الزواج العرفي

الكاتب :

أضيف بتاريخ : 10-02-2009


الزواج العرفي صوره وأحكامه

 

الحمد لله رب العالمين وأفضل الصلاة وأتم التسليم على المبعوث رحمة للعالمين سيدنا محمد وعلى آله وأصحابه والتابعين لهم بإحسان إلى يوم الدين وبعد:

فقد كثر الحديث والخوض في الآونة الأخيرة حول موضوع الزواج العرفي وكثر الجدال في هذا النوع من الزواج ما بين مؤيد منافح عنه وما بين ناقد  معارض له، وقد انتشر هذا الزواج في كثير من البلاد الإسلامية والعربية وخاصة  بين فئة الشباب وطلاب الجامعات على وجه خاص، وقد رأيت أن العديد من هؤلاء لا يعون ما هو الزواج العرفي، ويخلطون بينه وبين أنواع أخرى قد لا تكون صحيحة أصلا، مما حدا بالكثير منهم إلى التساهل فيه فوقعوا في الحرام من حيث يدرون أو لا يردون،  وأن الذين أباحوا الزواج العرفي بعضهم كانت إباحته عامة مطلقة، وبعضهم خصص بعض الأنواع دون الأنواع، ولما كان للزواج العرفي أكثر من صورة ولكل صورة حكم غير حكم الصورة الأخرى أردت في هذا البحث بيان صور الزواج العرفي مبينا حكم كل نوع من هذه الأنواع وما يترتب عليه من أحكام مجليا بذلك وجه الإشكال في إباحة أو تحريم بعض أنواع هذا الزواج .

هذا وإني كنت قد عزمت على جعل هذا البحث مقارنا بالقوانين المختصة بالأحوال الشخصية المعمول بها في البلدان العربية، غير أني عدلت عن ذلك لأسباب منها:

أولا: أنا في مجال دراساتنا الشرعية ونحن إذ نقرر الحكم الشرعي ما يهمنا في هذا المجال هو بيان حكم الله تعالى بغض النظر عمن يأخذ به أولا.

ثانيا:أني وجدت أكثر القوانين تتفق في محملها في معنى الزواج العرفي وتقصره على صورة واحدة، في حين ذكر الفقهاء له أكثر من صورة كما سترى في هذا البحث إن شاء الله .

غير أني أردفت البحث بنص القانون المعمول به في الأردن في مجال توثيق عقود الزواج.

وبعد فهذا جهد المقل وثمرة جهد بشري  يمتاز بالنقص والخلل  فما كان فيه من صواب فهو من الله تعالى وحده وما كان فيه من خلل فمني ومن تقصيري ورحم الله من صوب الخطأ بالحسنى وصلى الله على سيدنا محمد وعلى اله وصحبه وسلم.

 د احمد الحسنات

 

 

 

 

 

 

المبحث الأول:تعريف الزواج العرفي

 

لن أخوض في المبحث بتعريف الزواج، وتعريف العرف، وإنما اقصره فقط  على تعريف الزواج العرفي باعتباره لقبا على نوع من أنواع العقود المتعلقة بالزواج، أما تعريف الزواج فهو ليس الغاية من البحث إذ ليس غاية البحث هو الزواج بحد ذاته، وإنما الزواج العرفي فقط، وهو الزواج المنسوب إلى العرف، والعرف هو كل ما تعارف عليه الناس .

وقد تعددت تعريفات الفقهاء والقانونين للزواج العرفي غير أن كلها تجتمع في انه:[1] الزواج الشرعي المستكمل للشروط إلا انه لم يوثق بوثيقة رسمية لدى الجهات المختصة.

وقد وجدت أن كل التعاريف لم تفرق بين الزواج العرفي والزواج الشرعي، وذلك لأنها اعتبرت تعريف الزواج العرفي بنسبته إلى المتعارف عليه بين الناس  والذي كان عليه الناس حتى زمن ليس بالبعيد هو ذلك الزواج الذي لم تكن هناك حاجة لتوثيقه، فلذلك يعتبر هذا الزواج شرعيا، وفي ذلك يقول المرحوم الدكتور عبد الفتاح عمرو [2]: " إن النكاح العرفي هو عقد مستكمل لشروطه الشرعية ... فهو عقد صحيح شرعا لكنه غير موثق " .

