنة المؤمنين لسوء استعمالها عند أولئك اليهود.

قال السعدي: " كان المسلمون يقولون حين خطابهم للرسول عند تعلمهم أمر الدين
( راعنا)، أي: راع أحوالنا، فيقصدون بها معنىً صحيحاً، وكان اليهود يريدون بها معنىً فاسداً، فانتهزوا الفرصة، فصاروا يخاطبون الرسول – صلى الله عليه وسلم- بذلك، ويقصدون المعنى الفاسد، فنهى الله المؤمنين عن هذه الكلمة، سداً لهذا الباب، ففيه النهي عن الجائز إذا كان وسيلةً إلى محرَّم، وفيه الأدب، واستعمال الألفاظ التي لا تحتمل إلا الحسن، وعدم الفحش وترك الألفاظ القبيحة، أو التي فيها نوع تشويش واحتمال لأمر غير لائق، فأمرهم بلفظة لا تحتمل إلا الحسن، فقال: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَقُولُوا رَاعِنَا وَقُولُوا انْظُرْنَا وَاسْمَعُوا وَلِلْكَافِرِينَ عَذَابٌ أَلِيمٌ} البقرة/104، فإنها كافيةٌ يحصل بها المقصود ومن غير محذور" ([60]).

2- قوله تعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ رَسُولٍ إِلَّا لِيُطَاعَ بِإِذْنِ اللَّهِ وَلَوْ أَنَّهُمْ إِذْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ جَاءُوكَ فَاسْتَغْفَرُوا اللَّهَ وَاسْتَغْفَرَ لَهُمُ الرَّسُولُ لَوَجَدُوا اللَّهَ تَوَّابًا رَحِيمًا} النساء/64.

هنا المقام مقام ذمٍّ لمن حرّف كلام الله –تعالى- عن مواضعه وفوق ذلك يأتون بألفاظٍ لا تنم عن هدىً ولا اتباع للحق أو انصياعٍ له، فيذمهم القرآن على هذه الألفاظ، ويرشدهم إلى بدائل من الألفاظ أولى لهم وأوفق في الدلالة على الاتباع، قال النسفي: "(ويقولون سمعنا) قولك (وعصينا) أمرك، قيل: أسرّوا به (واسمع) قولنا (غير مسمعٍ) حال المخاطب، أي: اسمع وأنت غير مسمع، وهو قول ذو وجهين يحتمل الذم، أي اسمع منا مدعواً عليك بلا سمعت؛ لأنه لو أجيبت دعوتهم عليه لم يسمع شيئاً فكان أصمَّ غير مسمع، قالوا ذلك اتكالاً على أن قولهم (لا سمعت) دعوةٌ مستجابةٌ، أو اسمع غير مجابٍ إلى ما تدعو إليه، ومعناه: غير مسمع جواباً يوافقك، فكأنك لم تسمع شيئاً، أو اسمع غير مسمعٍ كلاماً ترضاه فسمعك عنه نابٍ، ويحتمل المدح، أي اسمع غير مسمعٍ مكروهاً من قولك (أسمع فلان فلاناً، إذا سبه، وكذلك قوله (وراعنا) يحتمل: راعنا نكلمك، أي ارقبنا وانتظرنا، ويحتمل شبه كلمة عبرانية أو سريانية كانوا يتسابّون بها وهي (راعينا) فكانوا سخريةً بالدين وهزواً بالرسول الله -صلى الله عليه وسلم- يكلمونه بكلامٍ محتملٍ ينوون به الشتيمة والإهانة، ويظهرون به التوقير بألسنتهم الحق إلى الباطل، حيث يضعون (راعنا) موضع (انظرنا) و (غير مسمع) موضع (لا أسمعت مكروهاً)، أو يفتلون بألستنهم ما يضرون من الشتم إلى ما يظهرونه من التوقير نفاقاً  (وطعناً في الدين)، هو قولهم: لو كان نبياً حقاً لأخبر بما نعتقد فيه (ولو أنهم قالوا سمعنا وأطعنا)، ولم يقولوا: وعصينا (واسمع) ولم يلحقوا به غير مسمع (وانظرنا) مكان (راعنا) (لكان) قولهم ذاك (خيراً لهم) عند الله (وأقوم) وأعدل وأسد" ([61]).

إن فتل اللسان، وتحوير الكلام، والتلاعب في الكلمة أمر يفضي إلى نتائج غير سليمة، لذا كان لابد من انتقاء الكلمة المناسبة التي تنم عن صفاء المقصد، وحسن الغرض، وسلامة النية.

