منهج السلف الصالح في التعامل مع الخلاف

الكاتب : مقالات سماحة المفتي العام

أضيف بتاريخ : 01-06-2009


الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم على سيدنا محمد، وعلى آله وأصحابه أجمعين، أما بعد:

فإن الله تعالى نهانا عن اختلاف الكلمة، وبين لنا عواقبه السيئة، فقال:(وَلَا تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ وَاصْبِرُوا إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ) الأنفال/46، وقال عز وجل:(وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا وَاخْتَلَفُوا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْبَيِّنَاتُ وَأُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ)آل عمران/105، والآيات بهذا المعنى كثيرة، ونظرا إلى خطورة الأمر فقد حذرنا الرسول صلى الله عليه وسلم من التفرق في أحاديث كثيرة، منها قوله عليه الصلاة والسلام: (لَيْسَ أَحَدٌ يُفَارِقُ الْجَمَاعَةَ شِبْرًا فَيَمُوتُ إِلَّا مَاتَ مِيتَةً جَاهِلِيَّةً) رواه البخاري (7143)، ومما يعرفه كل عاقل أن وحدة الأمة قوة، وتفرقها ضعف وهوان، ونحن اليوم وقعنا في المحذور، وتفرقت أمتنا لأسباب عديدة، وبلغ بنا الضعف ما بلغ، وأسوأ ما في الأمر أن ينسب تفرق الأمة إلى بواعث دينية، أو يجعل له مبررات دينية، أو يساهم به بعض المتدينين طلبا لنصرة الإسلام والمسلمين؟!

وفي بداية الحديث أؤكد أن ما نشاهده من فرقة وخلاف له أسباب دنيوية خاصة أو عامة، لكنها مع الأسف تلبس لباس الدين لاستغلال العاطفة الدينية العميقة عند جمهور المسلمين، وتوظفها في نصرة شخص أو مشروع.

والواجب شرعا إذا اختلفت السبل أن نرجع إلى كتاب الله وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم، ونهتدي بما كان عليه السلف الصالح في معالجة الأمور التي تعترضنا في هذا الزمان وكل زمان، فقد قال الله تعالى: (فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ) النساء/59، وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (خَيْرُ أُمَّتِي قَرْنِي ثُمَّ الَّذِينَ يَلُونَهُمْ ثُمَّ الَّذِينَ يَلُونَهُمْ) رواه البخاري(3650)، وبالتأمل في شبه الذين خرجوا على الجماعة في كل العصور الإسلامية، نجدهم يحتجون ببعض الآيات ويعرضون عن الباقي، وهذا سببه زيغ في القلوب يحرك إلى إثارة الفتنة، ويصاحبه جهل بالدين يتمثل في التغاضي عن بعض النصوص وعدم إدراك المقاصد الإسلامية الكبرى، وعن هذا يقول الله عز وجل: (هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُ آيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنَا وَمَا يَذَّكَّرُ إِلَّا أُولُو الْأَلْبَابِ . رَبَّنَا لَا تُزِغْ قُلُوبَنَا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنَا وَهَبْ لَنَا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً إِنَّكَ أَنْتَ الْوَهَّابُ)آل عمران/7-8.

وعن الأسلوب الانتقائي في الاحتجاج بالنصوص يقول الله تعالى:(أَفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الْكِتَابِ وَتَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ)البقرة/85، والمتشابه هو الذي لا يظهر معناه الموافق لقواعد الشريعة أو مسلمات الواقع، وقد يكون السبب قصور علم الناظر في تلك الآيات، فقوله تعالى: (وَإِذَا الْبِحَارُ سُجِّرَتْ) التكوير/6، أي اشتعلت كان من باب المتشابه إذ كيف يشتعل الماء، وهو الذي يطفئ النار؟ واليوم صار من المعلوم أن الماء مؤلف من عنصرين إذا فك الارتباط بينهما أمكن أن يشتعلا، والذي يهمنا في هذا المقام الآيات التي تتعلق بالعقيدة والتي على ضوئها يحكم بإيمان شخص أو كفره، أما ما يتعلق بالعبادات والمعاملات فالأمر فيه يسير، لأن المخالف يقول لمن خالفه: أخطأت، وفي الاعتقاد يقال للمخالف كفرت، وهذا ما ذم به الإمام الشافعي رحمه الله أسلوب علماء الكلام، فإن أحدهم يقول لمخالفه كفرت، والكفر أمر عظيم لا يجوز التسرع فيه، ولا الحكم به على الأشخاص إلا بضوابط، فقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إِذَا قَالَ الرَّجُلُ لِأَخِيهِ يَا كَافِرُ فَقَدْ بَاءَ بِهِ أَحَدُهُمَا) رواه البخاري (6103) ومسلم (60).

