ما لا يضر فعله للمحرم بالحج

الكاتب : المفتي هاني خليل عابد

أضيف بتاريخ : 04-08-2019


ما لا يضر فعله للمحرم بالحج والعمرة ولا تلزم فيه الفدية

الحمد لله الذي قال في كتابه المحكم: (وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا) آل عمران/97، والصلاة والسلام الأتمان الأكملان على سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم الذي خطب في النّاس فقال: (أيها النّاس قد فرض الله عليكم الحج، فحجوا)، فقال رجل: أكل عام يا رسول الله؟ فسكت حتى قالها ثلاثا، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لو قلت: نعم لوجبت، ولما استطعتم)، ثم قال: (ذروني ما تركتكم، فإنما هلك من كان قبلكم بكثرة سؤالهم، واختلافهم على أنبيائهم، فإذا أمرتكم بشيء فأتوا منه ما استطعتم، وإذا نهيتكم عن شيء فدعوه) رواه مسلم

أمّا بعد: فالحج ّركن من أركان الإسلام، وهو عبادة جامعة للقربات، والطاعات القولية كالتلبية والذكر والدعاء، وكذا الطاعات البدنية كالطواف والسعي والرمي، والمالية كنفقات سفر الحج، والهدي، فأعظم بالحج من ميدان جعله الله تعالى فرصةً للعباد ليتوبوا، وتمحى عنهم الأوزار، ويسعدوا بنيل رضاه.

ومن رحمة الله أنّه فرض الطاعات على العباد وفق طاقتهم، لا عنت فيها ولا مخالفة للحاجات الإنسانية، ولمّا كانت رحلة الحج فيها الاغتراب عن الديار، وسلوك طرق الأسفار، وطُلبت من المخلوق الذي تمر به أحوال متباينة من الصحة والمرض، والغنى والفقر، والقوة والضعف، فكانت التكاليف الشرعية في الحج متوافقة مع كل ذلك، ويظهر فيها العفو الرباني عمّا لا تستطيع النفس عنه صبرا ً مما لا انفكاك للنفس عن الحاجة إليه، وفي مقالي هذا لا أستطيع سبر كل ما ورد في الموضوع، فمظاهر التيسير -وهي من خصائص التشريع- يدركها كل من قرأ وتدبر مفردات الشرع وتكاليفه، لذا سأقف فقط مع موضوع الإحرام في الحج، وما فيه من مظهر التجرد عن المألوفات، وهو حال من وافته المنية فيه نال من الله التكريم، وأنزله منازل السؤدد والفخار، فعن ابن عباس رضي الله عنهم،  قال: بينما رجل واقف بعرفة  إذ وقع عن راحلته، فوقصته -أو قال: فأوقصته- قال النبي صلى الله عليه وسلم: (اغسلوه بماء وسدر، وكفنوه في ثوبين، ولا تحنطوه، ولا تخمروا رأسه،  فإنه يبعث يوم القيامة ملبيا). رواه البخاري

 ومعنى الحديث أنّ من مات محرماً، يبعث على هيأته التي مات عليها، ومعه علامة لحجه وهي دلالة الفضيلة كما يجيء الشهيد يوم القيامة. [المنهاج شرح صحيح مسلم]

 ومن المعلوم أنه يحرم على المحرم عشرة أشياء: لبس المخيط، وتغطية الرأس من الرجل والوجه من المرأة، وترجيل الشعر، وحلقه، وتقليم الأظفار، والطيب وقتل الصيد وعقد النكاح والوطء والمباشرة بشهوة. [متن الغاية والتقريب]

وشرح هذه المحظورات موجود في كتب الفقه ولكنّ الحديث هنا عما تجاوز عنه الشرع الشريف ولم يعتبره جارحاً للإحرام ومنه:

أولاً: لباس الحزام المحتوي على كيس لحفظ مال الحاج:

