من وحي الهجرة

الكاتب : عطوفة الأمين العام الدكتور أحمد الحسنات

أضيف بتاريخ : 10-09-2018


من وحي الهجرة

 

الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيد الأنبياء والمرسلين سيدنا محمد النور المبين، وعلى آله وصحابته الغرّ الميامين.

ها نحن اليوم نستقبل عاماً جديداً من أعوام أمتنا الخالدة، ونودع عاماً ماضياً بما فيه من أحداث جليلة مرت على أمتنا، أحداث فيها من الفرح وفيها من الألم، وهذه سنّة الله تعالى في خلقه، قال الله تعالى: (وَتِلْكَ الْأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ) آل عمران: 140.

وكلّما ودع المسلمون عاماً واستقبلوا عاماً آخر يتذكر المسلمون تلك الرحلة التي خاضها النبيّ صلى الله عليه وسلم وكانت سبباً في تأريخ المسلمين، إنها رحلة الهجرة المباركة، تلك الرحلة التي آذنت ببزوغ شمس الإسلام، إنها رحلة الهجرة إلى تلك المدينة التي تنورت بقدوم النبيّ صلى الله عليه وسلم.

نعم كانت يثرب مظلمة، فلما تراءى لها وجه النبيّ صلى الله عليه وسلم أضاءت بنوره صلى الله عليه وسلم، فلما رأى الناس ذلك البهاء والجمال، رأوه أجمل من طلعة البدر في السماء، فما كان منهم إلا أن تهللوا، وأنشدوا لحناً شجياً: طلع البدر علينا.

طلع البدر بظهور النبيّ صلى الله عليه وسلم، ولا يزال طالعاً بفضل الله تعالى وكرمه مصداقاً لقوله تعالى: (يُرِيدُونَ لِيُطْفِئُوا نُورَ اللَّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ وَاللَّهُ مُتِمُّ نُورِهِ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ) الصف: 8.

لقد كانت الهجرة نقطة تحول تاريخية في تاريخ الدعوة الإسلامية، وفي تاريخ الأمة العربية، بل لقد كانت نقطة تحول في التاريخ البشري كله، كانت البشرية كلها في ظلام دامس، كان الظلم والطبقية هي المسيطرة على العالم كله، القوي يستعبد الضعيف، وعمت مظاهر الفساد الأخلاقي والمالي، كانت البشرية في انتظار فرج قادم يخرجها مما هي فيه من عنت ومشقة وكدر، فما أن ظهر رسول الله محمد صلى الله عليه وسلم حتى غير وجه العالم، ونقل الناس من مرحلة العبودية للمخلوق إلى العبودية للخالق، من مرحلة الكسل والخمول إلى مرحلة العمل والإنتاج، من الأمة الأمية إلى أمة اقرأ، سنوات قليلة إذا ما قيست بعمر الأمم والدول لا تساوي شيئاً قضاها النبي صلى الله عليه وسلم في المدينة المنورة، طبقت الإسلام النظري الذي كان يدعو الناس إليه طوال مدة ثلاثة عشر عاماً في مكة المكرمة، حتى علّم الناس أن الدين ليس مجرد شعارات تقال، وإنما الدين تطبيق عملي، فهو عمل بالأركان لإحياء البشرية ولعمارة الأكوان.

بالهجرة صار للمسلمين دولة وكيان، فاستطاعت هذه الدولة في مدة وجيزة أن تلفت أنظار العالم كله، وأن تكسب احترام الناس كلهم، فشهد لدولة النبيّ عليه الصلاة والسلام العدو قبل الصديق، حتى قال قائلهم: "ما عرف التاريخ فاتحاً أرحم من العرب المسلمين"، فالمسلمون أصحاب رسالة عالمية، رسالة رحمة للناس كافة، انطلاقاً من قول الله تعالى: (وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ) الأنبياء: 107.

