المذاهب الفقهية الأربعة

الكاتب : المفتي الدكتور حسان أبو عرقوب

أضيف بتاريخ : 04-07-2019


المذاهب الفقهية الأربعة في الميزان

 

تكلم أحدهم عن المذاهب الأربعة بنوع من الاستهزاء مفتياً أنه يحرم اتباع هذه المذاهب، وعلى الإنسان أن يرجع إلى الكتاب والسنة وأن يجتهد ليعرف الحكم الشرعي بنفسه؛ لأن اتباع الآباء والأجداد هو فعل الكفار الذين عطلوا عقولهم واتبعوا ضلالات آبائهم فكانوا من أهل النار.

ولا شك أن هذا الكلام وإن كان صادراً عن (شيخ) إلا أنه للأسف لم يسر على طريق أهل العلم أو الذكر الذين يُرجع لقولهم؛ وسألخص الكلام حول المسألة بنقاط:

أولاً: من كان قادراً على الاجتهاد بأن جمع أدواته وآلاته فعليه أن يجتهد، وهذا لا يقلد غيره.

ثانياً: من اجتهد في مسألة، وكان من أهل الاجتهاد فيها، فترجّح عنده قول على خلاف ما يجده في مذهبه الذي يسير عليه، فعليه أن يتبع ما ترجح عنده ووصل إليه.

ثالثاً: من لم يكن من أهل الاجتهاد، فعليه أن يقلّد مجتهداً وجوباً، وليس له أن يجتهد هو من تلقاء نفسه؛ لأنه ليس من أهل الاجتهاد، وذلك يُفهم من قول الله تعالى: (فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ)، أمرنا بسؤال أهل العلم كي نتّبع أقوالهم، فلا أقلّ من جواز ذلك إن لم يُقل بالوجوب، فمن أين فهم (الشيخ) حرمة ذلك؟

 كما قال الله تعالى: (أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ)، و(أُولِو الْأَمْرِ) هم العلماء، فقد أمر الله تعالى غير العالم بطاعة العالم، وأقل ذلك الجواز أيضا.

رابعاً: هل بمقدور العاميّ أن يجتهد متناولاً الأحكام من الكتاب والسنة، وهل مرّ على معاني الكتاب والسنة، وهل للعامي القدرة على الاستنباط، وهل يعرف أدواته، وهل له نصيب من اللغة يرتقي به لذاك المستوى؟ إن دعوة عامة الناس للاجتهاد تشبه دعوتهم الدخول إلى غرف العمليات لإجراء العمليات الجراحية للمرضى بأنفسهم بعيداً عن الأطباء، بحجة وجود كتب الطبّ بين أيديهم، وهيهات.

خامساً: التشبيه الذي أتى به (الشيخ) غير صحيح؛ لأنه تشبيه مع الفارق، فتعطيل الكفار عقولهم تشبهاً بآبائهم الكفرة لمنعها من الوصول إلى الله، يعتبر من مسائل الاعتقاد التي يُطلب فيها اليقين ويذم فيها التقليد؛ لأن مبنى التقليد على الظنّ لا اليقين، وهذا ليس كمن لا يستطيع استنباط الأحكام الفقهية، فقلّد إماماً من الأئمة العارفين بالله، لأن المسائل الفقهية يُكتفى فيها بالظنّ، ولا يشترط فيها اليقين، فالأول نهى الله عنه، والثاني دعانا الله إليه، وشتان شتان بينهما.

بعد أن عرفنا وجوبَ تقليد أحد المجتهدين في المسائل الفقهية، وبينا الأدلة على ذلك، قد يستشكل أحدهم فيقول: أليس المجتهد بشراً، وهو معرض للصواب والخطأ، فلِمَ آخذ بقوله وأترك الكتاب والسنة، وهما معصومان من الخطأ؟ الجواب عن هذا السؤال بنقاط:

أولاً: عصمة الكتاب والسنة ليست محلا للخلاف والنزاع، وهي أمر نتفق عليه جميعاً. كما نتفق على جواز وجود الخطأ من المجتهد وجواز وقوعه.

