دور المجتمع في الحد من الحوادث

الكاتب : المفتي الدكتور محمد بني طه

أضيف بتاريخ : 05-06-2014


 

تعد حوادث السير ظاهرة خطيرة جداً على المجتمعات لما تخلفه من أضرار مادية ومعنوية تتمثل في إزهاق الأرواح، وإتلاف الأموال، وما يترتب على ذلك من آثار نفسية واجتماعية على ذوي الأشخاص الذين يشتركون في هذه الحوادث.

والمجتمع الأردني من أشد المجتمعات التي ترزح تحت تأثير هذه الظاهرة الخطيرة التي تتسبب سنوياً في حصد آلاف الأرواح عدا آلاف الجرحى والمصابين الذين أصيبوا بإعاقات دائمة أو جزئية بسبب هذه الحوادث القاتلة والبشعة التي تتسبب أيضاً في خسارة الأردن والأردنيين مالياً مبالغ طائلة تقدر بمئات الملايين. (مقالة في جريدة الغد بعنوان "الأردن يتصدر قائمة دول العالم في حوادث السير/ 2/7/2005).

ولا تزال الجهود تبذل لمحاولة التصدي لهذه الظاهرة من خلال إجراء الدراسات وعقد المؤتمرات وورش العمل والقيام بحملات التوعية سواء من الحكومة أو من مؤسسات المجتمع المدني، لكن حوادث السير مستمرة في الفتك بالأرواح والممتلكات، مما يثير التساؤل عن سبب الاستشراء المخيف لهذه الظاهرة رغم كل الجهود المبذولة لمحاربتها والحدّ منها.

إنّ المجتمع هو المعني الأساسيّ بمحاربة هذه الظاهرة؛ كونه هو الذي يصطلي بنارها ويرزح تحت ويلاتها، فيجب أن يقوم بدور إيجابي فاعل في هذه المواجهة، لكنه وللأسف يقوم في كثير من الأحيان بدور سلبي من حيث يدري أو لا يدري، مما يؤدي إلى استفحال واستشراء هذه الظاهرة.

والدور السلبي للمجتمع والذي يتسبب في زيادة حوادث السير وتعاظم خطرها يتمثل فيما يلي:

أولاً: الثقافة المجتمعية المغلوطة

يجعل المجتمع من عقيدة القضاء والقدر التي هي من أركان الإيمان مبرراً لحوادث السير وما يترتب عليها من فجائع بغض النظر عن سبب وظروف الحادث، سواء أكان إهمالاً أو استهتاراً أو تهوراً أو تعمد مخالفة قوانين وأنظمة السير، فكلها تبرر بأنّ الحادث وقع بقضاء الله وقدره.

ومن المُسَلَّم به أنه لا يتحرك متحرك ولا يسكن ساكن إلا بقضاء الله وقدره، وكل ما يحدث في الكون لا يمكن أن يخرج عن قضاء الله وقدره، لكن ذلك كله لا يبرر لمن تسبب بالحادث تهوره واستهتاره وإهماله ومخالفته لقوانين وأنظمة السير؛ لأن جميع هذا من كسبه وهو مخير فيه غير مجبر عليه، ولم يطلع على الغيب فيرى ما قدره الله تعالى عليه قبل أن يقع، فيجب أن يحاسب ويعاقب على ذلك، وإلا كان تشريع العقوبات -والعياذ بالله- عبثاً.

والعقوبات لم تشرع لذاتها، ولكن لما يترتب على تطبيقها من حفظ حياة المجتمع وأمنه، قال تعالى: (وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ يَا أُولِي الْأَلْبَابِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ) البقرة/ 179، وكذلك هذا المتسبب يستفيد من ناحية أنه يتعظ ويعلم أنه مسؤول عن أفعاله وأن ما يسببه من أضرار مادية ومعنوية يجب أن يدفع ثمنه، فينزجر عن تكرار هذه المخالفات قال صلى الله عليه وسلم: (انْصُرْ أَخَاكَ ظَالِمًا، أَوْ مَظْلُومًا، فَقَالَ رَجُلٌ: يَا رَسُولَ اللهِ أَنْصُرُهُ إِذَا كَانَ مَظْلُومًا، أَفَرَأَيْتَ إِذَا كَانَ ظَالِمًا كَيْفَ أَنْصُرُهُ؟ قَالَ: تَحْجُزُهُ، أَوْ تَمْنَعُهُ مِنَ الظُّلْمِ، فَإِنَّ ذَلِكَ نَصْرُهُ) صحيح البخاري.

