القدس والأمة

الكاتب : سماحة المفتي العام الدكتور محمد الخلايلة

أضيف بتاريخ : 28-02-2019


القدس والأمة

إن الحديث عن القدس ومسجدها الأقصى المبارك والبحث فيه ينطلق من مدخل ديني ومدخل تاريخي؛ أما المدخل التاريخي فهو يبدأ من كنعان بن حام بن نوح عليه السلام، ففلسطين هي أرض كنعان، والكنعانيون هم أول من سكن منطقة فلسطين وبلاد الشام، وهذا الأمر نتركه للمتخصصين في التاريخ للحديث عنه وسبر أغواره.

ولكني سأتحدث عن قضية القدس في إطار المدخل الديني وما يتعلق به، سواء أكان في العهد الإسلامي بعد بعثة نبينا محمد صلى الله عليه وسلم أو في العصور الدينية والنبوات السابقة قبل بعثته صلى الله عليه وسلم، فالنبوات من لدن آدم عليه السلام إلى نبينا محمد صلى الله عليه وسلم يصدق بعضها بعضاً لأنها من مصدر واحد وهو الله سبحانه وتعالى، ولذلك قال النجاشي عندما استمع لبيان جعفر بن أبي طالب رضي الله عنه: "إن هذا والذي جاء به عيسى ابن مريم ليخرج من مشكاة واحدة"، وهذا ما يفهمه كل من له نية صالحة وعقل مدرك حر، ولذلك فإن هذه النبوات جاءت يمهد السابق منها للاحق بل ويخبر عنه مؤيداً ومبّيناً في مرات أُخر.

قال تعالى:) وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ النَّبِيِّينَ لَمَا آتَيْتُكُم مِّن كِتَابٍ وَحِكْمَةٍ ثُمَّ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مُّصَدِّقٌ لِّمَا مَعَكُمْ لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ وَلَتَنصُرُنَّهُ قَالَ أَأَقْرَرْتُمْ وَأَخَذْتُمْ عَلَى ذَلِكُمْ إِصْرِي قَالُوا أَقْرَرْنَا قَالَ فَاشْهَدُوا وَأَنَا مَعَكُم مِّنَ الشَّاهِدِينَ) آل عمران/81.

وقد جاءت مدينة القدس لتوحد دعوة الأنبياء وتكون محور الاتفاق وجمع شمل ما هو مقدس عند جميع أصحاب الديانات السماوية، فابتداء بناء بيت المقدس كان بعد المسجد الحرام بأربعين سنة كما ورد في حديث النبي صلى الله عليه وسلم، عن أبي ذر، قال: قلت يا رسول الله: أي مسجد وضع في الأرض أول؟ قال: (المسجد الحرام) قلت: ثم أي؟ قال: (المسجد الأقصى) قلت: كم بينهما؟ قال: (أربعون سنة)، وهو يدل على أن سيدنا آدم أو أحد أبنائه هو من وضع أساس قواعد بيت المقدس، وإبراهيم عليه السلام مرّ واستوطن ببيت المقدس، وسيدنا موسى عليه السلام وقف على مشارف مدينة القدس، وقد أدركه الأجل في الأرض المقدسة، يقول النبي صلى الله عليه وسلم: (مررت بموسى ليلة أسري بي وهو قائم يصلي في قبره عند الكثيب الأحمر، ولو أني وأنتم ثم -أي: هناك- لأريتكم قبره) وهذا يدل على شرف وفضل بلاد الشام، وأن أنبياء الله عز وجل الذين ذكرهم الله تعالى في القرآن الكريم -وهم خمسة وعشرون نبياً- معظمهم له اتصال وثيق ببيت المقدس وبأرض الشام، إما مات في أرض الشام، وإما دعوته كانت في بيت المقدس وأرض الشام، فهي أرض الأنبياء، ومسرى الشهداء، وبركة السماء، هذه الأرض لها فضل عظيم جداً.

وسيدنا عيسى عليه السلام، كانت ولادته ودعوته في أرض بيت المقدس، وأما نبينا صلى الله عليه وسلم فقد أُسري به في ليل الإسراء والمعراج إلى المسجد الأقصى المبارك، ومن هناك عرج إلى السماوات العُلى، ليرى من آيات ربه الكبرى، وفي الحديث أن نبينا صلى الله عليه وسلم صلى بالأنبياء جميعاً في المسجد الأقصى المبارك لتكون رسالته هي الرسالة التي ختم الله بها رسالاته إلى الخلق أجمعين بعد تمام الدين وختام الشرائع السماوية.

