النبي الوفي صلى الله عليه وسلم

الكاتب : المفتي الدكتور محمد بني طه

أضيف بتاريخ : 04-05-2021


النبي الوفي صلى الله عليه وسلم

الوفاء من مكارم الأخلاق ولا شيء يجلب المحبة كحسن الخلق، فالوفاء شجرة طيبة وارفة، جذرها الإخلاص، وأغصانها النبل والصدق والرقي والمروءة، وثمرتها محبة الله والناس، حتى قالت العرب: الوفاء من شيم الكرام والغدر من صفات اللئام.

وحبيبنا محمد صلى الله عليه وسلم تجسد الوفاء في جميع مفاصل حياته، في سلمه وحربه، مع صديقه وعدوه، في ترحاله وحله، فلم تسمع أذن ولم تبصر عين أوفى وأبر من رسول الله صلى الله عليه وسلم، حيث قال الله تعالى فيه: (وإنك لعلى خلق عظيم) القلم:4.

كما قال حسان رضي الله عنه:

خلقت مبرأ من كل عيب       كأنك قد خلقت كما تشاء

 فكان وفياً مع خالقه مخلصاً لمبدئه، يخاطب عمه قائلا: (يا عم، والله لو وضعوا الشمس في يميني والقمر في يساري على أن أترك هذا الأمر حتى يظهره الله أو أهلك فيه ما تركته) [المستدرك للحاكم].

وفياً مع رفيقه أمين الوحي جبريل عليه السلام، فعن جابر بن عبد الله رضى الله عنهما قال: "إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (من أكل ثوماً أو بصلاً فليعتزلنا أو ليعتزل مسجدنا وليقعد فى بيته) وإنه أتى ببدر فيه خضرات من البقول فوجد لها ريحا، فسأل فأخبر بما فيها من البقول فقال: قربوها إلى بعض أصحابه كان معه فلما رآه كره أكلها قال: (كل فإني أناجي من لا تناجي) [السنن الكبرى للبيهقي].

وهو وفي مع والدته التي فقدها صغيراً، لكن لم يمنع امتداد العمر به وانشغاله بأعباء الدعوة من تذكرها والبكاء عند قبرها، فعن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال: خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم ينظر في المقابر وخرجنا معه، فأمرنا فجلسنا، ثم تخطا القبور حتى انتهى إلى قبر منها فناجاه طويلاً، ثم ارتفع نحيب رسول الله صلى الله عليه وسلم باكياً فبكينا لبكائه، ثم أقبل إلينا فتلقاه عمر بن الخطاب فقال: يا رسول الله ما الذي أبكاك فقد أبكانا وأفزعنا؟ فجاء فجلس إلينا فقال: أفزعكم بكائي؟ فقلنا: نعم يا رسول الله فقال: إن القبر الذي رأيتموني أناجي فيه قبر أمي آمنة بنت وهب". [المستدرك على الصحيحين للحاكم مع تعليقات الذهبي].

وفيّ مع عمه أبي طالب؛ فعن العباس بن عبد المطلب قال: قلت: يا رسول الله هل نفعت أبا طالب بشيء فإنه كان يحفظك ويغضب لك؟ قال: (نعم هو في ضحضاح من النار ولولا أنا لكان في الدرك الأسفل من النار) [شعب الإيمان للبيهقي].

وفياً لأزواجه ووفائه لزوجته خديجة رضي الله عنها بعد وفاتها مشهور، فعن عائشة رضي الله عنها قالت: كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا ذكر خديجة أثنى عليها فأحسن الثناء، قالت: فغرت يوماً، فقلت: ما أكثر ما تذكرها حمراء الشدق قد أبدلك الله عز وجل بها خيرا منها، قال: (ما أبدلني الله عز وجل خيراً منها قد آمنت بي إذ كفر بي الناس، وصدقتني إذ كذبني الناس، وواستني بمالها إذ حرمني الناس، ورزقني الله عز وجل ولدها إذ حرمني أولاد النساء) [مسند أحمد بن حنبل].

وفياً لبلده التي ولد فيها ولقومه الذين نشأ فيهم فعن ابن عباس رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لما أخرج من مكة: (إني لأخرج منك وإني لأعلم أنك لأحب بلاد الله إليه، وأكرمه عليه، ولولا أن أهلك أخرجوني منك ما خرجت منك، يا بني عبد مناف إن كنتم ولاة هذا الأمر من بعدي فلا تمنعوا طائفا ببيت الله ساعة من ليل أو نهار، ولولا أن تبطر قريش لأخبرتها بالذي لها عند الله، اللهم أنك أذقت أولهم نكالاً فأذق آخرهم نوالاً) [إتحاف الخيرة المهرة].