من محظورات الإحرام على الرجل لبس المخيط والمراد به ما يحيط  بالجسد أو أحد أعضائه مما يلبس من الثياب التي تحيط بالأعضاء كالقميص والثوب والبنطال، ويشمل ذلك كل لباس يدخل فيه أعضائه الجسدية، ويلبس الإزار للأسفل، والرداء لما علا من جسده، فيكون في وضع يشق عليه حمل ماله ونفقته، وبعض أوراقه وأدويته التي يحتاجها، لذا جاز له أن يشد على وسطه كيساً أو شيئاً يحفظ له ماله، وهو ما يُذكر في كتب الفقه بالهميان والمنطقة، والْهِمْيَانُ: كِيسٌ يُجْعَلُ فِيهِ النَّفَقَةُ وَيُشَدُّ عَلَى الْوَسَطِ وَجَمْعُهُ هَمَايِينُ، والْمِنْطَقُ: بِالْكَسْرِ مَا شَدَدْتَ بِهِ وَسَطَكَ فَعَلَى هَذَا النِّطَاقُ وَالْمِنْطَقُ وَاحِدٌ وَقِيلَ لِأَسْمَاءِ بِنْتِ أَبِي بَكْرٍ ذَاتُ النِّطَاقَيْنِ. [انظر المصباح المنير]

قال النووي في [المجموع]: "قال أصحابنا: وله أن يتقلد المصحف، وحمائل السيف، وأن يشد الهميان والمنطقة في وسطه، ويلبس الخاتم، ولا خلاف في جواز هذا كله".

ثانياً: استظلال المحرم الرجل بما يرتفع عن رأسه

من محظورات الإحرام للرجال تغطية الرأس، ومن فعل ذلك فعليه الفدية مع الإثم إن كان بعمد، ولا يأثم إن لم يتعمد، والفدية على التخيير شاة، أو صوم ثلاثة أيام، أو التصديق بثلاثة آصع على ستة مساكين، لكن المحرم يشق عليه التعرض لأشعة الشمس مما يضطره للاستظلال بمظلة محمولة، أو بناء، أو خيمة. قال النووي: "ويجوز أن يستظل سائرا ونازلا". [المجموع]

واحتج الجمهور بحديث يحيى بن الحصين عن أم الحصين جدته قالت: "حججت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم حجة الوداع، فرأيت أسامة وبلالا وأحدهما آخذ بخطام ناقة النبي صلى الله عليه وسلم والآخر رافع ثوبه يستره من الحر، حتى رمى جمرة العقبة". رواه مسلم

 قال النووي: "وفيه جواز تظليل المحرم على رأسه بثوب وغيره وهو مذهبنا ومذهب جماهير العلماء سواء كان راكبا أو نازلا". [شرح النووي على مسلم]

ثالثا ًمسألة غطاء الوجه

أوجب الشرع على المحرم الرجل كشف رأسه، وأباح له ستر وجهه بخلاف المرأة التي تغطي رأسها ولكن من محظورات إحرامها تغطية الوجه قال الإمام النووي: "في مذهبنا أنه يجوز للرجل المحرم ستر وجهه ولا فدية عليه وبه قال جمهور العلماء." [المجموع]

 لكن لو كان جرح في وجه امرأةً فألصقت عليه خرقةً افتدت، وإن كان في رأسها فألصقت خرقة عليه فلا شيء عليها. [انظر الروياني، بحر المذهب في فروع المذهب الشافعي]

فالوجه في حق المرأة كرأس الرجل، وتستر جميع رأسها وسائر بدنها بالمخيط، كالقميص والسراويل والخف، وتستر من الوجه القدر اليسير الذي يلي الرأس، إذ لا يمكن استيعاب ستر الرأس إلا به، والمحافظة على ستر الرأس بكماله لكونه عورة أولى من المحافظة على كشف ذلك الجزء من الوجه، ولها أن تسدل على وجهها ثوبا متجافيا عنه بخشبة ونحوها. [بدائع الصنائع]

رابعا: عدم ترتب الفدية على ما يفعله المحرم نسيانا وكان من باب الترفه

محظورات الإحرام يمكن تقسيمها إلى نوعين: إحداهما محظورات تمنع الترفه القائم على الستر والزينة المكتسبة كاللباس والطيب وأخرى فيها ترفه ولكنه قائم على الإتلاف كالحلق وتقليم الأظافر، وما يتعلق بالإتلاف ففيه الفدية، سواء فعله عمدا أو نسيانا ً مع الإثم في التعمد، لكن المحظورات التي تمنع الترفه القائم على الستر والزينة المكتسبة فيها تفصيل فمن فعلها ناسياً فلا فدية، فلو تطيب ناسيا لإحرامه أو جاهلا بتحريم الطيب فلا فدية. [روضة الطالبين وعمدة المفتين]

