وقفات مع آية الإسراء

الكاتب : المفتي الدكتور محمد بني عامر

أضيف بتاريخ : 01-07-2013


 

الحمد لله رب العالمين، وأفضل الصلاة وأتم التسليم، على سيدنا محمد بن عبد الله النبي الأمي العربي الأمين، وعلى آله وأصحابه والتابعين، ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين، أما بعد:

فقد اقتضت سنة الله سبحانه وتعالى في خلقه أن تأتي المنحة بعد المحنة، وأن يأتي النصر بعد الصبر، وأن يأتي الفرج بعد الكرب، وأن يأتي اليسر بعد العسر، والناظر في تفاصيل رحلة الإسراء والمعراج وما سبقها من أحداث يدرك أنَّ الله تعالى أراد لهذه الرحلة المباركة أن تكون منحة بعد محنة، ونصرًا بعد صبر، وفرجًا بعد كرب، ويسرًا بعد عسر.

لقد ذكر الله تعالى رحلة الإسراء في آية قرآنية كريمة واحدة في مطلع السورة التي سُمِّيَتْ باسم هذه الرحلة: سورة الإسراء. يقول سبحانه وتعالى: (سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلًا مِّنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الأَقْصَى الَّذِي بَارَكْنَا حَوْلَهُ لِنُرِيَهُ مِنْ آيَاتِنَا إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ) الإسراء/1، ولنا مع هذه الآية الكريمة عدة وقفات:

الوقفة الأولى: قوله تعالى: (سبحان): فقد بدأت الآية بالتسبيح، والتسبيح هو تنزيه الله تعالى عن أي عجز أو نقص لا يليق بذاته العلية، أو صفاته أو أفعاله، فإذا تنزه الخالق عن قانون البشر، فلا غرابة إذا أسرى بعبده ليلًا من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى.

و(سبحان) -في اللغة- اسم مصدر، ورغم أن التسبيح ورد في القرآن الكريم بصيغة الفعل الماضي (سبح لله)، وبصيغة الفعل المضارع (يسبح لله) وبصيغة فعل الأمر (فسبِّح باسم ربك العظيم)، إلا أنه ورد هنا بصيغة المصدر (سبحان)؛ لأن ميزة المصدر الثبات والاستمرار، فالله تعالى أهل للتسبيح سواء كان هناك من يسبحه من خلقه أو لم يكن؛ لأن المصدر حدث مجرد لا يقترن بزمن.

الوقفة الثانية: قوله تعالى: (أسرى بعبده): والمراد (بعبده) بإجماع المفسرين هو محمد عليه الصلاة والسلام، لكن الله تعالى لم يقل: "بمحمد"، ولم يقل: "برسوله"؛ لأنَّ الدين كلَّه قائم على تصحيح عبودية الإنسان لله على وجه هذه المعمورة، ولأن الإنسان مهما عظم فلا يعدو أن يكون عبدًا لله، وهذا المقام مقام تشريف، ومقام العبودية لله تعالى لا يعدله مقام، فوصف سيدنا محمد صلى الله تعالى عليه وسلم بأنه عبدٌ لله، هو تكريم له وإظهارٌ لمكانته ورفعٌ لذكره.

ثم إن في هذا الوصف دليلًا قاطعًا على أن الإسراء كان بالرُّوح والجسد معًا، لأنَّ كلمة (العبد) لا تطلق على الرُّوح وحدها، ولا على الجسد وحده، إنَّما تطلق على الروح والجسد معًا، وهذا ما قال به العلماء، إذ لو كان الإسراء بالروح فقط لما أنكر ذلك أحدٌ من قريش، والنائم تسري روحه إلى آفاق بعيدة في هذا الكون الواسع ولا ينكر عليه أحد.

الوقفة الثالثة: قوله تعالى: (ليلًا)، مع أن الإسراء لا يكون إلا ليلًا؛ ليبين لنا أن هذه الرحلة تمت في جزء من الليل ذهابًا وإيابًا، ولو قال سبحانه: "أسرى بعبده في الليل" لربما توهم متوهم أن الرحلة استغرقت الليل كله. وقد نص النحاة على أن (أل) التعريف إذا دخلت على كلمة (ليل) استغرقته، فإذا قلتَ: "سهرتُ الليل"، فهذا يعني أنك سهرت الليل كله، وإذا قلتَ: "سهرتُ ليلًا"، فهذا يعني أنك سهرت جزءًا من الليل، قال تعالى عن الملائكة: (يُسَبِّحُونَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ لَا يَفْتُرُونَ) الأنبياء/20؛ أي أنهم يسبحون كل الليل وكل النهار، ولو قال: "يسبحون ليلًا ونهارًا" لكان المعنى أنهم يسبحون جزءًا من الليل وجزءًا من النهار.

كما أنَّ الإسراء كان ليلًا لا نهارًا، لأنَّ الليل هو وقت تنام فيه العيون، ويهدأ فيه الضجيج، ويخشع فيه الكون كله، فتطيب المناجاة، ويحلو الدنوُّ والقرب والوصال، كما أن الإسراء حدث ليلًا؛ لتظل المعجزة غيبًا يؤمن بها مَن يؤمن بالغيب، ولو حدثت في النهار لرآه الناس أثناء ذهابه أو عودته، فتصبح المسألة عندئذٍ حسية مشاهدة لا مجال فيها للإيمان بالغيب.