3- قوله تعالى: {وَمِنْهُمُ الَّذِينَ يُؤْذُونَ النَّبِيَّ وَيَقُولُونَ هُوَ أُذُنٌ قُلْ أُذُنُ خَيْرٍ لَكُمْ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَيُؤْمِنُ لِلْمُؤْمِنِينَ وَرَحْمَةٌ لِلَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ يُؤْذُونَ رَسُولَ اللَّهِ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} التوبة/61.

هنا أنواعٌ كثيرةٌ للأذى من أشدها -ولا شك-: الأذى بالألفاظ المبطَّنة، والكلمات المتَّسعة لأنواع الغمز والعيب، منها كلمة (أذن) التي يراد بها: أن صاحبها يلقي بهذه الجارحة لكل خبرٍ فيصدقه دون تدبُّرٍ أو وعيٍ، وقد حاول بعض المنافقين أن يصفوا النبي -عليه الصلاة والسلام- بها، ولكن الله تعالى تولى الدفاع عن نبيه بأن هذا النبي أذن في الخير والرحمة وهذا خير لكم، وقد كان على هؤلاء أن لا يلقوا بالأذيّة إلى جنابه الشريف، بل الأولى أن يقولوا كلمة حق وإنصاف، ويختاروا بديلاً لائقاً لمقام صاحب الجناب الشريف.

قال أبو السعود: "(ويقولون هو أذن) أي يسمع كلَّ ما قيل من غير أن يتدبَّر فيه ويميز بين ما يليق بالقبول لمساعدة أمارات الصدق له وبين ما لا يليق به، وإنما قالوه؛ لأنه -صلى الله عليه وسلم- كان لا يواجههم بسوء ما صنعوا ويصفح عنهم حلماً وكرماً فحملوه على سلامة القلب وقالوا ما قالوا (قُلْ أُذُنُ خَيْرٍ لَّكُمْ) من قبيل رجل صدقٍ في الدلالة على المبالغة في الجودة والصلاح، كأنه قيل: نعم، هو أذن ولكن نعم الأذن، ويجوز أن يكون المراد أذناً في الخير والحق وفيما ينبغي سماعه وقبوله لا في غير ذلك" ([62]).

4- قوله تعالى: {قَالَتِ الْأَعْرَابُ آمَنَّا قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا وَلَكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنَا وَلَمَّا يَدْخُلِ الْإِيمَانُ فِي قُلُوبِكُمْ وَإِنْ تُطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ لَا يَلِتْكُمْ مِنْ أَعْمَالِكُمْ شَيْئًا إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} الحجرات/14.

هذا توجيهٌ مهمٌّ في التعبير الدقيق عن الحال، والإخبار عن الهيئة والوصف بما لا يتزيد عليه، فلكل هيئةٍ ووصفٍ أو حالٍ دلالةٌ خاصةٌ لا ينبغي أن تتداخل مع غيرها، وهذا هو الحيطة في الكلام والحذر في القول واللفظ، فقد خطّأ -الله تعالى- الذين قالوا آمنّا؛ لأنها لم تعبٍّر عن حقيقة الأمر وواقع الأشياء، فهذا تزييف غير صحيح، وكان الصواب أن يقولوا: أسلمنا، والسبب في ذلك أنه لم يدخل الإيمان قلوبهم على الحقيقة.

قال السعدي: " يخبر تعالى عن مقالة بعض الأعراب الذين دخلوا في الإسلام على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم دخولاً من غير بصيرة، ولا قيامٍ بما يجب ويقتضيه الإيمان، أنهم مع هذا ادِّعوا وقالوا: آمنّا، أي: إيماناً كاملاً، مستوفياً لجميع أموره، فأمر الله رسوله أن يرد عليهم فقال: (قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا) أي لا تدّعوا لأنفسكم مقام الإيمان، ظاهراً وباطناً كاملاً. (وَلَكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنَا) أي: دخلنا في الإسلام واقتصروا على ذلك: (و) السبب في ذلك أنه (لَمَّا يَدْخُلِ الإيمَانُ فِي قُلُوبِكُمْ) وإنما أسلمتم خوفاً أو رجاءً أو نحو ذلك، مما هو السبب في إيمانكم، فلذلك لم تدخل بشاشة الإيمان في قلوبكم" ([63])، وهكذا طوفت بنا آيات الكتاب العزيز في أساليب حكيمة متنوعة في تعديل السلوك اللفظي، وكانت تلك النماذج على سبيل المثال لا الحصر، وإلا فالأمثلة كثيرة تحتاج إلى المزيد، مع الأخذ بعين الاعتبار بأن بعض النماذج قد تتداخل، إذا يمكن أن تجمع بين أسلوبين، فالقرآن الكريم مليئ بالكنوز التي تحتاج لقراءة واعية راشدة تنهل من معينه الصافي الذي لا ينضب.

