شهر الخير والرحمة

الكاتب : مقالات سماحة المفتي العام

أضيف بتاريخ : 19-07-2012


 

 

سماحة المفتي العام الشيخ عبد الكريم الخصاونة

يبتهج المسلمون في نهاية شهر شعبان من كل سنة لقدوم شهر رمضان، ويعلنون فرحتهم بحلوله، وحق لهم أن يفرحوا ويبتهجوا لهذا الشهر العظيم، لأنه شهر حافل بالخيرات، مغمور بالبركات، صيامه ركن من أركان الإسلام الخمسة، ودعامة من الدعائم الأساسية التي يقوم عليها الإسلام.

والحق عز وجل لا يُقدِّر أمراً، ولا يفرض فرضاً إلا وله حِكَمٌ سامية، وأسرار عجيبة، وفوائد عظيمة لا يدركها إلا صاحب العقل الرشيد، والإيمان الراسخ، والفكر السليم.

فأسرار الصوم عظيمة، وحكمته عالية، وثمراته غالية، يعجز الكتاب والباحثون أن يستوعبوها. وهذه مزية واضحة في تكاليف الشرع الشريف، ينتهي الزمن ولا تنتهي عجائبها، وتنقضي الأيام ولا تنقضي أسرارها وأحكامها، وكأن الحق عز وجل يضع العبادات أمام العقل البشري ليجمع خواطره وأفكاره، ويحرك فيه حوافز التأمل، ودواعي التقصي، فيبدع في استنباط الحِكَم، واستخراج الكنوز والأسرار، وهي ما تزال غضة جديدة.

فتمنح العقل في سخاء، وتعطي المجتمع في وفاء، وتمضي على امتداد الزمن الرحب، مصدر خير وبركة، وهكذا تبقى العبادات جهداً متجدداً على مدى الحياة، ولذا نلاحظ تكرر الكتابة عن الصوم وأسراره في مطلع شهر رمضان من كل عام؛ لأنها الينابيع الغزار التي تلهم الحكمة والبيان لكل مفكر ومتأمل، والسر في ذلك أنها تشريعات إلهية.

يمتاز رمضان بأنه شهر بركة ورحمة ومغفرة وعتق من النار، ففيه تُغفر الذنوب، وتُمحى الخطايا، ويُستجاب الدعاء لمن أرى الله من نفسه خيراً، فأمسك لسانه، وحفظ فرجه، وغض بصره، وداوم على ذكر ربه، وتلا آيات الله آناء الليل وأطراف النهار، وقام رمضان إيماناً واحتساباً لله عز وجل.

ولهذا؛ فالصائم لا يتكلم إلا خيراً، ولا يفعل إلا حسناً، وإن سابَّه أحد أو شتمه فلا يصخب ولا يغضب، وإنما يرد بقول جميل: "إني صائم". عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:(إِذَا كَانَ يَوْمُ صَوْمِ أَحَدِكُمْ فلا يَرْفُثْ ولا يَصْخَبْ؛ فإنْ سَابَّهُ أَحَدٌ أَوْ قَاتَلَهُ؛ فَلْيَقُلْ: إنِّي امْرُؤٌ صَائِمٌ) مُتَّفقٌ عَلَيْهِ.

لذلك فإننا نلاحظ أن مظاهر التقوى تزداد في رمضان، ويعم الخير، ويسود البر، ويكثر الاستغفار، وقراءة القرآن الكريم، وتظهر خشية الله على الناس، وتنتشر المحبة، وتوصل الأرحام، وتطهر القلوب، وتصفو النفوس.

ولقد حفظ المسلمون على تعاقب الأجيال لهذا الشهر حرمته وميزته، فأقبلوا يضاعفون فيه العمل الصالح، ويزدادون نشاطاً واجتهاداً في ليله ونهاره، فيصومون نهاره ويقومون ليله، يستيقظون فيه كثيراً وينامون قليلاً، وكان المسلمون صغيرهم وكبيرهم ذكرهم وأنثاهم يرصدون قدوم هذا الشهر المبارك للتزود من صالح الأعمال والأخلاق.

