آداب التطليق

الكاتب : جمال الدين القاسمي رحمه الله (ت1332هـ)

أضيف بتاريخ : 14-07-2011


الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين:

الأدب الأول:هو رعاية المصلحة في إيقاعه بعد التروِّي والتحاكم إلى حَكَمين، فقد دلَّ الكتاب الكريم على مشروعية ذلك عند شقاق الزوجين بإرسال حَكَمين من أهل الزوجين يؤثِران الإصلاحَ بالوفاق، على الفراق والطَّلاق، فينصحان الزوجين ويعظانهما ويؤذنانِهما بمفاسد الطلاق ومُضِرَّاته وخراب ما بُني من المعيشة البيتية، وما يَعْقُبُه من الندم ونفرة الحبِّ القلبي، وغير ذلك من تشتت شمل البنين والبنات، وتجرُّعهم غَصَصَ الحَسرات، حتى إذا لم يُفِدْ نُصحُهما، وأخفق سعيهما، ورأيا الخيرة لهما في الفراق، أذنا للزوج بالطلاق، وهذا كله مستفاد من قوله تعالى:(وَإِنْ خِفْتُمْ شِقَاقَ بَيْنِهِمَا فَابْعَثُوا حَكَمًا مِنْ أَهْلِهِ وَحَكَمًا مِنْ أَهْلِهَا إِنْ يُرِيدَا إِصْلَاحًا يُوَفِّقِ اللَّهُ بَيْنَهُمَا) النساء/35، فلم يشرع سبحانه وتعالى للزوج أن يعجل بالطلاق، وأنْ يبادر به سائق الهوى والهَوَس بدون عمل بما أمر تعالى به وحَضَّ عليه.

ودلَّ الأمر في قوله تعالى:(فَابْعَثُوا حَكَمًا مِنْ أَهْلِهِ وَحَكَمًا مِنْ أَهْلِهَا) على أن إرسال الحَكَمِ فَرْضٌ، لأن الأمر للوجوب عند الأكثرين، والأمر بالشيء نهيٌ عن ضده، والنهي -أعني التلبُّس بخلاف الأمر- يقتضي الفساد وعدم الاعتداد كما تقرر في الأصول.

فإذَن مَنْ عجَّل في الشِّقاق وتلفَّظ بالطلاق بدون الرجوع إلى التحاكم المأمور به فقد تلبَّس بالمنهي عنه وعصى بمخالفة الأمر، وأما مَنْ عمل بالأمر ففوَّض للحكمين الخِيَرَة فلم يجدا سبيلاً لائتلاف الزوجين، ولا طريقاً لجَمع شملهما؛ فما جعل الله في ذلك من حرج لقوله:(وَإِنْ يَتَفَرَّقَا يُغْنِ اللَّهُ كُلًّا مِنْ سَعَتِهِ) النساء/130.

الأدب الثاني:إيقاعه في حال الخوف من عدم إقامة حدود الله، وذلك بأن تتضرَّر المرأة من الرجل فترى منه ما يسوؤها من قول أو فعل أو أمر يستحيل معه صبرها عليه.

ومنه أن يترك معاشرتها بالمعروف، ويتجافى الإحسانَ إليها، أو تشاهد منه انكباباً على الفحشاء وعملاً بالمنكرات، أو إغراء لها بترك الواجبات، أو إفساداً لصالح تربيتها بمشاهدة ما يأتيه من الموبقات، أو سعياً في إيذائها بأنواع المُضِرَّات؛ فتخشى من بقائها على عِصْمَتِهِ أن تَبْوء بإثم الناشزة والهاجِرَة، وهي لا تُطيق حالتئذ ملامستَه بوجهٍ ما، وتأبى القُرب منه أشدَّ الإباء، ففي هذه الحالة شُرع مخالعتها بأن تفتدي منه بما يتراضيان به، وإليه الإشارة بقوله تعالى:(فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا فِيمَا افْتَدَتْ بِهِ تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ فَلَا تَعْتَدُوهَا وَمَنْ يَتَعَدَّ حُدُودَ اللَّهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ) البقرة/229.