أما الفقهاء فإن خلافهم لم يباعد بينهم وغاية ما في الأمر أن يقول أحدهم لصاحبه أخطأت ثم لا يمنعه ذلك أن يصلي خلفه وأن يكون صديقه وقعيده، وحسبنا أن نذكر أن الإمام أحمد تلميذ الشافعي، وكان يدعو له في كل صلاة، والشافعي تلميذ الإمام مالك، وكان يثني عليه، والإمام مالك اجتمع بتلاميذ أبي حنيفة اجتماع العلماء، بما فيه من مودة واستفادة وإفادة، وأوضح من هذا أن مذاهب أهل السنة الأربعة على ما بينها من خلاف في الفروع لم تمنعهم أن يكونوا صفا واحدا في باب العقيدة، وأن يتعايشوا عصورا طويلة متعاونين في الذب عن الدين.

وأود في هذا البحث أن أبين منهج السلف في التعامل مع الخلاف، لنقتدي بهم فيما نراه من خلاف في هذا الزمان، فقد ظهر الخلاف منذ عهد النبي صلى الله عليه وسلم واختلف التعامل معه بحسب الخلفية الثقافية، والتربوية، من ذلك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أمَّر عمرو بن العاص على سرية، فأصابته جنابة وخاف الهلاك إن اغتسل فتيمم، وخالفه أصحابه ورأوا أن لا مبيح للتيمم، ومع ذلك صلوا خلفه، ولما رفع الأمر إلى النبي صلى الله عليه وسلم أقره على ما فعل. رواه أبو داود وغيره.

بينما اعترض شخص آخر في مناسبة أخرى على الرسول صلى الله عليه وسلم نفسه، وقال له: اعدل، فقال صلى الله عليه وسلم: (لَقَدْ شَقِيتُ إِنْ لَمْ أَعْدِلْ) رواه البخاري (2969)، وقال عنه صلى الله عليه وسلم: (إِنَّ مِنْ ضِئْضِئِ هَذَا قَوْمًا يَقْرَءُونَ الْقُرْآنَ لَا يُجَاوِزُ حَنَاجِرَهُمْ) رواه البخاري (7432)، ذلك أن الرجل بعد أن أخذ نصيبه من الغنيمة أراد أن يمنع الرسول صلى الله عليه وسلم من التصرف فيما أباح الله له التصرف فيه لمصلحة الإسلام والمسلمين، وهو إعطاء المؤلفة قلوبهم، لكن المعترض رأى نفسه قطب الرحى، ويجب أن تقاس الأمور بمعياره هو، وتلك الأنانية ناشئة من تربية خاصة، غير متمدنة، بينما لأنصار أهل المدينة رضوا بما رضي به رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال فيهم صلى الله عليه وسلم: (اللَّهُمَّ اغْفِرْ لِلْأَنْصَارِ وَلِأَبْنَاءِ الْأَنْصَارِ وَأَبْنَاءِ أَبْنَاءِ الْأَنْصَارِ) رواه البخاري (4906) ومسلم (2506)، ونحن نقول: يا رب رضينا بما رضيت به ورضي به رسولك الكريم صلى الله عليه وسلم فاغفر لنا.