وانأ أميل إلى ذلك ؛ فالزواج قد أضيف إلى العرف، والعرف كل ما تعارف عليه الناس، وقد تعارف الناس سابقا على هذا النوع من العقود إذ كان هذا الزواج هو السائد في العصور السابقة، فلم يكن ثمة مبرر لتوثيق الزواج، فإذا كان هذا هو الزواج العرفي، لم يعد ثمة مبرر لبحثه ودرسه، وذلك لان العلماء السابقين لم يتعرضوا له ؛ لأنه هو الزواج المتعارف عليه عندهم ؛ فهو بهذه الصورة زواج شرعي تام الشروط – عندهم – والأركان .

غير أن هناك صورا  أخرى من الزواج قد يصدق عليها الزواج العرفي ويذكرها البعض ضمن هذا النوع من الزواج، ولكن  التعريف المذكور قد لا يصدق على جميع هذه  الصور التي يدخلها العلماء في ضمن صور الزواج العرفي؛  لذا فإني اقترح صياغة للتعريف يمكن أن تجمع بين ثناياها صور الزواج العرفي الممكن إدخالها فيه وهو: كل زواج  وقع فيه خلل في أحد مقوماته  الشرعية أو الشكلية.

وأقصد بمقوماته الشرعية أي خلل في شروطه أو أركانه التي لا يتم الزواج إلا بها من اشتراط الولي أو الشهود، وأقصد بمقوماته الشكلية ما يشترط فيه من وجوب الإعلان ونحوه أو وجوب التوثيق ونحو ذلك، وبذلك يكون التعريف قد اشتمل على أكثر من صورة غير الصورة الأولى التي يذكرها العلماء على أنها هي الزواج العرفي فقط، وسأذكر  في المبحث  التالي هذه الصور  بشيء من التفصيل مع بيان الحكم الشرعي في كل نوع منها .

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

المبحث الثاني

صور الزواج العرفي

        للزواج العرفي عدة صور يمكن أن ندرسها عند الحديث على الزواج العرفي سأتناول أهم هذه الصور  في هذا المبحث ومن ثم أذكر حكم كل نوع من هذه الأنواع:

الصورة الأولى: أن يتم العقد بين الرجل والمرأة بحضور الشهود دونما حاجة إلى أن يجري بحضور المأذون الشرعي أو من يمثل القاضي أو الجهات الدينية. [3]

وبعبارة أخرى: هو الزواج الشرعي غير انه لم يقيد ولم يسجل في وثيقة رسمية .[4]

وقد أشرت آنفا أن هذا النوع من الزواج هو الذي كان سائدا في العصور السالفة، فقد اعتاد عليه الناس وأفراد المجتمع الإسلامي منذ عهد الرسول صلى الله عليه وسلم فمن بعده من الصحابة  والتابعين [5]، ولم يكن ثمة مبرر لتوثيق  عقود الزواج ؛ ذلك أن الضمير الإيماني كان كافيا عند الطرفين في الاعتراف به، وفي القيام بحقوقه الشرعية والآثار المترتبة عليه .

إلا انه وفي العصور المتأخرة، وان شئت قلت: في عصور التقنين عندما أصبحت أحكام الزواج مقننة في قانون عرف "بالأحوال الشخصية" ونظرا لتغيير الظروف ؛ رأى ولاة الأمور القائمين على حفظ مصالح الأمة بضرورة توثيق عقود الزواج، لاعتبارات استدعتها ضرورة التنظيم الإداري والمصلحة العامة[6].

مبررات توثيق وتقنين عقود الزواج:

إن الشريعة الإسلامية  لا تشترط توثيق عقود الزواج، ذلك أن الزواج عقد رضائي، وليس من العقود الشكلية التي تستلزم التوثيق لشرعيتها أو لصحتها أو لنفاذها [7].

ولكن ما هو موقف الشريعة من إيجاب التوثيق في عقد الزواج ؟ فنقول: صحيح أن الشريعة لا توجب التوثيق، غير أن ذلك لا يعني أن التوثيق مرفوض أو أن كل ما يحدثه ولاة الأمور تبعا للتطور والتنظيم الإداري لا بد أن يكون مرفوضا ؛ بل إن كثيرا من هذه التقنيات منها ما يحقق مصلحة للأمة بحفظ حقوقها من الضياع والإنكار، ولهذا التقنين أهدافه ومبرراته منها[8]:

 أولا: المحافظة على حقوق الزوجين والأولاد ممثلة في النسب والنفقة والميراث والحضانة من أن تتعرض للضياع والعبث والجحود، خاصة في ظل البعد عن الدين وضعف الوازع الديني .