وفياً للبلد الذي هاجر إليه والقوم الذين نصروه، فعن أبي سعيد الخدري قال: لما أعطى رسول الله صلى الله عليه وسلم ما أعطى من تلك العطايا في قريش وقبائل العرب ولم يكن في الأنصار منها شيء، وجد هذا الحي من الأنصار في أنفسهم حتى كثرت فيهم القالة، حتى قال قائلهم لقي رسول الله صلى الله عليه وسلم قومه، فدخل عليه سعد بن عبادة، فقال: يا رسول الله إن هذا الحي قد وجدوا عليك في أنفسهم لما صنعت في هذا الفيء الذي أصبت، قسمت في قومك وأعطيت عطايا عظاماً في قبائل العرب ولم يكن في هذا الحي من الأنصار شيء، قال: (فأين أنت من ذلك يا سعد؟) قال: يا رسول الله ما أنا إلا امرؤ من قومي، قال: (فاجمع لي قومك في هذه الحظيرة)، قال: فخرج سعد فجمع الناس في تلك الحظيرة، قال: فجاء رجال من المهاجرين فتركهم فدخلوا، وجاء آخرون فردهم، فلما اجتمعوا أتاه سعد، فقال: قد اجتمع لك هذا الحي من الأنصار، قال: فأتاهم رسول الله صلى الله عليه وسلم فحمد الله وأثنى عليه بالذي هو له أهل ثم قال: (يا معشر الأنصار ما قالة بلغتني عنكم وجدة وجدتموها في أنفسكم؟ ألم آتكم ضلالا فهداكم الله؟ وعالة فأغناكم الله؟ وأعداء فألف الله بين قلوبكم؟) قالوا: بلى الله ورسوله أمن وأفضل، قال: (ألا تجيبونني يا معشر الأنصار)، قالوا: وبماذا نجيبك يا رسول الله ولله ولرسوله المن والفضل. قال: (أما والله لو شئتم لقلتم فلصدقتم وصدقتم، أتيتنا مكذباً فصدقناك ومخذولا فنصرناك وطريدا فآويناك، وعائلا فأغنيناك، أوجدتم في أنفسكم يا معشر الأنصار في لعاعة من الدنيا تألفت بها قوماً ليسلموا ووكلتكم إلى إسلامكم؟ أفلا ترضون يا معشر الأنصار أن يذهب الناس بالشاة والبعير وترجعون برسول الله صلى الله عليه وسلم في رحالكم؟ فوالذي نفس محمد بيده لولا الهجرة لكنت امرأ من الأنصار، ولو سلك الناس شعباً وسلكت الأنصار شعباً لسلكت شعب الأنصار، اللهم ارحم الأنصار وأبناء الأنصار وأبناء أبناء الأنصار)، قال: فبكى القوم حتى أخضلوا لحاهم، وقالوا: رضينا برسول الله قسماً وحظاً [مسند أحمد بن حنبل].

وكما كان وفياً مع أصحابه وأتباعه كان وفياً مع أعدائه، ولما قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة واطمأن بها أفلت إليه أبو  بصير عتبة بن أسيد بن جارية الثقفي حليف بني زهرة، فكتب إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم الأخنس بن شريق والأزهر بن عبد عوف، وبعثا بكتابهما مع مولى لهما ورجل من بني عامر بن لؤي، استأجراه ليرد عليهما صاحبهما أبا بصير، فقدما على رسول الله صلى الله عليه وسلم، فدفعا إليه  كتابهما، فدعا رسول الله صلى الله عليه وسلم أبا بصير فقال له: (يا أبا بصير إن هؤلاء القوم قد صالحونا على ما علمت وإنا لا نغدر فالحق بقومك)، فقال: يا رسول الله! تردني إلى المشركين يفتنوني في ديني ويعبثون بي؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (اصبر يا أبا بصير! اصبر واحتسب، فإن الله جاعل لك ولمن معك من المستضعفين من المؤمنين فرجاً ومخرجاً) [السنن الصغرى للبيهقي].

 وكان يأمر أصحابه بالوفاء للأعداء، فعن مصعب بن سعد قال: أخذ حذيفة وأباه المشركون قبل بدر فأرادوا أن يقتلوهم، وأخذوا عليهم عهداً وميثاقاً أن لا يعينوا علينا، فأرسلوهما فأتيا النبي صلى الله عليه وسلم فقالا: إنا قد جعلنا لهم أن لا نعين عليهم، فإن شئت قاتلنا معك، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (بل نفي لهم ونستعين الله عليهم) [لمعجم الكبير للطبراني].

بل تعدى وفاؤه إلى الجماد حيث الجبل، فهناك يرقد أصحابه، فعن أبي حميد قال: خرجت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم غزوة تبوك، فقال: (إني مسرعٌ فمن شاء منكم فليسرع معي ومن شاء فليمكث)، فخرجنا حتى أشرفنا على المدينة، فقال: (هذه طابة وهذا أحدٌ وهو جبلٌ يحبنا ونحبه) [الجمع بين الصحيحين البخاري ومسلم].

وزاد على ذلك بأبي وأمي هو، فكما كان وفياً لأصحابه في يقضته كان وفياً لهم كذلك في نومه، فعن جابر عن النبى صلى الله عليه وسلم قال: (دخلت الجنة فرأيت فيها داراً أو قصراً، فقلت: لمن هذا، فقالوا: لعمر بن الخطاب، فأردت أن أدخل فذكرت غيرتك)، فبكى عمر، وقال: يا رسول الله أوعليك يغار. [صحيح مسلم].

وأمثلة وفائه ومحاسن أخلاقه أكثر من أن تعد وتذكر، وقد صدق فيه قول الشاعر:

ماذا يقول الواصفون له                فصفاته جلت عن الحصر

 فحياته كانت وفاءاً وإخلاصاً وطيب خلق، كيف لا وهو الرسول المجتبى والنبي المصطفى، فبيان عظيم أخلاق نبينا محمد صلى الله عليه وسلم هو الرد الأنسب والأنجع لمن يحاولون الإساءة لمقامه الشريف؛ ذلك أنهم ما تجرأوا على حماقتهم تلك إلا لجهلهم بعظيم صفاته ونبل أخلاقه، والتي قلبت أشد مبغضيه إلى أخلص محبيه.

وفي الختام أوصي بتعميق دراسة سيرته صلى الله عليه وسلم لإبراز جميل صفاته وعظيم أخلاقه من خلال دراسات ومقالات علمية، وتقديمها بشتى لغات العالم، على جميع وسائل التواصل والتخاطب؛ ليطلع العالم على سمو أخلاقه، ويتعرفوا على عظيم قدره. 

فما أحرانا بالتأسي به والتمسك بأخلاقه، فنحوز النجاح في الدنيا والآخرة، اللهم صل وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً، والحمد لله رب العالمين.