ضوابط رخصة الكذب بين الزوجين

الكاتب : المفتي أحمد الكساسبة

أضيف بتاريخ : 18-12-2013


 

 

الحمد لله وحده، والصلاة والسلام على من لا نبي بعده، عليه وعلى آله وصحبه أجمعين، وبعد:

اهتم الإسلام بالأسرة اهتماماً بالغاً، فهي اللبنة الأولى في بناء المجتمع الصالح، فوضع لها نظاماً حكيماً يرتكز على دعائم وأسسٍ قوية، لتحقيق سعادتها واستقرارها، فلم يترك الإسلام شأناً من شؤونها إلا ودعمه بقسطٍ كبيرٍ من الإرشادات والتوجيهات التي لو أخذت بها الأسرة لكانت في مأمن من التفكك والضعف.

وقد بلغت عناية الإسلام وحرصه على تماسك الأسرة بأن أباح -ضمن ضوابط محددة- الكذب بين الزوجين، إلا أن بعض الأزواج قد يتعدى في استعماله لهذه الرخصة نتيجة الفهم الخاطئ لمقصد الإسلام من إباحتها؛ لذا سيتم  تسليط الضوء في هذا المقال –إن شاء الله تعالى- على حدود وضوابط استعمال هذه الرخصة.

حكم الكذب بين الزوجين، وحقيقته.

دلت النصوص الشرعية على جواز الكذب بين الزوجين، فعن أم كلثوم بنت عقبة بن أبي معيط  رضي الله عنها، أنها سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يقول: (ليس الكذاب الذي يصلح بين الناس ويقول خيرًا وينمى خيرًا، قالت: ولم أسمعه، أي الرسول صلى الله عليه وسلم يرخص في شيء مما يقول الناس كذب إلا في ثلاث: الحرب، والإصلاح بين الناس، وحديث الرجل امرأته، وحديث المرأة زوجها). رواه مسلم، حديث رقم:(2065).

وعن أسماء بنت يزيد رضي الله عنها قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:(لا يحل الكذب إلا في ثلاث:يحدث الرجل امرأته ليرضيها، والكذب في الحرب، والكذب ليصلح بين الناس) رواه الترمذي، حديث رقم:( 1939) وقال عنه حديث حسن.

ولكن ما حقيقة الكذب المقصود في هذه النصوص؟ هل المقصود صريح الكذب أم التورية؟

اختلف العلماء في ذلك، فذهبت طائفة من العلماء إلى أن الكذب المباح بين الزوجين يحمل على صريح الكذب بمعنى:الإخبار عن الشيء على خلاف ما هو عليه، والأولى الاقتصار على التورية بمعنى: أن يقصد المتكلم في كلامه مقصوداً صحيحاً ليس هو كاذباً بالنسبة إليه، وإن كان كاذباً في ظاهر اللفظ بالنسبة إلى ما يفهمه المخاطب ومثال ذلك ما رواه أنس رضي الله عنه، أَنَّ رَجُلًا أَتَى النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، احْمِلْنِي، قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:(إِنَّا حَامِلُوكَ عَلَى وَلَدِ نَاقَةٍ» قَالَ: وَمَا أَصْنَعُ بِوَلَدِ النَّاقَةِ؟ فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:«وَهَلْ تَلِدُ الْإِبِلَ إِلَّا النُّوقُ) رواه أبو داود والترمذي وقال عنه: "حديث صحيح غريب". فالنبي صلى الله عليه وسلم استعمل التورية في حديثه مع هذا الرجل، فقصد أنه سيحمله على الإبل، وهو معنىً صحيح، ولكنه غير متبادر إلى الذهن من خلال ظاهر اللفظ، في حين فهم هذا الرجل من ظاهر اللفظ أن النبي صلى الله عليه وسلم سيحمله على صغير الإبل –ولد الناقة- الذي لا يمكنه حمل الأثقال لصغر سنه، الأمر الذي قاد الرجل للاستغراب من رده صلى الله عليه وسلم.

في حين ذهبت طائفة أخرى من العلماء إلى أن المقصود بالكذب المباح بين الزوجين هو التورية، ولا يجوز الكذب في شيء أصلاً.