والحق أن الرسول صلى الله عليه وسلم رسم لنفسه ولأمته نهجاً قويماً ومميزاً للطاعة والعبادة في هذا الشهر المبارك، فجمع بين شعائر العبادة المختلفة والطاعات المتنوعة ليحقق لهم القرب والمثوبة من الله، والوصول إلى جنته، قال العلماء: إن الجمع بين الصيام والقيام، والصدقة والذكر من موجبات الجنة، ففي الحديث الصحيح:(إِنَّ فِي الجَنَّةِ غُرَفًا تُرَى ظُهُورُهَا مِنْ بُطُونِهَا، وَبُطُونُهَا مِنْ ظُهُورِهَا). فَقَامَ أَعْرَابِيٌّ فَقَالَ: لِمَنْ هِيَ يَا رَسُولَ اللَّهِ؟ قَالَ: (لِمَنْ أَطَابَ الكَلامَ، وَأَطْعَمَ الطَّعَامَ، وَأَدَامَ الصِّيَامَ، وَصَلَّى بِاللَّيْلِ وَالنَّاسُ نِيَامٌ) رواه الترمذي. وهذه الخصال كلها تجتمع في شهر رمضان.

ولكي نصل إلى هذه النتيجة الطيبة المباركة، فلا بدّ أن نتبع هدي النبيّ صلى الله عليه وسلم في هذا الشهر المبارك.

فلقد كان صلى الله عليه وسلم يستقبل هذا الشهر بدعاء وخطاب، أما الدعاء: فكان إذا رأى الهلال قال:(اللّهم أهله علينا باليمن والإيمان، والسلامة والإسلام، ربي وربك الله، هلال رشد وخير) رواه الترمذي.

وأما الخطاب، فكان صلى الله عليه وسلم في آخر يوم من شعبان يقول:(يا أَيُّهَا النَّاسُ، قَدْ أَظَلَّكُمْ شَهْرٌ عَظِيمٌ، شَهْرٌ مُبَارَكٌ، شَهْرٌ فِيهِ لَيْلَةٌ خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ شَهْرٍ، جَعَلَ اللهُ صِيَامَهُ فَرِيضَةً، وَقِيَامَ لَيْلِهِ تَطَوُّعًا، مَنْ تَقَرَّبَ فِيهِ بِخَصْلَةٍ مِنَ الْخَيْرِ كَانَ كَمَنْ أَدَّى فَرِيضَةً فِيمَا سِوَاهُ) رواه البيهقي في "شعب الإيمان".

ومن هديه صلى الله عليه وسلم في قيام رمضان أنه كان يُطيل القراءة فيه، فلا يمر بآية رحمة إلا وقف وسأل، ولا بآية عذاب إلا وقف وتعوّذ، وإذا دخلت العشر الأواخر اجتهد في العبادة. ففي الصحيحين عن أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها قالت: "كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِذَا دَخَلَ العَشْرُ شَدَّ مِئْزَرَهُ، وَأَحْيَا لَيْلَهُ، وَأَيْقَظَ أَهْلَهُ) متفق عليه.

وفي هذه الليالي المباركة: ليلة القدر.. ليلة خير من ألف شهر، ولهذا كان يعتكف فيها، لأنّ حقيقة الاعتكاف هو قطع العلائق عن الخلائق، للاتصال بالخالق. قال صلى الله عليه وسلم:(مَنْ قَامَ رَمَضَانَ إِيمَانًا وَاحْتِسَابًا، غُفِرَ لَهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِهِ) متفق عليه.

قال ابن القيم رحمه الله: "لما كان صلاح القلب واستقامته على طريق سيره إلى الله تعالى، متوقفاً على لم شعثه بإقباله بالكلية على الله تعالى - فإن شعث القلب لا يلمه إلا الإقبال على الله تعالى -، وكان فضول الطعام والشراب، وفضول مخالطة الأنام، وفضول الكلام، وفضول المنام، مما يزيده شعثاً، ويقطعه عن سيره إلى الله تعالى أو يضعفه؛ اقتضت رحمة العزيز الرحيم بعباده أن شرع لهم من الصوم ما يُذهب فضول الطعام والشراب، ويستفرغ من القلب أخلاط الشهوات المعوقة له عن سيره إلى الله تعالى، وشرعه بقدر المصلحة، بحيث ينتفع به العبد في دنياه وأخراه، ولا يضره ولا يقطعه عن مصالحه العاجلة والآجلة.

وشرع لهم الاعتكاف الذي مقصوده وروحه عكوف القلب على الله تعالى، والخلوة به، والانقطاع عن الاشتغال بالخلق، بحيث يصير ذكره وحبه والإقبال عليه في محل هموم القلب وخطراته، فيستولي عليه بدلها، ويصير الهم كله به، والخطرات كلها بذكره، والتفكر في تحصيل مراضيه وما يقرب منه؛ فيصير أنسه بالله بدلاً عن أنسه بالخلق، فيعده بذلك لأنسه به يوم الوحشة في القبور حين لا أنيس له، ولا ما يفرح به سواه، فهذا مقصود الاعتكاف الأعظم" "زاد المعاد في هدي خير العباد" (2/ 82) باختصار.

