بمناسبة العام الهجري الجديد 1431هـ

الكاتب : مقالات سماحة المفتي العام

أضيف بتاريخ : 16-12-2009


كلمة بمناسبة العام الهجري الجديد (1431هـ)

(مَا كَانَ اللَّهُ لِيَذَرَ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى مَا أَنْتُمْ عَلَيْهِ)

 

 

الحمد لله(الَّذِي جَعَلَ الشَّمْسَ ضِيَاءً وَالْقَمَرَ نُوراً وَقَدَّرَهُ مَنَازِلَ لِتَعْلَمُوا عَدَدَ السِّنِينَ وَالْحِسَابَ) يونس/5، وصلى الله وسلّم وبارك على سيدنا محمد الذي وجدت بظهوره خير أمةٍ أخرجت للناس، وعلى آله الذين تحدَّرت إليهم منه أطيب الشمائل، فكانوا خير فرع من خير أصل، وعلى أصحابه الذين عرفوا قدره وشرف ما جاء به؛ فأيدوه ونصروه، وجاهدوا معه، حتى نصره الله، وأظهر دينه وأعز ملّته، وعلى من جاء بعدهم ممن رفع بالإسلام رأسه، فخدمه بكل ما أوتي من قوة، ليعم نوره كل أرض، وتصل رحمته الى كل شعب.

أما بعد:فها نحن نستقبل عاماً هجرياً جديداً، ونستدبر أعواماً كثيرةً، كانت فيها أحداث جليلة مرّت على الأمة الإسلامية الماجدة -أمة سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم-، وكلما استتم عام وبدأ آخر تذكر المسلمون معالم ما كان، واشرأبت أعناقهم إلى آمال جديدةٍ، عسى أن تتحقق.

ومما يجب أن يكون حاضراً في الذهن، أن المسلمين أرّخوا بالعام القمري العربي الذي تمت فيه الهجرة، وليس باليوم ولا بالشهر الذي كانت فيه الهجرة، وهذا يعني أن العرب بلغتهم، وتاريخهم، ونخوتهم، وشهدائهم هم العنصر الفعال في الحضارة الإسلامية، ومن أراد العرب بغير الإسلام فقد انقلب على عقبيه، (وَمَنْ يَنْقَلِبْ عَلَى عَقِبَيْهِ فَلَنْ يَضُرَّ اللَّهَ شَيْئاً)آل عمران/144، ومن أراد الإسلام بغير العرب فقد نسي حكمة الله القائل: (اللَّهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسَالَتَهُ) الأنعام/124.

وكما كانت الدعوة إلى تنحية العرب عن القيادة الإسلامية كفراً مبطناً، كانت الدعوة إلى العروبة من غير الإسلام ردّةً بلبوس جديد، وما لبثت الدعوتان أن اضمحلّتا أمام مد الصحوة الإسلامية، التي وضعت الأمور في موضعها الصحيح، فالإسلام للجميع بلسان عربي مبين، والعرب يشرفون بحمل الإسلام وليس لهم أن يتخلّوا عن هذا الشرف، فعيون الشعوب الإسلامية تنظر إليهم بإجلال وترقب ما هم فاعلون، وصدق الله العظيم:(وَإِنَّهُ لَذِكْرٌ لَكَ وَلِقَوْمِكَ وَسَوْفَ تُسْأَلُونَ)الزخرف/44.

بالهجرة أرّخ المسلمون، ولم يؤرّخوا بميلاد النبي صلى الله عليه وسلم، ولا بنزول الوحي، وإنهما لحدثان جليلان، لكن الإسلام قبل الهجرة كان دعوة لا يسمح بتطبيقها، وبالهجرة فسح المجال أمامه فطُبق، وصاغ النبي صلى الله عليه وسلم المجتمع الجديد وفق إرشادات الوحي المعصوم، وهذا هو الوضع الصحيح للإسلام، قول وعمل، وبعبارة أقرب إلى مصطلحات اليوم: بالهجرة قامت الدولة الإسلامية الأولى، وهي قمة التعبير عن قبول هدى الله(إِنَّ هَذَاالْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ)الإسراء/9، ولما رأى الناس الإسلام مجسماً في مجتمع المدينة المنورة دخلوا في دين الله أفواجاً، وبمقارنة سريعة بين عدد من أسلم قبل الهجرة، خلال ثلاثة عشر عاماً من البعثة إلى الهجرة، وعدد من أسلم بعد الهجرة إلى وفاة النبي صلى الله عليه وسلم، ومدتها عشر سنوات، يظهر الفارق بين تأثر الناس بما يسمعون، وتأثرهم بما يشاهدون.

بل في حياة الشخص الواحد يتأثر الناس بما يرون منه أكثر من تأثرهم بما يسمعون، ولذا كانت القدوة الحسنة أفضل أسلوب للدعوة والتربية، ومن هنا قال الصوفية:(لسان الحال أفصح من لسان المقال).