الوقفة الرابعة: قوله تعالى: (مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الأَقْصَى): فهذه الرحلة كانت بين مسجدين من المساجد الثلاثة التي لا تشد الرحال إلا إليها، وفي قوله تعالى: (مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ) مع أن بعض الروايات تذكر أن الإسراء كان من بيت أم هانئ وهو خارج المسجد؛ للدلالة على أن مكة كلها مسجد، فما دخل في المسجد الحرام من توسعة حكمه حكم المسجد الحرام، وسُمّيَ المسجدُ الحرامُ بهذا الاسم لحُرمتِهِ أي لشرفه على سائرِ المساجدِ؛ لأنَّه خُصَّ بأحكامٍ ليست لغيره، وسُمّي المسجد الأقصى بهذا الاسم لبعد المسافة بينه وبين المسجد الحرام، مع أنه لم يكن في ذلك الوقت مسجد تقام فيه الصلاة في بيت المقدس للدلالة على أن هذا المسجد سيُبنى وستقام فيه الصلاة.

ومن المعلوم أن المسجد الأقصى وُضع بعد الكعبة بأربعين عامًا، وقوله تعالى: (الأَقْصَى) إشارة إلى أنه سيوجد بين المسجد الحرام والمسجد الأقصى مسجد آخر قصي؛ لأننا في بُعد المسافة نقول: "هذا قصي" أي بعيد، و"هذا أقصى" أي أبعد. وقد كان فيما بعد مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم، فالمسجد النبوي قصي بالنسبة للمسجد الحرام، ومسجد بيت المقدس هو الأقصى.

كما أنَّ في الرحلة إلى المسجد الأقصى إشارةً إلى أنَّ الإسلام هو كلمة الله الأخيرة للبشرية، كملت على يد سيِّدنا محمد، بعد أنْ مهَّد لها الأنبياء والمرسلون؛ ولهذا استووا صفوفًا خلْفه ليصلِّي بهم إمامًا، كما أنَّ في اجتماع الأنبياء في المسجد الأقصى تأكيدًا لحرمته وبيانًا لعظمته ودعوةً لأتباع كل الرسل أن يصونوه وأن يحرروه وأن يدافعوا عنه وأن يطهروه من دنس المحتلين.

الوقفة الخامسة: قوله تعالى: (الَّذِي بَارَكْنَا حَوْلَهُ): أي أحطنا ما حوله ببركات الدِّين والدنيا؛ لأن ما حوله هو مهبط الوحي والملائكة، ومحراب الأنبياء ومكان عروجهم إلى السماء. ولذلك قال إبراهيم عليه السلام: (إِنِّي ذَاهِبٌ إِلَى رَبِّي سَيَهْدِينِ) الصافات/99؛ أي إلى حيث وجهني ربي أي إلى بر الشام.

وقال: (باركنا حوله) ولم يقل: "باركناه"؛ لتشمل المباركةُ المسجدَ وما حول المسجد، ولو قال: "باركناه" لكانت المباركة للمسجد فقط، كما أن الله تعالى أطلق المباركة ولم يحدد نوعها، لتكون مباركة عامة: روحية ومعنوية ومادية.

الوقفة السادسة: قوله تعالى: (لِنُرِيَهُ مِنْ آيَاتِنَا): أي أنَّ الله تعالى هو الذي أرى محمدًا عليه الصلاة والسلام الآيات، بإرادته سبحانه، وفي هذا تكريم لسيدنا محمد صلى الله عليه وسلم وتعظيم لشأنه، وقد استمرَّ سفر الإِسراء إلى المعراج صعودًا في السماوات لتحقيق هذا الغرض، وهو أن تمتلئ روح رسول الله صلى الله عليه وسلم بدلائل العظمة، وقد بين الله تعالى ذلك في آيات سورة النجم بقوله: (لَقَدْ رَأَى مِنْ آيَاتِ رَبِّهِ الْكُبْرَى) النجم/18.

وقال سبحانه: (لِنُرِيَهُ مِنْ آيَاتِنَا) ولم يقل: "لنريه آياتنا"؛ أي أنَّ ما رآه الرسول صلى الله عليه وسلم على الرغم من علو مقامه واستعداده الكبير هو بعض آيات الله الكبرى وليس كل الآيات، واللام في قوله تعالى (لِنُرِيَهُ) تعليلية، أي أن الله تعالى أسرى بنبيه صلى الله عليه وسلم ليرى من آيات ربه الكبرى.

الوقفة السابعة: قوله تعالى: (إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ): حيث خُتمت الآية بذكر صفتين من صفات الله تعالى هما السمع والبصر. والسمع: إدراكٌ يُدرك الكلام. والبصر: إدراكٌ يُدرك الأفعال والمرائي.

ورغم أن أكثر ما يجلب الانتباه في رحلة الإسراء هو قدرة الله سبحانه، إلا أن الآية لم تُختم بما يدل على القدرة مثل: "والله على كل شيءٍ قدير"؛ لأن قوله تعالى: (سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ) دلَّ على القدرة، وختمُ الآية بما يدل على القدرة لا يضيف معنىً جديدًا، والله تعالى أسرى بعبده ليريه من آياته الكبرى وليسمعه ما خفي من الأصوات، والذي يُري ويُسمِع لا بد أن يكون سميعًا بصيرًا.

وقوله تعالى: (إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ) بضمير الفصل (هو)؛ لبيان أن الله تعالى هو وحده المتصف بكمال السمع وكمال البصر، ومن هنا يمكن أن يكون المعنى: (سميع) لأقوال الرسول (بصير) بأفعاله، حيث آذاه قومه وكذبوه. وقد يكون المعنى: سميع لأقوال المشركين، حينما آذوا سَمْعَ رسولِ الله وكذبوه وتجهموا له، بصير بأفعالهم حينما آذوه ورموه بالحجارة. وذهب بعض المفسرين إلى أن قوله تعالى: (إِنَّه هُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ) تهديد لمنكري هذا الإعجاز، وأنَّ الله تبارك وتعالى محيط بما يقولون، وبما يفعلون، وبما يمكرون.