الحضارة (المفهوم ودلالاته)

الكاتب : الباحث الدكتور فادي الربابعة

أضيف بتاريخ : 20-06-2021


سلسلة قيم الحضارة في الإسلام (المفهوم ودلالاته)

شهد التاريخ البشري عبر العصور العديد من حضارات الأمم والشعوب، وقد تم تدوين تاريخ العديد من هذه الحضارات ومعتقداتها وقيمها وطرائق معيشتها وثقافتها في كتب التاريخ والحضارة الإنسانية.

ولم تكن هذه الحضارات تخلو من الصراعات والصدامات والتباين فيما بينها، مما أدى إلى ظهور وتطور مفهوم صراع الحضارات عبر التاريخ الإنساني.

وفي هذه السلسة بيان لقيم الحضارة في الإسلام التي ينبغي أن تتصف بها المجتمعات والشعوب المتحضرة، خاصة مجتمعاتنا العربية والمسلمة المعاصرة بالدرجة الأولى للنهوض من واقعها ومواكبة الحضارة الإنسانية والمساهمة فيها. ومن جانب آخر؛ الحاجة الإنسانية لهذه القيم؛ لضمان وتعزيز دوران واستمرار الحضارة ورقيها وانفتاحها على بعضها بعيداً عن الصدامات والصراعات التي فتكت بالمجتمعات وجعلت منها مجتمعات معادية ومحاربة لبعضها بعضاً.

وقبل البدء ببيان مجموعة قيم الحضارة في الإسلام والتي سيتم الحديث عنها في كل حلقة من حلقات هذه السلسة، من الضروري الوقوف على مفهوم الحضارة في المعاجم اللغوية، ومفهومها الاصطلاحي ودلالات ومعاني هذا المفهوم، وكذلك بيان الخصائص والمميزات التي تمتاز بها قيم الحضارة في الإسلام، وفي هذه الحلقة سيتم التعرف على مفهوم الحضارة ودلالاته.

مفهوم الحضارة في اللغة

الْحَضَرُ بِفَتْحَتَيْنِ خِلَافُ الْبَدْوِ... وَ(الْحَاضِرُ) ضِدُّ الْبَادِي وَ (الْحَاضِرَةُ) ضِدُّ الْبَادِيَةِ وَهِيَ الْمُدُنُ وَالْقُرَى وَالرِّيفُ، وَالْبَادِيَةُ ضِدُّهَا. يُقَالُ: فُلَانٌ مِنْ أَهْلِ الْحَاضِرَةِ وَفُلَانٌ مِنْ أَهْلِ الْبَادِيَةِ، وَفُلَانٌ (حَضَرِيٌّ) وَفُلَانٌ بَدَوِيٌّ وَفُلَانٌ (حَاضِرٌ) بِمَوْضِعِ كَذَا أَيْ مُقِيمٌ بِهِ. وَ (الْحِضَارَةُ) بِالْكَسْرِ الْإِقَامَةُ فِي الْحَضَرِ عَنْ أَبِي زَيْدٍ. وَقَالَ الْأَصْمَعِيُّ: هُوَ بِالْفَتْحِ. وَ (الْحُضُورُ) ضِدُّ الْغَيْبَةِ ... وَقَوْمٌ (حُضُورٌ) أَيْ حَاضِرُونَ وَهُوَ فِي الْأَصْلِ مَصْدَرٌ. (مختار الصحاح، ص 75).

 وحَضَرَ، كنَصَرَ وعلِمَ، حُضُوراً وحضارَةً: ضِدُّ غابَ...والحَضْرَةُ والحاضِرَةُ والحِضارَةُ، ويفتح: خِلاَفُ البادِيَةِ...والحَضارَةُ: الإقامَةُ في الحَضَرِ (القاموس المحيط، ص 376).

