كلمات في وداع سماحة الشيخ نوح القضاة رحمه الله

الكاتب : مقالات سماحة المفتي العام

أضيف بتاريخ : 16-01-2011


 

 سماحة المفتي العام:الشيخ عبد الكريم الخصاونة

بداية أقول:اللهم اغفر لأبي عليٍّ، وارفع درجته في المهديين، واخْلُفْهُ في عقبه من الغابرين، واغفر لنا وله يا رب العالمين، وافْسَحْ له في قبره، ونوِّر له فيه.

حقيقة كان فراق سماحة الشيخ رحمه الله مؤلماً، وتألم عند وداعه الكثيرون.. تألموا لحبهم له، ولفقدهم عالماً ربانياً ورعاً زاهداً عارفاً بالله..

لم يتألموا لموته؛ لأنهم يعلمون أن ما عند الله تعالى خير له، وإنما تألموا لانقطاعهم عن مجالسه العلمية، والتزود من نفحاته الدينية، وتوجيهاته اللدنية، وقلما نجد في هذه الأيام العالم بأمراض النفوس والقلوب، وبالأدوية الشافية من هذه الأمراض.

فحب سماحة الشيخ رحمه الله لم يأت فجأة، وإنما وجد بعد تعارف وتآلف مع أرواح الآخرين، والزهد في الدنيا مع القدرة عليها لأجل الآخرة، قال صلى الله عليه وسلم:(ازْهَدْ فِي الدُّنْيَا يُحِبَّكَ اللَّهُ، وَازْهَدْ فِيمَا فِي أَيْدِي النَّاسِ يُحِبُّكَ النَّاسُ) رواه ابن ماجه، ولقد زَهِدَ فيما في أيدي الناس من المال والجاه؛ فأحبه الناس.

وما الزهد إلا في انقطاع علائق             وما الحق إلا في وجود الحقائق

وما الحب إلا حب من كان قلبه              عن الخلق مشغولاً برب الخلائق

وقال صلى الله عليه وسلم:(إِذَا أَحَبَّ اللَّهُ العَبْدَ نَادَى جِبْرِيلَ:إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ فُلاَنًا فَأَحْبِبْهُ. فَيُحِبُّهُ جِبْرِيلُ، فَيُنَادِي جِبْرِيلُ فِي أَهْلِ السَّمَاءِ:إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ فُلاَنًا فَأَحِبُّوهُ. فَيُحِبُّهُ أَهْلُ السَّمَاءِ، ثُمَّ يُوضَعُ لَهُ القَبُولُ فِي الأَرْضِ) متفق عليه. والمراد بوضع القبول في الأرض: أي يوضع الحب في قلوب أهل الدين.

وكان رحمه الله يتصف بحبه للعلم ولطلاب العلم، وعندما كان مفتياً للقوات المسلحة الأردنية، عقد عدة دورات شرعية: دورات للأئمة، ودورات لمساعدي الأئمة، ودورات للإداريين (كاتب، خازن، سائق، طاهي)؛ فلا يوجد أحد من مرتب مديرية الإفتاء إلا وتعلم العلم الشرعي، وخاصة قراءة القرآن الكريم.

ومن كانت هذه صفته فإننا نرجو الله أن يكون جزاؤه ما جاء في الأثر المروي عن ابن عباس رضي الله عنهما: "للعلماء درجات فوق المؤمنين بسبعمئة درجة، ما بين الدرجتين مسيرة خمسمئة عام".

وَصَفَ الحسنُ البصريُّ الفقيهَ فقال: "إن الفقيه:الزاهد في الدنيا، الراغب في الآخرة، البصير بدينه، المداوم على عبادة ربه، الورع، الكافّ عن أعراض المسلمين، العفيف عن أموالهم، والناصح لهم".

وقد كان سماحة الشيخ رحمه الله يتصف بهذه الصفات، فهو الفقيه الشافعي، طاهر القلب والسريرة، المخلص لدينه وأمته، العامل بعلمه.. كان عالماً ربانياً بكل ما تحمله هذه الكلمة من معنى..

كان رحمه الله مدرسة يتخرج منها الطلاب بكفاءات علمية وخلقية وسلوكية..

كان إذا رأيته ذكَّرك بالله.. وكثيراً ما كنت أسمع من أشخاص يقولون -أثناء ذهابهم إليه-: "سأذهب إلى بقية السلف الصالح"!

عمل رحمه الله في الدعوة والوعظ والإرشاد والفتوى، فكان من أنجح الدعاة والوعاظ.. وعمل في السياسة -كسفير في إيران-، فكان من أنجح السفراء.

لقد شكل مرجعية موثوقة لكل الذين عرفوه وعاملوه، فكان حضوره مؤثراً أينما وُجد وحيثما حلَّ؛ لكونه بنى قناعاته وممارساته من مفهوم الدين الإسلامي السمح.

ومن خلال خطبه ودروسه ومحاضراته كان يسعى لرفع الروح المعنوية العالية في النفوس، ويحارب الأعداء والمتربصين بهذه الأمة، ويعادي المخذلين والمثبطين والناشرين الإشاعات المغرضة الذين يريدون أن يقتلوا الصمود والثبات فيها وخاصة عند الشباب.

كان رحمه الله يجمع ولا يفرق، ويحب أن يرى صفوف المسلمين متراصة متحابة ملتئمة، وإذا وجد ما يخدش هذه الصفوف دفعه بالتي هي أحسن، حتى تستقيم الأمور؛ خشية الوقوع في مصائد الشيطان فينتشر الفساد وتعم الفتن.

عندما كان رحمه الله يُعالج في النمسا اتصلت به وقلت له: "بأبي أنت وأمي يا سماحة الشيخ.. فإننا نفديك بأرواحنا ودمائنا.. والله لو أن الأعمار تشترى لاشتريت عمرك بعمري..". فكان جوابه رحمه الله: "لا.. لا.. هذه رحمة من الله ونعمة..". ثم تلا قوله تعالى: (وَإِنْ يُرِدْكَ بِخَيْرٍ فَلَا رَادَّ لِفَضْلِهِ) يونس/107. وأدركتُ من كلامه أن الرحيل قد أزف، وأن الساعة قد اقتربت.. (فَإِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ لَا يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلَا يَسْتَقْدِمُونَ) الأعراف/34. فقلت في نفسي: "هنيئاً لك يا أبا علي.. أسأل الله تعالى أن يجزيك الفردوس الأعلى..".

كل هذا هو ثمرة للتقوى التي كان يتصف بها رحمه الله، فالتقوى هي قوام هذه الدعوة، وقوام ما أنزل الله من أمر ونهى وتوجيه وتشريع. قال الله تعالى:(لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا فِي هَذِهِ الدُّنْيَا حَسَنَةٌ وَلَدَارُ الْآخِرَةِ خَيْرٌ وَلَنِعْمَ دَارُ الْمُتَّقِينَ)النحل/30.

نعم.. كانت حياة سماحة الشيخ حسنة، وله مكانة حسنة في الدنيا، ولدار الآخرة خير له -إن شاء الله- من هذه الدار الفانية، ولنعم دار المتقين، فما له عند الله في الآخرة من ثواب الجنة خير وأعظم من دار الدنيا لفنائها ولبقاء الآخرة.