كلمة بمناسبة العام الهجري الجديد

الكاتب : سماحة الدكتور نوح علي سلمان رحمه الله

أضيف بتاريخ : 17-11-2011


 

الحمد لله رب العالمين، وصلى الله على سيدنا محمد، وعلى آله وأصحابه أجمعين، وبعد:

فقد كانت الهجرة النبوية في شهر ربيع الأول، ولكن المسلمين أرَّخوا بالعام القمري الذي كانت فيه الهجرة وفقاً للحساب العربي، وهو يبدأ بشهر مُحَرَّم الحرام.

وكان من الممكن أن يؤرِّخ المسلمون بميلاد الرسول محمد صلى الله عليه وسلم، أو بنزول الوحي، أو بفتح مكة، ولكن الهجرة كانت الحدث الأهم في حياة النبي صلى الله عليه وسلم بإجماع الصحابة الكرام، ولذا أرَّخوا بها، وعبَّر عن وجهة نظرهم عمر بن الخطاب رضي الله عنه فقال: "ما زال الإسلام عزيزاً منذ الهجرة".

ذلك أن الإسلام كان قبل الهجرة دعوة ليس لها شوكة تحميها، فلم يستوعب العامة مضمون الإسلام، ولم يَسْلَم المؤمنون من أذى السفهاء، فلما هاجر الرسول صلى الله عليه وسلم إلى المدينة المنورة، وأقام المجتمع الإسلامي على التوحيد، والمساواة، والعدالة؛ أخذ الإسلام وضعَه الصحيح، وعرف الناس قيمة التوحيد، وسُموَّه الفكري، وصاروا يأسفون لما فعلوا أيام الشرك، ويتندرون بعبادة الأصنام، فالله تعالى قد كرَّم الإنسان، وخلق من أجله الأرض وما عليها، فكيف يدع عبادة الله، ويعبد ما خُلِق من أجله، وما سُخِّر لخدمته؟!

وعرفوا قيمة المساواة، فهم من نفس واحدة، يتفاضلون بالتقوى، فاجتهد الناس في تقوى الله وعمل الخير، فعرف التاريخ نماذج سامية من الأولياء والصالحين، يتأسون برسول الله صلى الله عليه وسلم، ويتأسى بهم المسلمون، فهم نسخة حية عما جاء به الرسول الكريم عليه الصلاة والسلام، وتجلَّت مواهب فذة ما كان لها أن تتجلى في ظل النظام الجاهلي الطبقي، فأفاد منها الناس وعمَّ خيرها المجتمع.

أما عدالة الإسلام فقد وضعت الأشياء في مواضعها، أحقت الحق وأزهقت الباطل، فمن تبع شريعة الله لا يضل ولا يشقى، ومن أعرض عن ذكر الله وهديه فإن له معيشة ضنكاً، ويحشره الله يوم القيامة أعمى.

وبهذا عرف الناس نموذجاً جديداً من الحياة الاجتماعية السعيدة، الناس فيها متوادون، متراحمون، إذا اشتكى منهم واحد تألم له الآخرون، وهبّوا لنجدته وكأنهم جسد واحد، هذا المجتمع الجديد بهذه المزايا يُشرِّف كل عاقل أن يكون عضواً فيه، ولذا دخل الناس في دين الله أفواجاً.

وإلى جانب هذه الحياة المدنية الراقية تشكَّلت قوة عسكرية باسلة، تحمي الدين وأهله، والداعين إليه، فقبل الهجرة نزل قول الله تعالى: (فَذَكِّرْ إِنَّمَا أَنْتَ مُذَكِّرٌ . لَسْتَ عَلَيْهِمْ بِمُصَيْطِرٍ) الغاشية/ 21-22، وبعد الهجرة نزل قوله عز وجل: (يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ جَاهِدِ الْكُفَّارَ وَالْمُنَافِقِينَ وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ وَمَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ) التوبة/73، وبعض الناس لم يبق في ذهنه إلا قول الله تعالى: (ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ) النحل/125، ونسي أن كل حال لها ما يناسبها.

تشكل الجيش المصطفوي الذي حمى الديار وصان الحرمات، وقد أراد مؤسس هذه المملكة أن يكون جيشه امتداداً لذلك الجيش، فقال عنه: هذا بقية الجيش المصطفوي.

وقد كان ذلك والحمد لله، فالجيش العربي بكل فروعه مثله الأعلى ذلك الجيش الذي بناه المصطفى صلى الله عليه وسلم.

