يريد الله بكم اليسر

الكاتب : سماحة المفتي العام الدكتور محمد الخلايلة

أضيف بتاريخ : 08-05-2019


يريد الله بكم اليسر

الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على سيدنا محمد وعلى آله وأصحابه أجمعين.

أظلنا شهر الصيام شهر الخير والبركة، شهر عظيم جعل الله تعالى صيام نهاره فريضة وقيام ليله تطوعاً، شهر يحمل بين طياته نفحات الإسلام ونسائم الإيمان، وعبق المغفرة والعتق من النيران، تسمو فيه الأخلاق، وتصفو فيه النفوس فترتفع فوق الشهوات وسفاسف الأمور، ويقف المؤمن الصائم القائم مخاطباً الحياة الدنيا وشهواتها ومكائدها بلسان حاله هاتفاً: أنا يا حياة علوت فوق علاك.

وليس الصوم مجرد امتناع عن الطعام والشراب والشهوات، ولا تكليف بمشقة زائدة، فالإسلام جاء لتحقيق سعادة الإنسان ولم يأت لإشقائه وتكليفه ما لا يطيق، قال تعالى: (طه . مَا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لِتَشْقَى) طه: 1-2، والصوم هو علاقة مع الله تعالى ملؤها الإحسان والصبر والتهذيب، فقال تعالى في معرض الحديث عن الصوم: (يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلَا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ) البقرة: 185.

وعندما رأى النبي صلى الله عليه وسلم أحد الصحابة الكرام في السفر وقد بالغ في تحمل المشاق في الصيام وعدم الأخذ برخصة الفطر، سأل صلى الله عليه وسلم: ما هذا؟ قالوا: صائم، فقال صلى الله عليه وسلم: (لَيْسَ الْبِرَّ أَنْ تَصُومُوا فِي السَّفَرِ) صحيح مسلم، وعن عائشة رضي الله عنها، أن حمزة بن عمرو الأسلمي، سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: يَا رَسُولَ اللهِ، إِنِّي رَجُلٌ أَسْرُدُ الصَّوْمَ، أَفَأَصُومُ فِي السَّفَرِ؟ قَالَ: (صُمْ إِنْ شِئْتَ، وَأَفْطِرْ إِنْ شِئْتَ) صحيح مسلم.

وعن أنس رضي الله عنه قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم في سفر فصام بعض وأفطر بعض، فتحزم المفطرون وعملوا وضعف الصوام عن بعض العمل قال: فقال في ذلك: (ذَهَبَ المُفْطِرُونَ اليَوْمَ بِالأَجْرِ) متفق عليه.

فمظاهر اليسر في الصوم كثيرة، وسبلها متنوعة، وقد قال الله تعالى فيها: (أَيَّامًا مَعْدُودَاتٍ) البقرة: 184، هذه الأيام المعدودات تنقضي ويبقى ثوابها، مشقتها يسيرة وأجورها عظيمة، يقول النبي صلى الله عليه وسلم: (كُلُّ عَمَلِ ابْنِ آدَمَ لَهُ، إِلَّا الصِّيَامَ، فَإِنَّهُ لِي وَأَنَا أَجْزِي بِهِ) متفق عليه.

ومن مظاهر التيسير في الصوم، أن الله تعالى أوجبه على المكلف القادر على الصوم ورخّص للمريض والمسافر الفطر في نهار رمضان والقضاء بعد زوال هذه الأعذار، قال تعالى: (فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ) البقرة: 184، ومن لم يستطع قضاء هذه الأيام فإن الله تعالى (لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا) البقر: 286، ويخرج المسلم فدية عن كل يوم أفطر فيه، قال تعالى: (وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ) البقرة: 184.

ومن مظاهر التيسير في الصوم أن الله تعالى تجاوز عمّن أكل أو شرب ناسياً، وعدّ صيامه صحيحاً مقبولاً عند الله تعالى، وكان أكله وشربه صدقة من الله تعالى عليه تخفيفاً عنه وتسهيلاً عليه، يقول النبي صلى الله عليه وسلم: (مَنْ أَكَلَ نَاسِيًا، وَهُوَ صَائِمٌ، فَلْيُتِمَّ صَوْمَهُ، فَإِنَّمَا أَطْعَمَهُ اللَّهُ وَسَقَاهُ) متفق عليه، كما أمر النبي صلى الله عليه وسلم المسلمين بتأخير السحور، وتعجيل الفطر، امتثالاً لأمر الله تعالى ورحمة بالمسلمين وتيسيراً عليهم، كما نهى صلى الله عليه وسلم عن الوصال في الصوم؛ لأنه يرهق الجسد ويضعف القوة، والمقصود من الصوم هو الارتقاء بالإنسان وتزكية نفسه، وتدريبه على تعويد نفسه على طاعة الله سبحانه تعالى، لا إرهاقه وإتلاف نفسه وجسده، يقول النبي صلى الله عليه وسلم: (تَسَحَّرُوا فَإِنَّ فِي السَّحُورِ بَرَكَةً) متفق عليه، وقال صلى الله عليه وسلم (لاَ يَزَالُ النَّاسُ بِخَيْرٍ مَا عَجَّلُوا الفِطْرَ) متفق عليه.

فالإسلام دين واقعي يراعي التيسير ورفع الحرج في تكاليفه وتشريعاته. والحمد لله رب العالمين