لقاء مجلة "منار الإسلام" مع سماحة المفتي العام

الكاتب : سماحة الدكتور نوح علي سلمان رحمه الله

أضيف بتاريخ : 11-10-2009


 

فضيلة العلامة الدكتور نوح بن علي بن سلمان القضاة، فقيه شافعي المذهب، عرفناه في الإمارات العربية المتحدة أحد أعلام الفقه والفكر على السواء، وسطع نجمه وعلا شأنه بين علماء الشؤون الإسلامية والأوقاف، والقضاء الشرعي، وكليات الشريعة والقانون في الإمارات في مدة لم تتجاوز السنوات الثلاث، هي مدة انتدابه لتأسيس دار الفتوى، وكان خلال هذه المدة مرجعاً مرموقاً في الفقه والفتوى، ومناهج التدريس الجامعي لما اكتسبه من توفيق رباني وخبرة وتواضُع للحق وورع قلَّ نظيره بين الأقران..

عرفته شخصياً عن قرب في المباحثات العلمية فكان التأصيل له مذهباً والتحقيق دأباً، فبدا لي ولأمثالي من الباحثين صبيب الفكر صيِّب النظر، ينزع عن فقاهة أصولية راسخة مقدّرة، ولذا لم يكن مستغرباً أن تستأثر المملكة الأردنية بهذه الشخصية العلمية الوقورة من أبنائها، وأن يقلّده العاهل الأردني منصب المفتي العام للمملكة بدرجة وزير، وهو لا يزال عندنا في بلده الثاني الإمارات العربية المتحدة، يقوم بمهامه في إدارة الفتوى بدائرة القضاء الشرعي، ويشارك إخوانه علماء الهيئة العامة للشؤون الإسلامية والأوقاف، هموم الدعوة إلى الله سبحانه بالحكمة والموعظة الحسنة ويسهم معهم في تنظيم المؤتمرات والندوات والدراسات الإسلامية.

وكان لا بد أن يستجيب لأمر لم يتطلع إليه، ولم تستشرفه نفسه، فودّعته الإمارات وداع دولة تحترم عُلماء الشرع وتحتفي بمكانتهم، فقلّده صاحب السمو الشيخ خليفة بن زايد آل نهيان رئيس الدولة حفظه الله وسام الاستقلال من الطبقة الأولى، وقام بتقليده إيّاه الفريق أول سمو الشيخ محمد بن زايد آل نهيان ولي عهد أبو ظبي نائب القائد الأعلى للقوات المسلحة.

كما ودّعه أعيان البلاد وعلماؤها بما يليق ومكانته السامية لديهم، وقد نشرنا في العدد السابق بعض مظاهر الحفاوة والتوديع، ولم يبقَ إلا أن تتقدم إلى سماحته أسرة تحرير مجلة «منار الإسلام» بالتهنئة له والدعاء لسماحته أن يكون له المولى سبحانه ولياً وظهيراً ومؤيداً، فمثله من يزيد المنصب مكانة ومصداقية بعون الله.

ولإلقاء مزيد من المعلومات فإن مجلة «منار الإسلام» التقت سماحة الشيخ فدار بينه وبين المحرر ما يلي:

 

* من هو الدكتور نوح القضاة؟

الحمد لله رب العالمين وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.

أشكر إخواني أسرة تحرير مجلة «منار الإسلام» على تهنئتهم الصادقة بالثقة الغالية التي منحني إياها ولاة الأمور في كلٍّ من المملكة الأردنية الهاشمية ودولة الإمارات العربية المتحدة الشقيقة، وأعتبر الوسام الذي قلّدني إياه صاحب السمو الشيخ خليفة بن زايد آل نهيان رئيس دولة الإمارات العربية المتحدة حفظه الله بيد ولي عهده الأمين نائب القائد الأعلى للقوات المسلحة صاحب السمو الشيخ محمد بن زايد آل نهيان، وساماً إلى كل زملائي العلماء في كلٍّ من الهيئة العامة للشؤون الإسلامية والأوقاف، وزملائي في دائرة القضاء الشرعي، فإنما أنا واحد منهم.

كما أعتبر المنصب الذي كُلِّفت به في المملكة الأردنية الهاشمية تكريماً لكل زملائي لعلماء الذين التزموا طريق بيان الأحكام الشرعية بأصالة وموضوعية؛ فإن رفع مرتبة المفتي إلى مرتبة وزير، هو وضع الأشياء في موضعها الصحيح، لأن الوزير هو الذي يحمل عبئاً عن ولي الأمر في جانب من جوانب الولاية العامة، وبيان الحكم الشرعي من أهم الواجبات.