وبعد وفاة الرسول صلى الله عليه وسلم برز خلاف حول من يتولى أمر المسلمين وأراد الأنصار أن يكون الخليفة منهم، فالمدينة بلدهم، لكنهم سكتوا عندما سمعوا قول الرسول صلى الله عليه وسلم: ( إنَّ هَذَا الأَمْرَ فِي قُرَيْش ) رواه البخاري (3309)، وقد شغب آخرون فيما بعد ورأوها لشخص من قريش، وفي سبيل ذلك فسَّقوا بل كفَّروا كل الصحابة، وتجاهلوا كل فضائلهم وما ورد في حقهم في كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، ولم يقبلوا ما رواه الصحابة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم من أحاديث، وليعوضوا ما فاتهم من حديث النبي صلى الله عليه وسلم قالوا بعصمة بعض علمائهم وأئمتهم كعصمة الأنبياء، ولهم تاريخ حافل في شق صفوف المسلمين والكيد لهم.

أما الصحابة الكرام والسلف الصالح فنظروا في الأمر على ضوء كتاب الله وسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، ورأوا أن المهم ليس شخص الحاكم بل بماذا يحكم، وهذا أرقى ما وصل إليه الناس اليوم في قضية الحكم، فقد قال الله تعالى: (وَأَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ) المائدة/49، وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (اسْمَعُوا وَأَطِيعُوا وَإِنْ اسْتُعْمِلَ حَبَشِيٌّ كَأَنَّ رَأْسَهُ زَبِيبَةٌ) رواه البخاري (693)، وقال: (إِنَّ هَذَا الْأَمْرَ فِي قُرَيْشٍ لَا يُعَادِيهِمْ أَحَدٌ إِلَّا كَبَّهُ اللَّهُ عَلَى وَجْهِهِ مَا أَقَامُوا الدِّينَ ) رواه البخاري (3500)، وقال عليه السلام: (وَلَوْ اسْتُعْمِلَ عَلَيْكُمْ عَبْدٌ يَقُودُكُمْ بِكِتَابِ اللَّهِ فَاسْمَعُوا لَهُ وَأَطِيعُوا) رواه مسلم (1838)، ولذا لم يشاغبوا على ولاة أمورهم طالما أنهم يحكمون فيهم شريعة الله، فقويت شوكة المسلمين، واتسعت دولتهم، وعم الخير الإسلامي مناطق واسعة من الأرض، فرحم الله الصحابة ورضي عنهم، فقد كانوا هم السباقين إذ تمسكوا بكتاب الله وسنة رسوله عليه السلام.

وبرز الخلاف مرة أخرى على أيدي الخوارج وهم قوم أخبر عنهم رسول الله صلى الله عليه وسلم بأنهم (يَقْتُلُونَ أَهْلَ الْإِسْلَامِ وَيَدَعُونَ أَهْلَ الْأَوْثَانِ) رواه البخاري (3344) ومسلم (1064)، وصدق رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقد فعلوا هذا، والذي ساقهم إلى بدعتهم هذه تمسكهم ببعض الآيات وإغضاؤهم عن غيرها، فمما تمسكوا به قول الله تعالى: (وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُتَعَمِّدًا فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِدًا فِيهَا وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ وَأَعَدَّ لَهُ عَذَابًا عَظِيمًا) النساء/93، وقوله تعالى: (وَوَيْلٌ لِلْمُشْرِكِينَ . الَّذِينَ لَا يُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ بِالْآخِرَةِ هُمْ كَافِرُونَ) فصلت/6-7. ومثل هذه الآيات التي يفهم من ظاهرها أنها تتوعد بعض أصحاب الذنوب الكبيرة بالعذاب الذي أعد للكافرين، وقالوا فاعل الكبيرة إن كان يعتقد أن الله لا يراه فقد كفر، وإن كان يعتقد أنه يراه ومع ذلك فعلها فقد كفر لأنه لم يستحيي من الله، أما الصحابة الكرام والسلف الصالح من بعدهم فقد نظروا في كل الآيات الواردة في الموضوع، ومنها قول الله تعالى: (إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ) النساء/48، ولذا أقاموا الحدود على أصحاب الكبائر ولم يحكموا بكفرهم، مع كراهيتهم للمعاصي وأصحابها والتحذير من عواقبها السيئة.

