من أدب المفتي

الكاتب : المفتي الدكتور حسان أبو عرقوب

أضيف بتاريخ : 20-09-2010


 

 

الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيد المرسلين، وعلى آله وصحبه أجمعين، أما بعد:

فإن المفتي قائم في الأمة مقام النبي الأعظم صلى الله عليه وسلم؛ لأنه مخبر عن أحكام الله، ومجتهد في استنباط ما لا نص فيه؛ ليبين حكم الله تعالى، فعليه أن يتحلى بجملة من الآداب الضرورية، وقد نبه على أهمها ابن القيم في كتابه "إعلام الموقعين"، إليك أبرزها بصيغة السؤال والجواب مع التمثيل:

أولاً:متى يجب على المفتي أن يجيب المستفتي؟

إن سئل المفتي عن حكم واقعة، وكان عالماً بالحكم، وكان المستفتي محتاجاً إلى الجواب لحضور وقت العمل؛ وجب على المفتي المبادرة على الفور إلى جوابه، ولا يجوز له تأخير بيان الحكم له عن وقت الحاجة.

مثال:إذا أُعلن أن يوم غد هو اليوم الأول من أيام شهر رمضان، فجاء السائل قبيل أذان الفجر الثاني يسأل المفتي عن وقت النية للصوم؛ وجب على المفتي أن يبين له أن وقت النية يبدأ من غروب الشمس حتى طلوع الفجر الصادق؛ لأنه إن لم يُفْتِهِ فاته صيام ذلك اليوم بعد أذان الفجر الثاني الذي يُرْفَعُ عند طلوع الفجر الصادق، وذلك لعدم تبييت النية من الليل.

ثانياً:متى لا يجب على المفتي أن يجيب المستفتي؟

أربع حالات لا يجب فيها على المفتي أن يجيب المستفتي، وهي:

1. إن سُئل المفتي عن حكم، وكان جاهلاً به، يحرم عليه الإفتاء بلا علم؛ لقوله تعالى:(قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّي الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَالإِثْمَ وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَأَنْ تُشْرِكُوا بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَاناً وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لا تَعْلَمُونَ) الأعراف/33.

ولقوله سبحانه:(وَلا تَقُولُوا لِمَا تَصِفُ أَلْسِنَتُكُمْ الْكَذِبَ هَذَا حَلالٌ وَهَذَا حَرَامٌ لِتَفْتَرُوا عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ إِنَّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ لا يُفْلِحُونَ) النحل/116.

وينبغي أن يقول: "لا أدري". وهذا لا يُنقص من قدر المفتي شيئاً؛ لأن (لا أدري) فتوى تنجيه عند باريه سبحانه.

فعن ابن عباس رضي الله عنه: "إذا ترك العالم (لا أدري) أصيبت مقاتله".

وقال الشافعي في "الرسالة": "ومن تكلف ما جهل وما لم تُثْبِتْه معرفته؛ كانت موافقته للصواب -إن وافقه من حيث لا يعرفه- غير محمودة والله أعلم، وكان بخطئه غير معذور". فالذي يتكلم بغير علم، وإن أصاب الحق لم تكن إصابته للحق محمودة.

وقال الغزالي: "طوبى لمن مات وماتت سيئاته معه". فالذي يفتي بغير علم عليه وزر فتواه، ووزر من عمل بها حتى قيام الساعة، نسأل الله السلامة.

2. إن سئل المفتي عن حادثة لم تقع، ولا نص فيها؛ لا يجب عليه أن يجيب عنها.

مثال:لو سُئل المفتي: كيف يتطهر من ابتلعه الحوت؟ فمثل هذه الأسئلة الافتراضية لا يجب على المفتي أن يجيب عنها، ولقد كان سلفنا الصالح رحمة الله عليهم إذا استفتي سأل المستفتي:"هل وقعت المسألة"؟ فإن قال المستفتي: "لم تقع"؛ لم يجبه المفتي ويقول له: "دعنا في عافية".