 ولو حمل مسكا أو طيبا في كيس أو خرقة مشدودا أو قارورة مصممة الرأس (يعني مغلقة) أو حمل الورد في وعاء فلا فدية، نص عليه في الأم وقطع به الجمهور. [انظر المجموع للنووي]

خامسا: يباح للمحرم تقليم ظفره إذا انكسر

من محظورات الإحرام تقليم الأظافر، وتقدم معنا أنه لو قلم أظافره عليه الفدية، سواء فعل ذلك عمداً، أو نسيانا، لكن لو كان في بعض ظفره كسر فقطعه فلا شيء عليه. [المجموع]

سادسا إباحة أكل المحرم من صيد غيره الذي لم يصده لأجله

من محظورات الإحرام قتل الصيد البري قال تعالى: (وَحُرِّمَ عَلَيْكُمْ صَيْدُ الْبَرِّ مَا دُمْتُمْ حُرُمًا) المائدة/96، لكن ذا صاد الحلال شيئا ولم يقصد اصطياده للمحرم ولا كان من المحرم فيه إعانة ولا دلالة فيحل للمحرم أكله بلا خلاف ولا جزاء عليه في ذلك بلا خلاف. [المجموع]

مع التنبيه على ما يلي:

  1. لو أكل المحرم مما صيد لأجله وقع في مخالفة، ولكن لو أكل فلا فدية عليه. [حاشيتا قليوبي وعميرة]
  2. ويجوز للمحرم ذبح الْمَوَاشِي الأنسية كالأنعام وَالطير الَّذِي لَا يطير فِي الْهَوَاء كالدجاج وَقتل الْحَيَوَانَات الْمضرَّة كالأسد وَالذِّئْب والحية والفأرة وَالْعَقْرَب. [ابن جزي الكلبي/ القوانين الفقهية]

سابعاً: جواز إرجاع الزوج لزوجته خلال الإحرام

من محظورات الإحرام عقد النكاح قَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (لَا يَنْكِحُ الْمُحْرِمُ، وَلَا يُنْكَحُ، وَلَا يَخْطُبُ). رواه مسلم

 لكن لو طلق طلاقاً رجعياً وكانت زوجته في العدة وسافر، فله على كل حال أن يرجع زوجته بالقول، فمن الممكن أن يتصل بها في ظل وسائل الاتصال المعاصر ويقول لها أرجعتك إلى عصمتي، قال الشافعي: "ويراجع المحرم امرأته وتراجع المحرمة زوجها لأن الرجعة ليست بابتداء نكاح، إنما هي إصلاح شيء أفسد من نكاح كان صحيحا إلى الزوج إصلاحه دون المرأة والولاة وليس فيه مهر ولا عوض ولا يقال للمراجع ناكحا". [الأم]

ثامنًا جواز أن يشهد على عقد النكاح

وكذلك يجوز للمحرم أن يشهد على عقد النكاح لأن الممنوع منه فقط هو أن يتزوج ويباشر عقد النكاح أما الشهادة عليه فلا بأس بها. [المجموع]

وهكذا فمن الملاحظ الظاهر للعيان، توافق محظورات الإحرام مع الوسع والطاقة الإنسانية ومع أن الشرع رتب للمضطر في مخالفة مستلزمات الإحرام كفارات متنوعة، إلا أنّ الأمثلة التي أوردناها تعزز وتؤكد رفع الحرج في فعل بعض الأمور خلال الإحرام فلا تؤثر على الإحرام، ولا يلزم من فعلها الفدية.

وفي الختام أحمد الله أن جعلنا مسلمين ومنحنا ديناً عظيما وصفه (وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ) الحج/78، ومن بلاغة القرآن أن كانت هذه الآية في آخر سورة الحج مؤكدة على يسر دين الإسلام.