ثانيا: ضعف الوازع الديني في النفوس، وما ترتب عليه من انتشار الكذب وتفشي الدعاوى الزوجية الباطلة زورا وبهتانا، من قبل ذوي المقاصد السيئة إخفاء للعلاقات غير المشروعة، أو وصولا للكسب غير المشروع للمال رغبة في التشهير، معتمدين في إثبات ذلك على شهود الزور الذين قد يكون اشتراء ضمائرهم سهلا وميسورا .

ثالثا: الحاجة إلى هذا التوثيق في المعاملات الرسمية كاستخراج وثيقة سفر أو بطاقة شخصية أو دفتر عائلة، أو إعفاءات الضريبة أو علاوات غلاء المعيشة وما إلى ذلك.

رابعا: سهولة الرجوع إليه عند النزاع مما لا يتوافر في الشهود، خاصة إذا ما تشددنا في شروط العدالة للشهود عند القائلين باعتبار عدالة الشهود مع قلة هذه العدالة في هذه العصور.

خامسا: معرفة الأمة لتاريخها وتسلسل أجيالها وحفظ أنسابها.

سادسا: تخطيط التنمية والاقتصاد للأمة من مستلزماته توثيق الزيجات.

 

أسباب وجود وانتشار ظاهرة الزواج العرفي:

يرى الكثيرون أن في الزواج العرفي حلا لكثير من المشاكل التي تواجه الشباب المقبل على الزواج مع عدم قدرته عليه من الناحية المادية، لذا فقد انتشر هذا الزواج في الآونة كثيرا، ومن أهم الأسباب الداعية إلى انتشاره:

أولا: القيود التي فرضتها قوانين الأحوال الشخصية على الأزواج  في بعض البلاد العربية، ومن ذلك منع التعدد إلا بأمر القاضي بعد بيان الأسباب الموجبة لذلك، ومنها أنه إعطاء الحق للزوجة الأولى بطلب الطلاق إذا ما تزوج عليها، لذا فيلجأ العديد من الشباب للتحايل والالتفاف حول هذه القوانين، فيجدون في الزواج العرفي الحل الأمثل لمشاكلهم.

ثانيا: الصعوبات المادية التي تحيط بكثير من الشباب ومنها: غلاء المهور، والمبالغة في تكاليف الزواج، مع انتشار البطالة وقلة الموارد وغلاء المعيشة المصاحبة لارتفاع نسبة الفقر، فيلجا الشباب إلى مثل هذا النوع من الزواج، حيث لا تترتب عليه نفقات مادية باهظة .

ثالثا: ضعف الوازع الديني، حيث يؤدي بالشباب المتعطش للإرواء الغريزي مع عدم مقدرته على الزواج، فيلجا إلى هذا النوع من الزواج إشباعا لرغباته ونزواته، حتى إذا ما اخذ بغيته تنكر للزوجة وتركها ذاهبا بعيدا عنها .

رابعا: رغبة أحد الطرفين في إخفاء الزواج بسبب التفاوت في المستوى الاجتماعي بينه وبين المرأة التي يريد الاقتران بها، مثل زواج الطبيب بالممرضة وزواج المدير بالسكرتيرة والسيد بالخادمة ونحوها مما لا تقره العوائد الاجتماعية فيلجا إلى الزواج العرفي لان فيه تحقيقا لرغبته وإخفاء له عن أعين الناس.

خامسا: رغبة الزوج بالزواج من أخرى من غير علم الأولى، خاصة في البلاد التي تفرض قيودا على جواز التعدد أو التي تشترط علم الزوجة الأولى أو التي تعطي الزوجة الأولى حق طلب الطلاق .

سادسا: الضرورات المادية والتي تجعل البعض يقدم على الزواج العرفي مثل حالات عدم الرغبة في التنازل عن المعاش للزوج أو الزوجة التي توفي زوجها ولها ولد منه يرعاها فتلجا إلى الزواج العرفي بهدف استمرار المعاش لها .

