الإسراء تعزيز لمكانة القدس

الكاتب : سماحة المفتي العام الشيخ عبد الكريم الخصاونة

أضيف بتاريخ : 11-03-2021


الإسراء والمعراج تعزيز لمكانة القدس في قلب الأمة

 

إن أرض القدس الشريف أرض مباركة، وهي محطّ أنظار المؤمنين في جميع أنحاء المعمورة، ومهوى أفئدة الناس من كل بقاع الدنيا ومن مختلف الديانات، ولها عند المسلمين مكانة عظيمة لوجود المسجد الأقصى المبارك على أرضها، وهو الذي تمّ بناؤه بعد بناء المسجد الحرام بأربعين عاماً كما ورد في الحديث الصحيح عن أبي ذر رضي الله عنه قال: قُلْتُ يَا رَسُولَ اللَّهِ، أَيُّ مَسْجِدٍ وُضِعَ فِي الأَرْضِ أَوَّلَ؟ قَالَ: (المَسْجِدُ الحَرَامُ) قَالَ: قُلْتُ: ثُمَّ أَيٌّ؟ قَالَ (المَسْجِدُ الأَقْصَى) قُلْتُ: كَمْ كَانَ بَيْنَهُمَا؟ قَالَ: (أَرْبَعُونَ سَنَةً، ثُمَّ أَيْنَمَا أَدْرَكَتْكَ الصَّلاَةُ بَعْدُ فَصَلِّهْ، فَإِنَّ الفَضْلَ فِيهِ) متفق عليه.

ومنذ بنائه تعلقت قلوب المؤمنين به وبالقدس الشريف، وبقيت القدس ومسجدها الأقصى أرض النبوات ومهبط الوحي لدهور طويلة وأزمنة عديدة، حتى أصبحت القدس وما حولها أرضاً مباركةً للعالمين، وما كان مقدساً لدى الأنبياء إبراهيم عليه السلام وسليمان وموسى وعيسى عليهم السلام، هو مقدس لنا اليوم قال الله تعالى: (لَا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِّن رُّسُلِهِ وَقَالُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا غُفْرَانَكَ رَبَّنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ) [البقرة: 285].

ثم تعاقبت على القدس دول متعددة المشارب ومختلفة الأهواء، منهم الصالحون ومنهم الطالحون، لذلك لم تسقتر بلد السلام والأمان، إلا في مراحل قليلة في ظلّ عباد الله الصالحين، وإرادة الله تعالى قضت منذ الأزل أن الأرض لله لا يرثها إلا لعباده، وهذه القاعدة أكّدها الله عز وجل في كتابه العزيز (إِنَّ الْأَرْضَ لِلَّهِ يُورِثُهَا مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ) [الأعراف: 128].

فالأرض لله يعمرها الصالحون من عباده ببناء المساجد والمقدسات الدينية ويحترمون القائمين عليها والطائفين بها، بينما الفاسدون يعملون على خراب الأرض وهدم المساجد ويسعون في الأرض فساداً، قال الله تعالى: (وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ مَنَعَ مَسَاجِدَ اللَّهِ أَنْ يُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ وَسَعَى فِي خَرَابِهَا أُولَئِكَ مَا كَانَ لَهُمْ أَنْ يَدْخُلُوهَا إِلَّا خَائِفِينَ لَهُمْ فِي الدُّنْيَا خِزْيٌ وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ) [البقرة: 114].

ولما بعث الله تعالى سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم هادياً وداعياً إلى الله بإذنه وسراجاً منيراً، أشرقت الأرض بنور ربّها، ليبدأ بعمارة الأرض بعد خرابها، وإصلاحها بعد فسادها، وأُسري برسول الله صلى الله عليه وسلم من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى، وجُمع الأنبياء له هناك، وقدّمه جبريل عليه السلام ليؤمهم في الصلاة، قال الله تعالى: (سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلًا مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى الَّذِي بَارَكْنَا حَوْلَهُ لِنُرِيَهُ مِنْ آيَاتِنَا إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ) [الإسراء: 1].

قال ابن كثير رحمه الله تعالى: أن المراد بالمسجد الأقصى بيت المقدس الذي بإيلياء، معدن الأنبياء من لدن إبراهيم عليه السلام، ولهذا جمعوا له هناك فأمّهم في محلتهم ودارهم، فدل على أنه الإمام الأعظم والرئيس المقدم صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين.

ومن المسجد الأقصى عُرج بالرسول صلى الله عليه وسلم إلى السموات العُلا، ووصل إلى سدرة المنتهى إلى حدٍّ انقطعت عنده علوم الخلائق من ملائكة وإنس وجن، ورأى من آيات ربّه الكبرى، وقرّبه الله تعالى من حضرته القدسية، وأسبغ عليه من فيض نعمه وفضله، وأصبح المسجد الأقصى جزءاً لا يتجزأ من عقيدة المسلمين ودينهم، فهو مسرى رسول الله صلى الله عليه وسلم، ومن ثم عُرج به إلى السموات العُلا وأولى القبلتين وثاني المسجدين وثالث الحرمين الشريفين، وإليه تشد الرحال، يقول النبي صلى الله عليه وسلم: (لاَ تُشَدُّ الرِّحَالُ إِلَّا إِلَى ثَلاَثَةِ مَسَاجِدَ: المَسْجِدِ الحَرَامِ، وَمَسْجِدِ الرَّسُولِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَمَسْجِدِ الأَقْصَى) متفق عليه.

