إلا الصوم

الكاتب : الباحث الدكتور زهير ريالات

أضيف بتاريخ : 11-08-2010


 

 

جاء في الحديث القدسي:(كُلُّ عَمَلِ ابْنِ آدَمَ يُضَاعَفُ: الْحَسَنَةُ عَشْرُ أَمْثَالِهَا إلى سَبْعِمِئَةِ ضِعْفٍ، إِلاَّ الصَّوْمَ؛ فَإنَّهُ لِي وَأنا أجْزِي بِهِ؛ يَدَعُ شَهْوَتَهُ وَطَعَامَهُ مِنْ أجْلِي...)رواه مسلم.

في هذا الحديث استثنى الله عز وجل الصوم من الأعمال التي يُضاعَف أجرها بمقدار محدد؛ فكل الأعمال يُضاعَف أجرها:الحسنة بعشر أمثالها إلى سبعمئة ضعف، إلا الصيام؛ فيضاعفه الله أضعافاً غير محددة بعدد معين.

ومعلوم أن المقصود بالصيام هنا هو الصيام الذي أمر الله به، وليس مجرد الامتناع عن الطعام والشراب، كما هو حال صيام كثير من الناس. ولكن لماذا خص الله تعالى الصيام دون سائر الأعمال بهذه الميزة حين قال:(إِلاَّ الصَّوْمَ؛ فَإنَّهُ لِي وَأنا أجْزِي بِهِ)؟!

إذا تفكرنا في حقيقة الصيام، والفرق بينه وبين غيره من العبادات؛ فإنه يمكننا أن نستنبط بعض الحِكَم التي من أجلها خصَّ الله تعالى الصائمَ بهذا الفضل العظيم، ومن هذه الحِكَم:

أولاً:الصيام سرٌّ بين العبد وربِّه، لا يعلم به إلا الله تعالى، فقد يرائي الإنسان في صلاته وفي غيرها من العبادات؛ لأنها حركات وأفعال، ولكنه لا يستطيع أن يرائي في الصيام -بمعنى: إظهار العمل للناس ليروه ويظنوا به خيراً- وقد رُوي:(الصيام لا رياء فيه) [رواه البيهقي في "شعب الإيمان"]؛ فالصوم عبارة عن ركنين اثنين: امتناعٍ عن الطعام والشراب وسائر الشهوات، ونيةٍ مكانها القلب، لا يطلع عليها إلا الله؛ لذلك ناسب أن يبقى أمر الصيام بين العبد وربِّه، وأن يخصه الله بإضافته إلى نفسه دون سائر الأعمال.

ثانياً:الصيام هو العبادة الوحيدة التي يترك فيها الإنسان جميع شهواته لأجل الله؛ فمثلاً عندما يُحْرِمُ الإنسان بالحج أو العمرة فإنه لا يترك إلا بعض الشهوات كالجماع وحب التزين، أما بقية الشهوات مثل الطعام والشراب فتبقى مباحة، وكذلك عندما يزكي ويتصدق لا يترك إلا شهوة حب التملك للمال.

أما في الصوم؛ فإنه كما جاء في الحديث السابق:(يَدَعُ شَهْوَتَهُ وَطَعَامَهُ مِنْ أجْلِي). وهذه الجملة مُسْتَأنَفَةٌ لبيان علة الحكم -وهو اختصاص الله بثواب الصوم-؛ فيتضاعف الأجر باجتماع أجور كل شهوة من الشهوات التي تركها الصائم، ولا يقدر على إحصاء ذلك إلا الله سبحانه.

وقد يقال: إن في الصلاة تركاً لكل الشهوات تماماً كالصيام، والجواب أن هناك فرقاً في المدة، فالصلاة لا تستغرق أكثر من دقائق معدودة؛ فلا يعاني المصلي من فقد الطعام والشراب، أما الصيام فيستغرق اليوم كله.

ثالثاً:روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال:(الصَّومُ نِصْفُ الصَّبْرِ)رواه أحمد وابن ماجه والترمذي وحسَّنه. والصبر ثلاثة أنواع:صبر على أداء العبادات، وصبر عن محارم الله، وصبر على الابتلاءات.

وتجتمع هذه الأنواع الثلاثة في الصوم؛ ففي الصوم صبر على أداء عبادة، وصبر عما حرم الله من الشهوات، وصبر على ما يحصل فيه للصائم من جوع وعطش؛ فالصيام يجمع كل أنواع الصبر؛ لذلك كان الصوم من الصبر، والله تعالى يقول:(إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسَابٍ) الزمر/10. ومن معاني (بِغَيْرِ حِسَابٍ):الأجر والثواب العظيم. وقد تحصَّل للإنسان عن طريق الصيام.

رابعاً:الصوم مدرسة يتم فيها إعداد الإنسان للمستقبل، ومن يدخل هذه المدرسة يكون في نيته الصلاح والالتزام في اللحظة الحالية، والصلاح والالتزام في المستقبل؛ فهو يحمل نية للحظة الحالية، ونية متجهة للمستقبل؛ لذلك يستحق الأجر والثواب على نيته الحالية والمستقبلية؛ فيكون أجر الصيام الحالي شاملاً ثواب النية والعزيمة المستقبلية التي يريد أن يقوم بها الصائم، وهذه العزيمة والنية لا يُقدِّرها إلا الله، ولا يعلم صدقها إلا الله؛ فكان ثوابها من اختصاصه سبحانه.

خامساً:الصيام فيه ربط للحلال والحرام مع الزمن؛ فما كان بالأمس حلالاً أصبح الآن حراماً، وما كان قبل دقائق حراماً صار مع أذان المغرب حلالاً، وفي ذلك قمة الاستسلام والخضوع لله عز وجل.

فالصائم يترك شهواته بالنهار طاعةً لله عز وجل، ويبادر إليها بالليل طاعةً أيضاً، فما تركها ولا عاد إليها إلا استجابة لأمر الله؛ فهو مطيع له في الحالين، ومن كان هذا حاله؛ فإنه يرجى له الثواب العظيم عند الله تعالى، وأن يكون ممن يقال لهم:(كُلُوا وَاشْرَبُوا هَنِيئًا بِمَا أَسْلَفْتُمْ فِي الْأَيَّامِ الْخَالِيَةِ) الحاقة/24.