الأمن في الحج
الحمد لله رب العالمين، وأفضل الصلاة وأتم التسليم على سيدنا محمد وآله وصحبه أجمعين.
قال الله تعالى: {وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ اجْعَلْ هَذَا الْبَلَدَ آمِنًا} [إبراهيم: 35]، وقال سبحانه: {وَمَنْ دَخَلَهُ كَانَ آمِنًا} [آل عمران: 97].
إن العنوان الأعظم لفريضة الحج هو الأمن والأمان، والنفوس الراحلة إلى الله تعالى في رحلة الحج تبحث عن الطمأنينة تمكنها من مناجاة الله تعالى، ففي ظل الأمن تحلو العبادة وتستقيم الطاعة، وتقترب النفوس من خالقها؛ لذلك جاءت دعوة إبراهيم عليه السلام بأن تتنزل تلك النعمة على الحرم الشريف {اجْعَلْ هَذَا الْبَلَدَ آمِنًا} [إبراهيم: 35]، وكأن سيدنا إبراهيم عليه السلام يبين لنا اليوم أن الحياة لا يمكن أن تستقر إلا بالأمن والطمأنينة، ولا يمكن للإنسان أن يقبل على الطاعة والتفرغ للعبادة إلا إذا شعر بالهدوء والسكينة، فرمزية الحج المتجددة في كل عام تنبه الأمة على أنه لا يمكن لها أن تقوم بواجب العبودية إلا إذا توفر لها الأمن والأمان.
ولهذا خص الله عز وجل مكة المكرمة فجعلها بلداً آمناً يثوب إليه الناس جميعاً، وتثوب إليه أفئدتهم ويأمنون فيه على أرواحهم وأموالهم، قال الله تعالى: {وَإِذْ جَعَلْنَا الْبَيْتَ مَثَابَةً لِلنَّاسِ وَأَمْنًا} [البقرة:125]، فمما يرتبط بتعظيم البيت هو ما يشيع منه من أمن وطمأنينة وسلامة على الدماء والأعراض والأموال، والحاج يعيش في هذا البلد الأمين حالة من السكينة وشعوراً بالأمان؛ لأنه يدخل إلى حصن منيع، القائم عليه والحافظ له هو مانح الأمان، فالبيت الحرام هو منبع السلم والسلام، والأمن والأمان؛ وقد امتن الله على أهل مكة فذكّرهم بنعمة الأمن، فقال تعالى: {الَّذِي أَطْعَمَهُمْ مِنْ جُوعٍ وَآمَنَهُمْ مِنْ خَوْفٍ} [قريش: 4].
ونحن نعيش اليوم في موسم الحج نستشعر عظمة الزمان والمكان رمز الأمن والأمان، وذلك المعنى الذي افتقده الكثير من المسلمين، لغياب بعض المعاني الحقيقية للإسلام، فذلك يفتعل رعباً وإرهاباً باسم الإسلام، وآخر يتقرب إلى الله بقتل المدنيين، وترويع الآمنين وتكفير المسلمين، حتى لا يدري القاتل فيما قتل، ولا المقتول فيما قتل. وفي هذه الأيام المباركة نسأله سبحانه أن يديم علينا وعلى المسلمين نعمة الأمن والأمان.
ورسول الله صلى الله عليه وسلم أرشد المسلمين يوم الحج الأكبر في خطبة حجة الوداع بقوله: (إِنَّ دِمَاءَكُمْ وَأَمْوَالَكُمْ حَرَامٌ عَلَيْكُمْ، كَحُرْمَةِ يَوْمِكُمْ هَذَا فِي شَهْرِكُمْ هَذَا، فِي بَلَدِكُمْ هَذَا) صحيح مسلم. وقال أيضاً: (كُلُّ الْمُسْلِمِ عَلَى الْمُسْلِمِ حَرَامٌ، دَمُهُ، وَمَالُهُ، وَعِرْضُهُ) صحيح مسلم.
فأصبحت مكة المكرمة بدعوة إبراهيم عليه السلام بلداً آمناً وأهله في أمن واستقرار، وستبقى بإذن الله إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها، قال القرطبي: "دعا إبراهيم عليه السلام لذريته وغيرهم بالأمن ورغد العيش، وكانت مكة وما يليها حين ذلك قفراً لا ماء ولا نبات".
قال بعض المفسرين: "كانت مكة المكرمة حلالاً قبل دعوة إبراهيم عليه السلام كسائر البلاد، وبدعوته صارت حرماً آمناً كما صارت المدينة بتحريم رسول الله صلى الله عليه وسلم أمناً بعد أن كانت حلالاً، قال الله تعالى: {أولم يروا أنا جعلنا حرماً آمناً ويتخطف الناس من حولهم أفبالباطل يؤمنون وبنعمة الله يكفرون} [العنكبوت:67].
وقال الله تعالى: {الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُومَاتٌ فَمَنْ فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَّ فَلَا رَفَثَ وَلَا فُسُوقَ وَلَا جِدَالَ فِي الْحَجِّ وَمَا تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ يَعْلَمْهُ اللَّهُ وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى وَاتَّقُونِ يَا أُولِي الْأَلْبَابِ} [البقرة: 197]، فهذه الآية العظيمة قد أجملت وجمعت –معان غاية في الجمال والكمال- في آداب الحج، وهذا من شأنه أن يرسخ مفهوم الأمن في موسم الحج، وهذه التوجيهات الإلهية للقاصد لبيت الله الحرام لأداء الحج، توجه الحاج لترك زخرف الدنيا وزينتها؛ لأنه قاصد لبابه سبحانه، واقف على أعتابه، فلا يليق بالحاج المخاصمة، والسباب، فأخلاق السائر إلى الله سبحانه ترتقي بقراءة هذه الآية قبيل سفره، والعمل بأوامرها، وترك نواهيها.
فتطبيق هذه الآية لا يرينا يوم الحج إلا السكينة والهدوء، والمسارعة إلى مرضاة الله سبحانه بتهذيب النفس، وصقل الروح والوجدان بمعاني الأخلاق الإسلامية العظيمة.
نسأل الله سبحانه وتعالى أن يديم نعمة الأمن والأمان في موسم الحج وفي بلاد الحرمين الشريفين وسائر بلاد المسلمين، والحمد لله رب العالمين.