وقد كان النبي صلى الله عليه وسلم يربط المسلمين دائماً بالمسجد الأقصى ربطاً دينياً من خلال توجيههم للصلاة فيه وذكر فضائله، والدعوة لإعماره، فالمسجد الأقصى متقدمٌ على غيره من المساجد، وهو ثاني بقعة ظهرت فيه معالم العبودية لله تعالى، فشريعة الإسلام منذ بدايتها أولت المسجد الأقصى عظيم الاهتمام، وجعلت أهم أركان الإسلام وهو الصلاة مرتبطاً به، إشارة إلى أهميته في صلة الإنسان مع ربه، وأهميته في عقيدة المسلمين.

هذا وقد ارتبطت القدس والمسجد الأقصى ارتباطاً وثيقاً بالدولة الأردنية الحديثة من خلال ارتباطها المباشر بالهاشميين، فالرابط بين الهاشميين والقدس رابط ديني قبل أن يكون رابطاً إدارياً أو قانونياً، فهم سلالة النبي صلى الله عليه وسلم، وآل بيته الأطهار، فكان ارتباطهم بالمسجد الأقصى ارتباطاً عقائدياً، عقده الله عز وجل لنبيه صلى الله عليه وسلم من خلال زيارته للمسجد الأقصى في ليلة الإسراء والمعراج، وصلاته بالأنبياء هناك، واتجاه المسلمين إليه في صلاتهم، فالعلاقة بين القدس وبيت المقدس علاقة تاريخية لم تنفصم عراها منذ مبعث النبي صلى الله عليه وسلم إلى يومنا هذا،  وتعتبر الرعاية الهاشمية للقدس والوصاية على المقدسات الدينية  جزء من الثوابت الأردنية في الدفاع عن المقدسات منذ قديم الزمن؛ حيث كان لهذا الإعمار الهاشمي الدور الكبير في الحفاظ على الهوية العربية الإسلامية، وحماية المسجد الأقصى المبارك، وكل المقدسات في القدس الشريف بما يسهم في الإبقاء على أهلها صامدين.

فالقدس هي ضمير الأمة وقلبها النابض، ولم يزل الهاشميون يقدمون لها الرعاية والدعم على امتداد أدوارهم التاريخية، فالشريف الحسين بن علي، شريف مكة، وملك العرب رحمه الله، يتبرع لإعمار المسجد الأقصى ومساجد أخرى في فلسطين، وأسهمت عملية الترميم التي باركها الشريف الحسين بن علي في بيت المقدس، بصمود مرافق المسجد الأقصى حين ضرب زلزال عنيف المنطقة عام 1927م.

وقد جسدت استجابة الشريف الحسين بن علي لطلب العون من أهل القدس في مرحلة مبكرة، وعياً والتزاماً منه بقضايا الأمة، ووفاء لهذا العطاء طلب أهالي القدس وأعيانها دفن الشريف الحسين، طيب الله ثراه، في الرواق الغربي للحرم الشريف في حزيران/يونيو 1931م، تأكيداً على مكانته وتقديراً لجهوده في إنقاذ المقدسات الإسلامية في القدس.

ومن بعده استمر الملك المؤسس عبد الله الأول في هذه الرعاية الهاشمية للأقصى والمقدسات باذلا ًجهده وطاقته في الدفاع عنه في وجه الطامعين، حتى استشهد رحمه الله تعالى على عتباته وامتزجت دماؤه بأرضه الطاهرة المباركة، شاهدة له شهادة حق على استبساله في الدفاع عنه.

وحين تعرض المسجد الأقصى إلى عملية الغدر الآثمة التي أدت إلى إحراقه في عام 1969م أصدر جلالة الملك الحسين بن طلال، طيب الله ثراه، أوامره بضرورة إعادة تعمير المسجد الأقصى، وتم إعادة تعمير كل من المسجد الأقصى الذي أعيد إلى حالته السابقة قبل الحريق، وقبة الصخرة المشرفة، وقد تبرع جلالة المغفور له بإذن الله تعالى بمبلغ من ماله الخاص للجنة الإعمار حتى تستطيع القيام بأعمالها.

 وتابع جلالة الملك عبد الله الثاني ابن الحسين حفظه الله تعالى الاهتمام الكبير بالقدس والمسجد الأقصى، وذلك من خلال اطلاعه المتواصل وتوجيهاته المستمرة للجنة الإعمار وأجهزة الأوقاف بإيلاء المسجد الأقصى المبارك والمقدسات في القدس جل الاهتمام والعناية.

كما كان لجلالته المواقف المشرفة في جميع المحافل والمؤتمرات والندوات الدولية في الدفاع عن القدس وأهلها، وفي الدفاع عن المسجد الأقصى المبارك في وجه الطامعين والمعتدين الذين يحاولون النيل من مكانتها في قلوب المسلمين، والاعتداء على قدسيتها المكانية والزمانية والوجدانية.

فهذه الجهود الهاشمية في الإعمار التي لا تكاد تنتهي في الاستمرارية والعمل الدؤوب هي من لبَّ عقيدتهم وإيمانهم في واجبهم اتجاه مقدساتهم الإسلامية وانتمائهم لأمتهم العربية والإسلامية.

والحمد لله رب العالمين