ثانياً: لا شك أن المجتهد بشر، وأنه معرض للصواب والخطأ، لكننا نأخذ بقول نبينا صلى الله عليه وسلم في الحديث الذي رواه الشيخان: (إِذَا حَكَمَ الحَاكِمُ فَاجْتَهَدَ ثُمَّ أَصَابَ فَلَهُ أَجْرَانِ، وَإِذَا حَكَمَ فَاجْتَهَدَ ثُمَّ أَخْطَأَ فَلَهُ أَجْرٌ) وهذا في حق من ملك أدوات الاجتهاد ووصل لرتبته، فهو مأجور على كل حال مادام بذل جهده وطاقته، ولا يكلف الله نفساً إلا وسعها. ويكفي المجتهد أن يصل للحكم الفقهي بغلبة الظنّ؛ لأنها كافية في جواز التعبد وصحته، وهي كافية كذلك للمقلد لاتباع المجتهد، فالمقلد لا يجزم يقيناً أن المجتهد قد أصاب الحق، لكن عنده غلبة ظن بذلك، وهي كافية.

ثالثاً: المجتهد معرض للصواب والخطأ، لكن صوابه أكثر من خطئه؛ لأنه يمتلك أدوات الاجتهاد ووسائله. أما عامة الناس الذي لم يصلوا لمرتبة الاجتهاد فهل سيكون حالهم أفضل من الأئمة المجتهدين؟ أليسوا هم من البشر أيضا، ولأنهم ليسوا أهل اختصاص، فلا شك أن خطأهم سيزيد على صوابهم إن وجد. فأي الحالين أفضل؟

رابعاً: الاعتراض السابق يحمل في طياته افتراضاً غير صحيح، وهو: أن المجتهد يخالف الكتاب والسنة، وكأن السائل يقول: المجتهدون يأتون بالأحكام على خلاف الكتاب والسنة، وهذا الكتاب أمامك والسنة عندك، فخذ أنت منهما ودعك من الأئمة المجتهدين. وهذا فرض غاية في الخطورة؛ لأن المجتهد لا يأتي بشيء من عنده، لكنه يستنبط من الكتاب والسنة الأحكام الشرعية؛ لأن الحكم لله وحده، فالاجتهاد كاشف عن الحكم الشرعي لا منشئ له.

ولا يخفى أن المذاهب الفقهية في عصرنا تعرضت لهجمات شرسة، والجامع المشترك بين هذه الهجمات المتعددة هو تشكيك المسلمين بهذه المرجعية الفقهية الراقية، ودعوتهم للتخلي عنها، ومن ثم يصبح الدين هوى متبعاً، ليتخذ الناس رؤوساً جهالاً يفتونهم بغير علم، فيضلونهم عن سبيل الله تعالى.

ومن هذه الهجمات الدعوة إلى ترك المذاهب بالكلية، وحرمة الانتساب لمذهب بعينه، بحجة أن المذاهب اجتهاد بشري غير معصوم، وأن على المسلم أن يتخذ من الكتاب والسنة مرجعية له؛ لأنها معصومة. ووصل الأمر ببعض من تأثروا بمثل هذه الدعوات أن يقول لمن خلفه من المصلين: هل أصلي بكم صلاة الشافعي أم صلاة رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ من باب الطعن على الشافعي الذي يحمل لقب (ناصر السنة)، وهل كان الشافعي (ناصر السنة) يأتي بصلاة من عنده وهو الذي توفي (204هـ) أي أنه من سلف هذه الأمة وخير القرون، كما أنه تلميذ الإمام مالك إمام أهل المدينة؟ فهي عملية يتم من خلالها اغتيال شخصية أئمة هذه الأمة وعلمائها. وقد انحسرت هذه الموجة بكوارثها التي نتجت عنها ولله الحمد.