تغيّر العالم بالإسلام، ومازال يتغير، ومازلنا ننتظر المزيد من امتداد ظل الرحمة الربانية إلى كل الأرض، لكن من أين كانت البداية؟ عندما يريد البشر صنع حدث عالمي يبحثون عن بيئة تتوفر فيها:الكثافة السكانية المنظّمة، والمستوى الثقافي العالي، والثروة الضخمة التي تدعم المشاريع الطموحة، والموقع الجغرافي المناسب للتواصل مع العالم.. نعم هذه وسائل البشر، أما الله عز وجل وتبارك وتعالى فإذا أراد شيئاً قال له:(كن)، فيكون، ولا تعوزه الوسائل المادية..

فمِن مكة.. مِن وادٍ غيرِ ذي زرع، بين قبائل متحاربة فيما بينها، يغزوها عدوّها ليهدم قدس أقداسها ولا تستطيع أن تدافع عن نفسها، وفي أمّة أمّيّة تعزلها الصحراء عن مراكز اتخاذ القرارات العالمية، التي يتحكّم فيها الجبابرة الظالمون.

نعم.. من نقطة في الصحراء العربية إلى جوار بيت الله الحرام أراد الله أن يكون تغيير العالم فتغيّر.. ذهب الشرك وقام على أنقاضه التوحيد.. هُدمت الطبقيّة، وقامت الأخوّة بين البشر.. انتهى حكم الطاغوت وقام حكم الله.. زالت القسوة والغلظة، وقام مجتمع الرحمة والمودّة.. تغيّر الكثير من المآسي، وقامت الحياة الهانئة بمحبة الله ومحبه خلقه، العامرة بالتعرف على نعم الله التي لا تُحصى، فقد أنِس المؤمن بالكون بعد أن كان يخشاه؛ لأنه عرف أنه يسبّح الله مع المؤمنين(وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلاَّ يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ)الإسراء/44.

قام الإسلام، وذهبت الجاهلية، وسرعان ما انتشر من الجزيرة العربية إلى أنحاء الدنيا كلها لأنه نورٌ بحق، ورحمة بحق، والناس ظمأى للنور والرحمة.. لقد اتصلوا بالله، الذي بعث لهم رسوله، وأنزل عليهم كتابه، يبشّرهم بالرحمة لمن طلبها بحق، والسعادة لمن مشى في سبلها بصدق، (الراحمون يرحمهم الرحمن، ارحموا من في الأرض؛ يرحمكم من في السماء)رواه أبوداود والترمذي وأحمد.

ألف وأربعمئة وثلاثون عاماً مرّت على حادثة الهجرة هي مدى تاريخ الأمة الإسلامية، كانت فيها أحداث يهتزّ المرء طرباً لذكراها، وأحداث يتحشرج في الصدر ألمها(وَتِلْكَ الأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ )آل عمران/140، ومع حُسن الظنّ بالله تبدو لك يد رحيمة حكيمة تقلّب الأحداث، وتختار النخبة لمآلٍ تضمحلّ أمامه الدنيا وما فيها، إنه جوار الله، واقرأ معنا قول الحق عزّ وجل:(مَا كَانَ اللَّهُ لِيَذَرَ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى مَا أَنْتُمْ عَلَيْهِ حَتَّى يَمِيزَ الْخَبِيثَ مِنْ الطَّيِّبِ وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُطْلِعَكُمْ عَلَى الْغَيْبِ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَجْتَبِي مِنْ رُسُلِهِ مَنْ يَشَاءُ فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ وَإِنْ تُؤْمِنُوا وَتَتَّقُوا فَلَكُمْ أَجْرٌ عَظِيمٌ)آل عمران/179. وتأمّل قوله تعالى:(عَلَى مَا أَنْتُمْ عَلَيْهِ) ممّ..؟! من الخير؟! نعم، من الشر؟! نعم!!

إنّه الامتحان لا يكون إلا بهذه التحوّلات، فلو دام الخير ما بقي للامتحان معنى، ولو دام الشر ما بقى للاختبار معنى؛ ذلك أن سرّ الإيمان كونه إيماناً بالغيب:(الم * ذَلِكَ الْكِتَابُ لا رَيْبَ فِيهِ هُدًى لِلْمُتَّقِينَ * الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ) البقرة/1-3، (إِنَّ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ بِالْغَيْبِ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ كَبِيرٌ) الملك/12، نعم نؤمن بالله وبما في كتاب الله على ما أراد الله سواء كنا أعزّاء تخفق راياتنا بالنصر، أم كنّا ضعفاء تخفق قلوبنا بالخوف، لكنّها في كلا الحالين تقول:(الله أكبر).

ومن مفردات الإيمان أن نؤمن بأنّ وعد الله حق، وأنّ الله لا يُخلف الميعاد، وقد قال:(هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ) التوبة/33، سينتصر الإسلام ويعمّ الأرض، لكن متى؟ الله أعلم.. لكنّه سيكون.

هذه خواطر نستقبل بها العام الجديد، والثقة بالله تملأ قلوبنا لنمضي في خدمة هذا الدين، ونشر الرحمة المُهداة لكل البشر، ولا يحملنا الجزع وطول الانتظار على تنكّب الطريق، والاستسلام لقوم آخرين أو القنوط من رحمة الله(إِنَّهُ لا يَيْئَسُ مِنْ رَوْحِ اللَّهِ إِلاَّ الْقَوْمُ الكَافِرُونَ) يوسف/87، ففي الأزمات تظهر حقائق الرجال، ويشعّ جوهر الإيمان..

وكل عام وأنتم بخير