في ذكرى المولد النبوي الشريف

الكاتب : مقالات سماحة المفتي العام

أضيف بتاريخ : 17-02-2011


بسم الله الرحمن الرحيم

في ذكرى المولد النبوي الشريف(*)

 سماحة المفتي العام: الشيخ عبد الكريم الخصاونة

الحمد لله ربِّ العالمين، والصلاة والسلام على صاحب الذكرى العطرة، المبعوث رحمة للعالمين، سيدنا محمد وعلى آله وأصحابه ومن سار على نهجهم واهتدى بهديهم إلى يوم الدين، وبعد:

فقد كان العالم قبل مولد النبي محمد صلى الله عليه وسلم في حالة من الفساد والفوضى والظلم والاضطراب، سيطرت عليه الوثنية، وعمَّ فيه الفساد، واضطربت النفوس، وخربت الضمائر، وخوت القلوب، وامتلأت الأرض بتصورات وأفكار زائفة، وخرافات وأساطير كاذبة، وأوهام اختلط فيها الحق بالباطل والصحيح بالزائف، وعبث الناس بميراث الأنبياء.

في خضم هذا التيه وقف الضمير البشري حائراً، لا يستقر على حال، ولا يثبت على أمر، وكيف يثبت، بل كيف يفكر من لم يبقَ له من كرامة سوى تقديس الخرافات، وعبادة الأصنام، يسجد لها من دون الله، فأي هوان، وأيّ ذلٍّ أكبر من ذلك؟!(وَمَنْ يُهِنِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ مُكْرِمٍ)الحج/18.

روى البخاري عن أَبَي رَجَاءٍ الْعُطَارِدِي قال: "كُنَّا نَعْبُدُ الْحَجَرَ، فَإِذَا وَجَدْنَا حَجَرًا هُوَ أَخْيَرُ مِنْهُ أَلْقَيْنَاهُ وَأَخَذْنَا الآخَرَ، فَإِذَا لَمْ نَجِدْ حَجَرًا جَمَعْنَا جُثْوَةً مِنْ تُرَابٍ، ثُمَّ جِئْنَا بِالشَّاةِ فَحَلَبْنَاهُ عَلَيْهِ، ثُمَّ طُفْنَا بِهِ، فَإِذَا دَخَلَ شَهْرُ رَجَبٍ قُلْنَا مُنَصِّلُ الأَسِنَّةِ، فَلاَ نَدَعُ رُمْحًا فِيهِ حَدِيدَةٌ وَلاَ سَهْمًا فِيهِ حَدِيدَةٌ إِلاَّ نَزَعْنَاهُ وَأَلْقَيْنَاهُ شَهْرَ رَجَبٍ".

هكذا كان العالم يموج في أباطيل وخرافات، وكأنهم في بحر لُجيّ عميق يتنقلون في ظلمات كثيفة بعضها فوق بعض، إذا أخرج الإنسان يده لم يكد يراها(وَمَنْ لَمْ يَجْعَلِ اللَّهُ لَهُ نُورًا فَمَا لَهُ مِنْ نُورٍ) النور/40.

ولما أراد الله عز وجل لليل أن ينجلي، وللظلم أن يزول، وللباطل أن يندحر، أذن الله تعالى بميلاد نبيه صلى الله عليه وسلم، فأظهره كما تظهر الشمس بانبعاث أنوارها الساطعة، فتفجر النهار المنير، وتلاشت ظلمة الليل الداكن.

ولد الهدى فالكائنات ضياء

 

وفم الزمان تبسم وثناء

فلما وضعته أمه -صلى الله عليه وسلم- أضاء العالم كله إيذاناً بمولد عالَمٍ جديد (قَدْ جَاءَكُمْ مِنَ اللَّهِ نُورٌ وَكِتَابٌ مُبِينٌ) المائدة/15.

وبمولده صلى الله عليه وسلم دبّت الحياة في الكون، وظهر دين التوحيد، وشاءت إرادة الله تعالى أن تنطلق الرسالة من بقعة مباركة لم يكن لها تأثير وقتئذٍ على مسرح الحياة، في وادٍ غير ذي زرع، منقطع بمائه عن الحياة والأحياء، تمتد الصحارى من حولها فلا يبلغه أحد إلا بشق الأنفس.

إنه المنّة العظمى على العرب، إذ أرسل إليهم خاتم المرسلين، رسولاً عربياً من أنفسهم وخصَّ المؤمنين بالذكر، وإن كان رحمة للعالمين لأنهم هم المنتفعون ببعثته، قال تعالى:(لَقَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْ أَنْفُسِهِمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلَالٍ مُبِينٍ) آل عمران/164.

ولد الرسول صلى الله عليه وسلم وبعث بالرسالة الإسلامية السمحة، والعرب منهمكون في دنياهم وهم أشتات دون رابط، وأحياء من غير هدف ولا غرض، مع أنهم عرفوا أمره، وخبروا شأنه، لكنه حمل الرسالة المباركة بقوة، لا يسانده سلطان، ولا يناصره جيش، ولا يقربهم أو يستميلهم بمال، فقابلوه بالعناد والرفض والسخرية والاستهزاء، وآذوهُ في نفسه وأهله وصحبه، ولسان حاله يقول:(إِنْ تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبَادُكَ وَإِنْ تَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ) المائدة/118، (اللهم اغفر لقومي؛ فإنهم لا يعلمون).