وتدلُّ الآية بمفهومها على أنهما إذا كانا يقيمان حدود الله في الزوجية؛ فليس له أن يطلب مخالعتها بأخذ ما لا تطيب نفسُها به، وليس لها أيضاً أن تفتكر في الاختلاع منه؛ لأن في ذلك إفساداً لهما وإضراراً بهما وبأولادهما إنْ كانوا، وإنَّ ذلك حينئذ من تعدِّي حدود الله؛ أي: مجاوزتها.

ثم إذا خلعها من عِصْمته فهل يكون خُلْعُه طلاقاً أو فَسْخاً؟ فذهب الجمهور إلى الأول، وجعلوا عِدَّتها ثلاثة قروء، وذهب ابنُ عباس وعثمان وابن عمر والرُّبَيِّع بنت مُعَوِّذ وعَمُّها رضي الله عنهم إلى أنه فسخ، قال الإمام ابن القيم: ولا يصح أنه طلاق البتة، وقد أمر النبي صلى الله عليه وسلم امرأة ثابت بن شِمَاس لما اختلعت من زوجها أن تعتدَّ بحيضة واحدة (رواه النسائي). وبه قضى عثمان رضي الله عنه، وإليه ذهب الإمام إسحاق بن راهَوَيهِ والإمام أحمد في رواية عنه اختارها شيخ الإسلام ابن تيمية.

قال:من نظر هذا القول وجده مقتضى قواعد الشريعة؛ فإن العِدَّة إنما جعلت ثلاث حيَضٍ ليطول زمن الرَّجْعة ويتروَّى الزوجُ ويتمكن من الرجعة في مدة العدَّة، فإذا لم تكن عليها رَجْعة فالمقصود مجرد براءة رحمها من الحَمْل، وذلك يكفي فيه حيضة كالاستبراء، قال: ولا ينتقض هذا بالمطلقة ثلاثاً، فإن باب الطلاق جعل حكم العدة فيه واحدة بائنة ورجعية. ا.هـ

الأدب الثالث: أن لا يكون القصد بإيقاع الطلاق مُضارَّة الزوجة؛ فإن الضِّرار ممنوعٌ شرعاً لحديث:(لا ضرر ولا ضرار)رواه ابن ماجه ومالك والحاكم والبيهقي، ولعموم آية:(وَلَا تُضَارُّوهُنَّ) الطلاق/6، ولقوله تعالى:(فَإِنْ أَطَعْنَكُمْ فَلَا تَبْغُوا عَلَيْهِنَّ سَبِيلًا) النساء/34.

وأعظم البغي على النساء تطليقهنَّ للمُضارَّة والتشفِّي والإيذاء وتخريب بنيان المعيشة.

وقد تنبه لهذا الأدب مَنْ رأى أن تطليق المرأة في مرض الموت لا يمنعها من الإرث؛ لأنه لما قصد بطلاقها حرمانها من حقِّها المشروع عومل بنقيض قصده عدلاً ورحمة من الشارع، فقد قال مالك: من حُجتنا في الذي يتزوج وهو مريض أنه ليس له ميراث؛ لأنه يُمنع أن يطلق وهو مريض، فكما يُمنع من الطلاق وهو مريض لحقِّ امرأته في الثُّمن؛ فإنه لا ينبغي أن يدخل عليها من يُنقصها من ثُمنها.

قال ابن رشد:هذا بيِّن لأن المعنى الذي من أجله لم يجز أن يطلق في المرض موجود في النكاح؛ فلا يجوز له أن يُدخل وارثاً على ورَثته كما لا يجوز أن يخرج عنهم وارثاً. ا.هـ

فعبر مالك بالمنع مرتين، وعبّر ابن رشد بعدم الجواز، ومتأخرو مذهبه قضوا بصحة طلاقه، لكن مع اتفاقهم على عدم منعه من إرث الزوجة، قال ابن الحاجب: وطلاقُ المريض وإقراره به كالصحيح في أحكامه وتنصيف صداقه وعدّة المطلقة وسقوطها في غير المدخول بها، إلا أنها لا ينقطع ميراثها هي خاصة إن كان مخوّفاً، قضى به عثمان رضي الله عنه لامرأة عبد الرحمن، قال في "التوضيح": وترثه سواء كان طلاقها بائناً أو رَجعياً، ثلاثاً أو واحدة، انقضت عدّتها أم لا.