سابعا: كون الزواج العرفي لا تترتب عليه الالتزامات نفسها التي تترتب عليه في الزواج الرسمي . [9]

كل هذه العقبات جعلت الشباب لا يقدم على الزواج الرسمي الموثق إلى الزواج العرفي، حيث يتخلص من الكثير من القيود التي تواجه الزواج الرسمي، وبذلك يحمي نفسه من الوقوع بالرذيلة أو مباشرة علاقات غير مشروعة .

موقف الشريعة من اشتراط توثيق عقود الزواج:

قلنا إن الشريعة لا تشترط التوثيق، وان التوثيق لا ينافي مقاصد الشريعة ولكن هل يجوز أن يشترط هذا التوثيق بحيث يصبح ملزما، وللإجابة على هذا التساؤل نقول:

إن الشارع قد وجه الناس إلى توثيق العقود فيما بينهم في الدين والرهن، وذلك بقوله تعالى: (( يا أيها الذين امنوا إذا تداينتم بدين إلى اجل مسمى فاكتبوه )) [10]، وقد علل سبحانه وتعالى ذلك الحكم بأنه ادعى إلى حفظ الحقوق وتحقيق العدل، بقوله تعالى: (( ذلكم اقسط عند الله وأقوم للشهادة وأدنى ألا ترتابوا)).

فإذا كان الشارع قد حبب ذلك فمن باب أولى أن يكون عقد الزواج الذي هو من اخطر العقود موثقا، غير أن الشارع قد أحاط الزواج بهالة من القدسية، أضفت إليه صفته الخاصة، فقد جعل الله توثيق الزواج امرأ واجبا، وذلك باشتراطه الشهادة في الزواج، فالشهادة هي من باب التوثيق أيضا .

فلا يوجد ثمة مانع من توثيق عقد الزواج، ويكون هذا التوثيق ملزما، وان يترك للقاضي الحرية في اختيار عقوبة مناسبة لكل من خالف ذلك من باب سياسة التشريع، إذ تصرف الراعي على الرعية منوط بالمصلحة .

وفي ذلك يقول الشيخ القرضاوي [11]: " في هذه الحالة إذا صدر أمر قانون من ولي الأمر بإيجاب التوثيق تصبح طاعته لازمة شرعا لان الله تعالى قال: (( يا أيها الذين امنوا أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولي الأمر منكم ))النساء: 25، والنبي صلى الله عليه وسلم قال في الحديث الصحيح المتفق عليه:(( السمع والطاعة حق على المرء المسلم فيما أحب وكره ما لم يؤمر بمعصية، فإذا أمر بمعصية فلا سمع ولا طاعة)) . وقال النبي صلى الله عليه وسلم: (( إنما الطاعة في المعروف )) فما دام الإنسان يؤمر بمعروف فيجب أن يطيع، فالطاعة هنا لازمة وواجبة " .

الصورة الثانية: إفساح المجال أمام كل من الرجل والمرأة على أن يختار كل منهما شريكه، ويمارس العلاقات الجنسية دون التقيد بشرط التوافق الديني بين الزوجين ؛ وبالتالي يكون بمقدور الرجل الزواج من أي امرأة  مسلمة كانت أو كتابية أو حتى وثنية دون تفريق، كما تستطيع المرأة فعل ذلك نفسه [12]

وفكرة هذا الزواج ينادي بها أصحاب الدعوات المشبوهة التي تدعو إلى التحرر من كل أشكال التدين، وتدعو إلى ما يسمى التسامح الديني، بحجة التجانس الوطني والعدالة الاجتماعية [13]، وزوال الفروق بين الناس، وما هذه إلا من ثمرات فصل الدين عن الحياة المسماة بالعلمانية اليوم .

غير أن هذا النوع لا يمكن أن يسمى زواجا عرفيا ؛ لان الزواج العرفي كما ذكرنا هو العقد الشرعي المستكمل لكل شروطه غير انه ينقصه التوثيق لدى الجهات المختصة .

الصورة الثالثة: إتاحة الفرصة لكل من الرجل والمرأة للالتقاء والإشباع الجنسي بدون عقد شرعي اكتفاء بتراضيهما [14].