وقاتلوا الخوارج لكنهم لم يحكموا بكفرهم، وفرقوا بين من استحل الكبيرة ومن فعلها معتقدا حرمتها، فمن استحل كفر، ولمن لم يستحلها مؤمن عاص، وبلغت الجرأة على الباطل عند بعض فرق الخوارج أن قتلوا أطفال المسلمين ونساءهم وشيوخهم وعميانهم والعجزة منهم، بحجة أن هؤلاء من جملة رعايا الكافرين بزعمهم، ولما استنكر هذا بعض الفرق الأخرى من الخوارج احتجوا عليهم بأن نوحا عليه السلام دعا على قومه كلهم فأغرقوا، ونسي هؤلاء القتلة قول الله تعالى: (وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى) الأنعام/164، والذي ما يزال البشر يسعون جاهدين ليطبق فيهم هذا المبدأ الرباني، فلا يؤخذ الإنسان بجريرة غيره، وفي القرآن والسنة عشرات النصوص التي تؤكد هذا المبدأ، ألا ترون أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أخر رجم من حملت من الزنا حتى تضع كيلا يقتل من في بطنها.

وظهر في المسلمين المرجئة الذين لا يبالون بالذنوب، ويقولون المهم الإيمان بالله، ولا يدخل النار إلا كافر، وتعلقوا بمثل قول الله تعالى: (فَأَنْذَرْتُكُمْ نَارًا تَلَظَّى . لَا يَصْلَاهَا إِلَّا الْأَشْقَى . الَّذِي كَذَّبَ وَتَوَلَّى ) الليل/14-16، أما السلف الصالح فنظروا إلى هذه الآية مع قول الله تعالى: (إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ الْيَتَامَى ظُلْمًا إِنَّمَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ نَارًا وَسَيَصْلَوْنَ سَعِيرًا) النساء/10، وأمثال هذه الآية كثير، ولذا قالوا: الموحد يدخل النار بذنوبه، لكنه لا يخلد فيها كالمشرك.

وظهر المعتزلة الذين يقولون: صاحب الكبيرة ليس بمؤمن ولا كافر، بل هو في منزلة بين المنزلتين، محتجين بما احتج به الخوارج والمرجئة، أما السلف الصالح فنظروا إلى قول الله تعالى: (هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ فَمِنْكُمْ كَافِرٌ وَمِنْكُمْ مُؤْمِنٌ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ) التغابن/2، وأمثالها من كتاب الله تعالى، وفرقوا بين المعاملة الدنيوية والمعاملة في الآخرة، فأحكام المسلمين الدنيوية تطبق على كل من شهد أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله، وفي الآخرة لا يدخل الجنة إلا مؤمن، والله أعلم بما في القلوب.

هذه الإطلالة السريعة على ما وقع بين المسلمين من خلاف هي للتذكير فقط، ولا يخفى على إخواني ما أورثته هذه الخلافات من فتن، وما نتج عنها من خلاف وفرق وشراذم، وما أصاب المسلمين بسببها من ضعف وهوان، ومن ينسى الغزو التتري لعاصمة المسلمين بغداد، واحتلال الصليبيين للقدس، ولولا حماية الله لوصل أرناط القائد الصليبي على المدينة المنورة.

وفي العصر الحديث اجتمع على المسلمين الغزو العسكري والغزو الثقافي، ولنا الثقة بوعد الله أن لا يسلط على هذه الأمة من يستبيح بيضتها، وأن يحفظ علينا ديننا وكتابه فينا، فقد قال تعالى: (إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ) الحجر/9، وأود أن أبين القواعد التي راعاها السلف من هذه الأمة عند نظرهم في قضايا الخلاف:

1-القرآن يصدق بعضه بعضا، وللحكم في موضوع يجب النظر إلى كل الآيات الواردة في الموضوع، والتوفيق بينها للوصول إلى حكم لا يهمل شيئا من آيات الكتاب الكريم.

2-السنة النبوية الصحيحة حجة، وهي تؤيد القرآن الكريم وتفسره، وإهمال شيء منها إهمال لشيء من الدين.