الأدب الرابع:أن يُطلِّق لداعٍ لا يتأتّى معه اتخاذها زوجة، كأن يراها لا تردُّ يد لامسٍ، أو لا تؤمَن على مال ولا سرٍّ، أو لا تحفظ نظام بيته ورعاية حرمته، أو لا تستجيب لطاعته، إلى غير ذلك من الأخلاق الفاسدة التي تحقق أنها صارت مَلَكَةً راسخة فيها مُرِّنت عليها وانطبعت فيها، فلا جَرَمَ أنها حينئذ جرثومة النكد، ومادة النقص، ومباءة الفساد والإفساد للمروءة والدين والدنيا، فمثل هذه المشؤومة مما يُشرع طلاقها ويُندب إنْ لم يجب، وقد ورد في هذا ما أخرجه البخاري في "صحيحه" عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه قال: "الطلاق عن وَطَرْ".

قال الحافظ ابن حجر: أي أنه لا ينبغي للرجل أن يُطلِّق امرأته إلا عند الحاجة كالنشوز.

وقال الإمام ابن القيم في "إعلام الموقعين": معنى قول ابن عباس: "إنما الطلاق عن وطر"؛ أي: عن غرض من المطلق في وقوعه.

الأدب الخامس:أن لا يطلق ثلاثاً دفعةً واحدة لما في "سنن النسائي" وغيره من حديث محمود بن لبيد قال: أخبر رسول الله صلى الله عليه وسلم عن رجل طلق امرأته ثلاث تطليقات جميعاً، فقام غضبان فقال: (أَيُلْعب بكتاب الله، وأنا بين أظهُركم)؟! حتى قام رجل فقال: يا رسول الله، أفلا أقتله؟

قال ابن القيم: فجعله لاعباً بكتاب الله لكونه خالف وجه الطلاق وأراد به غير ما أراد الله  به، فإنه تعالى أراد أن يُطلِّق طلاقاً يملك فيه ردَّ المرأة إذا شاء، فطلَّق طلاقاً يريد به أن لا يملك فيه ردَّها، وأيضاً فإن إيقاعه الثلاث دفعة مخالف لقوله تعالى:(الطَّلَاقُ مَرَّتَانِ) البقرة/229، والمرتان والمرات في لغة القرآن والسنة بل ولغة العرب بل ولغة سائر الأمم لِما كان مرة بعد مرة، فإذا جمع المرتين والمرات في مرة واحدة فقد تعدى حدود الله تعالى وما دل عليه كتابه، فكيف إذا أراد باللفظ الذي رتب عليه الشارع حكماً ضد ما قصده الشارع.

الأدب السادس: أن يُشهد على الطلاق، لقوله تعالى:(يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ وَأَحْصُوا الْعِدَّةَ) إلى قوله تعالى:(فَإِذَا بَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ أَوْ فَارِقُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ وَأَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ مِنْكُمْ وَأَقِيمُوا الشَّهَادَةَ لِلَّهِ) الطلاق/1-2، فأمر بالإشهاد على الرجعة وهو الإمساك بمعروف، وعلى الطلاق وهو المفارقة بمعروف.

الأدب السابع: أن لا يكون في حالة الغضب لحديث:(لا طلاق في إغلاق) [رواه أحمد وأبو داود وابن ماجه].

الأدب الثامن: أن ينوي الطلاق لحديث:(إنَّما الأعمال بالنيات، وإنما لكلِّ امرئٍ ما نوى)متفق عليه. فإنَّ الحديث هو الكليُّ الأعظم في أبواب من الشريعة، قال الحافظ ابن حجر: إن الحكم إنما يتوجه على العاقل المختار العامد الذاكر. ا.هـ  

وأصله من قوله تعالى:(وَإِنْ عَزَمُوا الطَّلَاقَ فَإِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ) البقرة/227، فمن لم يعزم الطلاق بأنْ عَلَّقه أو عبث به لم يُطَلِّق الطلاق المشروع.