غير أن الدكتور عمر الأشقر يرى أن هذا النوع لا يدخل تحت مسمى الزواج العرفي، ويقول في

[15] ذلك:" إن اقترن رجل بامرأة من غير عقد أو بعقد لم تتوفر فيه شروطه فان هذا لا يعد عقدا أو هو عقد باطل " .

ومثل هذه الدعوات إلى مثل هذه العلاقات لا يحملها إلا دعاة الرذيلة والفساد والانحلال، وهم الذين ينطبق عليهم قوله تعالى: (( إن الذين يحبون إن تشيع الفاحشة في الذين آمنوا لهم عذاب اليم في الدنيا والآخرة والله يعلم وانتم لا تعلمون )) . [16] .

لذا فيجب على جميع المخلصين الوقوف أمام هذه الدعوات، وردها ومحاربتها وتحذير الشباب والفتيات من خطورة الانسياق وراء مثل هذه الدعوات التي تنخر المجتمعات، و تكون معول هدم لقيمها وإنسانيتها، وتحول مجتمعاتنا من صورة المجتمعات الإنسانية السامية الراقية، إلى صورة المجتمعات الغربية البهيمية التي لا تهدف إلا للإشباع الغريزي .

الصورة الرابعة: نكاح السر:

يروق لبعض أهل العلم ذكر صورة نكاح السر عند الحديث عن الزواج العرفي، وبعضهم يعتبر نكاح السر صورة من صور النكاح العرفي ونحن في هذا البحث بصدد إقرار ماهية الزواج العرفي سنذكر هنا صور نكاح السر وما ينطبق منها على الزواج العرفي مما لا ينطبق .

صور نكاح السر:

الصورة الأولى: العقد الذي يتم بين الرجل والمرأة من غير ولي ولا شهود ولا إعلان وهذا ينطبق عليه مضمون الصورة الثالثة من الزواج العرفي وقد مضى فلا نطيل بإعادته هنا .

الصورة الثانية: العقد الذي يتم بإيجاب من الولي والزوج وحضور الشهود، لكن يشترط فيه الكتمان، والتواصي على كتمانه،وعدم إذاعته، وهذه هي الصورة الفعلية لنكاح السر ؛ كما يقول د. عبد الفتاح عمرو: [17] "ويظهر من ذلك أن نكاح السر يختلف عن النكاح بلا شهود، فهو نكاح بحضور الشهود، إلا انه إذا كان المقصود من حضور الشهود الإعلان عن النكاح وإشهاره ؛ فان هذا القصد في نكاح السر لم يتحقق للتواصي بالكتمان "

وقال أيضا:[18] " يتضح من ذلك أن محل النزاع في مسالة بطلان نكاح السر تنحصر في النكاح الذي استكمل أركانه وسائر شروطه الشرعية من حيث الصيغة والعاقدان، والشهود والولي والمهر ؛ إلا انه معيب بالكتمان والسرية عن الناس أو عن بعضهم " .

الصورة الثالثة: العقد الذي يتم بين الرجل والمرأة بحضور الشاهدين لكن من غير وجود الولي .

هذه هي الصور التي يمكن درجها في صورة نكاح السر، ويأتي حكمها في المبحث التالي إن شاء الله.

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

المبحث الثالث

أحكام الزواج العرفي

تحدثنا في المبحث السابق على صور الزواج العرفي ؛ التي تحدث عنها أهل العلم، وجعلوها من قبل الزواج العرفي، وفي هذا المبحث سنتناول أحكام تلك الصور بصورة مختصرة ؛ ذلك أن كل صورة قد تصلح لان تكون بحثا مستقلا للدراسة .

حكم الصورة الأولى: وهي الصورة الفعلية للزواج العرفي، وهي التي ينطبق عليها تعريف الزواج العرفي، وقد عرفنا أن التوثيق ليس شرطا من شروط عقد الزواج، وإنما هو شرط قانوني اقتضته ضرورة التنظيم ؛ وبالتالي فبالنظر إلى ذات الزواج يكون هذا الزواج شرعا صحيحا إذا استكمل شروطه الشرعية من ولي وشهود، ويترتب عليه كامل آثار الزواج من حل الاستمتاع ووجوب المهر والنفقة وغيرها .