وسبب هذا التصرف أن الفتوى فيما لا نص فيه ولا إجماع تكون بالرأي (أي بالمصادر التشريعية الأخرى كالقياس والاستحسان.. إلخ). والفتوى بالرأي إنما تجوز عند الضرورة، فلا تباح إلا في حالة الاضطرار كأكل الميتة.

أما إن كان في الحادثة نص لم يكره الكلام فيها.

وأما إن لم يكن في الحادثة نص وكانت غير مستبعدة، وغرض السائل العلم بحكمها إذا وقعت؛ استُحب للمفتي الجواب بما يعلم؛ لأنه قد لا يجد من يفتيه عند وقوع الحادثة.

3. إن خاف المفتي أن فتواه سيترتب عليها من المفسدة ما هو أكبر من الإمساك عنها، وجب عليه أن يمسك عن الفتوى؛ لكي يدفع أعلى المفسدتين باحتمال أدناهما.

مثاله: أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يُفْتِ بنقض بنيان الكعبة وإعادتها على قواعد إبراهيم؛ لأن قريشاً كانت حديثة عهد بالإسلام، وقد خشي صلى الله عليه وسلم أنه لو أفتى بذلك ونفذت فتواه لربما نفّر قريشاً عن الإسلام بعد أن دخلوا فيه، وكانت فتواه سبباً في ردة بعضهم.

فعن عروة عن عائشة رضي الله عنها أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لها:(يا عائشة لولا أن قومك حديث عهد بجاهلية لأمرت بالبيت فهدم، فأدخلت فيه ما أخرج منه وألزقته بالأرض، وجعلت له بابين: باباً شرقياً وباباً غربياً، فبلغت به أساس إبراهيم) رواه البخاري.

وقد سُئل الشافعي عن مسألة فسكت، فقيل: "ألا تجيب"؟! فقال: "حتى أدري الفضل في سكوتي أو في الجواب"!

4. إذا كان عقل المستفتي لا يحتمل الجواب عما سأل عنه، وخاف المفتي أن يفتتن المستفتي بالجواب؛ لم يجبه.

ومثاله: سأل رجل ابن عباس عن تفسير آية، فأجاب ابن عباس: "وما يؤمنك أني لو أخبرتك بتفسيرها كفرت به".

ثالثاً: هل يجوز للمفتي أن يضرب صفحاً عن السؤال إلى ما هو أنفع للمستفتي؟

نعم يجوز أن يتحول المفتي من الجواب عن السؤال إلى ما هو أنفع للمستفتي، وهذا يدل على النصح والعناية، وذلك بعد بيان ما سُئل عنه المفتي.

مثاله: لو سُئل المفتي: "هل يجوز لي أن أعطي ابنتي الفقيرة المتزوجة من زكاة مالي"؟ جاز للمفتي أن يقول: "نعم يجوز"، وينتقل إلى بيان ما هو أفضل منه وأنفع فيقول: "إذا كنت صاحب مال وثراء، فلم لا تخصص لابنتك هذه مرتباً شهرياً يعينها وزوجها وأحفادك على المعيشة، وتكسب أجرهم ودعاءهم، وتنقلهم من الضيق إلى السعة، وهي لك صدقة وصلة".

وجواز هذا الأسلوب مأخوذ من كتاب الله تعالى حيث يقول ربنا سبحانه:(يَسْأَلُونَكَ مَاذَا يُنفِقُونَ قُلْ مَا أَنفَقْتُمْ مِنْ خَيْرٍ فَلِلْوَالِدَيْنِ وَالأَقْرَبِينَ وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ وَمَا تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ فَإِنَّ اللَّهَ بِهِ عَلِيمٌ) البقرة/215، فسألوه عن المُنفق، فأجابهم بذكر المصرف؛ لأنه أهم مما سألوا عنه.

رابعاً:هل يجوز للمفتي أن يجيب بأكثر مما سُئل عنه؟

نعم يجوز للمفتي أن يجيب بأكثر مما سُئل عنه، وهذا يدل على نضجه وحكمته.