يقول الإمام النووي رحمه الله تعالى في معرض شرحه لحديث أم كلثوم بنت عقبة السابق:"قال القاضي: لا خلاف في جواز الكذب في هذه الصور، واختلفوا في المراد بالكذب المباح فيها ما هو؟ فقالت طائفة: هو على إطلاقه، وأجازوا قول ما لم يكن في هذه المواضع للمصلحة، وقالوا: الكذب المذموم ما فيه مضرة، واحتجوا بقول إبراهيم صلى الله عليه وسلم:(بل فعله كبيرهم) و (إني سقيم) وقوله:(إنها أختي)، وقول منادي يوسف صلى الله عليه وسلم:(أيتها العير إنكم لسارقون) ...وقال آخرون منهم الطبري: لا يجوز الكذب في شيء أصلا. قالوا: وما جاء من الإباحة في هذا المراد به التورية، واستعمال المعاريض، لا صريح الكذب" انتهى من "شرح النووي على مسلم"(8/426).

ويقول الإمام النووي في موضع آخر:" والظاهر إباحة حقيقة نفس الكذب، لكن الاقتصار على التعريض أفضل. شرح النووي على مسلم( 6/181).

ويستفاد من هذا أن العلماء متفقون على مشروعية أن يوري الزوجان في حديثهما على بعضهما، واختلفوا في جواز استعمال الكذب الصريح بين الزوجين ما بين مبيح له ومانع له، ولذا يستحب للزوجين عدم الإقدام على الكذب الصريح إن أمكن استعمال التورية والمعاريض، ولكن لو ترك الزوجان التورية، وأطلقا عبارة الكذب فلا يحرم ذلك. 

ضوابط الكذب بين الزوجين    

حدد العلماء ضوابط عدة- يمكن استنباطها من نصوصهم- لإباحة الكذب بين الزوجين، يجب توفرها قبل اللجوء إلى الكذب، وإلا وقع الكاذب في المعصية واستحق الإثم؛ مصداقًا لقوله عليه الصلاة والسلام:(وإن الكذب يهدي إلى الفجور، وإن الفجور يهدي إلى النار، وإن الرجل ليكذب حتى يكتب عند الله كذابًا) متفق عليه.

وضوابط الكذب بين الزوجين هي:

الضابط الأول:عدم اللجوء إلى الكذب إلا في حال الضرورة والحاجة فقط، أو عند وجود مصلحة للزوجين لا يمكن تحصيلها إلا بالكذب، وأما الاعتياد على الكذب في كل شأن من شؤون الحياة الزوجية ودون حاجة فلا يباح ذلك.

يقول الإمام النووي: "فهذا -(ليس الكذاب الذي يصلح بين الناس....)- حديث صريح في إباحة بعض الكذب للمصلحة، وقد ضبط العلماء ما يباح منه، وأحسن ما رأيت في ضبطه، ما ذكره الإمام أبو حامد الغزالي فقال: الكلام وسيلة إلى المقاصد، فكل مقصود محمود يمكن التوصل إليه بالصدق والكذب جميعًا، فالكذب فيه حرام؛ لعدم الحاجة إليه، وإن أمكن التوصل إليه بالكذب، ولم يمكن بالصدق، فالكذب فيه مباح إن كان تحصيل ذلك المقصود مباحًا، وواجب إن كان المقصود واجبًا" انتهى "الأذكار النووية" (1/377).

ويقول الإمام الخطابي: " هذه أمور قد يضطر الإنسان فيها إلى زيادة القول، ومجاوزة الصدق؛ طلباً للسلامة، ودفعاً للضرر عن نفسه، وقد رخص في بعض الأحوال في اليسير من الفساد؛ لما يؤمل فيه من الصلاح" انتهى "معالم السنن" (1/377).

الضابط الثاني:ألا يترتب على الكذب بين الزوجين أمر محرم شرعًا، كأن يستعمله أحد الزوجين وسيلة لإسقاط أو منع حق عليه للزوج الآخر، مثل: كذب الزوج على زوجته من أجل منع نفقتها الواجبة عليه، أو كذب الزوجة من أجل إسقاط حق للزوج عليها.

أو أن يكون الكذب سببًا في التعدي على حق أحد الزوجين كأكل ماله بالباطل أو التعدي على منفعة خاصة به، فالكذب هنا محرم شرعًا، ولا يجوز مطلقًا؛ لأنه منافٍ لمقصود الشارع من إباحة الكذب بين الزوجين، والمفسدة فيه راجحة على المصلحة من الكذب.