وجرت العادة أن الصائمين يستيقظون في الثلث الأخير من الليل ليطبقوا سنة الرسول صلى الله عليه وسلم، ألا وهي السحور، ويحصل السحور بقليل من الأكل أو الماء، وقال صلى الله عليه وسلم: (تَسَحَّرُوا فَإِنَّ فِي السَّحُورِ بَرَكَةً) متفق عليه.

وأنصح بأن يصلي المسلم ركعتين قبل طلوع الفجر؛ لأنه من قام بركعتين من الليل لم يُكتب عند الله من الغافلين، وبعد ذلك يذهب إلى المسجد ويصلي صلاة الصبح في جماعة؛ لأنه من صلى الصبح فهو في عناية الله وحفظه ورعايته، عن أنس رضي الله عنه قال: (من صلى الصبح فهو في ذمة الله، فلا يطلبنكم الله من ذمته بشيء؛ فإنه من يطلبه من ذمته بشيء يدركه، ثم يكبه على وجهه في نار جهنم) رواه مسلم.

وبعد صلاة الصبح يُستحب للصائم أن يشغل نفسه بقراءة القرآن الكريم، وأن يُخصص جزءاً من وقته للتدبر والتمعن في كتاب الله تعالى؛ لأن القرآن يأتي يوم القيامة شفيعاً لأصحابه، والأحاديث في فضل قراءة القرآن الكريم كثيرة، وفضائله عظيمة.

وأما في النهار، فعلى الصائمين أن يتركوا الهجر من الكلام أي القبيح منه، ولا سيما الكلام الذي يترتب عليه إثم، فتركه واجب كالغيبة والنميمة، وغير ذلك من الأمور المحرمة، ففي صحيح البخاري:(مَنْ لَمْ يَدَعْ قَوْلَ الزُّورِ وَالعَمَلَ بِهِ، فَلَيْسَ لِلَّهِ حَاجَةٌ فِي أَنْ يَدَعَ طَعَامَهُ وَشَرَابَهُ) رواه البخاري، أي: إن الله غني عن صيامه إذا كان مجرد إمساك عن الطعام والشراب.

وفي رمضان ترى الأغنياء يشعرون بمعاناة الفقراء والجائعين، ويعلمون أن لهم إخوة بطونهم خاوية، وأمعاؤهم خالية، ونرى آخرين ليس لهم مسكن ولا مأوى، فامتدت لهم يد الحنان من غير منة ولا أذى إلا ابتغاء وجه الله الأعلى، تأسياً واقتداءً برسول الله صلى الله عليه وسلم.

عن ابن عباس رضي الله عنهما: قال: "كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أَجْوَدَ النَّاسِ، وَكَانَ أَجْوَدُ مَا يَكُونُ فِي رَمَضَانَ حِينَ يَلْقَاهُ جِبْرِيلُ، وَكَانَ يَلْقَاهُ في كُلِّ لَيْلَةٍ مِنْ رَمَضَانَ فَيُدَارِسُهُ الْقُرْآنَ، فَلَرَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أَجْوَدُ بِالْخَيْرِ مِنَ الرِّيحِ الْمُرْسَلَةِ" رواه البخاري.

هكذا - معشر المؤمنين - كان النبي صلى الله عليه وسلم يزداد جوداً عند لقاء جبريل عليه السلام؛ لأن مدارسته للقرآن الكريم تجدد له العهد بغنى النفس الذي هو سبب السخاء والجود.

إذن؛ الصائم في حفظ الله وكنفه، تشبَّه بالملائكة المقربين، أمسك لسانه عن اللغط والكلام الفاحش، إن سابه إنسان أو قاتله لا يزيد عن قوله: "إني صائم". والصائم يتصف بالجود.

فمن كان هذا عمله فهو من أولياء الله الذين ذكرهم الله في كتابه العزيز، وبشرهم بجنات النعيم والفوز العظيم، قال تعالى:(أَلَا إِنَّ أَوْلِيَاءَ اللَّهِ لَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ * الَّذِينَ آَمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ * لَهُمُ الْبُشْرَى فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآَخِرَةِ لَا تَبْدِيلَ لِكَلِمَاتِ اللَّهِ ذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ) يونس/ 62-64.

واختار الطبري في تفسيره أن البشارة تكون بالرؤيا الصالحة وتكون أيضاً ببشارة الملائكة عند الموت [انظر: جامع البيان في تأويل القرآن (15/ 140)].

نسأل الله تعالى أن يجعل أيام رمضان علينا رحمة ومغفرة وعتقاً من النار. والحمد لله رب العالمين.