مثال:سأل رجل رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: "يا رسول الله، إنا نركب البحر ونحمل معنا القليل من الماء، فإن توضأنا به عطشنا، أفنتوضأ من ماء البحر"؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (هو الطهور ماؤه، الحِل ميتته) رواه الترمذي وقال: حديث حسن صحيح.

فالسائل يسأل عن الوضوء بماء البحر، فأجاب النبي صلى الله عليه وسلم مع بيان حكم ميتة البحر؛ لأنها أدعى أن تستشكل.

خامساً:هل يجوز للمفتي إذا منع المستفتي من محظور أن يوجهه إلى بديل مباح؟

نعم يجوز ذلك، بل يستحب، وهو دليل على فقه المفتي وتلطفه بالمستفتي، حيث لم يكتف بسد باب الحرام، بل فتح للمستفتي باب الحلال.

مثاله: استعمل النبي صلى الله عليه وسلم رجلاً على خيبر، فجاءه بتمر جنيب، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (أكلُّ تمر خيبر هكذا)؟ قال: "لا والله يا رسول الله، إنا لنأخذ الصاع من هذا بالصاعين، والصاعين بالثلاثة". فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لا تفعل، بع الجمع بالدراهم، ثم ابتع بالدراهم جنيباً) رواه البخاري ومسلم.

والمعنى:إن التمر من المطعومات التي يحرم التفاضل بين أجناسها، فوجه النبي صلى الله عليه وسلم الرجل الذي استبدل تمره الرديء (الجمع) بالتمر الجيد (الجنيب) بأن يبيع الرديء، ثم يشتري الجيد بثمنه؛ لأن في مبادلة الجيد بالرديء لا بد من المساواة والتماثل والتقابض، والتماثل معدوم في الصورة السالفة، فعلمه النبي صلى الله عليه وسلم المخرج من ذلك.

سادساً: هل يجوز أن تكون الفتوى بلفظ نص شرعي؟

تستحسن الفتوى بلفظ النص، وعلى المفتي أن يتحرى ذلك ما أمكنه؛ لأن في ذلك الفوائد التالية:

1.ذِكْرٌ لله ولرسوله صلى الله عليه وسلم.

2.بيانٌ للحكم الشرعي.

3.ذِكْرٌ للدليل.

4.تعزيز ثقة المستفتي بالجواب؛ لأن النصوص الشرعية مكسوة بالعصمة.

مثال:إذا سُئل المفتي: هل يجوز لي أن أتزوج امرأة أبي إذا طلقها؟

فيكون الجواب مثلاً: قال تعالى:(وَلا تَنكِحُوا مَا نَكَحَ آبَاؤُكُمْ مِنْ النِّسَاءِ إِلاَّ مَا قَدْ سَلَفَ إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً وَمَقْتاً وَسَاءَ سَبِيلاً) النساء/22.

وحبذا لو أضيف إلى النص وجه الدلالة منه؛ فقد لا يفهم المستفتي المقصود من النص.

سابعاً:هل يجوز للمفتي أن يأخذ راتباً من الدولة؟

لا يجوز أخذ الأجرة على الفتوى؛ لأنها تبليغ للدين، فلا تجوز المعاوضة عنها. لكن يجوز للمفتي أن يأخذ راتباً من الدولة بدلاً عن تفرغه، وحبس وقته على إفتاء الناس.

وهذا ليس بدلاً عن الفتوى؛ لأن المفتي يجيب الناس في الوقت المخصص وخارجه، فالفتوى لا يقابلها عوض، ثم إنه قد يجيب بالشهر على مئة سؤال، وفي شهر آخر على مئتين، ويظل المرتب واحداً، مما يؤكد أن الراتب ليس في مقابلة الفتوى.

وأخيرا أذكر نفسي وإخواني بتقوى الله تعالى، وبغض البصر عن سوى من فطر، وما ذكر من آداب ليس إلا غيض من فيض، وقطرة من بحر، وعلى من طلب المزيد أن يرجع إلى الأمهات والأصول، وبالله التوفيق.

 

هذا المقال مأخوذ بتصرف من كتاب "إعلام الموقعين" لابن القيم رحمه الله تعالى.