هذا بالنظر إلى ذات الزواج، وأما بالنظر إلى إيجاب ولي الأمر توثيق هذا العقد، فانه لا تجوز مخالفته وتكون مخالفة أمر الولي أمرا محرما فيكون من هذا الباب زواجا صحيحا مع الحرمة بمعنى انه تترتب عليه كامل أثاره مع وقوع فاعله بالإثم نظير الصلاة في الأرض المغصوبة .

غير أن مثل هذا الزواج، وفي ظل ظروف ابتعد الناس فيها عن دينهم، وفسدت ذممهم، وما قد ينجم عنه من آثار خطيرة تلحق بالأسرة كلها، وبالزوجة على وجه الخصوص، من ظلم قد يلحقها بإنكار حقها وضياعه وتشرد أولادها – إن كان ثمة أولاد من هذا الزواج – إضافة إلى أن الكثير من الفتيات يخدعن في هذا الزواج، مما يؤدي إلى وقوعهن فريسة في يد أولئك الشباب الذين لا تقوى عندهم ولا ورع، فيمكث معها مدة يقضي بها وطره ثم يتركها ويذهب، وتبقى هي كالمعلقة لا هي بالمزوجة ولا بالمطلقة [19] .

إضافة إلى أن مثل هذا الزواج لا يحقق الاستقرار للأسرة، ولا الضمانات للأولاد ؛ فينبغي أن لا يتجه إليه الناس وهم ينشدون الحياة الهادئة السعيدة[20] . من هنا أقول: انه لا يمكن أن نعطي فتوى عامة لكل الناس بإباحة أو تحريم هذا النوع من الزواج – لأنه لا يمكن أن نغفل ما له من ايجابيات إضافة لما له من السلبيات – ولكن تكون الفتوى خاصة وعلى نطاق ضيق بحيث ينظر فيها لحال الشخص والمكان والزمان، ولا أرى أن يكون ثمة فتوى عامة بإباحة هذا الزواج، وللقاضي سياسة أن يعاقب على هذا الزواج حتى لا يتذرع به الفساد ويكون ذريعة لتحقيق الشهوات، ومن ثم التنكر من المسؤوليات لذا أرى أن يحظر هذا النوع إلا في نطاق ضيق .

هذا وقد اقترح الدكتور عمر الأشقر صورة لحل هذه المشكلة، وهي صورة مقبولة لتفادي ما قد ينجم من عدم توثيق عقد الزواج من إخطار، وذلك باقتراحه على الشباب المصر على الزواج العرفي بان يعقد زواجه في دولة أخرى عند جهة رسمية، وقال: " وهذا مع كونه ليس مرضيا لدي فانه أهون من زواج المرأة زواجا عرفيا ؛ فان الزوج في هذه الحال لا يستطيع أن ينتفي من زوجته وأولاده "[21].

حكم الصورة الثانية:

هذا النوع من الزواج غير مقبول شرعا، فلا يجوز بأي حال من الأحوال أن تتزوج المسلمة بغير المسلم، ولا أن يتزوج المسلم بالمشركة والوثنية، وذلك بنص قوله تعالى:((ولا تنكحوا المشركات حتى يؤمن ولأمة مؤمنة خير من مشركة ولو أعجبتكم، ولا تنكحوا المشركين حتى يؤمنوا ولعبد مؤمن خير من مشرك ولو أعجبكم أولئك يدعون إلى النار والله يدعو إلى الجنة والمغفرة بإذنه ويبين آياته للناس لعلهم يتذكرون))[22]  وليس بعد كلام الله كلام .

إلا أن الدكتور محمد عقله قد ذكر بعض الاعتبارات التي تؤيد رفض هذا الزواج ومنها[23]:

1- أن التوافق الديني بين المسلمة وزوجها شرط أساسي لصحة الزواج لا يقبل التنازل.

2- انه يلحق ضررا بالغا بثمرة الزواج واهم مقاصده وهم الأولاد حيث سينشئون بعيدا عن الانتماء الإسلامي أو الديني عامة، وكفى بذلك ضررا وضياعا .

3- أن حملة لواء هذه الدعوة أناس ذوو غايات مشبوهة خبيثة يخفونها وراء أهداف نبيلة الظاهر كالعدالة والتسامح الديني، والتجانس الوطني والاجتماعي.

