الموضوعية عند السادة المالكية

الكاتب : المفتي الدكتور سعيد فرحان

أضيف بتاريخ : 17-10-2019


الموضوعية عند السادة المالكية

المذاهب الفقهية الأربعة هي حصن الأمة وسياجها الحامي لدينها، ولا شك أنها السراج الذي ينير للناس طريق العبادة الصحيح، والذي يبعدهم عن كل غلو وتطرف.

وهذه المكانة التي اكتسبتها هذه المذاهب الأربعة، وهذا الانتشار والقبول بين الناس لها لم يأت من فراغ، ولم يكن وليد العرف والعادة كما يزعم البعض، وإنما كان لمنهجيتها العلمية الواضحة، وأصولها الصحيحة الراسخة السبب الأكبر في انتشارها بين الناس، بالإضافة إلى موضوعيتها وإنصافها.

ومن هذه المذاهب المذهب المالكي الذي كتب الله عز وجل له الانتشار في الأمة وخاصة في دول المغرب العربي، ولا شك أن للمذهب المالكي مزايا خاصة به شأنه في ذلك شأن المذاهب الثلاثة الأخرى، وهذه المزايا حملت الكثير من فقهاء المذاهب على الإشادة بالمذهب المالكي، ومن ذلك ما ذكره الإمام الغزالي وهو من رؤوس المذهب الشافعي، حيث قال في كتابه [إحياء علوم الدين 1/ 129]: "وكنت أود أن يكون مذهبه [أي: الإمام الشافعي] كمذهب مالك رضي الله عنه، في أن الماء وإن قل لا ينجس إلا بالتغير؛ إذ الحاجة ماسة إليه، ومثار الوسواس اشتراط القلتين، ولأجله شق على الناس ذلك، وهو لعمري سبب المشقة ويعرفه من يجربه ويتأمله". انتهى كلامه.

ومما اختص به المذهب المالكي من سمات حسنة ومزايا فضلى، تلك المنهجية العلمية والموضوعية عند علمائه قاطبة، فلا ترى فيهم مناكفاً، ولا مجادلاً، ولا نحو ذلك من المراءات والمهاترات التي أصبحت سمة لكثير من الفرق الفقهية المعاصرة والقديمة.

وهذه المنهجية تتمثل بالعديد من النقاط منها:

أولاً: ذكرهم لأحكام فرعية من مذاهب أخرى وخاصة المذهب الشافعي.

وهذا من أعلى درجات الرقي في الموضوعية ونبذ التعصب، أن تذكر آراء المذاهب الأخرى، ولا تذكرها فقط للإشارة إليها، وإنما لدعوى العمل بها واتباعها، فأي إنصاف بعد ذلك، ومن أمثلة هذا ما ذكره الإمام الصاوي في [حاشيته على الشرح الصغير 1/ 3] عن حكم البسملة في سورة براءة، قال: "وتحرم في ابتداء براءة عند ابن حجر، وقال الرملي: بالكراهة، وأما في أثنائها فتكره عند الأول وتندب عند الثاني. قال الإمام الحطاب: ولم أر لأهل مذهبنا شيئا في ذلك".

بل وأكثر من ذلك، توجيه المالكية للفتيا والعمل بقول الغير القوي وتقديمه على قول المذهب الضعيف والمرجوح؛ وتعليلهم ذلك بأن قول الغير قوي في مذهبه، خلافا للقول الشاذ والضعيف في المذهب، فأي رقي فكري أكبر من ذلك، بتقديم القول القوي عند الغير، والأصل في ذلك كما هو شأن العديد من المذاهب أن لا يفتى بقول الغير؛ لضعفه في نظرنا، وهذا التسامي في الموضوعية يفتقدها الكثير ممن يشتغل بالفقه، حيث يكون همه إقصاء الآخر.

قال الإمام الدسوقي في [حاشيته على الشرح الكبير للشيخ الدردير 1/ 20]: "الفتوى إنما تكون بالقول المشهور أو الراجح من المذهب، وأما القول الشاذ والمرجح أي الضعيف فلا يفتى بهما، وهو كذلك؛ فلا يجوز الإفتاء بواحد منهما، ولا الحكم به، ولا يجوز العمل به في خاصة النفس، بل يقدم العمل بقول الغير عليه؛ لأن قول الغير قوي في مذهبه، كذا قال الأشياخ".