لقد بقيت القدس ومسجدها الأقصى أرض النبوات ومهبط الوحي لدهور طويلة وأزمنة عديدة، حتى أصبحت القدس وما حولها الأرض المباركة التي بارك الله فيها للعالمين، ولذا فإن البعد الديني لقضية المسجد الأقصى المبارك اليوم يتحدد في ظل رسالة نبينا خاتم الأنبياء والمرسلين، وما كان مقدساً لدى الأنبياء إبراهيم عليه السلام وسليمان وموسى وعيسى عليهم السلام هو مقدس لنا اليوم، قال الله تعالى: (لَا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِّن رُّسُلِهِ  وَقَالُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا غُفْرَانَكَ رَبَّنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ) البقرة/285.

وقد بدأت قدسية القدس في العقل الإسلامي منذ بداية بعثة النبي صلى الله عليه وسلم حيث كان النبي صلى الله عليه وسلم يتجه بصلاته إلى المسجد الأقصى المبارك الذي هو قبلة الأنبياء ومهبط الوحي، وقد كان العرب وقتها على بقايا الحنيفية السمحة شريعة أبي الأنبياء إبراهيم عليه السلام، وقد تأكدت هذه القدسية في قلوب المسلمين وترسّخت في عقولهم بعد حادثة الإسراء والمعراج للنبي محمد صلى الله عليه وسلم من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى المباركة، وإمامة النبي صلى الله عليه وسلم بالأنبياء والمرسلين، وقد نزل في هذه الحادثة قول الله تبارك وتعالى: (سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلًا مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى الَّذِي بَارَكْنَا حَوْلَهُ لِنُرِيَهُ مِنْ آيَاتِنَا إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ) الإسراء/1.

وقد كان النبي صلى الله عليه وسلم يربط المسلمين دائماً بالمسجد الأقصى ربطاً دينياً من خلال توجيههم للصلاة فيه وذكر فضائله، والدعوة لإعماره، فالمسجد الأقصى هو ثاني المساجد بناءً بعد المسجد الحرام، روى البخاري من حديث أبي ذر رضي الله عنه قال: قلت: يا رسول الله أيُّ المساجد وضع في الأرض أولاً؟ قال: (المسجد الحرام). قلت ثم أيّ؟ قال: (المسجد الأقصى). قلت كم بينهما؟ قال: (أربعون سنة).

فالمسجد الأقصى متقدمٌ على غيره من المساجد، وهو ثاني بقعة ظهرت فيه معالم العبودية لله تعالى، حيث ذكر ابن هشام في كتاب "التيجان" أن الله عز وجل لما أمر آدم عليه الصلاة والسلام أن يبني المسجد الحرام، أمره أن يسير إلى بيت المقدس وأن يبنيه، قال: فبناه ونسك فيه، أي تعبد لله عز وجل فيه.

وذكر ابن كثير في "البداية والنهاية" (1/ 150) أن إبراهيم عليه الصلاة والسلام أقام فيه مذبحاً لله تبارك وتعالى، وضرب قبته شرقيّ بيت المقدس، وأنه أقام ببلاد إيلياء وولد له إسماعيل وإسحاق. نفس المصدر (1/ 174 ،176) فهو ثاني مكان ارتفعت فيه عقيدة التوحيد، وجلجلت فيه أصداء لا إله إلا الله.

وبعد بعثة نبينا عليه السلام، كان النبي صلى الله عليه وسلم يتوجه إلى المسجد الأقصى في العبادة، فهو أولى القبلتين وثاني المسجدين الشريفين، فالأمة الإسلامية منذ بدايتها أولت المسجد الأقصى عظيم الاهتمام، وجعلت أهم أركان الإسلام وهو الصلاة مرتبطاً به، إشارة إلى أهميته في صلة الإنسان مع ربه، وأهميته في عقيدة المسلمين.

لذلك فقد أمر النبي صلى الله عليه وسلم بزيارة المسجد الأقصى المبارك وشد الرحال إليه، فقال صلى الله عليه وسلم: (لا تشد الرحال إلا إلى ثلاثة مساجد: المسجد الحرام، ومسجد الرسول صلى الله عليه وسلم، ومسجد الأقصى) متفق عليه.

وفيه دلالة على توجيه المسلمين إلى زيارة المسجد الأقصى ووصاله وقصده بالزيارة حتى يظل عامراً حياً بالمسلمين.