وذكرت كتب السيرة أنه رفع يديه وقال: (اللَّهُمَّ أُمَّتِي أُمَّتِي)، وَبَكَى، فَقَالَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلّ:(يَا جِبْرِيلُ، اذْهَبْ إِلَى مُحَمَّدٍ -وَرَبُّكَ أَعْلَمُ- فَسَلْهُ مَا يُبْكِيكَ)؟ فَأَتَاهُ جِبْرِيلُ عَلَيْهِ السَّلَام فَسَأَلَهُ فَأَخْبَرَهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِمَا قَالَ -وَهُوَ أَعْلَمُ-، فَقَالَ اللَّهُ: (يَا جِبْرِيلُ، اذْهَبْ إِلَى مُحَمَّدٍ فَقُلْ: إِنَّا سَنُرْضِيكَ فِي أُمَّتِكَ وَلَا نَسُوءُكَ) رواه مسلم، وهذا موافق لقوله تعالى:(وَلَسَوْفَ يُعْطِيكَ رَبُّكَ فَتَرْضَى) الضحى/5.

حمّلَ المصطفى صلى الله عليه وسلم الرسالة الإسلامية، ولم يأبه لقول الجهلة والمغرضين والمشككين، وإنما كان يقول:(إن لم يكن بك علي غضب فلا أبالي).

فما وهن عزمه وما ضعف وما استكان، وإنما قابل الأذى بالصبر، والسفه بالحلم، وكيف يضعف وقد فطره خالقه على جماع ما حملت به الأنفس الإنسانية من كمال وجمال ونوال.

لو اجتمعت فضائل أهل الحكمة والعلم جميعاً منذ كانت الحياة، وجعلت في إنسان واحد ما بلغت مثل ما بلغت في نفس النبي صلى الله عليه وسلم، أي أن هذه النفس هي النفس الكبرى الزكية المتفردة بالطهر والزكاة، ولا يعرف التاريخ رجلاً كمّله ربه وأدبه وأحسن خلقه كسيدنا محمد صلى الله عليه وسلم، ولهذا لا نستغرب أن الإنسانية به تتحول وتنمو وتخرج من الظلمات إلى النور، ومن جور الأديان إلى عدل الإسلام، ومن ضيق الدنيا إلى سعة الدنيا والآخرة، فترسخت في الأرض مبادئ جيل يخاطب العالم: "متى استعبدتم الناس وقد ولدتهم أمهاتهم أحراراً"، فما أعظم منتك وعطائك يا ربّ العالمين!

هذا هو النبي المصطفى صلى الله عليه وسلم، الذي نحتفي اليوم بذكرى ولادته، والناس ينظرون إلى ما في نفوس أتباعه من هذا الدين، وإلى ما في أخلاقهم من خُلقه، وإلى ما في أيديهم من تراثه..

ولكن علينا أن نعلم بأن الجمع بين راحة البال وبلوغ الآمال مستحيل، ولا يمكن أن نتجاوز الأخطار والتحديات إلا في جمع الكلمة وتوحيد الصف، وأن نكون يداً واحدة، وقلباً واحداً وصفاً واحداً في مواجهة التحديات والأخطار التي تحيط بهذا الوطن، من معظم الجهات، والله تعالى لن يخذل خير أمة أخرجت للناس، والرسول صلى الله عليه وسلم يقول: (مثل أمتي مثل المطر: لا يُدرى أوّله خيرٌ أم آخره) رواه الترمذي.

قال البيضاوي في شرح هذا الحديث: "نفى تعلق العلم بتفاوت طبقات الأمة في الخيرية، وأراد به نفي التفاوت لا اختصاص كلٍّ منهم بخاصية، كما أن كل نوبة من نوب المطر لها فائدة، وكذلك المسلمون.

فإن الأولين آمنوا بما شاهدوا من المعجزات، وتلقوا دعوة الرسول بالإجابة والإيمان، والآخرين آمنوا بالغيب لما تواتر عندهم من الآيات، واتبعوا الذين من قبلهم بالإحسان، وكما اجتهد الأولون في التأسيس والتمهيد، اجتهد المتأخرون في التحرير والتلخيص، وصرفوا عمرهم في التقدير والتأكيد، وكلٌّ مغفور، وسعيه مشكور، وأجره موفور".

ومن أجل بلوغ المرام، ومجاوزة الضعف والوهن، والحفظ من الفتن والمحن؛ فلا بد من أن نستمسك بما أوصى به الحبيب المصطفى عليه الصلاة والسلام، فقد أمرنا أن نستمسك بالكتاب والسنة وآل البيت الأطهار.

عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (تركت فيكم أمرين لن تضلوا ما تمسكتم بهما: كتاب الله وسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم) رواه مالك.

وعن زيد بن أرقم رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إنِّي تَارِكٌ فِيكُمْ مَا إِنْ تَمَسَّكْتُمْ بِهِ لَنْ تَضِلُّوا بَعْدِي أَحَدُهُمَا أَعْظَمُ مِنَ الآخَرِ: كِتَابُ اللهِ حَبْلٌ مَمْدُودٌ مِنَ السَّمَاءِ إِلَى الأَرْضِ، وَعِتْرَتِي أَهْلُ بَيْتِي، وَلَنْ يَتَفَرَّقَا حَتَّى يَرِدَا عَلَيَّ الحَوْضَ، فَانْظُرُوا كَيْفَ تَخْلُفُونِي فِيهِمَا) رواه الترمذي والنسائي.

نسأل الله أن يجمع شمل الأمة وأن يوحد كلمتها في ظل الراية الهاشمية المباركة، وأن يبقى هذا الوطن آمناً مطمئناً في ظل حضرة صاحب الجلالة الهاشمية الملك عبدالله الثاني ابن الحسين المعظم حفظه الله ورعاه.

والحمد لله رب العالمين

 

(*) ألقيت هذه الكلمة في الاحتفال الذي أقامته وزارة الأوقاف والشؤون والمقدسات الإسلامية بمناسبة المولد النبوي الشريف في (11/ ربيع الأول/ 1432هـ).