ذكرى الهجرة النبوية

الكاتب : سماحة المفتي العام الشيخ عبد الكريم الخصاونة

أضيف بتاريخ : 09-08-2021


ذكرى الهجرة النبوية ومنطلقات الإصلاح والنهضة

في هذه الأيام المباركة من شهر محرم يتنسم المسلمون في كل مكان عبق نفحات مليئة بالعز والمجد، حيث يستقبلون ذكرى الهجرة النبوية الشريفة التي كانت محطة فارقة في تاريخ الأمة الإسلامية، ويمكن اعتبارها مبدأ استقلالها وصناعة هويتها، وأهم ركن من أركان بناء حضارتها، فالمسلم أراده الله تعالى أن يكون عزيزاً ذو شخصية متميزة وهوية مستقلة ليكون مؤهلاً للقيادة والريادة ونشر قيم الخير والاعتدال والوسطية بين الناس، يقول تعالى: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا} [البقرة: 143]، والهجرة النبوية الشريفة، يمكن اعتبارها مُبتدأ الإخراج الرباني لهذه الأمة للعالمين، فهي ليست أمة عابرة في تاريخ الحضارة، بل هي اختصاص من الله سبحانه وتعالى خرجت وفق إرادته ومشيئته لصلاح الناس وخيرهم، يقودهم خير إنسان وخير نبي سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم، ثم الخلفاء والصالحون من بعده، يقول الله تعالى: {كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ} [آل عمران: 110].

لقد استطاع النبي صلى الله عليه وسلم بناء أمة وحضارة لم تكن العرب تعرفها قبل بعثته صلى الله عليه وسلم، فبعد أن كانت قبائل متناحرة يغزوا بعضها بعضاً، تعبد الأوثان، وتقطع الأرحام، وتبعيتها لغيرها من الدول كالفرس والروم، حاول النبي صلى الله عليه وسلم بعد بعثته أن يصلح أمورهم ويجمع كلمتهم ويوحد شملهم، لكن عندما وجد بأن أرض مكة غير صالحة بعد لزرع بذور الإيمان، وأن قلوب وعقول أبنائها لا زالت كالحجارة الصماء، حينها أذن الله تعالى لنبيه وصحابته بالهجرة والخروج من ديارهم بحثاً عن التربة الصالحة، والأرض الطيبة، رغم أنها كانت أحب بقاع الأرض إلى النبي صلى الله عليه وسلم فكان صلى الله عليه وسلم يقول حين تركها، (مَا أَطْيَبَكِ مِنْ بَلَدٍ، وَأَحَبَّكِ إِلَيَّ، وَلَوْلَا أَنَّ قَوْمِي أَخْرَجُونِي مِنْكِ مَا سَكَنْتُ غَيْرَكِ) سنن الترمذي، ولكن شاءت حكمة الله تعالى أن تكون المدينة المنورة هي الأرض الخصبة لبناء الإيمان والإنسان، وفتح القلوب والعقول، وبناء هوية الأمة الإسلامية وحضارتها.

وقد كان أول ما فعله النبي صلى الله عليه وسلم حين وصل المدينة المنورة أن آخى بين المسلمين من المهاجرين والأنصار؛ لأن بناء الأوطان يحتاج إلى قلوب مؤمنة تحتضنه، ورجال تفديه وتنصره، وتضحيات يؤثر بها الإنسان على نفسه، وإخلاص في الجهد والعمل لبناء أركانه، وقد ضرب الصحابة من المهاجرين والأنصار أروع الأمثلة في الوقوف صفاً واحداً متآخين متحابين، قال تعالى: {وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلَا تَفَرَّقُوا وَاذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْوَانًا وَكُنْتُمْ عَلَى شَفَا حُفْرَةٍ مِنَ النَّارِ فَأَنْقَذَكُمْ مِنْهَا كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ} [آل عمران: 103].

كما قام النبي صلى الله عليه وسلم ببناء المسجد الذي هو مشعل النور وأساس الصلاح في المجتمع، ويجتمع فيه الصالحون الملتزمون بأوامر الله تعالى، السائرون على نهج نبيهم صلى الله عليه وسلم في السماحة والرحمة والرشاد، فحمل الصحابة رضي الله عنهم لبنات بناء المسجد على أكتافهم ورفعوا بنيانه ليكون رمزاً لمبتدأ بناء الأمة ونهضتها وعلو أركانها، والنبي صلى الله عليه وسلم في مقدمتهم، يقودهم إلى رقي الأمة وعزها، فكانوا يرتجزون في بنائهم:

لإن قعدنا والنبي يعمل          فذاك منا العمل المضلل

والنبي صلى الله عليه وسلم يجيبهم:

      لا عيش إلا عيش الآخرة        اللهم ارحم الأنصار والمهاجرة

بهذا الجهد، والاجتهاد، والالتفاف حول قائدهم سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم، وتحمل التضحيات، تأسست أمة ودولة أساسها الحق والعدل والعمل الدؤوب، فكانت المدينة المنورة ذلك الوطن وكان أهلها من المهاجرين الأنصار مثالا يحتذى في العطاء والإيثار ونصرة الدين {لِلْفُقَرَاءِ الْمُهَاجِرِينَ الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانًا وَيَنْصُرُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُولَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ* وَالَّذِينَ تَبَوَّءُوا الدَّارَ وَالْإِيمَانَ مِنْ قَبْلِهِمْ يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ وَلَا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حَاجَةً مِمَّا أُوتُوا وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} [الحشر: 8، 9] ، وكما كان المهاجرون والأنصار إخوة في دين الله تآلفت قلوبهم وتكاتفت جهودهم، كان لجميع مكونات الدولة في المدينة النبوية التي وضع لها النبي صلى الله عليه وسلم نظاماً يوحد صفها ويجمع شملها، ويميزها عن غيرها، فكانت وثيقة المدينة المنورة التي وضعها النبي صلى الله عليه وسلم لتنظيم حقوق الناس، وإرساء قواعد العدل بينهم فكانت تقوم على احترام الإنسان بغض النظر عن دينه أو عرقه أو لونه، طالما أنه مواطن في ظل هذا المجتمع، ينتمي إليه بوجدانه، ومخلصاً له بعمله جهده، فكانت دستوراً لم تعرف البشرية له نظير في ذلك الوقت باحترام حق الإنسان باعتبار إنسانيته، وأن الاختلاف بين مكونات المجتمع الواحد لا يعني حدوث تناحر ومشاحنات، بل الاعتراف بحق الآخر بالوجود وفيه تقرير للتنوع والاختلاف، وتأليف للقلوب تحت مظلة واحدة واسعة هي مظلة الحرية والإنسانية ينظمها دين عظيم هو الإسلام، يقول تعالى: {يَاأَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ} [الحجرات: 13].

كما تعلمنا الهجرة النبوة الشريفة أن الأمّم التي تسعى للإصلاح لا تقوم على مشاعر وجدانية مجردة، ولا على ردات فعل عشوائية، بل تحتاج إلى إرادة حقيقية يتبعها تخطيط سليم، ومنهج قويم في التفكير، وتنظيم للجهود، وتوظيف للقدرات، واتخاذ لأفضل السبل لتحقيق رؤية واضحة وإيصال رسالة ناصعة لا تشوبها شائبة مع كمال التوكل على الله عز وجل الذي وعد نبيه صلى الله عليه وسلم، بالنصر والمعونة وتحقيق الغاية، كما وعد كل شخص مخلص لدينه وأمته أن يكون في عونه، وأن يبارك في عمله للوصول إلى الغاية التي يرضى عنها الله عز وجل، يقول الله تعالى:  {وَلَقَدْ كَتَبْنَا فِي الزَّبُورِ مِنْ بَعْدِ الذِّكْرِ أَنَّ الْأَرْضَ يَرِثُهَا عِبَادِيَ الصَّالِحُونَ} [الأنبياء: 105]، ويقول الله تعالى: {وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنًا يَعْبُدُونَنِي لَا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئًا وَمَنْ كَفَرَ بَعْدَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ} [النور: 55].

فحين أراد النبي صلى الله عليه وسلم الهجرة من مكة إلى المدينة، كان التخطيط السليم حاضرا في كل مراحل عمله، فقد أحاط الأمر بالسرية التامة، واستعان بذوي الكفاءة والمهارة والاختصاص للقيام بما يسهل هجرته، وعمل على توزيع الأدوار والمهام بين المساهمين معه لإنجاح هذا الحدث الكبير، وبعد ذلك انطلق مهاجراً متوكلاً على الله وحده، وكله ثقة بنصر الله تعالى له وللمسلمين، قال تعالى: {إِلَّا تَنْصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ اللَّهُ إِذْ أَخْرَجَهُ الَّذِينَ كَفَرُوا ثَانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ هُمَا فِي الْغَارِ إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لَا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا فَأَنْزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَيْهِ وَأَيَّدَهُ بِجُنُودٍ لَمْ تَرَوْهَا وَجَعَلَ كَلِمَةَ الَّذِينَ كَفَرُوا السُّفْلَى وَكَلِمَةُ اللَّهِ هِيَ الْعُلْيَا وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ} [التوبة: 40].

فالتوكل على الله تعالى يدعو المسلم إلى التفاؤل في شؤون حياته ونبذ التشاؤم، وهذا هو منهج النبي صلى الله عليه وسلم الذي كان يقول: (بَشِّرْ هَذِهِ الْأُمَّةَ بِالسَّنَاءِ، وَالرِّفْعَةِ، وَالنَّصْرِ، وَالتَّمْكِينِ فِي الْأَرْضِ، فَمَنْ عَمِلَ مِنْهُمِ عَمَلَ الْآخِرَةِ لِلدُّنْيَا، لَمْ يَكُنْ لَهُ فِي الْآخِرَةِ نَصِيبٌ) مسند الإمام أحمد. والحمد لله ربّ العالمين