كما دعا النبي صلى الله عليه وسلم إلى تعاهده بالرعاية والعناية المستمرة كما تتم العناية بمسجده الشريف وبالمسجد الحرام، فعن ميمونة، مولاة النبي صلى الله عليه وسلم، أنها قالت: يا رسول الله، أفتنا في بيت المقدس فقال: (أرض المحشر والمنشر ائتوه فصلوا فيه، فإن صلاة فيه كألف صلاة في غيره) قلت: أرأيت إن لم أستطع أن أتحمل إليه؟ قال: (فتهدي له زيتا يسرج فيه، فمن فعل ذلك فهو كمن أتاه) سنن ابن ماجه، وفيه دليل على عناية النبي صلى الله عليه وسلم بإقامة شؤون بيت المقدس والعناية به وتعاهده، رغم أنه لم يكن تحت الحكم الإسلامي بعد.

وللصلاة في المسجد الأقصى ميزة خاصة، وأجور مضاعفة، فعن أبي ذر رضي الله عنه قال: تذاكرنا ونحن عند رسول الله صلوات الله وسلامه عليه أيهما أفضل: أمسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم أم بيت المقدس؟ فقال رسول الله صلى لله عليه وسلم: (صلاة في مسجدي أفضل من أربع صلوات فيه، ولنعم المصلى هو. وليوشكن أن يكون للرجل مثل شطن فرسه (أي مثل حبل فرسه) من الأرض حيث يرى منه بيت المقدس خير له من الدنيا وما فيها) رواه الحاكم في المستدرك، وصححه.

كما بشّر النبي صلى الله عليه وسلم الأمة بفتحه قبل أن يفتح، فقد روى البخاريُّ من حديث عوف ابن مالك رضي الله عنه قال: أتيت النبي صلوات الله وسلامه عليه في غزوة تبوك وهو في قبة له من أدم يعني: من جلد. فقال: أي رسول الله صلوات الله وسلامه عليه (أعدد ستاً بين يدي الساعة، فذكر منها: (موتي، وفتح بيت المقدس) وهذه بشارة من نبينا صلوات الله وسلامه عليه أنً المسلمين يفتحون بيت المقدس، وقد فتحه الفاروق عمر رضي الله تعالى عنه.

والصلاة في المسجد الأقصى تكفر الذنوب وتحطّ الخطايا والسيئات، فعن عبد الله بن عمرو، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: (أن سليمان بن داود صلى الله عليه وسلم لما بنى بيت المقدس سأل الله عز وجل خلالا ثلاثة: سأل الله عز وجل حكما يصادف حكمه فأوتيه، وسأل الله عز وجل ملكا لا ينبغي لأحد من بعده فأوتيه، وسأل الله عز وجل حين فرغ من بناء المسجد أن لا يأتيه أحد لا ينهزه إلا الصلاة فيه أن يخرجه من خطيئته كيوم ولدته أمه) رواه النسائي، بسند صحيح.

القدس عبر العصور الإسلامية:

ما أن تولى أبو بكر الصديق الخلافة حتى وجه نظره إلى الأرض المقدسة، فسير الجيوش لفتح الشام، وتوفي في أثناء ذلك، وتولى الأمر الفاروق عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه، حيث كان أول ما فعله أن ولّى أبا عبيدة بن الجراح قيادة الجيش الفاتح للشام.

 وفعلاً قام سكان مدينة القدس بتسليم المدينة سلماً إلى المسلمين، واشترطوا أن يتسلم مفاتيحها خليفة المسلمين عمر بن الخطاب الذي سارع بالخروج لاستلام مفاتيح المدينة المقدسة، وما أن وصل رضي الله عنه إلى المدينة وأشرف عليها ورأى أسوارها حتى كبر وكبّر من معه تكبيراً عظيماً عرف منه أهل المدينة أن خليفة المسلمين وصل.

وتذكر الروايات أن عمر بن الخطاب دخل كنيسة القيامة بصحبة البطرك صفرونيوس والتي أشار فيها صفرونيوس على الخليفة بالصلاة في الكنيسة فرفض وصلى قربها، حتى لا يرى المسلمون بعد ذلك حقاً لهم فيها، فقال رضي الله عنه: "أخاف أن يتخذها المسلمون بعدي مسجداً".

