حمّى الإفتاء وعلاجها

الكاتب : المفتي الدكتور حسان أبو عرقوب

أضيف بتاريخ : 28-01-2014


 

يشهد العالم العربي والإسلامي ما نشاهده من فوضى في الحياة السياسية والاقتصادية حتى أصاب ذلك الحياة الدينية.

وتتلخص أعراض هذا المرض بالفوضى العارمة في الفتاوى التي تشهدها الساحة الدينية، حيث اعتلى غير المتخصصين منابر الإعلام للفتوى، وانتشرت فتواهم بسرعة انتشار النار في الهشيم عن طريق وسائل الاتصال الحديثة.

لقد اغتُصب حق الإفتاء من المتخصصين من أهل العلم والتقوى، والمؤسسات العلمية البحثية أو ما يعرف بدور الإفتاء، وحازه كل راغب، حتى صار الإفتاء مشاعًا بين الناس.

إن أمر الفتوى في الإسلام جد خطير، ولا يستهان به، فهو توقيع عن رب العالمين، وسيسأل الله كل إنسان عما قاله أو فعله. يقول الله تعالى:(وَلاَ تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولـئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْؤُولاً) الإسراء/36.

ويفهم من الآية: أن ربنا سبحانه وتعالى نهى عباده أن يتتبعوا ما لا علم لهم به، فيحكموا بما لا يعلمون "تفسير الطبري" (10/ 257). وعلى المسلم إن سئل عن مسئلة لم يسمع جوابها من قبل، ولم يطلع على أقوال العلماء فيها، أن يقول: لا أدري؛ لأنه يحرم على المسلم أن يقول في دين الله ما لا علم له به، وإلا كان مفتريًا على الله تعالى، ورسوله صلى الله عليه وسلم، والله تعالى يقول:(وَلاَ تَقُولُواْ لِمَا تَصِفُ أَلْسِنَتُكُمُ الْكَذِبَ هَذَا حَلاَلٌ وَهَذَا حَرَامٌ لِّتَفْتَرُواْ عَلَى اللّهِ الْكَذِبَ إِنَّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللّهِ الْكَذِبَ لاَ يُفْلِحُونَ) النحل/116، ويقول النبي صلى الله عليه وسلم:(من كذب علي متعمدًا فليتبوأ مقعده من النار) متفق عليه.

كم من الأرواح قتلت بسبب فتوى، وكم من الأموال أتلفت بسبب فتوى، وكم من السلوكيات انحرفت بسبب فتوى، إنها الفتوى بغير علم، تتلف العباد والبلاد, وتُضل السائرين فلا يهتدون سبيلا. يقول النبي صلى الله عليه وسلم:(إِنَّ اللَّهَ لاَ يَقْبِضُ العِلْمَ انْتِزَاعًا يَنْتَزِعُهُ مِنَ العِبَادِ، وَلَكِنْ يَقْبِضُ العِلْمَ بِقَبْضِ العُلَمَاءِ، حَتَّى إِذَا لَمْ يُبْقِ عَالِمًا اتَّخَذَ النَّاسُ رُءُوسًا جُهَّالًا، فَسُئِلُوا فَأَفْتَوْا بِغَيْرِ عِلْمٍ، فَضَلُّوا وَأَضَلُّوا) متفق عليه.

وليست آثار الفتوى التي ذكرتها أمرا جديدا، بل هي كذلك خطيرة منذ وجدت، فعن جابر  رضي الله عنه قال: خَرَجْنَا فِي سَفَرٍ فَأَصَابَ رَجُلًا مِنَّا حَجَرٌ فَشَجَّهُ فِي رَأْسِهِ، ثُمَّ احْتَلَمَ فَسَأَلَ أَصْحَابَهُ فَقَالَ: هَلْ تَجِدُونَ لِي رُخْصَةً فِي التَّيَمُّمِ؟ فَقَالُوا: مَا نَجِدُ لَكَ رُخْصَةً وَأَنْتَ تَقْدِرُ عَلَى الْمَاءِ فَاغْتَسَلَ فَمَاتَ، فَلَمَّا قَدِمْنَا عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أُخْبِرَ بِذَلِكَ فَقَالَ:(قَتَلُوهُ قَتَلَهُمُ اللَّهُ أَلَا سَأَلُوا إِذْ لَمْ يَعْلَمُوا فَإِنَّمَا شِفَاءُ الْعِيِّ السُّؤَالُ...) رواه أحمد وأبوداود. وهكذا ترتب على الفتوى بغير علم الفساد العريض.

إذن لا بد من الحدّ من الفساد الناشئ عن الفتوى بغير علم، بل ومكافحة هذه الظاهرة غير الشرعية، وهذا أمر ضروري للحفاظ على دين الناس وأرواحهم وأموالهم، وبمعنى آخر: إن انضباط الفتوى يعمل على الحفاظ على مقاصد الشريعة الإسلامية.

ومن طرق المقترحة لمكافحة الفتوى بغير علم:

أولًا: نشر العلم بين الناس بوسائل الإعلام المختلفة عن طريق تخصيص برامج أسبوعية إذاعية وتلفزيونية لتقديم الفتاوى من قبل المفتين بدائرة الإفتاء بهدف تحصين المجتمع من فوضى الفتاوى التي تتولى كبرها وسائل الإعلام المختلفة.

 ثانيًا: توعية الناس بخطر القول على الله بغير علم عن طريق دروس المساجد وخطب الجمعة وفي الندوات والمحاضرات في مختلف الأماكن.

ثالثا: تسهيل الحصول على الفتوى الشرعية من خلال استعمال وسائل الاتصال الحديثة،  وتعزيز وجود المفتين في كل أرجاء البلاد طولا وعرضًا حتى يتمكن المستفتون من مقابلتهم والتعلم منهم والحصول على الإجابات الصحيحة لفتواهم، مستغنين بذلك عن فتوى الجهلة وأدعياء العلم.  

رابعًا:  محاسبة من ليس أهلا للفتوى إذا تصدر لها، ومعاقبة المجترئين على الإفتاء ممن ليسوا من أهله.

خامسًا:  تنظيم شؤون الفتوى بحيث تحدد الجهات والشخصيات المؤهلة للإفتاء.

وينبغي على المسلمين جميعًا -أفرادًا ومؤسساتٍ رسمية وغير رسمية- أن يعملوا على: إيجاد "المتخصصين" من أهل العلم والتقوى. وإنشاء المؤسسات العلمية التي تقدم الفتوى بشكل علمي وموثق، كي ينشروا الدين الإسلامي، ويبينوا الأحكام الشرعية المستندة إلى الأدلة الشرعية المعتمدة، ويستغني الناس عن تجرؤ الجهلة على الإفتاء، الذين تثير فتاواهم المشكلات في المجتمع، ولا تشكل له حلولا.