والقدوة والمعلم هو رسول الله صلى الله عليه وسلم الذي ما انتقم لنفسه قطّ، وإنما كان يحمل هم الناس كافة، كان يدعو لهم بالهداية، ويسأل الله تعالى أن يتجاوز عنهم، ولما عاد إلى بلده مكة التي خرج منها، مضطراً قبل سنوات قليلة ووقف على أعتابها مخاطباً إياها ومبيناً لنا قيمة الوطن، والله إنك لأحبّ أرض الله إلى الله وإليّ، ولولا أن قومك أخرجوني منك ما خرجت.

وظلّ طوال مدة إقامته في المدينة يرنو إلى مكة ويذكر جبالها وهضابها، ويتحسّس أخبارها، حتى عاد إليها منتصراً مكللاً بتاج العزة والمهابة والكرامة، ودخلها فاتحاً.

ولما انتظر أهل مكة قصاصهم العادل لما اقترفته أيديهم من جرائم، جزاء ما عادوا النبيّ صلى الله عليه وسلم ثلاثة عشر عاماً في مكة، ومقابل ما آذوا أصحابه واضطهدوهم، وجزاء ما حاربوه عليه الصلاة والسلام، فهم الذين قاتلوه يوم بدر، وحاربوه يوم أحد، وألبوا الناس عليه يوم الأحزاب، وهم الذين نقضوا العهود والمواثيق، ماذا تراهم يحصدون من نتيجة وهم ينتظرون قصاصهم العادل جزاء ما اقترفته أيديهم، ماذا تراهم يحصدون وهم يقفون بين يدي محمّد صغاراً أذلّاء؟

هنا؛ تجلت معاني الرّسالة السماوية في شخص نبيّ الأرض كلها، فكان فاتح القلوب قبل الحصون، ومنير العقول قبل الأجساد، تجلّى حلمه، وظهرت رحمته، فسبقت غضبه وانتقامه، ترى النبي يقول لهم: ما تظنون أني فاعل بكم؟ فما كان منهم إلا أن قالوا: أخ كريم وابن أخ كريم، فأعلنها رسول الله عفواً مطلقاً بلا حساب ولا عتاب، اذهبوا فأنتم الطلقاء.

ما أحوجنا اليوم ونحن نعيش في عالم متلاطم الأمواج أن نستذكر هذه الدروس في تاريخ أمتنا، ونحيا حياة نبينا صلى الله عليه وسلم ونجعلها نبراساً نسير عليها، فبالرحمة نفتح القلوب ونكون دعاة إلى الله تعالى بأفعالنا أكثر من أقوالنا.

إنّ أمتنا اليوم تعيش لحظات ضعف لا تختلف كثيراً عن اللحظات التي عاشها النبيّ صلى الله عليه وسلم وأصحابه في مكة، ولكن ذلك لم يكن سبباً لليأس والقنوط، بل كان رسول الله يعلم أصحابه حسن الظنّ بالله وأنه بعد الشدة يأتي الفرج، وانتظار الفرج عبادة يؤجر عليها المسلم، والعمل على ذلك عبادة أيضاً، (من نفس عن مؤمن كربة من كرب الدنيا، نفس الله عنه كربة من كرب يوم القيامة) رواه مسلم.

إن المؤمن الحق يقدم العمل بين يدي الرجاء، ويستبق القدر بالدعاء، ثمّ ينتظر تحقق وعد الله، إن الله لا يخلف الميعاد، قال تعالى: (وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنًا يَعْبُدُونَنِي لَا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئًا وَمَنْ كَفَرَ بَعْدَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ) النور: 55.

صدق الله تعالى، وصدق رسول الله صلى الله عليه وسلم، وعلينا العمل والدعاء، وعلى الله الإجابة ومنه الرجاء، ولا شكّ أن أمة فيها الحبيب لا يضيعها محبّ الحبيب، بنبينا نتوسل، وإلى كل نصر وتمكين وعزة نتوصل، اللهم ارفع عنا كل بلاء، وأنعم علينا بالأمن والرخاء، ومتع أنظارنا برؤية الحبيب عليه الصلاة والسلام، واجعلنا من رفقائه يوم اللقاء. والحمد لله رب العالمين.