الهجرة النبوية ومرتكزات البناء الحضاري للأمة

الكاتب : سماحة المفتي العام الدكتور محمد الخلايلة

أضيف بتاريخ : 09-09-2018


الهجرة النبوية ومرتكزات البناء الحضاري للأمة

الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.

جاء النبي صلى الله عليه وسلم بدين يدعو إلى هداية الناس واستقامتهم وسعادتهم في الدنيا والآخرة، وتحقيق هذه الغايات يتطلب أن يعيش الإنسان في بيئة حضارية آمنة صالحة، وهو ما سعى النبي صلى الله عليه وسلم إلى تحقيقه منذ اليوم الأول لبعثته، حيث قامت البعثة على أهم مرتكزات البناء الحضاري للأمة وهو العلم، فأول آية نزلت على النبي صلى الله عليه وسلم: (اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَق) العلق: 1.

وفي إطار هذه القاعدة العظيمة، قاعدة (اقرأ) التي انطلق منها النبي صلى الله عليه وسلم في دعوته، بدأ صلى الله عليه وسلم تعليم الناس دين الله تعالى ونشر الخير والحق والمعرفة لإقامة مجتمع يقوم على مرتكزات الحضارة الإنسانية من: الأرض، والشعب، والعلم، والقيم، والأخلاق، والعبادة، ونشر الأخوة والمحبة بين أفراده، مجتمع قوي قادر على الصمود أمام التحديات التي تواجهه، والأزمات التي يتعرض لها، مجتمع يحقق الإرادة الإلهية بأن تكون هذه الأمة قائدةً رائدة من خلال الرسالة التي تحملها في نشر الخير والمحبة والسلام بين الأمم.

مكث النبي صلى الله عليه وسلم في مكة يدعو الناس إلى هذا الدين العظيم ثلاثة عشر عاما،ً قاسى خلالها الألم والإيذاء والعذاب، أدرك بعدها أن مكة لا تصلح لإقامة هذا الدين، بعد أن تعاقبت عليها الأفكار الشاذة والمنحرفة على مدار السنين، فبدأ النبي صلى الله عليه وسلم يبحث عن أرض جديدة تكون صالحة لبناء موطن حضاري يمكن له أن يترعرع ويزدهر، حتى كانت المدينة المنورة تلك الأرض المباركة التي استقبلت النبي صلى الله عليه وسلم، واحتضنت ذلك الفكر العظيم الذي غيّر مسيرة تاريخ العرب، بل الإنسانية جمعاء، فقد غيّر النبي صلى الله عليه وسلم قلوباً وعقولاً، فأضاء عليه الصلاة والسلام سراج العقول، وأصلح القلوب، فلم يبق من المهاجرين والأنصار إلاّ صورة اللحم والدم، فكانت صناعة الإنسان ومن ثم صناعة الحياة. 

هاجر النبي صلى الله عليه وسلم لتحقيق مفهوم الاستخلاف في الأرض، وتحقيق العبادة بشموليتها واستيعابها لجميع مرافق الحياة، فالإسلام جاء لصناعة الحياة والمحافظة عليها ورعايتها، ولم يأتِ بصناعة الموت والخوف والفساد في الأرض، وهكذا نفهم معنى العبادة في قوله تعالى: (وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُون) الذاريات: 56 في الإطار العام لهذه الآية، وهو قوله تعالى: (إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَة)ً البقرة: 30، فيتحقق معنى العبادة التي أرادها الله تعالى من خلال القيام بأمانة الاستخلاف وأدائها حق الأداء، وهو ما أراده النبي صلى الله عليه وسلم من خلال اهتمامه بثقافة الإنسان والنهوض به، وتعزيز قدراته الفعلية والإبداعية ليصل بالمجتمع إلى أعلى درجات الحضارة والرقي.

علمتنا الهجرة أن الحياة تدار بتخطيط دقيق، وقواعد متزنة، وأسس ثابتة، ينهض عليها المجتمع القوي، فلا ارتجال ولا تخبط ولا عشوائية، وكيف ينسجم الأمر الإلهي مع حسن الالتزام والإعداد البشري لتحقيق مراد الله تعالى، وكيف أن للنجاح أسباباً وله مواصفات وخصائص ورسائل وأدوات، ومن أهم هذه الأسباب بعد التوكل على الله تعالى هي التخطيط الدقيق والأخذ بالأسباب المؤدية إلى النجاح، وتسلح الإنسان بالأدوات والوسائل التي توصله إلى برّ الأمان، يظهر ذلك جلياً من التخطيط الدقيق للهجرة النبوية والأخذ بالأسباب المادية من التوكل على الله عز وجل، فمن قال إن رجلاً يفلت من فريق اغتيال يتربص به في حجرة متواضعة، أو يخرج من غار صغير يحاصره رجال مدججون بالسلاح، هذا منصور فقط في عقيدة (إن الله معنا) تلك العقيدة التي ترتكز على أسس من الطاعة لله عز وجل، والإخلاص له، والأخذ بالأسباب المادية، وهي معيّة ربانية حاضرة في كل زمان ومكان، لكل من سلك المنهج النبوي وهو منهج الأنبياء في النصر والتمكين، فقد قال رسول الله محمد صلى الله عليه وسلم في الغار: (إن الله معنا)، وقال موسى عليه السلام أمام البحر: (كلا إن معي ربي سيهدين)

                                              وإذا العناية لاحظتك جفونها 

                             نم فالمخاوف كلهن أمان

 لم يغيّر النبي صلى الله عليه وسلم بعد الهجرة وتأسيس الدولة لباس أهل المدينة ولا مظاهرهم أو عاداتهم وتقاليدهم إلا ما يتناقض منها صراحة مع أحكام الدين، وإنما غيّر العقول والنفوس لترتقي في مدارج الطهر والإبداع والرقي.