لذا أشكر ولاة الأمور في البلدين الشقيقين وأستعين بالله على حمل مسؤولية لم يكن لي بها يد ولا ود، وقد وعد رسول الله صلى الله عليه وسلم من تولى الأمور العامة من غير طلب لها بالعون من الله عز وجل.

وأما ما سألتم عنه فإني أجيب عنه بحسب ما يسمح به المقام، فأنا الفقير إلى الله عز وجل: نوح بن الشيخ علي بن سلمان، من عشيرة القضاة في جبل عجلون في الأردن، ولدت عام 1939م، في قرية عين جنة، وكان والدي رحمه الله قد ذهب إلى دمشق عام 1927م وتلقى العلم عن الشيخ الولي الصالح الشيخ علي الدقر، الذي أسس الجمعية الغراء في دمشق، لنشر العلم الشرعي في أيام كان المستعمر الفرنسي فيها يحكم سوريا، واستطاع رحمه الله هو وتلاميذه أن ينشروا العلم الشرعي في دمشق خاصة، وسوريا والأردن ولبنان عامة.

وكان والدي رحمه الله فقيهاً متمكِّناً يرجع إليه أهل جبل عجلون في الفتوى، وكان يشجعنا على طلب العلم الشرعي، فذهبت إلى دمشق عام 1954م والتحقت بمعهد العلوم الشرعية التابعة للجمعية الغراء، وأتممت في دمشق الدراسة الإعدادية والثانوية الشرعية، وتخرجت من كلية الشريعة في دمشق عام 1965م، وقد سبقني في طلب العلم الشرعي في دمشق أخي الشيخ محمد رحمه الله وتبعني أخواي الشيخ هود والشيخ زكريا مد الله في عمريهما.

 

*ما الوظائف التي قمت بها في المملكة والتي منها انطلقت خبرتك في فهم الحياة؟

التحقت عام 1965م بالقوات المسلحة الأردنية مرشداً دينياً برتبة ملازم أول، وفي عام 1973م أصبحت مفتياً للقوات المسلحة حتى عام 1992م، حيث وصلت إلى رتبة لواء، وخلال هذه الفترة حصلت على درجة الماجستير في الفقه المقارن من جامعة الأزهر خلال بعثة دراسية من عام 1977- 1980م، ثم حصلت على درجة الدكتوراه في الفقه المقارن من جامعة الإمام محمد بن سعود في الرياض عام 1986م.

ثم عُينت قاضياً للقضاة عام 1992م، فأمضيت في هذا المنصب عاماً اطّلعت خلاله على واقع القضاء في المحاكم الشرعية وسعيت إلى النهوض به، ثم استقلت عام 1993م.

ودرّست في جامعتي اليرموك وجرش في كليتي الشريعة لمدة عامين، واطلعت على واقع التعليم في كلِّيات الشريعة، وبعدها عُينت سفيراً للملكة الأردنية الهاشمية في طهران من عام 1996م حتى عام 2001م واطّلعت خلالها على طبيعة التدريس في المعاهد الشرعية في إيران ويسمّونها (الحوزات العلمية)، وعلى تنظيم هذه الحوزات والدرجات العلمية فيها.

ثم قدمت إلى الإمارات العربية المتحدة من عام 2004م إلى 2007م، لتأسيس هيئة للإفتاء فيها، حيث إنني الآن عُيّنت مفتياً للمملكة الأردنية الهاشمية بداية من تاريخ 28/2/2007م وذلك أثناء وجودي في دولة الإمارات العربية المتحدة.

إن التقلُّب في هذه المناصب العلمية لم يكن بترتيب مني لكنه ترتيب رب العالمين، وقد اطلعت خلاله على واقع الأمة الإسلامية من عدّة نواحٍ لا تتاح إلا لِمن جال مثل هذه الجولة.

وقد أدركت في وقت مبكر أن ما تحتاج إليه الأمة الإسلامية لا يمكن أن يحققه شخص ولا جماعة وأن غاية ما يطلب شرعاً من المسلم أن يبذل ما في وسعه لخدمة أمته، قال الله تعالى: ﴿لا يكلف الله نفساً إلا وسعها﴾ البقرة/276.

فإذا قام كل مسلم بما عليه على أفضل وجه يستطيعه في حقل تخصص تحقق للأمة ما تصبو إليه وإلا فقد أبرأ المحسن ذمته أمام الله ولا يسأل بعدها عن حال الأمة.

