إنه لا يحب المسرفين

الكاتب : المفتي الدكتور رضوان الصرايرة

أضيف بتاريخ : 30-06-2015


إنه لا يحب المسرفين

المفتي الدكتور رضوان الصرايرة

الحمد لله الذي شرع لنا من الدين، ما فيه قوام الدنيا والآخرة، وهو القائل سبحانه وتعالى: (أَلَا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ) الملك/14، وأرسل لنا نبيه صلى الله عليه وآله وسلم رحمة للعالمين.

أما بعد: فإن الله عز وجل لما أراد لنا حياة مستقيمة لم يحب لنا الإسراف ولا يحب منا المسرفين، وامتدح عباده المؤمنين بقوله تعالى: (وَالَّذِينَ إِذَا أَنْفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا وَلَمْ يَقْتُرُوا وَكَانَ بَيْنَ ذَلِكَ قَوَامًا) الفرقان/67، والإسراف هو تجاوز الحدّ المسموح به.

والمسرفون في كتاب الله من غير أهل المعصية على قسمين:

القسم الأول: المسرفون في العبادة.

فقد نهى الله عزّ وجل عن الإسراف في العبادات، وتحميل النفس ما لا طاقه لها به، فيكون المرء كالمنبت -الذي تقطعت به السبل- كما وصفه رسول الله صلى الله عليه وسلم بقوله: (إنَّ هَذَا الدِّينَ مَتِينٌ، فَأَوْغِلْ فِيهِ بِرِفْقٍ، وَلَا تُبَغِّضْ إِلَى نَفْسِكَ عِبَادَةَ اللَّهِ تَعَالَى، فَإِنَّ الْمُنْبَتَّ لَا أَرْضًا قَطَعَ، وَلَا ظَهْرًا أَبْقَى) [أخرجه البيهقي].

يقول تعالى: (وَهُوَ الَّذِي أَنْشَأَ جَنَّاتٍ مَعْرُوشَاتٍ وَغَيْرَ مَعْرُوشَاتٍ وَالنَّخْلَ وَالزَّرْعَ مُخْتَلِفًا أُكُلُهُ وَالزَّيْتُونَ وَالرُّمَّانَ مُتَشَابِهًا وَغَيْرَ مُتَشَابِهٍ كُلُوا مِنْ ثَمَرِهِ إِذَا أَثْمَرَ وَآتُوا حَقَّهُ يَوْمَ حَصَادِهِ وَلَا تُسْرِفُوا إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ) الأنعام/141، قال ابن كثير: ومَعْنَاهُ: وَلَا تُسْرِفُوا فِي الْإِعْطَاءِ - بالزكاة- فَتُعْطُوا فَوْقَ الْمَعْرُوفِ.

وَروي أنها نَزَلَتْ فِي ثَابِتِ بْنِ قَيْس بْنِ شَمَّاس رضي الله عنه، جذّ نخلا فقال: لَا يَأْتِينِي الْيَوْمَ أَحَدٌ إِلَّا أَطْعَمْتُهُ، فَأَطْعَمَ حَتَّى أَمْسَى وَلَيْسَتْ لَهُ ثَمَرَةٌ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ: (وَلا تُسْرِفُوا إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ)، والحكمة من ذلك حتى لا يضيع المرء من يعولهم لأنهم مسؤوليته بالإنفاق.

وهذا سعد بن عبادة رضي الله عنه لمّا أراد أن يتصدق بماله كله نهاه رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأجاز له الثلث، وقال: (الثُّلُثُ، وَالثُّلُثُ كَثِيرٌ، إِنَّكَ أَنْ تَذَرَ وَرَثَتَكَ أَغْنِيَاءَ، خَيْرٌ مِنْ أَنْ تَذَرَهُمْ عَالَةً يَتَكَفَّفُونَ النَّاسَ) [أخرجه البخاري].

وهذه أم المؤمنين زينب بنت جحش رضي الله عنها تضع حبلا ممدودا في المسجد بين ساريتن، لتعتمد عليه في القيام إذا كسلت أو تعبت، فأمر صلى الله عليه وسلم بحله فقال: (حُلُّوهُ حُلُّوهُ لِيُصَلِّ أَحَدُكُمْ نَشَاطَهُ، فَإِذَا فَتَرَ فَلْيَقْعُدْ) [أخرجه ابن ماجه].

والقسم الثاني: المسرفون في الملبس والمأكل والمشرب.

وكذلك نهى سبحانه وتعالى عن الإسراف في الملبس والمأكل والمشرب وذلك حتى لا يكون المرء عبد شهوته يلبي كل رغباتها فيُخشى عليه عند التقصير أن يواقع الحرام والله يقول: (إِنَّ النَّفْسَ لَأَمَّارَةٌ بِالسُّوءِ) يوسف/53.

وليربي نفسه على تفقد إخوانه من المحتاجين، ويتولد عنده إحساس بالمسؤولية تجاههم، حسبة لله تعالى، وقد قيل: مَن أكل كل ما يشتهيه فهو مسرف.يقول تعالى: (يَا بَنِي آدَمَ خُذُوا زِينَتَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ وَكُلُوا وَاشْرَبُوا وَلَا تُسْرِفُوا إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ) الأعراف/31.

والزينة: هي اللباس من غير سرف ولا مخيلة، والأكل والشرب ما نعرف وشرطه أن يكون من حلال. ففي الحديث أن رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: (كُلُوا وَاشْرَبُوا وَالْبَسُوا وَتَصَدَّقُوا، فِي غَيْرِ مَخِيلة وَلَا سرَف، فَإِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ أَنْ يَرَى نِعْمَتَهُ عَلَى عَبْدِهِ) [أخرجه أحمد].

وعن ابن عباس قال: (كُلْ مَا شِئْتَ، وَالْبَسْ مَا شِئْتَ، مَا أَخْطَأَتْكَ خَصْلَتَانِ: سرَف ومَخِيلة)، هذا مع ضابط أن الله يحب أن يرى أثر نعمته على عبده.

ولأن الإسراف في هذه الأمور قد يؤدي إلى الكِبر الذي يمقته الله، وإلى استنزاف الموارد من غير تحقيق مصلحة معتبرة فيها خير الناس جميعا، وخير دليل على ذلك ما يحدث في الولائم فإن ما يُلقى في القمامة من الطعام أكثر بكثير مما يستهلك، والمرء مسئول عن ذلك أمام الله سبحانه لقوله تعالى: (ثُمَّ لَتُسْأَلُنَّ يَوْمَئِذٍ عَنِ النَّعِيمِ) التكاثر/8.

فالحمد لله الذي جعلنا من الأمة الوسط، فلا إسراف ولا تقتير ولا إفراط ولا تفريط، ونسأله تعالى أن يديم علينا الخير ويحفظ أمننا وأماننا وخواتيم أعمالنا وصلى الله وسلم على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.