صم ولا تبغ في صيامك

الكاتب : المفتي الدكتور أحمد الكساسبة

أضيف بتاريخ : 26-04-2022


صم ولا تبغ في صيامك

الحمد لله وحده، والصلاة والسلام على من لا نبي بعده، عليه وعلى آله وصحبه أجمعين، وبعد:

شهر رمضان منحة ربانية للعباد، فهو موسم عظيم للطاعات، فيه تُضاعف الأجور وتتهيأ الأسباب للاجتهاد في العمل الصالح، كيف لا! وهو شهر صفدت فيه مردة الشياطين عن الوسوسة للعباد، وفتحت فيه أبواب الجنة، وغلقت فيه أبواب النار، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إِذَا جَاءَ رَمَضَانُ فُتِّحَتْ أَبْوَابُ الْجَنَّةِ، وَغُلِّقَتْ أَبْوَابُ النَّارِ، وَصُفِّدَتِ الشَّيَاطِينُ) رواه مسلم.

وقد عرف الصالحون ذلك فكان شعارهم اغتنام كل لحظة من نهار رمضان وليله بالعمل الصالح، والصيام بما فيه من الشعور بالجوع والعطش يولد لدى العبد الشعور بالانكسار والخشوع فتجد هذا الجو ملائماً للإقبال على الطاعات.

فلو تأملنا قول النبي صلى الله عليه وسلم: (مَا مَلَأَ آدَمِيٌّ وِعَاءً شَرًّا مِنْ بَطْنٍ. بِحَسْبِ ابْنِ آدَمَ أُكُلَاتٌ يُقِمْنَ صُلْبَهُ، فَإِنْ كَانَ لَا مَحَالَةَ فَثُلُثٌ لِطَعَامِهِ وَثُلُثٌ لِشَرَابِهِ وَثُلُثٌ لِنَفَسِهِ) رواه الترمذي وقال عنه: "حديث حسن صحيح" لوجدنا أن النبي صلى الله عليه وسلم قد أرشد إلى الاعتدال في الشبع وعدم الإسراف في الطعام والشراب لما له من نتائج سلبية على نشاط وهمة العبد في العبادة.

يقول الإمام الغزالي رحمه الله تعالى: "في الجوع عشر فوائد: الفائدة الأولى صفاء القلب، وإيقاد القريحة، وإنفاذ البصيرة، فإن الشبع يورث البلادة، ويعمي القلب،... والفائدة الخامسة وهي من أكبر الفوائد كسر شهوات المعاصي كلها، والاستيلاء على النفس الأمارة بالسوء، فإن منشأ المعاصي كلها الشهوات والقوى، ومادة القوى ]قوة البدن[ والشهوات لا محالة الأطعمة، فتقليلها يضعف كل شهوة وقوة، وإنما السعادة كلها في أن يملك الرجل نفسه، والشقاوة في أن تملكه نفسه، وكما أنك لا تملك الدابة الجموح إلا بضعف الجوع فإذا شبعت قويت وشردت وجمحت فكذلك النفس كما قيل لبعضهم ما بالك مع كبرك لا تتعهد بدنك". [إحياء علوم الدين (3/85)].

ومن ذلك قول لقمانُ الحكيم مخاطباً ابنه: "يا بني، إذا امتلأت المعدة، نامت الفكرة، وخرَسَتِ الحكمة، وقعَدَتِ الأعضاءُ عن العبادة". [آداب الأكل للأقفهسي الشافعي (1/25)].

ولكن يلاحظ أنّ بعض الصائمين قد يغفل عن هذه المعاني فيسرف في التحضير للأكل والشرب، بل يشغل غيره معه في هذا الأمر، فتجده يطلب من أهل بيته اصنعوا كذا وكذا، وأريد كذا وكذا فإني صائم، فيكون شغله الشاغل التحضير للطعام والشراب، وتحميل غيره المنة بأنه صائم، بل إن بعض الصائمين قد يولد الخلافات في الأسرة حول التجهيز والإعداد لمائدة الإفطار، وهذا من البغي في الصيام كما وصفه الإمام الحسن البصري رحمه الله تعالى، حيث قال: "صم ولا تبغ في صومك" قيل: وما بغيي في صومي؟ قال: "أن يقول الرجل: ارفعوا لي كذا، ارفعوا لي كذا، فإني أريد الصوم غدا" [الزهد والرقائق لابن المبارك (1/219)].

والبغي هنا -كما بيّن علماء اللغة-: "كل مجاوزة في الحدّ وإفراط على المقدار الذي هو حدّ الشيء، فهو بغي" [مختار الصحاح للرازي، مادة بغي].

فإذا كان التوجيه النبوي للمسلم بتقليل الطعام والشراب متأكداً في غير رمضان، فهو في رمضانَ أشدُّ تأكُّدًا؛ حتى لا تثقُلَ المعدة فيثقل الجسد عن العمل الصالح كقيام الليل.

والمسلم يحرص على اغتنام أوقاته في رمضان بالطاعات، ويعين أهل بيته كذلك على الطاعة، فينال الأجر من الله تعالى، وفي هذا المعنى يقول الإمام الغزالي رحمة الله تعالى عند ذكر الفائدة السابعة من فوائد الجوع: "الفائدة السابعة: تيسير المواظبة على العبادة فإن الأكل يمنع من كثرة العبادات؛ لأنه يحتاج إلى زمان يشتغل فيه بالأكل وربما يحتاج إلى زمان في شراء الطعام وطبخه، ثم يحتاج إلى غسل اليد والخلال، ثم يكثر ترداده إلى بيت الماء لكثرة شربه، والأوقات المصروفة إلى هذا لو صرفها إلى الذكر والمناجاة وسائر العبادات لكثر ربحه، قال السري: رأيت مع علي الجرجاني سويقاً يستف منه فقلت: ما حملك على هذا قال: إني حسبت ما بين المضغ إلى الاستفاف سبعين تسبيحة فما مضغت الخبز منذ أربعين سنة، فانظر كيف أشفق على وقته ولم يضيعه في المضغ وكل نفس من العمر جوهرة نفيسة لا قيمة لها، فينبغي أن يستوفى منه خزانة باقية في الآخرة لا آخر لها وذلك بصرفه إلى ذكر الله وطاعته" [إحياء علوم الدين (3/87)].

ولذا كان حرياً بالصائم أن يكون كيساً فطناً مغتنماً لوقته بالطاعات، ومعيناً لغيره على ذلك، راجياً من الله تعالى أن يكون ممن صام رمضان إيماناً واحتساباً للأجر، ومن الداخلين من باب الريان.

وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.