4- أن تشجيع فكرة الزواج المدني في المجتمعات الإسلامية التي تعيش بين ظهرانيها أقليات دينية غير مسلمة، أو ملحدة يعصف بالصبغة الإسلامية والطابع الديني للمجتمع المسلم .

5- إن هذا الزواج لا يحقق غاياته وأغراضه ؛ لأنه يعوزه عنصر الانسجام الفكري والروحي المستمد من العقيدة، والذي يمثل الدعامة الأساسية لاستقرار البيت .

وبالتالي فهذا الزواج باطل شرعا، فلا تترتب عليه آثار العقد الصحيح، ومن أقدم عليه عالما بتحريمه ومختارا له، وتبعه دخول يعتبر زانيا ويجب عليه الحد . والله تعالى اعلم .

حكم الصورة الثالثة:

الصورة الثالثة لا تدخل ضمن صورة الزواج العرفي، كما هو واضح وعلى كلا التقديرين سواء دخلت أو لم تدخل، فهو زواج مرفوض وباطل للاعتبارات التالية[24]:

1- ان الإسلام جاء لتنظيم العلاقة بين الرجل والمرأة عن طريق عقد الزواج، وكل علاقة تكون خارج هذا العقد تكون زنا وسفاح .

2- هذا النوع لا يحقق مقصد الشارع من الزواج بل كل ما يستهدفه هذا النوع هو علاقة عابرة تستهدف المتعة العابرة وتنحدر به عن أهدافه السامية ووسائله المشروعة.

3- ان العقد شرط أساسي في إنشاء العلاقة الزوجية ولا يكفي لصحة العقد مجرد الاتفاق الرضائي.

4- ان الإسلام يحرص على إضفاء طابع القدسية على الرابطة الزوجية صبغا لها بالصبغة الإنسانية، وسموا بها عن التصرف البهيمي .

فهذه العلاقات ؛ والتي تكون بلا حدود ولا ضوابط، تجعل العلاقات الجنسية مشاعا بين الرجال والنساء، والتي يحملها ويروج لها دعاة الإباحية، من أفراخ الشيوعيين والنصارى الذين تئن مجتمعاتهم تحت وطأة الإباحية التي تدمر الأسر والقيم، وتفتك بالإفراد. [25]

فهذه العلاقات هي محض الزنا، وقد حرم الله الزنا بنص قاطع بقوله تعالى:(( ولا تقربوا الزنا انه كان فاحشة وساء سبيلا)) [26] . فهذا حكم قاطع ولا يسع مسلما جهله، وبالتالي فمن يقدم على مثل هذا النوع من العلاقات غير المشروعة يعتبر زانيا محضا ويستوجب حد الزنا .

حكم الصورة الرابعة:

الحالة الأولى: نكاح السر بهذا المعنى باطل باتفاق العلماء وفي ذلك يقول ابن تيمية: " نكاح السر الذي يتواصى بكتمانه ولا يشهدون عليه أحدا باطل عند عامة العلماء وهو من جنس السفاح[27] ".

وهذه الحالة شبيهه بالصورة الثالثة، وبالتالي فهي تحمل نفس حكمها .

الحالة الثانية: نكاح السر بهذا المعنى قد اختلف فيه العلماء على قولين:

الأول: ذهب جمهور الفقهاء من الحنفية[28] والشافعية[29] والحنابلة[30]: إلى أن هذا النكاح جائز وصحيح .

الثاني: وذهب جمهور المالكية[31] إلى بطلان هذا النكاح .

سبب الخلاف بينهم: هو اشتراط إعلان النكاح،فذهب الجمهور إلى أن الإعلان ليس بواجب، ولا شرط لصحة النكاح، وإنما الواجب هو الشهادة فحسب، وحيث وجدت الشهادة على النكاح كفى ذلك في صحته ولو لم يعلن اكتفاء بظاهر قوله صلى الله عليه وسلم: (( لا نكاح إلا بولي وشاهدي عدل )) فظاهر القول يدل على الاكتفاء بالشهادة دون الإعلان .

 وأما الإعلان الوارد في بعض الأحاديث فقد حمله الجمهور على تأويلين:

الأول: أن المقصود بالإعلان هو الإشهار في حين العقد [32]، وقد حصل هذا بالشهادة وقالوا: كل عقد شهد عليه شاهدان خرج عن كونه سرا .

الثان