وبالتالي تحقق العقوبة مقصدها المتمثل في الحفاظ على أمن وسلامة المجتمع، والأخذ على أيدي الأفراد الذين يعتدون على أمن المجتمع ومصلحته العامة، وإصلاحهم بحيث يصبحون عناصر بناء في مجتمعهم.

ثانياً: من خلال الفهم الخاطئ لقيم العفو والتسامح

بمجرّد وقوع الحادث وحصول الفاجعة يبدأ الجميع بتقديم المواعظ والخطب عن أهمية العفو والتسامح وفضلها عند الله تعالى وعند عباده، وهذا ناتج عن ازدواجية في النظرة المجتمعية، فهم ينظرون إلى الجاني وما سيقع عليه من عقاب، وما يترتب على ذلك من آثار على ذويه بعين الرحمة والشفقة والعطف أكثر بكثير من نظرتهم إلى فجيعة المجني عليه وذويه، بحجة أن الحي أبقى من الميت وهذا ظلم وجور.

وقد جاءت الدراسات والتحليلات تؤكد أن الاستهتار والعدوانية في القيادة هي السبب البارز في الكوارث المرورية التي تحدث في بلدنا الحبيب، حيث كشفت نتائج التحليل لبيانات الحوادث من عام 1998 حتى عام 2007 أن الأردن قد تعرض لخسائر بشرية واقتصادية، وكذلك اجتماعية، وكانت اللامبالاة والعدوانية في القيادة هي الأسباب الرئيسية لحوادث السير.

العفو والتسامح من الأخلاق التي دعا لها الشرع الحنيف وحضّ عليها وبيّن فضلها وأثرها الطيب، وقد تعدّدت النصوص وتضافرت على ذلك، ومنها على سبيل التمثيل لا الحصر، قوله تعالى: (وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ وَاللّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ) آل عمران/ 134، وما روي أنه عليه الصلاة السلام قال: (إذا وَقفَ العبادُ للحسابِ جاءَ قومٌ واضِعي سيوفِهم علَى رقابِهم تَقطرُ دمًا فازدَحَموا علَى بابِ الجنَّةِ، فقيلَ: مَن هؤلاءِ؟ قيلَ: الشُّهداءُ كانوا أحياءَ مُرزوَقينَ، ثمَّ ينادي مُنادٍ ليَقُم مَن أجرُهُ علَى اللَّهِ فيدخُلِ الجنَّةَ قيل ومَن ذا الَّذي أجرُهُ علَى اللَّهَ، قال: العافونَ عنِ النَّاسِ، ثمَّ ينادي الثَّانيةَ ليَقُمْ مَن أجرُه علَى اللَّهِ فيدخُلِ الجنَّةَ قالَ: ومن ذا الَّذي أجرُه علَى اللَّهِ؟ قال:َ العافونَ عنِ النَّاس،ِ ثمَّ يُنادي الثَّالثةَ ليَقُمْ مَن أجرُهُ علَى اللَّهِ فيَدخُلِ الجنَّةَ، فقامَ كذا وَكذا ألفًا فدَخلوها بغيرِ حِسابٍ) "أخرجه السيوطي في البدور السافرة".

لكن أولئك الداعين يغفلون أو يتغافلون عن أن العفو يجب أن يوضع موضعه حتى يحقق مقصده بنشر المحبة والإخاء في المجتمع، أما إذا كان العفو والتسامح يؤدي إلى تشجيع الاستهتار واللامبالاة عند المتسببين بحوادث السير، وذلك بإعفائهم عن تحمل نتيجة تهوّرهم واستهتارهم بأرواح الناس وممتلكاتهم الناتج عن خرقهم لكل أنظمة وتعليمات السير، فإنه لا يبقى عفو وتسامح، بل يصبح إفساداً وتشجيعاً على الاستهتار، فيدفع المجتمع ثمن ذلك كله مزيداً من الضحايا من زهور الوطن وحبات فؤاده وسيستمر شلال الدماء الزاكية بالتدفق.