أو أن يكون الكذب سببًا في الإضرار بأحدهما، أو أن يكون غطاء للوقوع في الفواحش.

 يقول ابن حجر: " واتفقوا على أن المراد بالكذب في حق المرأة والرجل إنما هو فيما لا يسقط حقًا عليه، أو عليها، أو أخذ ما ليس له أو لها " انتهى " فتح الباري" (5/300).

الضابط الثالث:أن يكون الكذب فيما يتعلق بأمر المعاشرة الزوجية وحصول الألفة بينهما، وذلك كأن يستعمل الكذب لإظهار الود، والمحبة، والوعد بما لا يلزم، وإصلاح خلق زوجته، فقد روى الإمام البغوي:( أن رجلاً قال في عهد عمر -رضي الله عنه- لامرأته: نشدتك بالله هل تحبيني؟ فقالت: أما إذا نشدتني بالله، فلا، فخرج حتى أتى عمر، فأرسل إليها، فقال: أنتِ التي تقولين لزوجك: لا أحبك؟ فقالت:يا أمير المؤمنين نشدني بالله، أفأكذب؟ قال: نعم فاكذبيه، ليس كل البيوت تبنى على الحب، ولكن الناس يتعاشرون بالإسلام والأحساب " انتهى "شرح السنة" (باب إصلاح ذات البين وإباحة الكذب فيه).

ويقول الإمام النووي:" وأما كذبه لزوجته، وكذبها له، فالمراد به في إظهار الود والوعد بما لا يلزم ونحو ذلك، فأما المخادعة في منع ما عليه أو عليها، أو أخذ ما ليس له أو لها، فهو حرام بإجماع المسلمين" انتهى من "شرح النووي على مسلم"( 8/426).

ويقول الإمام الخطابي:" فأما كذب الرجل زوجته فهو أن يعدها ويمنيها ويظهر لها من المحبة أكثر مما في نفسه يستديم بذلك محبتها ويستصلح به خلقها" انتهى "معالم السنن" (4/123).

حلف أحد الزوجين كذبًا أخذاً بهذه الرخصة

أذا أضطر أحد الزوجين للكذب على الزوج الآخر، كأن لم يصدقه إلا إذا حلف له لتأكيد كلامه، فهل يباح له الحلف في هذه الحالة؟

سبقت الإشارة – في المقال- إلى اتفاق العلماء على جواز استعمال التورية في الكذب بين الزوجين، ولذا فإذ أضطر أحدهم للحلف وورى بيمينه جاز له ذلك، جاء في "حاشية البيجرمي على المنهاج" (17/43):" ويعتبر في الحالف نية الحاكم المستحلف للخصم بعد الطلب له، فلا يدفع إثم اليمين الفاجرة نحو تورية كاستثناء لا يسمعه الحاكم، وذلك لخبر مسلم: ( اليمين على نية المستحلف ) وهو محمول على الحاكم؛ لأنه الذي له ولاية التحليف، فلو حلف إنسان ابتداء أو حلفه غير الحاكم، أو حلفه الحاكم بغير طلب أو بطلاق أو نحوه، اعتبر نية الحالف، ونفعته التورية، وإن كانت حرامًا حيث يبطل بها حق المستحق".

ولكن إذا حلف أحد الزوجين كذبًا دون تورية، فالذي يفهم من كلام العلماء المبيحين لصريح الكذب جواز ذلك عند الضرورة الحقيقية المعتبرة التي لا يترتب عليها التعدي على حق الغير؛ لأنه لو لم يفعل، لما تحقق تحصيل المنفعة المرجوة منه أو دفع المفسدة التي أبيح من أجلها الكذب في هذه الحالة.

وبعد هذا العرض الموجز لضوابط رخصة الكذب بين الزوجين، فالواجب على الأزواج أن يتقوا الله تعالى، وألا يتساهلوا في الأخذ في هذه الرخصة، وأن يجعلوها آخر ما يلجأ إليه لمعالجة المشاكل الأسرية عند توفر ضوابطها الشرعية، ونسأل الله عز وجل أن ينفعنا بما علمنا، وأن يعلمنا ما ينفعنا، إنه على ذلك قدير.