المولد المنتظر

الكاتب : عطوفة الأمين العام الدكتور أحمد الحسنات

أضيف بتاريخ : 18-10-2021


المولد المنتظر

لم تكن ولادة سيدنا رسول الله محمد بن عبد الله صلى الله عليه وسلم ولادة عادية، لشخصية عادية، بل كانت ولادته ولادة نبي انتظرته البشرية كلها، فما من نبي ولا رسول إلا وبُشر به صلى الله عليه وسلم وأخذ العهد على قومه بأن يؤمنوا به وبنبوته، فهو النبي المنتظر الذي كان يرتقبه كل الأمم السابقة، فاليهود والنصارى ينتظرون مبعثه صلى الله عليه وسلم بكل شوق، بل أنهم كانوا على علمٍ مسبقٍ بيوم مولده وبكل صفاته وخصاله، وفي الساعة التي تشرف الكون بحضوره صلى الله عليه وسلم أشرق النور على الأرض كلها وعم السلام والطمأنينة أرجاء المعمورة فعلم أهل الكتاب في تلك الليلة بميلاد النبي المنتظر.

وقد كان قدوم اليهود إلى المدينة المنورة قبل مبعث النبي صلى عليه وسلم من اليمن، لعلمهم بأن هذا هو مكان النبي الذي ينتظرون، وكانوا يعلمون أبنائهم واتباعهم ويخبرون الناس من غير اليهود بهذه المعلومات، بل كانوا يهددون العرب بأنهم سيقتلونهم مع نبي آخر الزمان المنتظر، روى أبو نعيم في [دلائل النبوة] عَنْ أَبِي نَمْلَةَ، قَالَ: "كَانَتْ يَهُودُ بَنِي قُرَيْظَةَ يَدْرُسُونَ ذِكْرَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي كُتُبِهِمْ، وَيُعَلِّمُونَ الْوِلْدَانَ بِصِفَتِهِ، وَاسْمِهِ، وَمُهَاجَرِهِ إِلَى الْمَدِينَةِ، فَلَمَّا ظَهَرَ حَسَدُوا، وَبَغُوا، وَأَنْكَرُوا"، بل كان اليهود يتوسلون بالنبي صلى الله عليه وسلم ويستنصرون به على مشركي العرب قبل مبعثه، جاء في سيرة ابن هشام: "قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ: حَدَّثَنِي عَاصِمُ بْنُ عُمَرَ بْنِ قَتَادَةَ عَنْ أَشْيَاخٍ مِنْ قَوْمِهِ، قَالَ: قَالُوا: فِينَا وَاَللَّهِ وَفِيهِمْ نَزَلَتْ هَذِهِ الْقِصَّةُ، كُنَّا قَدْ عَلَوْنَاهُمْ ظَهْرًا فِي الْجَاهِلِيَّةِ وَنَحْنُ أَهْلُ شِرْكٍ وَهُمْ أَهْلُ كِتَابٍ فَكَانُوا يَقُولُونَ لَنَا: إنَّ نَبِيًّا يُبْعَثُ الْآنَ نَتَّبِعُهُ قَدْ أَظَلَّ زَمَانَهُ، نَقْتُلُكُمْ مَعَهُ قَتْلَ عَادٍ وَإِرَمَ. فَلَمَّا بَعَثَ اللَّهُ رَسُولَهُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ قُرَيْشٍ فَاتَّبَعْنَاهُ كَفَرُوا بِهِ. يَقُولُ اللَّهُ: {فَلَمَّا جَاءَهُمْ مَا عَرَفُوا كَفَرُوا بِهِ فَلَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الْكَافِرِينَ. بِئْسَمَا اشْتَرَوْا بِهِ أَنْفُسَهُمْ أَنْ يَكْفُرُوا بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ بَغْيًا أَنْ يُنَزِّلَ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ عَلَى مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ فَبَاءُوا بِغَضَبٍ عَلَى غَضَبٍ وَلِلْكَافِرِينَ عَذَابٌ مُهِينٌ} [البقرة: 89، 90].

ومن كان على النصرانية كذلك كان ينتظر مبعث النبي محمد صلى الله عليه وسلم، فهذا قس بن ساعدة وقف في مكة يوماً خطيباً فقال، كما روى أبو نعيم في دلائل النبوة: "سيعلمُ حقٌ من هذا الوجه وأشار بيده إلى مكة، قالوا: وما هذا الحق؟، قال: رجل من ولد لؤي بن غالب، يدعوكم إلى كلمة الإخلاص، وعيش الأبد، ونعيم لا ينفد، فإن دعاكم فأجيبوه، ولو علمت أني أعيش إلى مبعثه، لكنت أول من يسعى إليه...".

ومن الذين كانوا ينتظرون مبعث النبي صلى الله عليه وسلم أيضاً ورقة بن نوفل وقد كان على الحنيفية الإبراهيمية باحثاً عن الحقيقة هو وأصحاب له في مكة، فقد روي أن ورقة بن نوفل، وزيد بن عمرو بن نفيل خرجا يلتمسان الدين حتى انتهيا إلى راهب بالموصل، فقال لزيد بن عمرو بن نفيل: من أين أقبلت يا صاحب البعير؟

قال: من بيت إبراهيم، قال: وما تلتمس؟ قال: ألتمس الدين، قال: ارجع؛ فإنه يوشك أن يظهر الذي تطلب في أرضك.

