دروس من الهجرة النبوية الشريفة

الكاتب : المفتي الدكتور لؤي الصميعات

أضيف بتاريخ : 26-07-2023


دروس من الهجرة النبوية الشريفة

الهجرة النبوية، هي ذلك الحدث الذي يحتفل به المسلمون كل عام في الأول من محرم، وهو أول شهر في التقويم الهجري الإسلامي، وتعتبر الهجرة من أهم الأحداث في تاريخ الإسلام والمسلمين؛ لأنها تشكل بداية التقويم الهجري.

الهجرة تشير إلى الانتقال الذي قام به النبي محمد صلى الله عليه وسلم وأصحابه من مكة إلى المدينة المنورة في العام 622 ميلادي، وقد وقعت الهجرة بسبب الاضطهاد والضغوط التي واجهها المسلمون من قبل المشركين في مكة المكرمة، وبهذا الحدث تأسست المدينة المنورة كمركز إسلامي، وبدأت الدولة الإسلامية في التكوين.

الهجرة حدث وقعت فيه الكثير من الدروس والعبر والتضحيات، وتحتفل غالبية الأمة الإسلامية بهذا الحدث بطرق مختلفة في مختلف البلدان، حيث يتم قراءة القرآن الكريم، والأدعية، وتلقى الخطب والدروس والمحاضرات التي تسلط الضوء على أهمية الهجرة ودروسها ومعانيها.

تُعد الهجرة أيضًا فرصة كبيرة للمسلمين لإعادة النظر إلى حياتهم وتقييمها، وتحديد الأهداف والتوجهات الجديدة للسنة الهجرية الجديدة، والتفكر في التحديات والتحولات التي يمكن أن تواجه المسلمين في العام الجديد.

أحداث الهجرة مليئة بالدروس والعبر التي يمكن للمسلمين الاستفادة منها، ومن هذه الدروس:

الدرس الأول:  ينبغي على المسلمين أن يعلموا أن أعداء الأمة دائماً يفكرون ويخططون من أجل القضاء على هذا الدين وأهله، فها هي قريش لما علمت أن الأنصار بايعوا رسول الله صلى الله عليه وسلم على الموت نصرة له ولدينه صلى الله عليه وسلم جن جنونها، وأعلنت حالة الطوارئ، وعقدت اجتماعاً برلمانياً في دار الندوة حضره كبراؤهم ليقرروا ما يفعلون، فعن ابن عباس رضي الله عنه قال: "لما عرفت قريش أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد كانت له شيعة، وأصحاب من غير بلدهم، ورأوا خروج أصحابه من المهاجرين إليهم، عرفوا أنهم قد نزلوا دارا أصابوا منهم منعة، فحذروا خروج رسول الله صلى الله عليه وسلم، فاجتمعوا له في دار الندوة، وهي دار قصي بن كلاب، التي كانت قريش لا تقضي أمرا إلا فيها، فيتشاورون فيها ما يصنعون من أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم حين خافوه" [دلائل النبوة لأبي نعيم الأصبهاني/ ص201]. و"بعد أن تكامل الاجتماع بدأ عرض الاقتراحات والحلول، ودار النقاش طويلا. قال أبو الأسود: نخرجه من بين أظهرنا وننفيه من بلادنا، ولا نبالي أين ذهب، ولا حيث وقع، فقد أصلحنا أمرنا وألفتنا كما كانت. قال الشيخ النجدي: لا والله ما هذا لكم برأي، ألم تروا حسن حديثه، وحلاوة منطقه، وغلبته على قلوب الرجال بما يأتي به؟ والله لو فعلتم ذلك ما أمنتم أن يحل على حي من العرب، ثم يسير بهم إليكم- بعد أن يتابعوه- حتى يطأكم بهم في بلادكم، ثم يفعل بكم ما أراد، ويروا فيه رأيا غير هذا. قال أبو البختري: احبسوه في الحديد، وأغلقوا عليه بابا، ثم تربصوا به ما أصاب أمثاله من الشعراء الذين كانوا قبله- زهيرا والنابغة- ومن مضى منهم من هذا الموت، حتى يصيبه ما أصابهم. قال الشيخ النجدي: لا والله ما هذا لكم برأي، والله لئن حبستموه- كما تقولون- ليخرجن من أمره من وراء الباب الذي أغلقتم دونه إلى أصحابه، فلأوشكوا أن يثبوا عليكم، فينزعوه من أيديكم، ثم يكاثروكم به. حتى يغلبوا على أمركم. ما هذا لكم برأي، فانظروا في غيره. وبعد أن رفض البرلمان هذين الاقتراحين قدم إليه اقتراح آثم وافق عليه جميع أعضائه، تقدم به كبير مجرمي مكة أبو جهل بن هشام. قال أبو جهل: والله إن لي فيه رأيا ما أراكم وقعتم عليه بعد، قالوا: وما هو يا أبا الحكم؟ قال: أرى أن نأخذ من كل قبيلة فتى شابا جليدا نسيبا وسيطا فينا، ثم نعطي كل فتى منهم سيفا صارما، ثم يعمدوا إليه، فيضربوه بها ضربة رجل واحد، فيقتلوه، فنستريح منه، فإنهم إذا فعلوا ذلك تفرق دمه في القبائل جميعا، فلم يقدر بنو عبد مناف على حرب قومهم جميعا، فرضوا منا بالعقل، فعقلناه لهم. قال الشيخ النجدي: القول ما قال الرجل، هذا الرأي الذي لا أرى غيره. ووافق برلمان مكة على هذا الاقتراح الآثم بالإجماع، ورجع النواب إلى بيوتهم، وقد صمموا على تنفيذ هذا القرار فورا" [سيرة ابن هشام 1/ 482، الرحيق المختوم للمباركفوري/ ص144]، وفي هذا أنزل الله تعالى قوله: {وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِيُثْبِتُوكَ أَوْ يَقْتُلُوكَ أَوْ يُخْرِجُوكَ وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ} [الأنفال: 30].