ومن ذلك أيضا ترجيح أقوال المذاهب الأخرى على قول المذهب عند بعض علماء المالكية، ومثاله ما قاله الإمام العدوي في [حاشيته على كفاية الطالب الرباني 1/ 444]: "وعن الشافعية يوم الشك أن يشيع على ألسنة من لا تقبل شهادته أن الناس قد رأوا الهلال، ولم يثبت ذلك ابن عبد السلام، وهو الأظهر عندي [أي: كلام الشافعية]؛ لأنا في الغيم مأمورون بإكمال العدد ثلاثين فلا شك في هذه الصورة".

ثانياً: قبولهم للمخالف لهم في الفروع، كتصحيحهم الصلاة خلف من لا يأتي بالشروط والأركان حسب مذهبهم، قال الإمام الدردير في [شرحه على مختصر خليل 1/ 333]: "وجاز اقتداء بإمام مخالف في الفروع الظنية، كشافعي وحنفي ولو أتى بمناف لصحة الصلاة، كمسح بعض الرأس أو مس ذكر؛ لأن ما كان شرطاً في صحة الصلاة فالتعويل فيه على مذهب الإمام، وما كان شرطاً في صحة الاقتداء فالعبرة بمذهب المأموم".

وفي هذا التفصيل متابعة من قبل المالكي المأموم لجميع المذاهب وتصحيح الصلاة معهم، ولا يخفى ما في ذلك لا نقول من نبذ التعصب، وإنما نقول من جمع لكلمة المسلمين، ومن رفع للحرج عن المأموم.

ثالثاً: انفتاح المذهب المالكي على غيره من المذاهب وتقليدها، إن كان في ذلك زيادة خير، قال الإمام القرافي في كتابه [الذخيرة 13/ 247]: "كاختلاف العلماء في شرعية الفاتحة في صلاة الجنازة، فمالك يقول: ليس بمشروعة، والشافعي يقول: مشروعة واجبة، فالورع القراءة. وكالبسملة، قال مالك: مكروهة في الصلاة، وقال الشافعي وأبو حنيفة: واجبة، فالورع أن تقرأ وعلى هذا المنوال".

رابعاً: مراعاة المالكية لأقوال المذاهب الأخرى والقول بها، وحتى العمل بها خروجاً من الخلاف، بشرط أن يكون دليل القول معتبراً، وأمثلة ذلك أكثر من أن تحصى في المذهب المالكي، منها:

أن المذهب المالكي لا يجيز الحج عن الميت، ولكنهم مراعاة لقول الجمهور في ذلك ولأدلتهم من الأحاديث الواردة في حكم ذلك، أجازوا الحج عن الميت في حالة واحدة وهي إذا ما أوصى بذلك ومع الكراهة، كما أجازوه في حج التطوع.

ومنها أيضا: مسألة ذكاة الجراد عند المالكية، وهي مسألة تفرد بها المالكية، وخلافهم فيها مع الجمهور معروف؛ حيث إن الجمهور يجيزون أكل الجراد من غير ذكاة حتى وإن مات حتف أنفه؛ للحديث الوارد في ذلك، أما المالكية فلا يؤكل الجراد عندهم بلا تذكية ويعتبر الجراد الميت من الميتة المحرمة؛ والحديث الوارد تكلموا في صحة ثبوته عن النبي صلى الله عليه وسلم، لكن مراعاة لصحة رواية الحديث موقوفاً، ومراعاة لقول الجمهور قالوا بالتخفيف في ذكاة الجراد، وأنه يجزئ أي فعل يموت به الجراد، ولم يشترطوا الذكاة الكاملة.

وغير ذلك من المزايا والخصال الحميدة التي اتصف بها السادة المالكية، والتي تعلموها من إمامهم ومعلمهم الإمام مالك رضي الله عنه، الذي كان خير قدوة في اتباع الحق، فقد روي عنه رحمه الله تعالى أنه دخل المسجد بعد صلاة العصر وجلس ولم يصل تحية المسجد، فقال له صبي: قم يا شيخ فاركع ركعتين، فقام فصلاهما فقيل له في ذلك، فقال خشيت أن يصدق عليّ قوله تعالى: {وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ ارْكَعُوا لَا يَرْكَعُونَ} [المرسلات: 48].