3-المتشابه من الكتاب والسنة نفوض علمه إلى الله تعالى، وهذا لا يعيقنا عن العمل بالكتاب والسنة، فالنصوص المتعلقة بالأمور العملية لا تشابه فيها، وقد ضل أهل الكتب السابقة عندما تحكموا بآرائهم فيما أنزل عليهم، ويجب أن نحذر ما صنوا، قال الله تعالى: (وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا وَاخْتَلَفُوا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْبَيِّنَاتُ وَأُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ) آل عمران/105، وقد سئل أبو بكر رضي الله عنه عن قول الله تعالى: (وَفَاكِهَةً وَأَبًّا ) عبس/31، فقال: " أي سماء تظلني، وأي أرض تقلني إذا قلت في كتاب الله ما لا أعلم "، وقرأ عمر رضي الله عنه هذه الآية ثم قال: كل هذا عرفناه فما الأبُّ؟ ثم رفع عصا كانت بيده وقال: هذا لعمرو الله التكلف، وما عليك يا ابن أم عمر - يعني نفسه - ألا تدري ما الأب؟ ثم قال: اتبعوا ما بين لكم من هذا الكتاب، ومالا فدعوه " انتهى. " تفسير القرطبي " (19/223)، فانظر رحمك الله إلى توقف أفضل الأمة بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم، وإلى جرأة البعض على الفتوى تعرف أنهم مدعون.

4-كل من قال: أشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أن محمدا رسول الله فهو مسلم مؤمن، وكذا من ولد من أبوين مسلمين أو كان أحد أبويه مسلما فهو مسلم، هذا هو الأصل، ولا ينقض إلا بما يدل على الكفر قطعا. ودليل هذا قول الله تعالى: (وَلَا تَقُولُوا لِمَنْ أَلْقَى إِلَيْكُمُ السَّلَامَ لَسْتَ مُؤْمِنًا) النساء/94، وقول النبي صلى الله عليه وسلم: (مَنْ صَلَّى صَلَاتَنَا وَاسْتَقْبَلَ قِبْلَتَنَا وَأَكَلَ ذَبِيحَتَنَا فَذَلِكَ الْمُسْلِمُ الَّذِي لَهُ ذِمَّةُ اللَّهِ وَذِمَّةُ رَسُولِهِ فَلَا تُخْفِرُوا اللَّهَ فِي ذِمَّتِهِ) رواه البخاري (391)، ولهذا فإن المعاصي مهما عظمت لا تخرج صاحبها من الإسلام مع ما عليه من عقوبة في الدنيا والآخرة، ومع كراهيتنا للمعاصي وأهلها حتى يتوبوا، على أن من استحل حراما أجمعت الأمة على حرمته فقد كفر، ومن أصر على المعاصي يخشى أن يسلب منه الإيمان فإن المعاصي بريد الكفر.

5-الحكم على الناس بحسب ظواهرهم وترك سرائرهم إلى الله تعالى، فقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إِنِّي لَمْ أُومَرْ أَنْ أَنْقُبَ عَنْ قُلُوبِ النَّاسِ وَلَا أَشُقَّ بُطُونَهُمْ) رواه البخاري (4351)، وقال صلى الله عليه وسلم لأسامة حين قتل رجلا في المعركة بعد أن قال : لا إله إلا الله : أَفَلَا شَقَقْتَ عَنْ قَلْبِهِ حَتَّى تَعْلَمَ أَقَالَهَا أَمْ لَا . رواه مسلم (96) والقصة معروفة. هذا ما عليه أهل السنة والجماعة، وهم علماء المذاهب الأربعة السنية، ولذا لم يكفروا غيرهم من الفرق الإسلامية التي لها وجهة نظر تحتمل الصواب، وإن كانت ضعيفة مرفوضة، ولهذا أيضا استوعبت الدولة الإسلامية التي كانت تتبنى وجهة نظر أهل السنة كل الفرق الإسلامية، بينما كفرت أكثر الفرق غيرها، بل كفروا أهل السنة واستباحوا دمائهم، والدافع إلى ذلك بواعث سياسية يريدون تأييد تيار ضد تيار آخر، وكم سفكت دماء بسبب هذا المنهج التكفيري، ورضي الله عن الحسن بن علي بن أبي طالب، لقد تنازل عن حقه الثابت في الخلافة من أجل أن يحقن دماء المسلمين، وصدق فيه قول الرسول صلى الله عليه وسلم: (ابْنِي هَذَا سَيِّدٌ وَلَعَلَّ اللَّهَ أَنْ يُصْلِحَ بِهِ بَيْنَ فِئَتَيْنِ مِنْ الْمُسْلِمِينَ) رواه البخاري (3629)

