الإفتاء في الأردن مستقل

الكاتب : مقالات سماحة المفتي العام

أضيف بتاريخ : 28-01-2010


بسم الله الرحمن الرحيم

 

 سماحة المفتي العام: الدكتور نوح علي سلمان

 

من المعلوم أن المؤسس الأول للمملكة الأردنية الهاشمية كان فقيهاً وعالماً دينياً بكل معنى الكلمة، وقد تأصّلت بعض القواعد الدينية المتعلقة بالحكم في البيت الهاشمي منذ ذلك الزمن، ومنها أن العمل المخالف  للشريعة معصية، والمعصية قابلة للتوبة ويُتجاوز عنها في بعض الظروف الضاغطة، أما تغيير أحكام الشريعة والفتوى بغير ما أنزل الله فهي كفر، وهذا مما يعرفه كل من درس الأحكام الشرعية، فالذي يأكل الربا معتقداً أنه حرام مسلم عاص، والذي يقول:"الربا مباح" كافر وإن لم يأكل الربا.

هذه المقدمة ينبغي أن تكون حاضرة في ذهن من يرصد العمل الإسلامي الرسمي في المملكة الأردنية الهاشمية.

وبناءً على هذا الأصل فإن جلالة الملك المعظم عندما كلفني قال لي:"الإفتاء مستقل، لا سلطان عليكم في دائرة الإفتاء إلا سلطان الدين، فأفتوا الناس بشريعة الله تعالى".

وبهذا أبرأ جلالته ذمته أمام الله، وبقيت المسؤولية على المفتي أياً كان، وعلى دائرة الإفتاء، وخلال السنوات الثلاث الماضية بيَّنَت دائرة الإفتاء حكم الشرع - ولا أقول: بيَّنت رأيَها - في كثير من المسائل، وأعتقد أنها كسبت رضا الله، كما كسبت ثقة الجمهور، يدلّك على ذلك أن عدد الإجابات التي تصدر عن دائرة الإفتاء يوميا تصل إلى (700) إجابة، وفي رمضان بلغ عدد الإجابات اليومية (1300)إجابة تتعلق بكل شؤون الحياة، وهذا يدلّ على إقبال الناس على دينهم من جهة، وعلى الثقة بهذه الدائرة من جهة أخرى.

ويدلك على هذا أيضاً التعليقات والتقييمات الإيجابية على المقال الذي كتبه الأستاذ ياسر أبو هلالة -جزاه الله خيراً- في جريدة الغد بتاريخ (12/1/2010م)، والذي أشاد فيه بدائرة الإفتاء؛ فقد بلغت التعليقات والتقييمات ما يزيد على (1600)

إن الإفتاء كالطب لا تُنتقد قراراته إلا إذا خالفت الأصول التي قامت عليها، وطالما أن دائرة الإفتاء تلتزم بأصول الفتوى الشرعية فلا يجوز لأحد أن ينتقدها؛ لأنه يكون متطاولاً بغير حق، والذين جعلوا الفتوى تميل مع السياسة خسروا رضا الله وثقة الجماهير.

وهنا نقطة لا بد من بيانها:وهي أن الإفتاء في أي بلد هو جهة استشارية وليست جهة تنفيذية، فالمفتي يقول هذا حلال وهذا حرام، لكنه لا يستطيع أن يقف في وجه المخالفين للشريعة؛ لأن هذا من شأن القضاء والسلطة التنفيذية، وعلى سبيل المثال: البنوك والخمارات والعري الذي تعجّ به المدن الإسلامية لم يُفتِ بجوازه أحد، وهو موجودٌ، ولكن نرجو رحمة الله لكل المجتمع إذا بقي فيه من يقول عن الحرام: إنه حرام.

وبالمقابل يجب أن يكون موقف الإفتاء رصيناً غير طائش ولا متسرّع؛ فهو يتكلّم باسم الشريعة الإسلامية، فلا يجوز أن يستفزّه أحد فيصدر فتوى من غير تثبّت، فيستفيد منها تيار في المجتمع  قدّم استفتاء عن واقع غير موجود، ليصل إلى فتوى يشهّر فيها بشخص أو جهة، فالمفتي هنا كالقاضي يجب أن يحكم في وقائع ثابتة، وقد قال الله تعالى لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم: (فَاصْبِرْ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَلا يَسْتَخِفَّنَّكَ الَّذِينَ لا يُوقِنُونَ) الروم/60.