الدرس الثاني: أنه يجب على المسلمين أن يأخذوا بالأسباب، ثم يتوكلون على الله تعالى، مع العلم بأن الأسباب لا تضر ولا تنفع إلا بإذن الله تعالى، فها هو رسول الله صلى الله عليه وسلم يخطط لرحلته تخطيطاً دقيقاً حتى تنجح بإذن الله تعالى ومن الدلائل على هذا: طلب النبي صلى الله عليه وسلم من أبي بكر رضي الله عنه أن يجهز راحلتين، واتخذه صاحباً له في رحلته، وطلب من علي رضي الله عنه أن ينام في فراشه، وسلك طريقاً غير معتاد ، واستأجر رجلاً هادياً خريتا - والخريت: الماهر بالهداية- اسمه عبدالله بن أريقط، وطلب من عامر بن  فهيرة أن يسير بغنمه خلفه؛ ليزيل آثار الأقدام، وكانت أسماء بنت أبي بكر تأتيهما من الطعام إذا أمست بما يصلحهما، وطلب من عبدالله بن أبي بكر أن يكون عيناً على قريش. [سيرة ابن هشام 1/ 485، دلائل النبوة لأبي نعيم/ ص327].

الدرس الثالث: أن المسلم ينبغي عليه أن يكون على إيمان ويقين عظيم بالله تعالى، وثقة كاملة بعون الله ومعيته له، ونصرته له، حتى في أصعب الظروف.

روى البخاري عن أنس عن أبي بكر رضي الله عنه قال: "كنت مع النبي صلى الله عليه وسلم في الغار، فرفعت رأسي، فإذا أنا بأقدام القوم، فقلت: يا نبي الله لو أن بعضهم طأطأ بصره رآنا. قال: (اسكت يا أبا بكر، اثنان الله ثالثهما)، وفي لفظ: (ما ظنك يا أبا بكر باثنين الله ثالثهما)" [صحيح البخاري برقم (3922)(3653)]. وفي هذا يقول الله تعالى: {إِلَّا تَنْصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ اللَّهُ إِذْ أَخْرَجَهُ الَّذِينَ كَفَرُوا ثَانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ هُمَا فِي الْغَارِ إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لَا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا فَأَنْزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَيْهِ وَأَيَّدَهُ بِجُنُودٍ لَمْ تَرَوْهَا وَجَعَلَ كَلِمَةَ الَّذِينَ كَفَرُوا السُّفْلَى وَكَلِمَةُ اللَّهِ هِيَ الْعُلْيَا وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ} [التوبة: 40].

ولما كانا في الطريق تبعهما سراقة بن مالك، فقال أبو بكر رضي الله عنه: أتينا يا رسول الله، فقال: (لا تحزن إن الله معنا) [صحيح البخاري (3652)].

بهذا يوقن المسلم في تعامله مع جميع الناس حتى مع العدو، فإن الله تعالى معه ما دام هو مع الله تعالى ويعيش من أجل الله تعالى.

الدرس الرابع: أن المسلم ينبغي له أن يتخذ صاحباً يكون صالحاً صادقاً.

