مبادرة الدروس الفقهية وضبط المرجعية
لقد أحسنت وزارة الأوقاف والشؤون والمقدسات الإسلامية وشركاؤها في المؤسسات الدينية في الأردن بإطلاق مبادرة لتدريس الفقه الشافعي في مختلف مساجد المملكة؛ لحاجة الساحة الأردنية لضبط المرجعية الفقهية، بعد أن كانت الساحة الاجتماعية العامة شبه شاغرة من الكفاءات العلمية ذات الوزن الفقهي المعتبر، بل تعجّ بأنواع من الفتاوى غير المنضبطة.
الأمر الذي أدى غالباً بعموم أبناء الوطن ممن ليسوا من طلبة العلم الشرعي، وليس لهم دراية كافية بالفقه الإسلامي إلى الوقوع في محظور الخلط في العبادات، وتلقي الأحكام الشرعية على غير منهاج مذهب فقهي معتمد وواضح، خاصة إذا كان مرجعهم مواقع التواصل الإلكتروني المختلفة، قراءة وسماعاً ومشاهدة، التي قد تؤدي إلى بطلان وعدم صحة العبادة والمعاملة.
والفقه يعني: العلم بالأحكام الشرعية العملية المكتسب من أدلتها التفصيلية، وحكم تعلم الفقه تارةً يكون فرض عين على المكلفين في القدر الذي تتوقف عليه صحة العبادة، كالطهارة، والصلاة، والصيام، وصحة المعاملة، كالبيع، والنكاح، وتارةً يكون فرض كفاية، فيما زاد على ذلك إلى بلوغ مرتبة الفتوى، بأن يوجد في الأمة عدد من العلماء يفتون الناس بدقائق الأحكام الفقهية، وتارةً يكون حكم تعلم الفقه الندب والاستحباب، فيما زاد على مرتبة الفتوى، وهذا يجعل الواجب على كل مكلف من المسلمين أن يتعلم الفقه الذي تتوقف عليه صحة عبادته؛ ليحسن العبادة على الصحة المقبولة بأركانها وشروطها وضوابطها.
ومن مزايا علم الفقه أنه يؤخذ عن الشيوخ والعلماء الثقات المعروفين بتلقيهم علوم الشريعة الإسلامية التي كانت معروفة قديماً عن طريق الإجازة وملازمة ومصاحبة العلماء والتتلمذ على أيديهم، إلى أن تطور تلقي علم الفقه والشريعة فصار من خلال الجامعات والكليات والمعاهد والمؤسسات العلمية، وامتاز كثير من طلبة علم الفقه والشريعة بالجمع بين التلقي عن الشيوخ والالتحاق بالجامعات والكليات والمعاهد الشرعية.
ومن أهم مصادر الشريعة الإسلامية؛ القرآن الكريم، والسنة النبوية المطهرة وما تفرع عن هذين المصدرين من مصادر يطلق عليها العلماء (أصول الفقه) كالإجماع، والقياس، والاستحسان، والاستصحاب، والمصلحة المرسلة، والعرف، وقول الصحابي، وشرع من قبلنا، التي هي محل نظر ومراعاة المجتهد والفقيه في الاستنباط والتعامل مع الأحكام الشرعية؛ لاستنباط الأحكام الشرعية التي يجب على المكلفين الامتثال لها في الحلال والحرام وما يجوز فعله وما لا يجوز.
وأوكل الله تعالى بيان وتبليغ هذه الشريعة للعلماء المجتهدين، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (مَن يُرِدِ اللَّهُ به خَيْرًا يُفَقِّهْهُ في الدِّينِ، وإنَّما أنا قاسِمٌ ويُعْطِي اللَّهُ، ولَنْ يَزالَ أمْرُ هذِه الأُمَّةِ مُسْتَقِيمًا حتَّى تَقُومَ السَّاعَةُ، أوْ: حتَّى يَأْتِيَ أمْرُ اللَّهِ) رواه البخاري، وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إن العلماء ورثة الأنبياء، إن الأنبياء لم يورثوا ديناراً ولا درهما، وأورثوا العلم، فمن أخذه؛ أخذ بحظ وافر) رواه الترمذي.
ولقد اعتنى المسلمون بالاجتهاد في زمن الرسول صلى الله عليه وسلم، وزمن الصحابة والتابعين، إلى أن توسعت حدود البلاد الإسلامية، فلم تعد محصورة في المدينة المنورة، والجزيرة العربية، ودخل العديد من شعوب العالم في الإسلام، فبرز في الأمة الإسلامية الفقهاء الأربعة الذين أجمع عليهم علماء الأمة عبر العصور على أنهم مراجع في الفقه، وهم: الإمام أبو حنيفة، والإمام مالك بن أنس، والإمام الشافعي، والإمام أحمد بن حنبل رحمهم الله تعالى.