وعلى سبيل المثال: سألتنا إحدى الصحف عن (فحص العذرية) وصوروا لنا المسألة بأن أعداداً كبيرة من الخاطبين يشترطون على خطيباتهم أن ُيثبِتنَ عذريتهنّ بشهادة من مؤسسة الطب الشرعي، وقد هالنا هذا الخبر، خاصة أن بعض وسائل الإعلام في دول عربية تناولت الموضوع بالسخرية من الأردن والأردنيين، وقبل أن نفتي أَرَدْنا التثبت عملاً بقوله تعالى:(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا أَنْ تُصِيبُوا قَوْمًا بِجَهَالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلَى مَا فَعَلْتُمْ نَادِمِينَ) الحجرات/6.

 فكيف إذا كان النبأ من مؤسسة وطنية محترمة، لها جمهورها، فسألنا إخواننا في مؤسسة الطب الشرعي، وتَبيّن أن الخبر لا أساس له من الصحة، وأنَّ كلَّ ما عُرض على الطب الشرعي هو بأمر قضائي للوقوف على الحقيقة، بعد حدوث جرائم رُفعت إلى المحاكم.

ولم تنفرد دائرة الإفتاء بالقرار، بل اجتمع مجلس الإفتاء، واتخذ القرار الذي خلاصته: (أنه لا مانع من هذا الفحص بناء على طلب القاضي، لكنه غير جائز فيما لو طلبه الخاطب...) مع أنه لم يطلبه أحد من الخُطّاب، ورأت جريدة أن هذا تفنيد لما نشرته، فاتخذت منَّا موقفاً.

بل إن بعض الأسئلة جوابها واضح ومعلوم لدى كل مسلم، والسؤال عنها ليس للمعرفة بل لغايات أخرى، وهنا يكون السكوت أولى، إذ لا يجوز أن يكون المفتي سوطاً في يد الآخرين يجلد به بعضهم بعضاً، فنحن نسعى لجمع الشمل ونزع الخلاف، ولا نستطيع هذا إذا وضعنا أنفسنا في إحدى كفَّتي الصراع.  

إنّ تطابق الفتوى مع السياسة موجود في كثير من الدول الإسلامية لأسباب كثيرة، وانحراف السياسة يُلام عليه أصحابه، أما انحراف الفتوى فهو افتراء على الله عز وجل، وقد قال سبحانه وتعالى:(وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ تَرَى الَّذِينَ كَذَبُوا عَلَى اللَّهِ وُجُوهُهُمْ مُسْوَدَّةٌ) الزمر/60.

إنّ ممّا يبيّض وجوهنا في الدنيا والآخرة أن تكون في بلدنا مؤسسة دينية تلتزم بأحكام الشريعة فقط، وإنّ مما يُعاب على بعض الدول أنها  تجبر المؤسسات الدينية على مخالفة شرع الله تعالى.

ومن الغريب أن تلام دائرة الإفتاء على التوسع الإعلامي من خلال الوسائل المتاحة، لكن هذا ما يقتضيه واجبنا في إظهار كلمة الحق، ولم نصل إلى كل ما نريد.

وأقول بكل فخر:إن هذا ما طلبه مني جلالة الملك المعظم عندما كلفني بمسؤولية الإفتاء، لقد أمرني أن تكون لنا مشاركة في التوجيه الديني لهذا البلد، فإذا أمرنا الله وأمرنا ولي الأمر أن نقول الحق ونجهر به فما هو عذرنا أمام الله إن لم نفعل؟!

إنني أعتب على بعض الصحف؛ لأنها لم تذكر الفتاوى التي كان لها استحسان وأثر طيب في كل الأوساط، مثل تحريم البورصة الوهمية التي خربت الكثير من البيوت، وحرمة الاعتداء على المال العام التي تتابعت ردود الفعل الإيجابية عليها وعلى غيرها مما يقتضي واجبنا أن نبين حكم الشريعة فيه.

وأقول لكل العاملين في حقل التوجيه الجماهيري:نحن في مركب واحد؛ فلنتعاون على خدمة هذه الأمة كلٌّ في مجال تخصصه، فالوقت أضيق مما تظنون.      

اللهم أرنا الحق حقاً وارزقنا اتّباعه، وأرنا الباطل باطلاً وارزقنا اجتنابه.