مفهوم الحضارة في الاصطلاح

من الذين تحدثوا عن مفهوم الحضارة ابن خلدون الذي بين الفرق بين البدو والحضر فقال: إن البدو أقدم من الحضر وسابق عليه وإن البادية أصل العمران والأمصار مدد لها فالبدو هم: المقتصرون على الضّروريّ من الأقوات والملابس والمساكن وسائر الأحوال والعوائد ... وأنّ الحضر المعتنون بحاجات التّرف والكمال في أحوالهم وعوائدهم ولا شكّ أنّ الضّروريّ أقدم من الحاجيّ والكماليّ وسابق عليه ولأنّ الضّروريّ أصل والكماليّ فرع ناشئ عنه فالبدو أصل للمدن والحضر، وسابق عليهما (تاريخ ابن خلدون 1 / 152).

وعُرِّفت الحضارة بكثير من التعريفات، فقد عرفها رالف بدنجتون: إنّ حضارة أيّ شعبٍ ما هي إلا حزمةُ أدواتٍ فكريّة وماديّة تُمكّن هذا الشعب من قضاء حاجاته الاجتماعية والحيوية بإشباع، وتُمكّنه كذلك من أن يتكيّف في بيئته بشكلٍ مناسب (العرب والحضارة العلمية الحديثة، ص27).

والحضارة: نظام اجتماعي يعين الإنسان على الزيادة من إنتاجه الثقافي، وإنما تتألف الحضارة من عناصر أربعة: الموارد الاقتصادية، والنظم السياسية، والتقاليد الخلقية، ومتابعة العلوم والفنون؛ وهي تبدأ حيث ينتهي الاضطراب والقلق، لأنه إذا ما أمِنَ الإنسان من الخوف، تحررت في نفسه دوافع التطلع وعوامل الإبداع والإنشاء، وبعدئذ لا تنفك الحوافز الطبيعية تستنهضه للمضي في طريقه إلى فهم الحياة وازدهارها (قصة الحضارة، ج1، ص3).

وفي مفهوم شامل عرَّف إدوارد تايلور (Edward Tylor) الحضارة بأنّها: الكلُّ المركب الذي يجمع بداخله جميع المعتقدات، والقيم، والتقاليد، والقوانين، والمعلومات، والفنون، وأيّ عادات، أو سلوكيات، أو إمكانات، يُمكن أن يحصل عليها فردٌ ما في مجتمعٍ ما (الحضارة العربية الإسلامية وتأثيرها العالمي، ص11).

يقول أحمد السايح: لفظ الحضارة في مفهومه الحديث، ومفهومه العالمي المعاصر، قد أصبح أكثر اتساعا، مما كان يدل عليه في مفهومه اللغوي التقليدي. وإذا كان أصل الحضارة: الإقامة في الحضر. فإن المعاجم اللغوية الحديثة، ترى أن الحضارة هي: الرقي العلمي، والفني، والأدبي، والاجتماعي، والاقتصادي في الحضر. وبعبارة أخرى أكثر شمولا، هي: الحصيلة الشاملة للمدنية، والثقافية، والفكر، ومجموع الحياة، في أنماطها المادية والمعنوية. ولهذا كانت الحضارة هي: الخطة العريضة -كماً وكيفاً-التي يسير فيها تاريخ كل أمة من الأمم، ومنها الحضارات القديمة، والحضارات الحديثة والمعاصرة. ومنها الأطوار الحضارية الكبرى، التي تصور انتقال الإنسان أو الجماعات، من مرحلة إلى مرحلة (الحضارة الإسلامية، ص: 70).

دلالة وثمرة مفهوم الحضارة

من الدلالات المبسطة لمفهوم الحضارة وثمرتها هي أن الحضارة عكس الغياب فحضر وضدها، غاب.  فيها دلالة على أنه ينبغي أن تكون الأمم والمجتمعات حاضرةً بعلوم وحضارة عصرها وبقيمها، حضوراً إيجابياً، لا متأخرة أو متخلفة عن علوم ومعطيات العصر والزمان الذي تعيشه، وبما يتناسب ويتلاءم مع معتقداتها وقيمها. 