أسس النبي صلى الله عليه وسلم نهجاً في بناء الأمم والحضارات وقد قام هذا النهج على ثلاثة مرتكزات أساسية: 

أولها: بناء المسجد لربط الأمة بعقيدتها ودينها، وتعليمها مفهوم العبادة بأوسع معانيه؛ ليكون منطلق إشعاع حضاري، يبعث القيم الإسلامية والأخلاق الإنسانية إلى العالم أجمع، ويخرج الرجال والعلماء والمفكرين، فكان مسجد النبي صلى الله عليه وسلم هو مكان العبادة والجامعة والمدرسة التي تخرج منها الرجال، قال تعالى: (رِجَالٌ لَا تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلَا بَيْعٌ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَإِقَامِ الصَّلَاةِ) النور: 37.

وثانيها: وثيقة المدينة التي تعد بحق دستوراً يبيّن عظمة هذا الدين في التعامل مع الناس على أساس التعايش بين أبناء المجتمع بغض النظر عن دينهم أو عرقهم أو ثقافتهم، وجمع الناس في الدولة على أساس المواطنة الصالحة التي تقوم على مبدأ المساواة في الحقوق والواجبات دون النظر إلى الانتماء الديني أو العرقي أو المذهبي أو أي اعتبارات أخرى، فكانت هذه الوثيقة التاريخية أول دستور للدولة المدنية في العالم جاء ليحدد ملامح الدولة الجديدة من خلال تعاون أبنائها ونصرة بعضهم بعضاً دون أي خطر يحيق بمجتمعهم، وتقديم العون والتناصح، وتعزيز روح المساواة والعدل، مما يرسخ في قلوبهم محبة الوطن، والنهوض بالمجتمع.

وثالثها: المؤاخاة بين المهاجرين والأنصار، فالأخوة بين أبناء المجتمع الواحد لها أكبر الأثر في استقرار المجتمع وانتشار المودة والرحمة، وانتشار جوٍّ من الألفة والمودة والمحبة والرحمة أثمر لنا ذلك الرقي الحضاري في المجتمع الإسلامي، وقد خلّد الله تعالى حادثة المؤاخاة في القرآن الكريم لتظل شاهداً على هذا الأساس المهم من أسس الحضارة الإنسانية، فقال تعالى: (وَالَّذِينَ تَبَوَّءُوا الدَّارَ وَالْإِيمَانَ مِنْ قَبْلِهِمْ يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ وَلَا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حَاجَةً مِمَّا أُوتُوا وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ) الحشر: 9، فانتشار روح الألفة والمحبة بين أبناء المجتمع هو من أهم أسباب تقدم المجتمع وازدهاره وتطوره، وهو ما تؤكده أحدث النظريات اليوم في عالم الإدارة التي ترى في انتشار المودة والعمل بروح الفريق أهم أسباب نجاح المؤسسة وازدهارها.

لم يكن مصادفة أن اختار سيدنا عمر بن الخطاب يوم الهجرة ليكون ابتداء التأريخ الإسلامي، فالهجرة النبوية كانت إيذاناً بولادة أمة تقوم على مبادئ العدل والأخلاق وحسن التعامل مع الآخرين على أسس التعايش المشترك، ونحن في زمننا هذا قد غابت عن مجتمعاتنا الإسلامية هذه المعاني القيمة للهجرة النبوية الشريفة، ولا زالت ذكرى الهجرة النبوية تجدد عاماً بعد عام والأمة تعاني من التخبط في المنهج والسلوك، ولم نستطع بعد أن نحقق معنى الهجرة كما فعل النبي صلى الله عليه وسلم، فهجرته عليه السلام لم تكن مجرد انتقال مادي من بلد إلى آخر، وإنما كانت انتقالاً جوهرياً من حالٍ إلى حال، وهو ما يجب على الأمة الاقتداء به في واقعنا المعاصر.

فالنبي صلى الله عليه وسلم هاجر لبناء مجتمع جديد في ظل فجوة حضارية هائلة بين العرب وغيرهم في شتى مجالات الحياة، فكان التحدي الأكبر للحاق بركب الحضارة الإنسانية بل والتفوق عليها في إطار المبادئ والقيم التي يحملها هذا الدين، فكان له ما أراد، وكانت المدينة مركزاً لإشعاع حضاري عالمي، نقل المسلمون من خلاله حضارة عالمية شهد لها الأعداء قبل الأصدقاء، واليوم نحن نستيقظ على فجوة هائلة بين المسلمين وغيرهم في شتى مجالات الحياة، مما يتطلب منا الوقوف ملياً والنظر والتدبر وإعمال العقول للتخطيط لمعاني هجرة جديدة، نلحق من خلالها ركب الحضارة الإنسانية التي سبقتنا قروناً طويلة، وهذا لا يكون بالأماني وحدها، وإنما يكون بتخطيط دقيق، وإعمال فكر عميق، وأخذ بالأسباب مع التوكل على الله عز وجل.

سائلين الله تعالى أن يكون العام الهجري الجديد عام خير وبركة على بلدنا المبارك، وعلى عميد آل البيت صاحب الجلالة الهاشمية الملك عبد الله الثاني ابن الحسين حفظه الله ورعاه.