حياة المسلم عطاء متواصل

الكاتب : سماحة الدكتور نوح علي سلمان رحمه الله

أضيف بتاريخ : 17-10-2012


 

يرى الملاحظ للواجبات الشرعية أن بعضها متصل ببعض؛ فما إنْ ينتهي واجب من الواجبات حتى يدخل وقت واجب آخر.

وكثيرًا ما تكون الواجبات متزامنة في وقت واحد؛ ذلك أن حياة المسلم لا مكان فيها للفراغ والراحة، بل هي حياة جد واجتهاد تُسابق الزمن؛ ليُحقِّق المسلم فيها أكثر ما يستطيع من إنجازات قبل أن يوافيه الأجل؛ لتكون تلك الإنجازات أجرًا وثوابًا له عند الله يسعد بها في الآخرة، وتكون أيضًا ذِكْرًا له بين الناس يسعد بها الآخرون من بعده ويتأسون بسيرته الحميدة وأعماله المجيدة.

ولا توجد أمة تفوق أمتنا في معرفة قيمة الوقت، يوم كانت هذه الفكرة عن الدنيا والآخرة واضحة في أذهان النخبة منهم، وقادة الفكر فيهم، بل كانت واضحة في ذهن العامة منهم، ويُصدِّق هذا الإنتاجُ الضخمُ الذي خلَّفه علماؤنا في كل المجالات؛ فتجد أحدهم له من الإنتاج العلمي ما يعجز أحدنا عن نسخه فقط، فمتى استوعب هذه العلوم حتى برع فيها وصار مؤلفًا معتبرًا بين أقرانه؟! ونماذج ذلك كثيرة في تراجم المؤلفين.

إن السر في ذلك ما أشرت إليه آنفًا من أنهم كانوا يحرصون على أوقاتهم ولم يضيعوا منها شيئًا، وعلى هذا رباهم الإسلام، وأقرب مثال على ذلك موسم الصيام؛ فإن شهر رمضان المبارك فيه واجبات متعددة على المسلم تصاحب الصوم، فلا تشغل عنه ولا يشغل عنها، وعند انتهاء الشهر المبارك يدخل زمن واجب آخر هو الحج...

قال الله تعالى:(الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُومَاتٌ فَمَنْ فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَّ فَلَا رَفَثَ وَلَا فُسُوقَ وَلَا جِدَالَ فِي الْحَجِّ) البقرة/197. ومعلوم أن أشهر الحج أولها شوال الذي يأتي مباشرة بعد رمضان، ويتهيأ به المسلمون لأداء ركن آخر من أركان الإسلام.

وإذا قرأت آيات الصيام تجد بعدها مباشرة ذِكْرَ الجهاد والحضَّ عليه. قال الله تعالى:(وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ وَلَا تَعْتَدُوا إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْمُعْتَدِين * وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ ثَقِفْتُمُوهُمْ وَأَخْرِجُوهُمْ مِنْ حَيْثُ أَخْرَجُوكُمْ وَالْفِتْنَةُ أَشَدُّ مِنَ الْقَتْلِ وَلَا تُقَاتِلُوهُمْ عِنْدَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ حَتَّى يُقَاتِلُوكُمْ فِيهِ فَإِنْ قَاتَلُوكُمْ فَاقْتُلُوهُمْ كَذَلِكَ جَزَاءُ الْكَافِرِينَ * فَإِنِ انْتَهَوْا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ * وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لَا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ لِلَّهِ فَإِنِ انْتَهَوْا فَلَا عُدْوَانَ إِلَّا عَلَى الظَّالِمِينَ * الشَّهْرُ الْحَرَامُ بِالشَّهْرِ الْحَرَامِ وَالْحُرُمَاتُ قِصَاصٌ فَمَنِ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى عَلَيْكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ) البقرة/190-194.

ومع أن المسلم يتلقى أوامر الله بالسمع والطاعة فإن معرفته للحكمة في ترتيب العبادات وفي كيفيتها يبعثه على أدائها بنشاط؛ فمثلاً إذا تذكرنا أن الصوم إقلاع عن عادة يومية هي الطعام والشراب حتى تُروَّض النفس على طاعة الله، فتصبح الطاعة هي الخلق الجديد والعادة اليومية، نجد أن الحج هو أيضًا مفارقة للأوطان والمساكن ومرابع الصبا وذكريات الشباب ومواطن الأهل إلى واد غير ذي زرع عند بيت الله المحرم محاط بالصحاري من كل جانب ليس للنفس حظ في اجتيازها والتعرض لمخاطرها وشدتها من احتمال الجوع والعطش والحر الشديد والبرد القارص والرياح المغبرة إلى آخر ما في الصحراء مما لا حظَّ للنفس فيه.

وهكذا تكون الرحلة لله تعالى واستجابة لندائه عز وجل على لسان أبينا إبراهيم عليه السلام. قال الله تعالى:(وَأَذِّنْ فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجَالًا وَعَلَى كُلِّ ضَامِرٍ يَأْتِينَ مِنْ كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ * لِيَشْهَدُوا مَنَافِعَ لَهُمْ) الحج/27-28. وهذه المنافع منافع روحية أكثر منها مادية؛ ففيها سمو النفس بالزهد في الدنيا، وازدياد الإيمان بالنظر إلى الجماهير التي تترابط بكلمة التوحيد (لا إله إلا الله محمد رسول الله) إلى غير ذلك من الفوائد التي تُذكر في موضعها.