الخاتمة: النتائج والتوصيات

أ- النتائج:

1- السلوك اللفظي ما يصدر عن الإنسان من كلام مفهوم أو غير مفهوم يعبر فيه عن فكرة أو موقف ما.

2- تعديل السلوك اللفظي هو: إحدا ث تغيير هادف فيما يصدر عن الإنسان من كلام، ويكون هذا التغيير إما بالتعليم المباشر أو التنبيه على ألفاظ لا ينبغي استخدامها أو مبادلة ألفاظ بأخرى، وذلك وفق مرجعية خاصة.

3- اهتمام الإسلام في تعديل السلوك الإنساني بشكل عام واللفظي بشكل خاص.

4- الفئات المستهدفة في تعديل السلوم اللفظي في القرآن الكريم هي فئة المكلفين والمنافقين والكفار.

5- تعدد أهداف تعديل السلوك ومن أهمها نشر الدعوة وحسن التعامل والتعليم.

6- التنويع في أسلوب التعديل أفضل من الاقتصار على أسلوب واحد كما دلت على ذلك الآيات الكريمات.

7- إعطاء البديل في مسألة ما يسهل على المكلف الالتزام، بدل النهي المجرد.

ب- التوصيات:

توصي الدراسة بالآتي:

1- مزيد بحث في كتاب الله تعالى فيما يتعلق بالدراسات النفسية والتربوية فهو مليئ بالكنوز الثمينة.

2- البحث في كتاب الله تعالى بعقلية الباحث المتبصر المنصف، وليس بعقلية المقلد صاحب الأفكار المسبقة.

3- ينبغي على المربين والباحثين أن يستهلموا أساليب القرآن الكريم في تعديل السلوك الإنساني بشكل عام واللفظي بشكل خاص.

 

الهوامش:


([1]) الجوهري: اسماعيل بن حماد، 393هـ، تاج اللغة وصحاح العربية، تحقيق أحمد عبد الغفور، دار عباس الشربتلي، ط2، القاهرة 1982م، 4/1591.

([2]) ابن منظور: جمال الدين محمد بن مكرم، 711هـ، لسان العرب، دار الفكر، بيروت، 1/442.

([3]) الفيرزأبادي: محمد بن يعقوب، القاموس المحيط، دار الكتب العلمية، بيروت، 1959، ط1، 3/418.

([4]) السعدي: عماد، دراسة في تعديل أنماط من السلوك الصفي، رسالة دكتوراه غير منشورة، تونس، جامعة الآداب والفنون والعلوم الإنسانية، ص11.

([5]) السعدي، المرجع السابق، ص11.

([6]) القذافي: رمضان، علم النفس الإسلامي، صحيفة الدعوة الإسلامية، ليبا، 1990م، ط1، ص17.

([7]) بدوي: يوسف، تهذيب الخلق الإسلامي الكامل، مؤسسة علوم القرآن، بيروت، 1999م، ص252.

([8]) جلو: الحسين، أساليب التشويق والتعزيز في القرآن الكريم، دار العلوم الإنسانية، دمشق، 1994، ط1، ص38.

([9]) أحمد: عطية الله، القاموس الإسلامي، مكتبة النهضة المصرية، القاهرة، 1963م، 3/446.

([10]) محمد بن مكرم بن منظور الإفريقي، لسان العرب، دار صادر، بيروت ط 1 7/461.

([11])خليل معوض / علم النفس العام، مكتبة الإسكندرية، ط1،2001م، ص16.

      ([12]) ابن منظور: لسان العرب، مادة عدّل، 11/432.

([13]) الجوهري: تاج اللغة وصحاح العربية، 5/ص1761.

([14]) الخطيب: جمال، تعديل السلوك الإنساني، عمان، 1994م، ط3، ص13-14.

([15]) المرجع سابق: ص14.

([16]) المرجع سابق: ص15.

([17]) المرجع سابق، ص16.

([18]) رواه البخاري (صحيح البخاري) كتاب الجنائز، باب إذا أسلم الصبي، ةهل يصلى عليه 1/456 برقم 1292 عن أبي هريرة.

([19]) العيسوي، الإسلام والعلاج النفسي، ص182-183.

([20]) رواه مسلم، صحيح مسلم، ج2، ص133، حديث رقم 429.