وقد كانت العهدة العمرية من أعظم الكتب التي توثق لكرامة الإنسان والمواطن وإعطائه حرية المواطنة وحرية الاعتقاد والتعبير عن الرأي، حيث جاء في نص العهدة: "هذا ما أعطى عبد الله، عمر، أمير المؤمنين، أهل إيلياء من الأمان.. أعطاهم أماناً لأنفسهم وأموالهم ولكنائسهم وصلبانهم وسقمها وبريئها وسائر ملتها.. أنه لا تسكن كنائسهم ولا تهدم، ولا ينقص منها ولا من حيِّزها ولا من صليبهم ولا من شيء من أموالهم، ولا يُكرهون على دينهم، ولا يضارّ أحد منهم".

القدس في العصر الأموي:

كان لمعاوية بن أبي سفيان رضي الله عنه باع طويل ومعرفة سابقة وعلاقة قوية في مدينة القدس، حيث كان والياً على الشام لمدة عشرين عاماً في عهد عمر بن الخطاب وعهد عثمان بن عفان رضي الله عنهما، وقد أخذ معاوية بن أبي سفيان البيعة لنفسه في مدينة القدس تيمناً بها وطلباً لبركتها، وقد قام معاوية بن أبي سفيان بسك أول نقد يحمل اسم (إيلياء) وهي القدس، وكانت صورته على الوجه الثاني للنقد، كما حمل هذا النقد اسم (فلسطين) لأول مرة.

وزاد رضي الله عنه فقام في بداية فترة خلافته بتجديد الجامع القبلي الذي بناه عمر الخطاب رضي الله عنه، وفي زمن عبد الملك بن مروان، قام بتعريب الدواوين وسك النقود العربية الإسلامية الشهيرة، وقد قام عبد الملك بن مروان ببناء قبة الصخرة لتكون شعاراً وإظهاراً لقدسية هذا المسجد وعظمته، وتبياناً لأهمية هذا المكان في الإسلام، وقد تم بناؤها بشكل مثمن الأضلاع، لتكون علامة على تميز المسجد الأقصى المبارك، وإشارة إلى المكان الذي عرج منه النبي صلى الله عليه وسلم.

وبقي المسجد الأقصى المبارك بعد الفتح العمري يرفل بالأمن والأمان، ويزوره العبّاد والعلماء والصالحون وتنعقد في جنباته الحلقات العلمية والدروس، إليه تشد الرحال وتعانق مآذنه مآذن المسجد الحرام والمسجد النبوي المبارك، حتى دنسه الفرنجة عام 492هـ وقاموا باحتلاله وارتكبوا فيه الفظائع، حيث قتلوا ما يزيد عن سبعين ألفاً من المسلمين والصالحين، مما أوقع ألماً وحسرة في قلوب أبناء الأمة على قدسهم، لما له من مكانية دينية في نفوسهم، فكان احتلال القدس صاعقة ومصيبة استثارت قرائح الشعراء والخطباء والأدباء ليستثيروا حمية السامعين ويشحذوا هممهم لتحرير بيت المقدس، فكان مما قاله أبو المظفر الأبيوردي:

مزجنا دماء بالدموع السواجم               فلم يبق منا عرضة للمراحم

وشر سلاح المرء دمع يفيضه إذا          الحرب شبت نارها بالصوارم

فإيها بني الإسلام إن وراءكم               وقائع يلحق الذُرا بالمناسم

وكيف تنام العين ملء جفونها             على هفوات أيقظت كل نائم

وإخوانكم بالشام يضحي مقيلهم            ظهور المذاكي أو بطون القشاعم

تسومهم الروم الهوان وأنتم                 تجرون ذيل الخفض فعل المُسالم

يكاد لهن المستجدي بطيبة                ينادي بأعلى الصوت: يا آل هاشم

وبقيت القدس حاضرة ولم تغب لحظة عن أذهاب الأمة بقادتها وعلمائها فقد بدأ عماد الدين زنكي بمشروع التحرير من خلال توحيد بلاد الشام والقدس والعراق وطرد الفرنجة من هذه الأماكن، ثم أتم المشروع من بعده ابنه محمود، ثم نور الدين زنكي، حتى دخل صلاح الدين إلى مدينة حلب الشهباء فاتحاً ومحرراً عام 579هـ، فوقف القاضي محيي الدين بن زكي الدمشقي يلقي قصيدة بين يدي صلاح الدين يُذكره بالقدس ويحثه على فتحها وتحريرها فكان مما قال:

وفتح حلباً بالسيف في صفر             مبشر بفتوح القدس في رجب

وكتب الأدب مليئة بالأشعار التي تستنهض العلماء والقادة وتستثير هممهم لفتح بيت المقدس.