والقصد -هنا- بيان أن التأمل في طبيعة الفريضتين(الصيام والحج) وفي ترتيبهما يُشعر بأن الصوم كان تمهيدًا للحج، وأن الصوم والحج فيهما إقلاع عن الطين الذي خُلق منه الإنسان ليُحلِّق مع الروح التي تحتاج إلى معرفة الله، وتجد طمأنينتها في جواره.

وكذلك الجهاد الذي تُحتمَل فيه الشدائد، ويتعرض فيه الإنسان للمخاطر ابتداء من فراق الأهل وانتهاء بفراق الدنيا والرحيل إلى الآخرة، وما بين هذا وذلك من سهر وتعب وجراح وعطش... هذا الجهاد كانت مقدمته الصيام، وكان الصيام تدريبًا على تحمل مشاق الجهاد، فالجوع والعطش والصبر في رمضان عدة ضرورية لمن أراد أن يلقى عدوه المغتصب الحاقد المعتدي على حرماته المستخف بحقوقه، وما لم يزهد المرء في الدنيا وزينتها، والحياة وبهجتها طمعًا فيما عند الله لا يمكن أن يُقبل على الجهاد بحماس وجرأة وكفاءة.

وهذا بالذات هو الذي كان عليه سلفنا الصالح يوم كان قائدهم يهدد خصمه بأنه قد أتاهم بقوم يحبون الموت كما يحب عدوهم الحياة، فالكافر الملتصق بالتراب يرى لذته في الدنيا ونشوتها المصطنعة التي تخرب كيانه وتهدم أركانه، والمؤمن يرى سعادته التامة في طاعة الله التي تفضي به إلى مقعد صدق عند مليك مقتدر.

إذن فالصوم كان تهيئة للجهاد، حتى إذا ما تعارض معه قُدِّمَ الجهاد على الصوم. قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لأصحابه في فتح مكة:(إنكم قد دنوتم من عدوكم، والفطر أقوى لكم) رواه مسلم.

وهذه التهيئة البدنية للجهاد تصاحبها تهيئة روحية أيضًا وهي الأقوى والأبلغ أثرًا؛ فإن الله عز وجل قال عن الصيام:(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ) البقرة/183. وقال في آيات الجهاد:(وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ) البقرة/194.

إذن فالتقوى التي تعلمها المسلم في شهر رمضان هي سلاح يواجه بها عدوه في المعركة، وهي أيضًا خلق وشعور يجعله أكثر عزمًا وأشد مضاء عند لقاء العدو؛ فالصوم مبناه على مراقبة الله عز وجل، والشعور بأنه ينظر إلى خلقه ويُحصي عليهم أعمالهم، وهذه المراقبة هي عتبة التقوى؛ حيث يُصبح التقي مستشعرًا مراقبة الله في كل أحواله؛ فلا يضيع فرضًا، ولا يرتكب محرمًا، ولا يقف موقفًا شائنًا.

والمجاهد التقي يعلم أن سعادته في الإقبال بشجاعة والإقدام برجولة؛ فهذه علامة الإيمان، بينما التولي يوم الزحف كبيرة من الكبائر السبع التي يتحاشاها المسلم، ومواقف الرجولة في لظى المعركة مما تُحمد عقباه غدًا (يَوْمَ تَجِدُ كُلُّ نَفْسٍ مَا عَمِلَتْ مِنْ خَيْرٍ مُحْضَرًا وَمَا عَمِلَتْ مِنْ سُوءٍ تَوَدُّ لَوْ أَنَّ بَيْنَهَا وَبَيْنَهُ أَمَدًا بَعِيدًا) آل عمران/30.

وشتان بين من يُعرَض عليه موقفه وهو يصول ويجول شجاعًا لا يتردد، مقدامًا لا يهاب، وبين من تُعرَض عليه صورته وهو يولي ظهره ذليلاً مستخفيًا عن العيون، يتصل خِزيه في الدنيا بخِزيه في الآخرة، وعاره بين زملائه بعاره بين يدي الله!!

وتهيئة المقاتلين وتزويدهم بالتقوى دليلٌ على أن جهادنا في سبيل الله وإعلاء كلمته، ونشر الحق والفضيلة، وإبلاغ رسالة الله إلى عباده؛ فلسنا نبغي على أحد، ولا نطمع في مال ولا ثروة، ولا نستعبد الشعوب ولا نظلمهم ولا نُسخِّرهم لمصالحنا كما فعل غيرنا من أمم البغي والعدوان، حتى شهد لنا الأعداء بأن التاريخ لم يعرف فاتحًا أرحم منا.

نعم إننا نُبلِّغ دين الله الذي أنزله على نبيه، وجعله رحمة للعالمين، لنُخرج العباد من عبادة العباد إلى عبادة الله، ومن جور الأنظمة إلى عدالة الإسلام، وهذا هو السبب الذي يجعلنا ندافع عن بلادنا وأوطاننا بحرارة وشجاعة وبسالة، ونضحي في سبيل حمايتها بالغالي والنفيس؛ كي لا تغشانا وتغشى أمتنا ظلمات الظالمين، وجور الجائرين، وتبقى بلادنا التي هبط فيها الوحي منارة يهتدي إليها الحائرون في بحر الظلمات المتلاطم، وقوى البغي المتصارعة، ولنا وطيد الأمل بالله تعالى أن يُشرق النور من أرضنا مرة أخرى؛ فينعم الناس أجمعون برحمة الله تعالى.

نعم إنها التربية الإسلامية... لا مجال فيها للفراغ واللهو والعبث والضياع، بل واجبات متصلة متعاونة لتبقى كلمة الله عالية في الأرض، ونرجو أن تكون هذه الأمة قد استوعبت الدروس المستفادة من مواسم الطاعة، وظهرت في سلوكها وحياتها؛ لتظل خير أُمّة أُخرجت للناس.