وإن من أسوأ ما تُبتلى به الأمة داء الاتكال على الآخر فيلقي كل واحد بالمسؤولية على غيره ولا يعمل، فتظل الأمة عاجزة متخلفة لأن مجموع الأصفار صفر في علم الحساب، ولقد بذلك أينما حللت جهدي والله المستعان، وكنت وما زلت أحسن الظن بكل مسلم فأعد حسناته وأتجاوز عن نقائصه، لأن البشر لم يكمل منهم إلا الأنبياء، ولذا كنت ألقى المسلمين بالمحبة وأعاملهم بالتفاؤل، فوجدت منهم أيضاً المحبة والتعاون أو المجاملة على الأقل، والحياة فرصة متناقصة يجب على المسلم أن يغتنم كل أوقاتها بما ينفعه عند الله عز وجل.

 

*ما المهام التي انتدبتم لها في دولة الإمارات العربية المتحدة خلال الفترة السابقة؟

قدمت إلى دولة الإمارات العربية المتحدة بتاريخ 28/3/2004م من أجل تأسيس هيئة اتحادية للإفتاء، على أن تكون مرجعاً لدار الإفتاء في كل إمارات الدولة، وعملت على ذلك، وخلال هذه الفترة كنت أُجيب عن الأسئلة التي تُوجَّه إلي خطياً وهاتفياً وشفوياً، وأشارك في إعداد خطب الجمعة، وأدرس في حلقات علمية فقهية وتربوية، وفي ندوات تلفزيونية (برنامج: وذَكِّرْ).

وأما هيئة الإفتاء فلم يتم تشكيلها وعسى أن يكون خيراً، ولم أسال عن السبب لأن الضيف ليس له أن يسأل عمّا وراء الباب، مع أنّ نظام الهيئة وضع والفكرة العامة عنها واضحة، وأتمنى أن ينفذ المشروع كما كان مقرراً له.

وقد تعرفت خلال هذه الفترة التي امتدت ثلاث سنوات على عدد كبير من أهل العلم والفضل لا يُنسون أبداً، سواء أكانوا من مواطني شعب الإمارات الطيب أم من الوافدين المقيمين على أرض الإمارات الخيرة، وأخصُّ في المقدمة إخواني في الهيئة العامة للشؤون الإسلامية والأوقاف وإخواني في دائرة القضاء الشرعي.

 

*ما المهام التي تُناط بالمفتي العام في المملكة الأردنية عادةً؟

يُعتبر المفتي العام، هو المرجع للناس فيما يسألون عنه من أمور دينهم، وإذا تذكّرنا أنّ الإسلام يشمل نواحي الحياة كافة لأدركنا مدى تحمِّل العبء الذي يقع على عاتق المفتي، علماً بأن المفتي العام يكون إلى جانبه مجلس إفتاء يجتمع عند الحاجة لتبيان الحُكم الشرعي في الأمور التالية:

- القضايا المستجدة، مثل حُكم نقل الأعضاء.

- القضايا التي تعُمّ المجتمع، مثل حكم تحديد عدد الحجّاج من كل قُطر، نظراً إلى كثرة الزِّحام في موسم الحج.

- القضايا التي تُحال من الجهات والهيئات الرسمية مثل حُكم الضمان الاجتماعي.

وقد شاركت في هذا المجلس سنوات عديدة يوم كنت مفتياً للقوات المسلحة، أما بقية الأمور فلا حجر على أهل العلم في أن يُبيِّنوا حُكمها للناس، حيث إنّ الأئمة والوعّاظ وأساتذة كلِّيات الشريعة يُسأَلُون ويُجيبُون (بارك الله فيهم أجمعين).

 

*ماذا يريد الشيخ نوح المفتي العام من دوائر الفتوى في العالم الإسلامي؟

لا يوجد في الإسلام مفتٍ رسمي ومفتٍ شعبي، بل كلٌّ طالب علم مُتفقِّه يستطيع أن يُفتي فيما يعرف حُكمه ممّا يسأل عنه الناس، لكن وجود هيئات إفتاء رسمية يُعتَبَر من باب تنظيم شؤون الرعيّة، ليعرف المواطن مَن يسأل إذا عُرضت عليه قضية ما أو واجهته قضية ما، وأتمنّى من هيئات الإفتاء الرسمية إن صحَّ التعبير، أن يكون بينهم تعاون وترابُط من أجل توحيد الفتوى في الأمور العامة، حيث إنّ الدِّين الإسلامي واحد، والأمة الإسلامية واحدة، وقد جرت عادة العلماء في السابق أن يتباحَثُوا في المسائل التي تُطرَح عليهم، وعسى الله عز وجل، أن نُوفق جميعاً إلى تشكيل مجلس للإفتاء في العالم الإسلامي، أو مجلس إفتاء قُطْري للبلدان الإسلامية، التي تتشابه فيها وجوه الحياة اليومية، والله المستعان.

 


 

([*]) هذا المقال نشر في العدد (390)، السنة (33)