بين معاذ والخوارج شبهات وردود

الكاتب : فضيلة الأمين العام د. محمد الخلايلة

أضيف بتاريخ : 17-02-2015


ما بين معاذ والخوارج

شبهات وردود

تابع العالم بأسره جريمة حرق الطيار الأردني البطل معاذ الكساسبة، وهي جريمة تضاف إلى سلسلة جرائم ارتكبها خوارج العصر باسم الدين، وإن مما يُخجل حقاً ويدعو إلى الغضب أن تنسب هذه العصبة الخارجة نفسها إلى دين الله وشرعه الحنيف، وأن تؤصل لأفعالها الشنيعة والبشعة بالشبهات وليّ أعناق النصوص، واجتزاء أقوال العلماء، وتحريف الكلم عن مواضعه، حتى يلبسوا على الناس دينهم ويكون مسوغاً لهم لارتكاب المزيد من المجازر، أو لإخراجهم من الإنكار العالمي الذي وقع عليهم، وكل ذلك تحت غطاء الدين، وبمسوغات ما أنزل الله بها من سلطان.

قلتم أن معاذ هو الذي جاء إلينا في الرقة، ولم نحضره من الكرك، ولم نحضره من الأردن، وجاء ليقتل أطفالنا ونساءنا ويهدم بيوتنا، ونتساءل!!  هل لكم بيوت في الرقة، وهل لكم نساء وأطفال في الرقة، أنتم جئتم شذاذ آفاق ولصوص وقطاع طرق من شتى بقاع الأرض واستوليتم على بيوت الرقة بعد إخراج أهلها منها، وجعلتموهم لاجئين في مخيمات البؤس والشقاء واغتصبتم نساءهم تحت مسميات شتى، وقتلتم كل من  عارضكم ولو بشبهة أو بكلمة، وزين لكم الشيطان سوء أعمالكم فامتهنتم القتل وقطع الرؤوس والحرق، فشوهتم الإسلام باسم الجهاد، وشردتم قرى آمنة مطمئنة بعد الاستيلاء عليها، واتخذتموها وطناً وجعلتم أنفسكم حكاماً عليها بالقطع والجلد والقتل، وأحدثتم فيها فساداً في الأرض عريض، ونسيتم أنكم جئتم إلى عمان وفجرتم فنادقها وقتلتم الآمنين الذين يحتفلون بزواجهم، وقلبتم الأفراح إلى أتراح فقتلتم الفرح في عيون الآباء والأمهات، وهم يحتفلون بزواج أبنائهم فقتلتم ما يزيد عن سبعة وخمسين شهيداً، غير الجرحى والمعاقين الذين خلفتموهم، واحتفلتم بعد ذلك بجهادكم المزعوم.

نعم... لكل ذلك ذهب معاذ إلى الرقة لتحرير البلاد والعباد من شروركم، ولتحرير أهل الرقة وإعادة الكرامة الإنسانية التي أهدرتموها واعتديتم عليها بعد أن جاء الإسلام ليرسخ في الأرض معاني كرامة الإنسان بصفته الإنسانية بغض النظر عن لونه أو دينه أو عرقه، وإنما شرع الجهاد لحماية هذه الكرامة وصيانتها والمحافظة عليها، قال تعالى: (وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْنَاهُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى كَثِيرٍ مِمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلًا) الإسراء/70، وهذه هي حقيقة الجهاد في الإسلام وفلسفته، فمعاذ هو المجاهد الذي ذهب لإعادة صورة الإسلام المشرقة بعد أن شوهتموها، معاذ ذهب لمنعكم من إراقة الدماء، ذهب لتحرير الإنسانية من شروركم، فمن المجاهد أنتم أم معاذ؟! معاذ لم يذهب لإخراج أهل الرقة من بيوتهم، هو لم يذهب ليسرق حقول النفط... ولم يذهب لتشريد الآمنين... ولم يذهب لاغتصاب النساء تحت مسميات شرعية زينها لكم ضلالكم... إنما ذهب لتحرير الدين الإسلامي منكم... ولتحرير الأرض والكرامة الإنسانية... مرة أخرى من المجاهد معاذ أم أنتم؟! وقد اتفق جماهير أهل العلم على مشروعية قتال الخوارج.

ورغم قناعات علماء العصر بأوصافكم وضلالكم، إلا أن الكثير منهم أحجم عن وصفكم حتى يحافظ على صورته أمام عوام المسلمين الذين خدعتموهم، وضحكتم عليهم باسم الدين واستخدام المصطلحات التي تخاطب عواطفهم، كمصطلح الجهاد، والخلافة، والحاكمية، والولاء والبراء، والولايات الإسلامية، إلى غير ذلك من خدعكم وضلالاتكم، أضف إلى ذلك أن الكثير من العلماء المعاصرين أخطؤوا عندما أحجموا عن تحذير الناس من شروركم، حتى لا يُعد في نظر البعض في صف الحكام أو حتى لا تصفوه بعلماء السلطان التي أصبحت فزاعة أخافت العلماء وأصبحت تهمة جاهزة لكل من خالفكم ولو في مسألة فقهية.