وكان هؤلاء العلماء يتعلمون من بعضهم، فالإمام الشافعي تتلمذ على الإمام مالك، وتتلمذ على محمد بن الحسن الشيباني صاحب الإمام أبي حنيفة، وتتلمذ الإمام أحمد على الإمام الشافعي، وكان بينهما علاقة محبة واحترام، لا كما يتوهم البعض من وجود صراع أو نزاع بينهما، ففي شيخه الشافعي قال الإمام أحمد رحمه الله: "كان الشافعي كالشمس للدنيا والعافية للبدن"، وقال فيه أيضاً: "كان الفقه قفلاً على أهله حتى فتحه الله تعالى بالشافعي"، وقال: "ما عرفنا ناسخ الحديث ومنسوخه حتى صحبنا محمد بن إدريس رضي الله تعالى عنه".
والمسلم إما أن يكون مجتهداً وإما أن يكون مقلداً، والمجتهد هو الذي توفرت فيه شروط وضوابط الاجتهاد بأن يكون عالماً بالقرآن الكريم، والسنة النبوية، واللغة العربية، وأوجه القياس، وغيرها، وغير المجتهد يكون مقلداً يجب عليه تقليد أحد الفقهاء المجتهدين، كما جاء ذلك في نصّ [متن جوهرة التوحيد] التي جمعت عقيدة أهل السنة والجماعة:
ومالك وسائر الأئمة كذا أبو القاسم هداة الأمة
فواجب تقليد حبر منهم كذا حكى القوم بلفظ يفهم
يقول الشيخ نوح القضاة رحمه الله تعالى في شرح هذه الأبيات: "لذا وجب على غير المجتهد أن يقلد أحد المذاهب الأربعة ويعمل بها في أمور العبادات وغيرها... فأهل الاستنباط هم المرجع بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم، بل في كل علم من العلوم يوجد متخصص متبحر وغير متخصص، فلا بد أن يرجع غير المتخصص إلى المتخصص فيما أشكل عليه" [المختصر المفيد في شرح جوهرة التوحيد/ ص153].
وعن عبد الله ابن مسعود رضي الله عنه أنه قال: "أيها الناس، مَن سُئل عن علم يعلَمه فليقل به، ومن لم يكن عنده علم فليقل: الله أعلم؛ فإن مِن العلم أن يقول لِما لا يعلم الله أعلم" رواه البخاري، وعن أبي حصين قال: "إن أحدَكم ليُفتي في المسألة، لو وردَتْ على عمر رضي الله عنه لجمَع لها أهل بدرٍ" [أدب الفتوى للنووي/ ص15].
وكان علماء الأمة يتورعون ويحرصون على عدم التسرع في الفتوى، لخوفهم من الله تعالى، فقد روى الإمام ابن المبارك رحمه الله في الزهد بسند صحيح عن عبد الرحمن بن أبي ليلي قال: "أدركتُ عشرين ومائة من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم -أراه قال: في هذا المسجد- فما كان منهم محدِّث إلا ودَّ أن أخاه كفاه الحديث، ولا مُفْتٍ إلا ودّ أن أخاه كفاه الفتيا". ورُوي عن الشافعي رحمه الله أنه سئل عن مسألة فسكَت، فقيل له: ألا تُجيب رحمك الله؟، فقال: حتى أدري الفضل في سكوتي أم في الجواب! [صفة الفتوى، أحمد بن حمدان/ ص10]، وكان الإمام أحمدُ بن حنبل رحمه الله على غزارة علمه يستفتى، فيُكثر مِن قول: لا أدري.
وقد انتشرت هذه المذاهب الإسلامية واعتمدت بشكل واسع في بلاد المسلمين، وما زالت مرجعاً للمسلمين إلى يومنا هذا، وعاملاً من عوامل عصمة ووحدة الأمة، ولطالما حذر العلماء من الخروج عنها، وقد كتب في ذلك العلامة محمد زاهد الكوثري [اللامذهبية قنطرة اللادينية]، والدكتور محمد سعيد البوطي كتابه [اللامذهبية أخطر بدعة تهدد الشريعة الإسلامية].
والعلماء في مختلف العلوم الشرعية كانوا يقلدون الإمام الشافعي في الفقه، فمن علماء أصول الفقه: الإمام الغزالي والبيضاوي والجويني والرازي والسبكي، ومن المحدثين: البيهقي وابن حجر العسقلاني والدارقطني وابن خزيمة والخطيب البغدادي، وابن حبان وأبو نعيم، ومن المؤرخين: الذهبي وابن كثير وابن عساكر وابن الأثير، ومن المفسرين: الماوردي والبغوي، ومن القراء ابن الجزري، ومن علماء اللغة: ابن مالك وابن عقيل وابن هشام، وغيرهم كثير.
فهذه المبادرة لها أثر كبير في ضبط المرجعية الفقهية في المجتمع، مما ينعكس هذا الأثر على وحدة الصف، وتآلف القلوب، ونشر الوعي والمحبة بين الناس، وضمان من الفوضى في الفتوى.