ثم جاءت من بعد ذلك موجة لا تقل سوءاً، ولكنها أكثر نعومة، فهي تشير إلى فضل المذاهب الإسلامية، ولكنها تحصر ذلك في زمانهم، أي أنها ما عادت تصلح لهذا الزمان، وخرجت دعوات مشبوهة لفقه جديد من خلال تجديد الفقه الإسلامي، والغريب أن هذه الدعوات كانت من أناس لا علاقة لهم بالعلم الشرعي أصلاً. وكان من أبرز نتائجها: الدعوة إلى مساواة الذكر والأنثى بالميراث، وتخلص الزوجة من ولاية زوجها، وإلغاء الحدود بدعوى تعارضها مع الإنسانية، وإعطاء مفهوم جديد لعورة الرجل والمرأة يكشف أكثر مما يستر، ويعطي مفهوماً جديداً للصلاة والصيام والزكاة... الخ. فالنتيجة النهائية لهذه الدعوة الناعمة هي هدم الدين من أساسه.

فالدعوة الأولى كانت تحمل في جنباتها الطعن على الأئمة، مما يهدم النموذج والقدوة في حياة الناس، أما الدعوة الثانية فهدفها هدم الدين من أساسه بإظهار دين غربي جديد معاصر بلا حدود.

وقد يظن فريق من الناس أن المذاهب الفقهية كانت صالحة في الزمن الماضي، أما الآن ومع تغير الأحوال وتبدل الأزمان ما عادت تصلح لنا، فهل هذا الكلام صحيح؟ أجيب عن هذا السؤال بنقاط:

أولاً: المذاهب الفقهية ليست أقوالاً لأئمة في الزمن الماضي فقط، بل هي مناهج وطرق في الاجتهاد، فقولنا: هذه المسألة حكمها كذا في المذهب الشافعي لا يعني بالضرورة أن هذا الحكم هو قول الشافعي في المسألة، بل إن الفقه المذهبي ينمو ويتطور كالإنسان ومعه، ليلبي حاجاته، وإلا فما قيمة الفقه إن عجز عن تلبية حاجات الإنسان؟ فهو فقه واقعي، ويعالج واقع الناس، فقولنا هذا مذهب الشافعي لا يعني جمودنا على ما قاله الشافعي فقط، بل يعني أننا نسير على ذات المنهج الذي وضعه في الاجتهاد والاستنباط.

ثانياً: بعض الأحكام الشرعية بنيت على العرف أو المصلحة، فعند تغيّر العرف أو المصلحة واختلافها من زمان إلى آخر لا يُنكر تبدل الحكم تبعاً لتبدل العرف أو المصلحة، ومثال ذلك: كان التقاضي في الزمن الماضي يتكون من درجة واحدة، وكان القاضي يجلس في المسجد ويقضي في كل شيء. أما الآن فهناك ثلاث درجات للتقاضي، ومحاكم مختصة، وسلك قضائي، وهذا بناء على المصلحة المتمثلة بتحقيق العدالة التي هي من أهم مقاصد الشرع، وعليه فإن الفقه الإسلامي يقبل مثل هذا التطور، ولا يختلف معه.

ثالثاً: مسائل الناس تتعدد عبر العصور تبعاً لحاجاتهم، وإن في المذاهب الفقهية من المرونة ما يجعلها تتقبل احتياجات كل عصر، فلا يعدم الفقيه حكماً لما يستجد من مسائل معاصرة. فوفاة إمام المذهب لا تعني موت المذهب، بل كل جيل يستعمل قواعد الإمام وأصوله ليعالج من خلالها واقعه الذي يعيشه.

رابعاً: الأحكام الشرعية في الفقه الإسلامي نوعان: نوع لا يتغير مهما تغير الزمن، كالعبادات، ونوع هو الأكبر والأكثر، وهو ما يعتمد على حياة الناس ويعتبر من تفاصيل معاشهم، وهذا يقوم الفقيه بالفتوى فيه بما يناسب الزمان والمكان مخرّجاً تلك المسائل على أصول مذهبه.

والخلاصة أن المذاهب الفقهية تصلح لكل زمان ومكان؛ لأنها مبنية على الشريعة الصالحة لكل زمان ومكان.