منهج سماحة الشيخ نوح القضاة في الفتوى

الكاتب : مقالات سماحة المفتي العام

أضيف بتاريخ : 23-03-2011


 

 سماحة المفتي العام: الشيخ عبد الكريم الخصاونة

الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيدنا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين:

من أعظم ما تُصاب به الأمة الإسلامية بين الحين والآخر موتُ العلماء، ذلك أن موت العلماء هو ذهاب للعلم الذي تحيا به الأمم، وينير لها الطريق في الحياة؛ فتهتدي به في حالك الظلمات كلما ادلهم خطب أو وقعت فتنة، قال صلى الله عليه وسلم:(إنَّ الله لا يَقْبِضُ العِلْمَ انْتِزَاعا، يَنتزعُهُ مِنَ النَّاسِ، ولكن يَقبِضُ العِلْمَ بِموتِ العُلماءِ، حتى إذا لم يَبْق عالِمٌ اتَخَذَ النَّاسُ رُؤساءً جُهَّالاً؛ فَسُئِلوا فَأفْتَوا بغير علمِ؛ فَضَّلوا وأَضُّلوا)رواه البخاري ومسلم.

ومما أصيبت به الأمة في حاضرنا، موت سماحة الشيخ نوح القضاة رحمه الله تعالى، فقد كان سماحته عالماً ورعاً، وفقيهاً مفتياً، يدركُ أهمية الفتوى ومكانتها وعِظمَ مسؤوليتها أمام الله تعالى، ويتذكر دائماً الموقف العظيم بين يدي الله عز وجل، ولذلك كان يسعى إلى السلامة من هذا الموقف.

وكثيراً ما كان يردد قول الله تعالى:(وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ تَرَى الَّذِينَ كَذَبُواْ عَلَى اللَّهِ وُجُوهُهُم مُّسْوَدَّةٌ) الزمر/60. وما رأيناه تلا هذه الآية إلا بكى وأبكى الحاضرين مستشعراً عظم المكانة التي يتبوأها المفتي ومسؤولية الفتوى أمام الله تعالى.

لقد سلك سماحة الشيخ رحمه الله تعالى منهجاً واضحاً في الفتوى؛ فكان رحمه الله لا يخشى في الحق لومة لائم، بل يضع نصب عينيه مرضاة الله عز وجل؛ فإذا لاحظ أن المستفتي لم تعجبه الفتوى قال له:"المفتي من أفتاك بما ينجيك لا بما يرضيك".

وبذلك يكون قد خط للمفتين من بعده السطور، مبيناً أن وظيفة المفتي هي بيان الأحكام الشرعية التي تأخذ بيد المستفتي إلى النجاة والسعادة الحقيقية في الدنيا والآخرة.

كان رحمه الله تعالى فقيهاً شافعياً يلتزم المذهب الشافعي في فتاواه، ويبين أنه مذهب المحدثين والمفسرين، ومع هذا فقد رسم لنا منهجاً وسطاً في الفتوى يقوم على التنوع والاختلاف والموازنة بين المذاهب الفقهية الأربعة، مذاهب أهل السنة والجماعة، سالكاً سبيل السلف الصالح رضوان الله عليهم.

وكلهم من رسول الله ملتمس    غرفاً من البحر أو رشفاً من الديم

فرحمه الله تعالى لم يذهب بالناس مذهب الشدة، ولم يمل بهم إلى طرف الانحلال، وهذا هو الصراط المستقيم، الذي جاءت به الشريعة الإسلامية، فلا إفراط ولا تفريط.

فكان رحمه الله يلتزم المذهب الشافعي إفتاء وتطبيقاً وتدريساً، حتى إذا رأى أن المذهب قد ضاق على السائل أو ألحق به حرجاً؛ بحث في المذاهب الأخرى بما يوافق حال السائل ويليق به وييسر عليه، بفهم عميقِ لكليات الشريعة ومقاصدها العامة والخاصة.

ولذا نجد في فتاواه ما هو مأخوذ من المذهب الحنفي أو المالكي أو الحنبلي، إضافة إلى المذهب الشافعي، ولا يخرج عن هذه المذاهب، مبيناً أنها مذاهب أهل السنة والجماعة. فإذا رأى مفتياً خرج عن هذه المذاهب، وأخذ من الأقوال الضعيفة أو الشاذة قال:نحن لسنا أنبياء نشرع الأحكام فنحلل ونحرم، وإنما نحن طلاب علم، من وجدناه أخذ من المذاهب الأربعة فبها ونعمت، ومن خرج عنها أنكرنا عليه؛ لأن الأقوال المضطربة والشاذة تسبب خللاً في الحياة الفكرية والعملية.

وكان رحمه الله ينكر على المخالف بأسلوب العالم الحاذق الذي يلتمس الأعذار للآخرين، ويدافع عن العلماء والمجتهدين، فلم يكن يتصدى للرد إعلامياً على ما يسمع من فتاوى من مفتي العالم الإسلامي أو دور الإفتاء، مما يخالف ما يراه أو يقول به، وإنما كان يؤثر الصمت ويقول: أهل ذلك البلد أدرى بشؤون بلدهم، وكلٌّ مسؤول عن فتواه. أو يلتمس لهم عذراً ويبين أن هذا القول هو مذهب فلان من العلماء، وقال به فلان.

كل ذلك بأدب جم يذكرنا بسيرة السلف الصالح من العلماء والفقهاء في الخلاف والاختلاف والحوار والدعوة إلى الله تعالى بالحكمة والموعظة الحسنة، وربما هذا ما جعله يحظى بمحبة واحترام الجميع على اختلاف أفكارهم واتجاهاتهم الفقهية والسياسية.

ومن منهجه رحمة الله عليه أنه كان يهتم بسريرته، ويستحضرعند الإفتاء النية الصالحة من قصد أنه خليفة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في بيان الشرع وإحياء العمل بالكتاب والسنة وإصلاح أحوال الناس بذلك، ويستعين بالله على ذلك ويسأله التوفيق والتسديد، ويبتعد عن أصحاب النوايا الخبيثة. وكان يستشير من يثق بعلمه ودينه ولا يستقل بالجواب، (وَشَاوِرْهُمْ فِي الأَمْرِ) آل عمران/159.

فرحم الله تعالى سماحة شيخنا رحمة واسعة، ونسأله سبحانه أن يجمعنا به في مستقر رحمته مع النبيين والصديقين والشهداء والصالحين وحسن أولئك رفيقاً.