وبالقوة المسلحة عز المجتمع الإسلامي، وأمن الدعاة إلى الله، فخرجوا يُعلِّمون الناس دين التوحيد والعدل والمساواة، وانتشر نور الإسلام في المشارق والمغارب، وما زال ينتشر حتى في هذه السنوات العجاف التي نحن فيها؛ لأنه حق، ولن تخلو الدنيا ممن يعرف الحق ويعشقه ويتبعه، وهاهم شباب الإسلام يفيدون من كل الوسائل المتاحة، ويبلغون دين الله بلغة العصر، وأبلغها القدوة الحسنة، وصار العالم يتحدث اليوم عن صحوة إسلامية، نرجو لها السداد والرشاد؛ كيلا تخرجها الحماسة عن جادة الصواب.

إن في أذهان شبابنا صورة محددة عن الحياة الإسلامية، في المجال الفردي والاجتماعي، ونحن لا نخالفهم، لكن نقول لهم: إن تغيير جوهر الإسلام وتحريف أحكامه زندقة، أما تغيير أسلوب الدعوة إليه فحكمة ولباقة، وقد قال الله تعالى: (يُؤْتِي الْحِكْمَةَ مَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْرًا كَثِيرًا وَمَا يَذَّكَّرُ إِلَّا أُولُو الْأَلْبَابِ) البقرة/269، كما أن ملاحظة المتغيرات في تطبيقه فقه وحصافة، وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (من يُرد الله به خيراً يفقهه في الدين) متفق عليه.

ولقد كانت الهجرة ملاحظة لمقتضى الظروف، فإذا لم يقبل الإسلامَ بلدٌ فلنبحث عن بلد آخر، وإذا رفضه شعب فلنبحث عن شعب آخر، فالإسلام ليس حكراً على أحد، فقد قال الله تعالى: (وَإِنْ تَتَوَلَّوْا يَسْتَبْدِلْ قَوْمًا غَيْرَكُمْ ثُمَّ لَا يَكُونُوا أَمْثَالَكُمْ) محمد/38، ونحن نسأل الله تعالى أن لا ينزع راية الإسلام من أيدينا، وأن لا يستبدل بنا قوماً آخرين.

لقد غيرت الهجرة معالم الأرض، وهيأ الله لها من الظروف ما جعلها عزاً للإسلام والمسلمين، وهيأ لها رجالاً صدقوا ما عاهدوا الله عليه، فكانت مختلفة عما قبلها من هجرات، وعما بعدها أيضاً.

قبلها كانت هجرة موسى عليه السلام بقومه، فلما حزب الأمر قال له رجاله: (فَاذْهَبْ أَنْتَ وَرَبُّكَ فَقَاتِلَا إِنَّا هَاهُنَا قَاعِدُونَ) المائدة/24، فـ(تَأَذَّنَ رَبُّكَ لَيَبْعَثَنَّ عَلَيْهِمْ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ مَنْ يَسُومُهُمْ سُوءَ الْعَذَابِ) الأعراف/167.

وبعدها كانت هجرة سبط رسول الله صلى الله عليه وسلم الحسين ليُنعش الحق ويُقوِّم المسيرة، لكن لما حزب الأمر كانت قلوب أصحابه معه وسيوفهم مع بني أمية؛ فكانت مأساة صدعت صف الأمة الإسلامية إلى اليوم. ولا يلأمه إلا رجل من آل البيت يملأ الدنيا قسطاً وعدلاً بعد أن مُلئت جوراً وظلماً.

أما أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم فقالوا له: (والله لو استعرضت بنا هذا البحر فخضته لخضناه معك، ما تخلف منا رجل واحد)، وعنهم يقول الله تعالى لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم: (هُوَ الَّذِي أَيَّدَكَ بِنَصْرِهِ وَبِالْمُؤْمِنِينَ، وَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ) الأنفال: 62-63.

إن معركة الإسلام مستمرة تحتاج إلى تلاحم الأمة، وتعاضدها، والإخلاص فيها لله رب العالمين، ورحم الله من قال: على الداعي إلى الله أن لا ينتظر أجراً على دعوته، ولو كان ذلك الأجر أن ينتصر الإسلام على يده، وعن هؤلاء قال الله تعالى: (مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُمْ مَنْ قَضَى نَحْبَهُ وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْتَظِرُ وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلًا) الأحزاب/23.

 

(*) أُلقيت بمناسبة بدء العام الهجري (1430هـ).