وقد تم فتح القدس على يد صلاح الدين الأيوبي في السابع والعشرين من شهر رجب لعام 583هـ.

ودخل صلاح الدين المسجد الأقصى المبارك فأمر بتنظيفه ووضع فيه المنبر الذي بدأ بصنعه قبل سنوات في مدينة حلب، وقد حمله معه ليضعه في المسجد الأقصى المبارك، واستدعى القاضي ابن الزكي صاحب القصيدة قبل أربع سنوات ليخطب بهم الجمعة في المسجد الأقصى المبارك، فخطب فيهم خطبة عصماء تسمى بخطبة الفتح، ومما جاء فيها:

"أيها الناس أبشروا برضوان الله الذي هو الغاية القصوى والدرجة العليا لما يسره الله على أيديكم من استرداد هذه الضالة من الأمة الضالة وردها إلى مقرها من الإسلام بعد ابتذالها في أيدي المشركين قريباً من مائة عام، وتطهير هذا البيت الذي أذن الله أن يرفع ويذكر فيه اسمه، وإماطة الشرك عن طرقه بعد أن امتد عليها رواه، واستقر فيها رسمه، ورفع قواعده بالتوحيد، فإنه بُني عليه وشيد بنيانه بالتمجيد، فإنه أسس على التقوى من بين يديه ومن خلفه، فهو موطن أبيكم إبراهيم، ومعراج نبيكم عليه الصلاة والسلام وقبلتكم التي كنتم تصلون إليها في ابتداء الإسلام، وهو مقر الأنبياء ومقصد الأولياء ومدفن الرسل ومهبط الوحي، ومنزل ينزل به الأمر والنهي، وهو أرض المحشر وصعيد المنشر، وفي الأرض المقدسة التي ذكرها الله في كتابه المبين، وهو المسجد الأقصى الذي صلى فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم....".

القدس والأمة في العصر الحديث:

بعد صلاح الدين الأيوبي توالت الهجمات على القدس لتكون هي محور الصراع ونقطة الارتكاز، فحافظ عليها المسلمون وصدوا عنها كل عدوان وهم يستميتون في الدفاع عنها حتى جاءت أواخر عهد الدولة العثمانية التي ضعفت واخترقها الأعداء من الداخل، وأصبحت تتراجع في كل مقومات حياتها، اقتصادياً وسياسياً وعسكريا، فأصبحت لا تسيطر على كثير من الأقاليم وترزح تحت مديونية عالية، فانسحبت لتشكل تركيا المدنية وتركت الوطن العربي يصارع، ومنها بلاد الشام والقدس، فريسة للأعداء، فجاء مشروع التقسيم على يد سايكس بيكو، ووعد بلفور لتزداد الأمة ضعفاً بعد ضعف، مما مهد لقيام دولة إسرائيل عام 1948م باحتلال أجزاء من أرض فلسطين المباركة، وبعد ذلك جاء احتلال القدس ومسجدها الأقصى عام 1967م عندما دخل اليهود القدس محتلين، وفي عام 1968م، قاموا بإحراق المسجد الأقصى المبارك وإحراق المنبر الذي جلبه صلاح الدين رحمه اله تعالى بالكامل، وما زال المسجد الأقصى تحت احتلال اليهود حتى يومنا هذا.

وقد ارتبطت القدس والمسجد الأقصى ارتباطاً وثيقاً بالدولة الأردنية الحديثة من خلال ارتباطها المباشر بالهاشميين، حيث إن القدس إضافة إلى مدن الضفة الغربية كانت تتبع إدارياً للمملكة الأردنية الهاشمية، فعندما كان المغفور له الملك المؤسس قائداً عاماً للجيوش العربية التي دخلت فلسطين عام 1948، وفي عام 1949 عقد مؤتمراً بأريحا حضره عدد من وجهاء فلسطين أعلن فيه ضم الضفة الغربية إلى المملكة الأردنية، وتم انتخاب مجلس نواب جديد وقسمت مقاعده مناصفة بين الضفتين.