حرّقتم معاذ وقتلتموه وأنتم تحرفون أحكام الشريعة الإسلامية وتستدلون بها، فقلتم: (لماذا حرقنا معاذ)، وقلتم: (إنقاذ الغريق في جواز التحريق) وأصدرتم الفتاوى المؤيدة، ونحن لا نعلم أولاً من هم علماؤكم وكتّابكم الذين أفتوا وكتبوا، أين درسوا ومن أي الجامعات تخرجوا، ما هي بحوثهم ومؤلفاتهم، من هم شيوخهم، وعند الإجابة عن هذه الأسئلة لا نجد إلا جهلة لا يعلمون من الدين إلا اسمه، ومن القرآن إلا رسمه، يقرؤون القرآن لا يُجاوز حناجرهم، كما أخبر عنهم النبي صلى الله عليه وسلم، أي: لا يرتقي إلى عقولهم فيفهمونه، فكيف يفهمون بعد ذلك أقوال العلماء وأدلتهم، وأحدهم لا يعرف أحكام الوضوء فضلاً عن الفتوى بأخطر القضايا وهي الدماء.

قلتم: إنكم حرقتم معاذاً لأنه مرتد، ولأنه شارك في حربكم مع الكفار بحسب زعمكم، واستشهدتم بأقوال العلماء في جواز قتل المرتد، ومنها قول ابن عبد البر: "من ارتد عن دينه حلّ دمه وضربت عنقه، والأمة مجتمعة على ذلك"، وقول ابن قدامة:" أجمع أهل العلم على وجوب قتل المرتد".

ولا أدري من الذي أعطاكم الحق بالحكم على المسلمين بالردة لاستباحة دمائهم؟!

ومعاذ أولاً لم يذهب لقتالكم بمشاركة الكفار الصليبيين حسب زعمكم وإنما معاذ والأردنيون جميعاً والمسلمون في أصقاع الأرض يقاتلونكم لأنكم اعتديتم عليهم فكفرتموهم، وإعلامكم شاهد على ذلك، وفجرتم فنادق عمان، وقتلتم الكثير، واستبحتم الدماء والأموال والأعراض في بلاد المسلمين، وواجب المسلمين والأمة جميعاً تحرير الأرض من إجرامكم.

ولماذا استشهدتم بأقوال العلماء في قتل المرتد وسكتم بعد ذلك عن حكم المرتد إذا تاب؟! لماذا لم تذكروا آراء العلماء في توبة المرتد؟! أوليس هذا تحريف للكلم عن مواضعه، وتحريف للنصوص لتستبيحوا الدماء وتبرروا قتلكم وإجرامكم، أحرقتم معاذ وهو يقول "لا إله إلا الله" ويقرأ القرآن،  أوليست هذه توبة أنتم من صورها ونقلها للعالم، وقد قال ابن عبد البر الذي استشهدتم برأيه: "ولا أعلم بين الصحابة خلافا في استتابة المرتد" التمهيد 5/306.

وقال ابن قدامة: "فإذا تاب المرتد قبلت توبته، وخلي سبيله" الكافي 4/61.

ولم تنقلوا عن ابن قدامة أيضاً في نفس الصفحة: "فإن رجع وإلا قتل" المغني 9/3.

بل نص العلماء على أن المرتد إذا أسلم وجب قبول ذلك منه لقوله تعالى: (وَلَا تَقُولُوا لِمَنْ أَلْقَى إِلَيْكُمُ السَّلَامَ لَسْتَ مُؤْمِنًا) النساء/94.

وكذلك تركتم قول ابن قدامة: "ويقتل بالسيف لأنه آلة القتل، ولا يحرق بالنار" المغني 9/3.

وقال الشافعي في الأم: "فوافقنا بعض أصحابنا من المدنيين والمكيين والمشرقيين وغيرهم من أهل العلم في أن لا يقتل من أظهر التوبة " الأم 6/178.

وتوبة المرتد تكون باتفاق العلماء إذا نطق الشهادتين، قال الماوردي: "فأما توبة المرتد : فتتضمن ما يصير به الكافر مسلما: لأن الردة قد رفعت عنه حكم الإسلام، فيشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله" الحاوي الكبير 13/178.

وقال السرخسي في المبسوط: "ولكن توبته أن يأتي بكلمة الشهادة، ويتبرأ من الأديان كلها سوى الإسلام... فإن ارتد ثانياً وثالثاً فكذلك يفعل به في كل مرة، فإن أسلم خلي سبيله، لقوله تعالى: (فَإِنْ تَابُوا وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ فَخَلُّوا سَبِيلَهُمْ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ)التوبة/5"المبسوط10/99.