وصدق الشاعر حين قال:

ووضع الندى في موضع السيف بالعُلى       مضر كوضع السيف في موضع الندى

ثالثا: العادات المجتمعية والأعراف العشائرية:

لا ينكر الدور الإيجابي الذي تؤديه العادات المجتمعية والأعراف العشائرية في إشاعة روح الوئام والمحبة في المجتمع من خلال تهدئة النفوس في حال وقوع الجرائم والفجائع في المجتمع، لكن هذا لا يعني أنه ليس لهذه العادات والأعراف دور سلبي، فقد ينتج عن ذلك أكل وهضم حقوق الآخرين، خاصة القاصرين تحت مسمى العفو والتسامح والشيم، وذلك بالتنازل عن حقوقهم من قبل أوليائهم تحت مسمى العفو ومراعاة الأعراف والعادات، كما قد يكون في هذه العادات والأعراف تشجيع على التهور والاستهتار، لا سيما في حوادث السير، وذلك نتيجة أن هذه الأعراف والعادات تتعامل مع جميع الحوادث على قدم المساواة دون تفريق بين ما كان منها ناتجاً عن التهور والطيش وبين ما حدث رغم الأخذ بكل احتياطات السلامة اللازمة.

وبينت دراسة علمية ميدانية (إحصائية المعهد المروري عام 2010) وجود حالة من المساواة (شبه المطلقة) بين المواطن الصالح الملتزم بأخلاقيات وأنظمة السير الذي ليس له ذنب في حصول حادث السير الذي أدى إلى الوفاة، وبين مواطن طائش ومستهتر وغير ملتزم بأخلاقيات وأنظمة السير، وهو نفسه المسؤول، وهو وحده المسبب لحادث السير الذي أدى إلى قتل إنسان، ومن الحقائق المذهلة التي بينتها الدراسة التقارب في مدة التوقيف، فمعدل مدة توقيف السائق المذنب غير الملتزم والمسبب لقتل إنسان هو (11) يوما، بينما توقيف السائق البريء الملتزم، وغير المسؤول عن وقوع الحادث، هو (7.5) يوم، وهذا نتيجة التعامل مع جميع الحوادث على قدم المساواة دون تفريق بين ما كان منها ناتجاً عن التهور والطيش وبين ما حدث رغم الأخذ بكل الاحتياطات اللازمة للسلامة العامة.

كما أن هذه العادات والأعراف والتي تكون من خلال الجاهات والعطوات والتي تهدف للصلح وإسقاط الحقّ الشخصيّ مقابل فنجان القهوة وما تتحمله شركات التأمين تجعل المستهتر والطائش الذي تسبب في قتل وإنهاء حياة أشخاص كانوا محط أمل ذويهم ومجتمعاتهم، وما يتبع ذلك من آثار نفسية مدمرة على ذويهم تجعل المتسبب في هذه الفاجعة يفلت من أي عقاب أو مسؤولية، وبالتالي بقاء هذه الظاهرة في ازدياد وعدد الضحايا والفجائع بارتفاع، وقد قيل: من أمن العقاب أساء الأدب.

فلا بدّ لنا أن نراجع حساباتنا في بعض عاداتنا الاجتماعية السلبية فنجعلها تحارب وتحاصر ظاهرة حوادث السير بدلاً من تشجيعها، ولا يكون ذلك إلا بتضافر الجهود من جميع أطياف وفعاليات المجتمع، حتى ينعم المجتمع بالأمن من هذا الخطر الذي يحصد من فلذات أكبادنا مالا تحصده الحروب والأوبئة، نسأل الله تعالى أن يمنّ علينا بالأمن والإيمان ويصرف عنا كل مكروه، وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.