6-هناك فرق بين الحكم على أمر بأنه مكفر وبين الحكم على شخص بأنه كفر، فقولنا من عمل كذا فقد كفر، غير قولنا فلان فعل كذا فكفر، فالأول حكم مجرد، والثاني حكم على شخص، فلا يجوز ما لم يثبت صدوره منه، وهذه مسألة غلط فيها كثيرون في حق كثيرين.

7-المسلمون لا يحبون الكفر والكفار، فإذا غضبوا على أحد منهم وصفوه بأنه كافر، أي أنه كافر النعمة، أو عمله كعمل الكفار، وإذا زجروا عن شيء قالوا عنه كفر، أي يدل على عدم اكتراث بالدين، لكن هذا غير الكفر الذي يخرج من الملة، ويعاقب فاعله عقاب المرتدين، وانظر إلى قول النبي صلى الله عليه وسلم:(ثلاث من الكفر بالله : شق الجيب ، والنياحة ، والطعن في النسب) صحيح ابن حبان. مع أن من فعل شيئا من هذا لا يحكم بردته.

وقد رسخ منهج أهل السنة واطمأن به وله المسلمون، فقويت شوكتهم بعد ضعف، واجتمعت كلمتهم بعد فرقة، حتى جاء هذا العصر الذي نحي فيه العلماء عن توجيه المسلمين، فنبتت نابتة لا تعرف للعلم منهجا صحيحا، ولا للعلماء قدرا لائقا، وأرادوا إبراز أنفسهم بالطعن في غيرهم من الأئمة السابقين والعلماء اللاحقين، ونصبوا لأنفسهم أئمة لا تتوفر فيهم شروط الإمامة، وساعدهم على ذلك من أراد إسقاط هيبة العلماء لأغراض شتى، وهو يعلم أن هؤلاء المتطاولين لن يملؤوا الفراغ الذي سيحدثونه، وصاحب ذلك مجاهرة الفسقة بفسقهم، والملحدون بإلحادهم، فتوافق من غير قصد على الطعن في أحكام الدين وعلمائه الفسقة والذين ما عرفوا أدب الخلاف.

وهكذا وقعت البلية، وتحقق ما حذر منه النبي صلى الله عليه وسلم بقوله:(اللَّهُمَّ لَا يُدْرِكْنِي زَمَانٌ أَوْ لَا تُدْرِكُوا زَمَانًا لَا يُتْبَعُ فِيهِ الْعَلِيمُ وَلَا يُسْتَحَى فِيهِ مِنْ الْحَلِيمِ قُلُوبُهُمْ قُلُوبُ الْأَعَاجِمِ وَأَلْسِنَتُهُمْ أَلْسِنَةُ الْعَرَبِ) رواه أحمد.

وطالت الفتاوى الطائشة القاعدة والقمة، ولم يسلم من شرها فأحد في الأمة، ففزع الناس إلى العلماء وهيهات، ومهما يكن من أمر فإن واجب طلاب العلم أن يبينوا أحكام الدين ما استطاعوا إلى ذلك سبيلا، وأن يعلموا أنهم وأمتهم في زورق واحد، وليس الخلاف لصالح أحد، فليشد بعضهم على أيدي بعض، وليسألوا الله الفرج، فإن بيده الخير، ومنه العون والمدد، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم.

وصلى الله على سيدنا محمد وآله وصحبه وسلم.