وقد قدّم الشريف الحسين بن علي قائد الثورة العربية الكبرى دعماً وتبرعاً للمسجد الأقصى عام 1924م، حينما قدم (24 ألف دينار ذهبي) للمسجد الأقصى، وأوصى بأن يدفن في جنبات الحرم القدسي الشريف، تجسيداً لتمسكه بالقدس وفلسطين والأقصى المبارك، الذي استشهد على عتباته الملك المؤسس عبد الله الأول ابن الحسين طيب الله ثراه، واستمر من بعده أبنه المغفور له الملك طلال رحمه الله، بالرعاية والاهتمام بهذه الأرض المقدسة.

الإعمار الهاشمي للمسجد الأقصى:

بتوجيهات ملكية سامية من جلالة الملك الباني الحسين بن طلال رحمه الله فقد صدر القانون الأردني رقم (32) لسنة 1954م بتشكيل لجنة إعمار المسجد الأقصى المبارك والصخرة المشرفة، وذلك لتُعنى بالحرم القدسي الشريف وما يشتمل عليه من معالم إسلامية خالدة، ولتقوم هذه اللجنة بمهمة الرعاية والصيانة والترميم والمحافظة على المسجد الأقصى المبارك والصخرة المشرفة والمرافق كافة، وتابعة في هذا الاهتمام الكبير جلالة الملك عبد الله الثاني ابن الحسين حفظه الله، وذلك من خلال اطلاعه المتواصل وتوجيهاته المستمرة للجنة الإعمار وأجهزة الأوقاف بإيلاء المسجد الأقصى المبارك والمقدسات في القدس جل الاهتمام والعناية، وبتوجيهات جلالته السامية فقد صدر قانون الصندوق الهاشمي لإعمار المسجد الأقصى المبارك وقبة الصخرة المشرفة رقم (15) لسنة 2007م، الذي يهدف إلى توفير التمويل اللازم لرعاية المسجد الأقصى المبارك وقبة الصخرة المشرفة والمقدسات الإسلامية في القدس الشريف، لضمان استمرارية إعمارها وصيانتها وتجهيزها وتوفير جميع المتطلبات اللازمة، لتأكيد أهمية هذه المقدسات وحرمتها لدى المسلمين بشكل عام والهاشميين على وجه الخصوص، كما تم في عام 2007م إعادة بناء وتركيب منبر صلاح الدين الأيوبي.

وبناءً على طلب من حكومة المملكة الأردنية الهاشمية، تمَّ إدراج البلدة القديمة في القدس على لائحة التراث العالمي لدى اليونسكو عام 1981م، كما تم إدراجها على لائحة التراث العالمي المهدد بالخطر عام 1982م، وذلك للضغط على الدولة المحتلة لعدم تغيير المعالم التاريخية والتراثية للقدس، وهنالك دور فاعل للمملكة الأردنية الهاشمية عن طريق المشاركة في اجتماعات لجنة التراث العالمي التابعة لليونسكو للتصدي للمحاولات الإسرائيلية المستمرة لتغيير معالم القدس، ومحاولات إسرائيل المستمرة والمتكررة لإدراج البلدة القديمة في القدس على لائحتها التمهيدية للتراث العالمي.

وشملت مشاريع الإعمار في عهد جلالته بشكل متواصل على صيانة وترميم المسجد والقباب والمحاريب وغيرها من المعالم، ومنها: قبة الصخرة المشرفة، والحائط الشرقي والجنوبي للمسجد الأقصى، ومنبر المسجد الأقصى المبارك «منبر صلاح الدين» الذي تشرف جلالته بوضع اللوحة الزخرفية على جسم المنبر، وغيرها من الأعمال المتواصلة الدَّالة على الرعاية الخاصة من الهاشميين.

وهذه هي الحقيقة المقررة في عالم الإيمان والنبوات، أقول هذا هو التداخل الديني في تفسير علاقة الأردن بالقدس ومسجدها الأقصى، بغض النظر عن التداخل التاريخي ونظراته مؤيد بما هو مقدس من النصوص الشرعية الثابتة التي خلت من التغيير والتحريف والتبديل.

فالقدس هي ضمير الأمة وقلبها النابض، وأن أي مساومة على القدس ومسجدها الاقصى هي مساومة على الضمير والقلب، وبيع الضمير تأباه العقول الحصيفة والنظر السليمة، فمن ذا الذي يعير قلبه.

ولا شك أن النصوص الشرعية جعلت قضية القدس مرتبطة ارتباطاً وثيقاً بعقيدة المسلمين، والعقائد لا تتغير بقرارات دولية تملى على الأمة في فترة ضعف تمر بها.