الأدب التاسع: أن يكون التطليق مأذوناً فيه من جهة الشارع، فلا يكون محرَّماً مبتدعاً، بل مأموراً به، وذلك بمعرفة زمان التطليق لقوله تعالى:(يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ)؛ أي:لاستقبال عدتهن، يعني يُطلِّقهن في وقت يتعقبه شروعهنَّ في العدة، وذلك أن تطلَّق في طُهر لم تُجَامَعْ فيه، وأما طلاقها في حال الحيض فهو محرَّم بالكتاب والسنة والإجماع، وليس في تحريمه نزاعٌ، ولهذا أمر النبي صلوات الله عليه عبد الله بن عمر رضي الله عنهما -لما طلق امرأته في الحيض- أن يراجعها، وتلا عليه هذه الآية تفسيراً للمراد بها؛ إيذاناً بأنَّ الطلاق لم يُشرع في حيض ولا في طهر وُطِئَتْ فيه، وإنما شرع للعِدَّة، وهو أن يطلِّقها في طهر من غير جماع (متفق عليه).

وفي "المدونة" عن ابن مسعود رضي الله عنه قال: من أراد أن يطلق للسنة فليطلق امرأته طاهراً في غير جماع تطليقة، ثم ليدعها، فإذا أراد أن يراجعها راجعها، وإن حاضت ثلاث حيض كان بائناً وكان خاطباً من الخطَّاب.

قال الإمام ابن القيم:وأصل هذا أن الله سبحانه وتعالى لما كان يبغض الطلاق لما فيه من كسر الزوجة وموافقة رضا عدوه إبليس ومفارقة طاعته تعالى بالنكاح الذي هو واجبٌ أو مستحبٌّ، وتعريض كل من الزوجين للفجور والمعصية وغير ذلك من مفاسد الطلاق، وكان مع ذلك قد يحتاج إليه الزوج أو الزوجة وتكون المصلحةُ فيه، شَرَعَهُ علَى وجه تحصُلُ به المصلحةُ وتندفع به المفسدة، وحرمه على غير ذلك الوجه، فَشَرَعَهُ على أحسن الوجوه وأَقَرَّ بها لمصلحة الزوج والزوجة، فشرع له أن يُطَلِّقها طاهراً من غير جماع طلقة واحدة ثم يدعها حتى تنقضي عدتها، فإن زال الشرُّ بينهما وحصلت الموافقة كان له سبيل إلى لَمِّ الشَّعَثِ وإعادة الفراش كما كان، وإلاَّ تَرَكها حتى تنقضي عِدَّتُها، فإن تبعتها نفسه كان له سبيل إلى خِطبتها وتجديد العقد عليها برضاها، وإن لم تتبعها نفسُه تركها فنكحت من شاءت، وجعل العدَّة ثلاثة قروء ليطول زمن المهلة والاختيار.

فهذا هو الذي شرعه وأذن فيه، ولم يأذن في إبانتها بعد الدخول إلا بالتراضي بالفسخ والافتداء، فإذا طلَّقها مرةً بعد مرةٍ بقي له طلقةٌ واحدة، فإذا طلقها الثالثة حرَّمها عليه عقوبةً له، ولم يحلَّ له أن ينكحها حتى تنكح زوجاً غيره، ويدخل بها ثم يفارقها بموت أو طلاق، فإذا علم أن حبيبه يصير إلى غيره، فيحظى به دونه أمسك عن الطلاق. ا.هـ ملخَّصاً

الأدب العاشر: التطليق بإحسان، لا بإساءة ولا فُحش مِن الكلام، ولا بَغْي ولا عدوان، فإن الله تعالى أمر بالإحسان في كل شيء، قال تعالى: (الطَّلَاقُ مَرَّتَانِ فَإِمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ) البقرة/229. وقد روى ابن جرير [في تفسيره] أن ابن عباس سُئل عن معنى الآية فقال:ليتق الله في التطليقة الثالثة، فإما يُمسكها بمعروف فيحسن صحابتها، أو يسرِّحها فلا يظلمها من حقها شيئاً.

وقال الضحَّاك:التسريح بإحسان: أن يعطيها مَهراً إن كان لها عليه إذا طلَّقها، والمُتْعَة قدر الميسرة.