فأين أنتم من هذه النصوص الشرعية؟!

وقلتم أنكم قتلتموه قصاصاً لأنه قتل المسلمين حسب زعمكم وكذبكم بطائرته، واستشهدتم بالأدلة الدالة على وجوب القصاص، ونسيتم أنكم قتلتم كل من خالفكم بالرأي ولو بكلمة كما نسيتم أن الأردن يستضيف مئات الآلاف من اللاجئين، محافظاً على حياتهم آمنين مطمئنين يقتسمون الأرض والخبز والماء مع الشعب الأردني، هربوا من ويلات الموت والحروب التي أشعلتموها إلى أرض آمنة، تحمي كرامة وحياة أبنائها واللاجئين إليها.

وهل تستطيعون أن تقدموا أسماء وتقولوا أن هؤلاء جزماً قتلهم معاذ وقتلناه بهم؟ وعلى فرض أنكم فعلتم ذلك فإقامة القصاص والحدود من حق ولي الأمر وليس له أن يستوفي القصاص إلا بعد عرض الجاني على أولياء الدم وتخييرهم بين العفو أو العفو مقابل الدية أو الإصرار على القصاص، فهل فعلتم هذا لتطبيق حكم الله عز وجل؟! الجواب: لا، فأنتم لا تعرفون أحكام الله، وليس ما فعلتموه قصاصاً بشروطه الشرعية، وإنما اقترفتم هذه الجريمة حقداً وغيظاً وسواداً في قلوبكم التي هي كسواد ثيابكم دون ضابط من شرع أو دين، وكذلك أسميتم فعلتكم هذه "شفاء الصدور" وقد قال الله تعالى: (وَلَا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلَّا تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى)، المائدة/8.

أضف إلى هذا أن القصاص لا يرد في سياق المعارك، ولا يرد في التعامل مع ‏الأسير، ومن ظن أن القصاص يطرأ على أسير الحرب فهذا جاهل بأبجديات الفقه الإسلامي، ثم عرضتم المسألة تحت باب" المُثلة"، وهذا جهل أيضا، فالمثلة التي بحثها بعض الفقهاء هي التي تقع على الجثة بعد موتها، والفقه الذي لا شأن لكم به يقرر أن الأسير بعد التمكن منه لا يعامل معاملة القصاص ولا يطرأ فيه الكلام في "المثلة" بل له أحكامه الخاصة.

وقلتم أن معاذ أسير حرب، ولم تأخذوا بقول العلماء في عدم جواز حرق الأسرى بالنار وهي مسألة محل اتفاق بين العلماء.

 وقلتم قال ابن تيمية، ولم تقولوا قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لا يعذب بالنار إلا رب النار) رواه أبو داود، وقال صلى الله عليه وسلم: (لا تعذبوا بعذاب الله) رواه البخاري.

ولهذا فقد بان زيفكم وظهر كذبكم وبعدكم عن الحق وعن شرع الله القويم، وإنما معاذ هو من ذهب ليقتص منكم بسبب جرائمكم التي صورتموها للعالم أجمع، والمتمثلة بقتل المئات جهاراً نهاراً، وارتكبتم الكثير من المجازر  بمجرد الشبهة، وفعلتم ما لم يفعله أعداء المسلمين خلال قرون طويلة، ورجمتم النساء بطريقة إجرامية تحت مسمى إقامة الحدود، وقتلتم كل من خالفكم في الرأي، وجهلتكم يفتون لكم بذلك، فمن أحق بالقصاص أنتم أم معاذ؟ من الذي احتل البلاد وشرد شعوباً بأكملها! ماذا فعلتم بالأسرى، وماذا فعلنا بهم؟! حتى صدق فيكم وفينا قول القائل:

ملكنا فكان العفو منا سجيةً
وحللتمُ قتل الأسارى وطالما
وما عجبت هذا التصرف منكمُ
 

 

فلما ملكتم سالت بالدم أبطحُ
غدونا إلى الأسرى نمن ونصفحُ

فكل إناء بالذي فيه ينضحُ
 

سبق وحذرنا منكم ومن فكركم ومن الفتاوى التي صدرت تؤيد جهادكم لأننا نعلم مآلات أفعالكم ونتائجها، والفتوى يجب أن تراعي النتائج والمآلات، وما يترتب عليها.

ستبقى جرائمكم شاهدة عليكم على مر التاريخ، وسيبقى دم معاذ يطاردكم، فتبت تلك الأيدي التي أحرقته، وكسرت تلك الأقلام، وشلت هذه الألسنة التي شوهت الإسلام، فويل لكم وويل لكل من روج لكم بفتوى، أو مقال ولكل من لم يستنكر أفعالكم الخارجة عن الإسلام.