لا شك أن الصاحب له تأثير كبير وخطير على صاحبه يقول النبي صلى الله عليه وسلم: (المرء على دين خليله، فلينظر أحدكم من يخالل) [مسند أحمد برقم (8417)]؛ لذلك على المسلم أن يختار لنفسه الصحبة الصالحة التي تعينه على طاعة الله تعالى وتبعده عن معصيته، وإلا فالهلاك والندم، يقول الله تعالى: {وَيَوْمَ يَعَضُّ الظَّالِمُ عَلَى يَدَيْهِ يَقُولُ يَا لَيْتَنِي اتَّخَذْتُ مَعَ الرَّسُولِ سَبِيلًا* يَا وَيْلَتَى لَيْتَنِي لَمْ أَتَّخِذْ فُلَانًا خَلِيلًا* لَقَدْ أَضَلَّنِي عَنِ الذِّكْرِ بَعْدَ إِذْ جَاءَنِي وَكَانَ الشَّيْطَانُ لِلْإِنْسَانِ خَذُولًا} [الفرقان: 27 - 29].

وفي الهجرة؛ روى البخاري عن أم المؤمنين عائشة رضي الله عنه أنها قالت: لما أذن له في الخروج إلى المدينة، لم يرعنا إلا وقد أتانا ظهرا، فخبر به أبو بكر، فقال: ما جاءنا النبي صلى الله عليه وسلم في هذه الساعة إلا لأمر حدث، فلما دخل عليه قال لأبي بكر: (أخرج من عندك)، قال: يا رسول الله إنما هما ابنتاي، يعني عائشة وأسماء، قال: (أشعرت أنه قد أذن لي في الخروج). قال: الصحبة يا رسول الله، قال: (الصحبة)، قال: يا رسول الله، إن عندي ناقتين أعددتهما للخروج، فخذ إحداهما، قال: (قد أخذتها بالثمن) [صحيح البخاري (2138)].

وعن عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال: "لقد خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم ليلة انطلق إلى الغار ومعه أبو بكر رضي الله عنه، فجعل يمشي ساعة بين يديه وساعة خلفه، حتى فطن له رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: يا أبا بكر مالك تمشي ساعة بين يدي وساعة خلفي؟ فقال: يا رسول الله أذكر الطلب، فأمشي خلفك، ثم أذكر الرصد فأمشي بين يديك، فقال: يا أبا بكر لو كان شيء أحببت أن يكون لك دوني؟ قال: نعم، والذي بعثك بالحق ما كانت لتكن من ملمة إلا أحببت أن تكون لي دونك". [دلائل النبوة للبيهقي 2/ 476].

لما انتهيا إلى العار قال أبو بكر رضي الله عنه: "والله لا تدخله حتى أدخل قبلك فإن كان فيه شيء أصابني دونك، فدخل فكسحه ووجد في جانبه ثقبا فشق إزاره وسدها به، وبقي منها اثنان فألقمها رجليه، ثم قال لرسول الله صلى الله عليه وسلم: ادخل، فدخل رسول الله صلى الله عليه وسلم ووضع رأسه في حجره ونام، فلدغ أبو بكر في رجله من الجحر ولم يتحرك مخافة أن ينتبه رسول الله صلى الله عليه وسلم، فسقطت دموعه على وجه رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: (ما لك يا أبا بكر؟) قال: لدغت فداك أبي وأمي، فتفل رسول الله صلى الله عليه وسلم، فذهب ما يجده" [مشكاة المصابيح 3/ 1700].

هذه هي الصحبة التي يريدها الإسلام أن تكون بين المسلمين، صحبة تقوم على المحبة الصادقة، الخالصة لوجه الله تعالى في معاملة الآخرين بالإيثار على النفس، والتفاني في الخدمة.

وفي الختام: الهجرة هجرتان؛ هجرة من بلاد الكفر إلى بلاد الإسلام، عندما يخاف المسلم على دينه أن يفتنه الكفار، وفيها يقول النبي صلى الله عليه وسلم: (لا تنقطع الهجرة حتى تنقطع التوبة، ولا تنقطع التوبة حتى تطلع الشمس من مغربها)[1] [سنن أبي داود، برقم (2479)].

وهجرة من المعصية إلى الطاعة، وفيها يقول النبي صلى الله عليه وسلم: (المسلم من سلم المسلمون من لسانه ويده، والمهاجر من هجر ما نهى الله عنه) [صحيح البخاري برقم (10)]. ومن هنا ينبغي على المسلم أن يهجر السيئات وأن يأخذ بمقومات الإصلاح؛ لرفع شأن الأمة وإعادة العزة والكرامة لها في هذا الزمان.

وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين

 

 

 


[1] - ظاهر الحديث قد يتعارض مع ظاهر حديث (لا هجرة بعد الفتح)، فقد جاء في [عمدة القاري شرح صحيح البخاري 1/ 29]: "وفق الخطابي بين هذه الأحاديث بأن الهجرة كانت في أول الإسلام فرضا ثم صارت بعد فتح مكة مندوبا إليها غير مفروضة، قال: فالمنقطعة منها هي الفرض والباقية منها هي الندب.. قلت: وفي الحديث الآخر ما يدل على أن المراد بالهجرة الباقية هي هجر السيئات".