([21]) القرضاوي: يوسف، الخصائص العامة للإسلام، مكتبة وهبة، مصر، ط2، 1981م، ص124.

([22]) رواه أحمد، المسند، ج18، ص137، حديث رقم 8595، صححه الألباني، انظر مختصر السلسلة الصحيحة، حديث رقم 45.

([23]) القذافي: مرجع سابق، ص24.

([24]) راواه الطبراني، المعجم الكبير، ج20، ص258، حديث رقم1763، حسنه الألباني، انظر مختصر السلسلة الصحيحة، حديث رقم 342.

       ([25] ) انظر الرازي: فخر الدين محمد بن عمر، التفسير الكبير، دار الكتب العلمية، بيروت، ط1، 1990م، 3/153-154.

        قطب: سيد، في ظلال القرآن، دار العلم للطباعة والنشر، جدة- السعودية، ط12، 1986م، 1/81.

        وابن عاشور: محمد الطاهر، التحرير والتنوير، طبعة مصورة دون تاريخ، 1/583.

        محمد رشيد رضا: تفسير القرآن الحكيم (تفسير المنار) دار المعرفة، بيروت، ط2، 1/368.

        ([26] ) سيد: الظلال، 4/2234.

        ([27] ) ابن عاشور: التحرير والتنوير، 15/132.

        ([28] ) سيد: الظلال، 1/302.

        ([29] ) ابن عاشور: التحرير والتنوير، 3/47.

([30] ) انظر الرازي: التفسير الكبير، 7/43.

([31] ) انظر سيد، في ظلال القرآن، 1/514، وابن عاشور، 4/243.

([32] ) الرازي، 9/82.

([33] ) انظر ابن عاشور، 4/236-237.

([34] ) انظر ابن عاشور، 4/251-252.

([35] ) سيد: الظلال، 3/1233 بتصرف.

([36] ) انظر، الرازي، 13/193.

([37] ) السعدي: عبد الرحمن بن ناصر، تيسير الكريم الرحمن في تفسير كلام المنان، الرئاسة العامة للبحوث العلمية والإفتاء، الرياض، 1404هـ، 2/501-502.

([38] ) ابن عاشور: التحرير والتنوير، 8/166.

([39] ) انظر رشيد رضا: المنار، 9/541. وابن عاشور: التحرير والتنوير، 9/230.

([40] ) الرازي: التفسير الكبير، 15/80.

([41] ) انظر سيد: الظلال، 4/2169، وابن عاشور، 14/14.

([42] ) انظر الزمخشري، الكشاف، 2/407.

([43] ) انظر سيد: الظلال 4/2221، والسعدي: تيسير الكريم الرحمن، 4/270-271.

([44] ) ابن عاشور، 15/83، وأنظر الرازي، 20/155.

([45] ) سيد: الظلال 4/2336.

([46] ) ابن عاشور: التحرير، 16/225.

([47] ) سيد: الظلال، 4/2466.

([48] ) سيد الظلال، 5/2790.

([49] ) سيد: 6/3296-3297.

([50] ) الرازي، 28/97.

([51] ) سيد: الظلال، 6/3506.

([52] )رواه أحمد في مسنده، (5/439).

([53] ) النسفي: عبد الله بن أحمد، مدارك التنزيل وحقائق التأويل، دار الكتب العلمية، بيروت، ط1، (1/112).

([54] ) السيوطي، الإكليل في استنباط التنزيل، دار الكتب العلمية، بيروت، ط2، 1405هـ-1985م، ص52.

([55] ) البيضاوي: عبد الله بن عمر، أنوار التنزيل وبهامشه حاشية الكازروني، مؤسسة شعبان للنشر والتوزيع، بيروت، (3/52).

([56] ) البيضاوي، أنوار التنزيل وبهامشه حاشية الكازروني، (4/54).

([57] ) تخريج الحديث.

([58] ) ابن كثير، تفسير القرآن العظيم، دار الفيحاء، دمشق، ط1، 1414/1994م، (3/367).

([59] ) السعدي، تيسير الكريم الرحمن، مؤسسة الرسالة، بيروت، ط1، 1420/1999م، ص534.

([60] ) السعدي، تيسير الكريم الرحمن، ص43.

([61] ) النسفي، مدارك التنزيل، (1/256).

([62] ) أبو السعود، محمد بن محمد العمادي، إرشاد العقل السليم إلى مزايا القرآن الكريم، دار إحياء التراث العربي، بيروت، ط4، 1414/1994م، (4/77).

([63] ) السعدي، تيسير الكريم الرحمن، ص746.