فمن المستحيل في هذا الزمان أن يقول قائل: أريد أن أركب فرساً من الأردن إلى مكة المكرمة، ونحن نعيش في عصر الطائرات ووسائل النقل المتنوعة التي وفرت علينا الجهد والوقت واختصرت الزمن الذي نحتاجه لقطع المسافة، وفي عصر ترسيم الحدود بين الدول والحاجة إلى الوثائق للدخول والخروج من بوابة الحدود.

ومن المستحيل الاقتصار على العصا والسيف في مواجهة المحتل والمعتدي وهو يمتلك الأسلحة النووية والمعدات الحربية المتطورة والمسيرة عن بعد لألاف الكيلومترات إذ الأصل الحضاري الإعداد والمواكبة للمواجهة والتحرير بالمثل أو زيادة.

ولا يقول قائل سأستخدم الأساليب القديمة في الكتابة والنسخ على الجلود والعظام في عصر وفرت فيه التكنولوجيا المعاصرة الآلات الحديثة للطباعة، فلم يعد هذا الطرح مقبولاً بل ربما يكون مضحكاً أو مدعاة للسخرية.

كتب وموسوعات الحضارة

تعددت الموسوعات والكتب التي بحثت موضوع الحضارات البشرية، ومن هذه الموسوعات (قصة الحضارة) لمؤلفه وول ديورانت، الذي بسط فيها قصة الحضارة منذ فجر التاريخ إلى يومنا الحاضر.

يقول الدكتور محيي الدين صابر المدير العام للمنظمة العربية للتربية والثقافة والعلوم 1988م: كتاب قصة الحضارة لمؤلفه وول ديورانت، من الكتب القليلة التي أنصفت الحضارة العربية الإسلامية، فلقد اتسم كاتبه بالروح الموضوعية، وبالمنهج العلمي، وبالالتزام الخلقي؛ وهو من الكتاب الغربيين القليلين الذين اعترفوا بفضل الحضارات الشرقية، وتأثيرها الكبير في الحضارة اليونانية واللاتينية، اللتين يعتبرهما المؤرخون، بداية الحضارة الإنسانية؛ وأن الإنسان، إنما خلق مع الحضارة اليونانية. 

وهذا الكتاب، من حيث تصوره ومنهجه، جديد في تناول التاريخ، كحركة متصلة، ويقدمه، في صورة تأليفية متكاملة، بما يعين على فهم فكري واضح لمسيرة التاريخ وللمعالم الحضارية ولمراحلها، جغرافياً وموضوعياً، فقد وصف التراث البشري، على هذا الأساس، في خمس مناطق هي:

1. التراث الشرقي، الذي ضم حضارات مصر والشرق الأدنى حتى وفاة الإسكندر، وفي الهند والصين واليابان إلى العهد الحاضر.

2. التراث الكلاسيكي، وهو يشمل تاريخ الحضارة في اليونان، وروما، وفي الشرق الأدنى الذي كان تحت السيادتين اليونانية والرومانية على التوالي.

3. ثم عرض للتراث الوسيط، فذكر حضارة أوروبا الكاثوليكية والبروتستانتية، والإقطاعية، والحضارة البيزنطية، والحضارة الإسلامية واليهودية في آسيا وأفريقيا وإسبانيا، انتهاءً بالنهضة الإيطالية.

4. ثم استعرض التاريخ الأوروبي، متمثلاً في التاريخ الحضاري للدول الأوروبية، منذ الإصلاح البروتستانتي إلى الثورة الفرنسية

5. وانتهى عرضه بالتراث الحديث الذي تناول تاريخ الاختراعات المادية والفكرية، بما في ذلك السياسة والعلوم والفلسفة والدين والأخلاق والأدب والفنون في أوروبا، منذ تولى نابليون الحكم إلى العصر الحاضر (قصة الحضارة، ج1، ص7-8).