ونظير هذه الآية آيةُ:(فَإِذَا بَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ أَوْ فَارِقُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ) الطلاق/2، وآية: (وَإِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ أَوْ سَرِّحُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ وَلَا تُمْسِكُوهُنَّ ضِرَارًا لِتَعْتَدُوا وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ وَلَا تَتَّخِذُوا آيَاتِ اللَّهِ هُزُوًا وَاذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَمَا أَنْزَلَ عَلَيْكُمْ مِنَ الْكِتَابِ وَالْحِكْمَةِ يَعِظُكُمْ بِهِ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ) البقرة/231. فتأمل هذا الوعيد الشديدَ لمن اتخذ آيات الله هُزُواً؛ أي: اتخذ ما بيَّنه من حلاله وحرامه وأمره ونهيه في أمر الإمساك والتسريح مهزوءاً به بأنْ خالفه وعصاه ولم يَحْفَلْ به فضيَّعه وتعدَّى حُدودَه، وكيف سجَّل عليه بأنه ظلم نفسه فأكْسبها إثماً وأوجب لها من الله عقوبةً، وتدبّرْ كيف أمرهم أن يذكروا نعمة الله عليهم بما أمرهم به ونهاهم عنه مما فيه سعادتهم وفلاحهم.

وفي معنى هذه الآيات قوله تعالى:(وَلِلْمُطَلَّقَاتِ مَتَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ حَقًّا عَلَى الْمُتَّقِين) البقرة/241، قال ابن جرير [في تفسيره]:يعني تعالى بذلك أن لمن طلَّق من النساء على مُطلِّقها من الأزواج متاع، وهو ما يُستمتع به من ثياب وكسوة ونَفَقَة أو خادم أو غير ذلك مما يستمتع به، وأكد ذلك بقوله: (حَقًّا عَلَى الْمُتَّقِين) وهم الذين اتَّقوا الله في أمره ونهيه وحدوده، فقاموا بها على ما كلَّفهم القيام بها خشية منهم له ووجلاً منهم من عقابه. ا.هـ

وكذلك قوله تعالى:(وَمَتِّعُوهُنَّ عَلَى الْمُوسِعِ قَدَرُهُ وَعَلَى الْمُقْتِرِ قَدَرُهُ) البقرة/236، فأمر تعالى المُطَلِّقين إذا طلَّقوا الطلاق المأذون فيه -وهو المستوفي شروطه- أن يُسرِّحوا نساءهم راضياتٍ عنهم، داعيات لهم، ذاكرات لجميلهم ومعروفهم وإحسانهم.  

وذلك بأن يحسن إليهن بما يتمتعن به على قدر اليُسرِ والعُسْر، وأكَّد ذلك أيضاً بقوله: (مَتَاعٌ بالْمَعْرُوفِ حَقًّا عَلَى الْمُتَّقِين) فجعل ذلك حقاً لازماً على الذين يحسنون إلى أنفسهم في المسارعة إلى طاعة الله فيما ألزمهم به وأدائهم ما كلفهم من فرائضه، ويُحسنون إلى المطلقات بالتمتيع على الوجه الذي يَحسُنُ في الشرع والمروءة.

فأين المسلمون من هذه الآداب؟! وما عَرَاهم حتى هجروا أحكام الكتاب؟! تالله إن القلب يكاد يتفطر ألماً، والعين تدمع دماً، على ما أصبحوا فيه من الجهل، ولا من سائق لهم إلى الفقه والعلم، حتى أصبحت محاكمُ القضاة تيَّاراً لأمواج شكايات المظلومات، وميداناً لجوَلان دعاوى الزوجات، حتى صار المسلمون ببغْيهم في الطلاق وهَضْم حقوق الأزواج عاراً على الإسلام، وفتنة لسواهم من الأقوام: (رَبَّنَا لَا تَجْعَلْنَا فِتْنَةً لِلَّذِينَ كَفَرُوا وَاغْفِرْ لَنَا رَبَّنَا إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ) الممتحنة/5.

 (*) من رسالة "الاستئناس لتصحيح أنكحة الناس" للشيخ جمال الدين القاسمي المتوفى سنة (1332)هـ.