وفعلا عاد إلى أرض مكة وحصل على شرف اللقاء بالنبي صلى الله عليه وسلم؛ وكان هو من بشر النبي صلى الله عليه وسلم أنه نبي آخر الزمان فعندما عاد النبي عليه الصلاة والسلام من الغار خائفا مرتعدا استدعت سيدتنا خديجة ورقة بن نوفل ليسمع ما حصل للنبي عليه الصلاة والسلام فسمع منه وقال: "أبشر ثم أبشر، ثم أبشر، فإني أشهد أنك الرسول الذي بشر به عيسى برسول يأتي من بعدى اسمه أحمد، فأنا أشهد أنك أنت أحمد، وأنا أشهد أنك محمد، وأنا أشهد أنك رسول الله، وليوشك أن تؤمر بالقتال وأنا حي لأقاتلن معك". فمات ورقة. فقال النبي محمد: "رأيت القس في الجنة عليه ثياب خضر".

إنّ ميلاد النبي صلى الله عليه وسلم كان برعاية من الله تعالى، فالله تعالى الذي أنقذ أباه من الموت والقتل وأهلك من أراد هدم الكعبة في العام الذي ولد فيه صلى الله عليه وسلم، ليكون ذلك توثيقاً لميلاده عند العرب حتى يعرفه الكل، وشاءت إرادة الله تعالى أن يموت أباه وهو ببطن أمه، حتى لا يكون لأحد على رسول الله صلى الله عليه وسلم منة غير منة الله تعالى، وتموت أمه وهو صغير فيتذوق صلى الله عليه وسلم طعم اليتم مرتين، وما ذلك إلا ليتعلق رسول الله صلى الله عليه وسلم بربه ولا يكون تعلقه بأحد غيره وكي يتولى الله رعايته وتربيته {أَلَمْ يَجِدْكَ يَتِيمًا فَآوَى . وَوَجَدَكَ ضَالًّا فَهَدَى. وَوَجَدَكَ عَائِلًا فَأَغْنَى} [الضحى: 6-8]، وقد قال صلى الله عليه وسلم: (أدبني ربي فأحسن تأديبي)، ولله در البوصيري حينما قال:

كفاكَ بالعِلْمِ في الأُمِيِّ مُعْجِزَة ً  ......  في الجاهلية ِ والتأديبِ في اليتمِ

ونفهم من رعاية الله تعالى لنبيه صلى الله عليه وسلم رعايته لأمته من بعده، فقد أكرم الله تعالى هذه الأمة بأن كانت أمة النبي محمد صلى الله عليه وسلم، خير أمة أخرجت للناس، أمة الحق والرحمة والهداية للبشرية جمعاء، أمة ما عرفت على مدار تاريخها الطويل البغي والظلم والعدوان، أمة ممتدة جذورها ونورها من المشرق إلى المغرب، وهذه أثارهم وحضارتهم شاهدة عليهم، فما أحوجنا اليوم ونحن نحيي في نفوسنا مناسبة ميلاد النبي صلى الله عليه وسلم، أن نحيي معاني الرحمة والهداية التي بعث بها رسول الله صلى الله عليه وسلم، لتكون بذلك اهلاً لهذا النبي ويكون مولده حقاً مولد أمة

فإذا كان العالم بأسره قبل مبعثه متشوقاً لقدومه ومبعثه فأمته أولى بذلك، فنحن في كل عام ننتظر يوم مولده لنحتفل به لا انقطاعا عن سيرته طيلة العام ولكن تجديداً للبيعة والانتماء لهذا النبي الذي لولاه لما هدانا الله، فقد جعله الله سبب هدايتنا، وهو صاحب الفضل والمنة علينا وقد أمرنا الله تعالى بأن نظهر الفرح والسرور بكل فضل ونعمة يسديها إلينا وأي نعمة أعظم من نعمة انتسابنا لرسول الله صلى الله عليه وسلم فوالله أن نعمة رسول الله علينا أعظم من نعمة وجودنا فوجودنا لا قيمة ولا معنى له لولا رسول الله، كيف لا وهو سبب هدايتنا وفوزنا في الدنيا والآخرة، كيف لا وهو الذي تعرض عليه أعمالنا فما وجد فيها من خير حمد الله عليها وما وجد فيها من شر أو سوء أو معاصي استغفر لنا الله فقد جاء عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: (إنها تعرض علي أعمالكم، وحياتي خير لكم، وموتي خير لكم، تحدثون ويحدث لكم، وإنها تعرض علي أعمالكم فما وجدت من خير حمدت الله عليه، وما وجدت شر استغفرت لكم).

فنحن عندما نحتفل في مولده ننتظر لقاءه كما انتظره الناس من أصحاب الديانات الأخرى قبل مبعثه، ولكن انتظارنا يختلف عن انتظارهم فنحن أمته ضرب لنا موعد معه صلى الله عليه وسلم عند حوضه الشريف يستقبلنا فرحا بنا فقد قال عليه الصلاة والسلام: (إِنَّ حَوْضِي أَبْعَدُ مِنْ أَيْلَةَ مِنْ عَدَنٍ لَهُوَ أَشَدُّ بَيَاضًا مِنَ الثَّلْجِ، وَأَحْلَى مِنَ الْعَسَلِ بِاللَّبَنِ، وَلَآنِيَتُهُ أَكْثَرُ مِنْ عَدَدِ النُّجُومِ وَإِنِّي لَأَصُدُّ النَّاسَ عَنْهُ، كَمَا يَصُدُّ الرَّجُلُ إِبِلَ النَّاسِ عَنْ حَوْضِهِ) قَالُوا: يَا رَسُولَ اللهِ أَتَعْرِفُنَا يَوْمَئِذٍ؟ قَالَ: (نَعَمْ لَكُمْ سِيمَا لَيْسَتْ لِأَحَدٍ مِنَ الْأُمَمِ تَرِدُونَ عَلَيَّ غُرًّا، مُحَجَّلِينَ مِنْ أَثَرِ الْوُضُوءِ).

والحمد لله رب العالمين