أضيف بتاريخ : 02-04-2015


رسم المصحف والكتابة بغير الخط العثماني(*)

الدكتور عبد العزيز عزت الخياط

المقدمة

نعني برسم المصحف الوضع الذي ارتضاه عثمان بن عفان رضي الله عنه في كتابة كلمات القرآن الكريم وحروفه وقد جاءت كتابة المصحف مخالفة لما هو متعارف عليه من الكتابة وهو الأصل فيها، وهو أن يكون المكتوب كالمنطوق بلا حذف ولا زيادة، ولا تغيير للحروف ولا تبديل، غير أن المصاحف العثمانية وجد فيها كثير من المخالفة في كتابة المصحف عن المعهود في كتابة اليوم، نظراً لتطور الخط العربي تطوراً هائلاً منذ العهد النبوي والخلفاء الراشدين حتى اليوم.

وكان ما فعله عثمان بن عفان رضي الله عنه من كتابة عدة نسخ من المصحف وتوزيعها على الأمصار عملاً جليلاً حفظ به كتاب الله من تداخل الخطوط واختلاف كتابة الألفاظ ومن إدخال بعض الشروح على القرآن مما ليس منه، وإنقاذ الأمة الإسلامية من الخلاف في القراءات وقد كادوا يكفر بعضهم بعضاً لذلك، فحمى القرآن وحفظه من الخلاف على قراءة آياته. وظلت كتابة مصحف عثمان ثابتة في المصاحف حتى اليوم.

وقارئ المصحف اليوم يجد صعوبة في معرفة الكلمات التي خالفت كتابتها ما تعلمه هو من الكتابة، فإذا مرت كلمة (الرحمن) احتار كيف يقرأها وهو لا يرى الألف مكتوبة بعد الميم، وإذا مرت معه كلمة (أولئك) تراه يبرز الواو مع أنها لا تنطق، وإذا مرت معه كلمة (مائة) اضطر لإبراز الألف والنطق بها مع أنها لا تُنْطَقُ. ومن هنا نجد الخطأ الذي يقع فيه كثير من المسلمين اليوم في النطق والإملاء، ونجد الصعوبة عندهم في قراءة القرآن إلا من تعلمه في صغره فتفادى الوقوع في خطأ القراءة. وقد عُني العلماء بمتابعة الكلمات التي خالفت ما نعرفه من قواعد الكتابة وتتبعوها وصنفوا الكتب في ذلك، وبينوا القواعد التي سار عليها عثمان رضي الله عنه في خط المصحف ورسمه، وحصروها في ست نقاط لا بدَّ من بيانها، حتى يعرف المسلم كيف يتفادى الخطأ في قراءة القرآن وهي:

الأولى: الحذف

تحذف الألف من:

أ- ياء النداء (يايها الناس) (يارض) (ياولي الألباب)، إلا في ثلاثة مواضع هي:

1- (يا أيها الساحر) الزخرف/ 49.

2- (يا أيها المؤمنون) سورة النور: الآية 9.

3- (أيها الثقلان) الرحمن/ 31.

ب– هاء التنبيه (هانتم) (هذا).

ج- من كلمة (نا) إذا أضمرها ضمير نحو (أنجينكم) أي أنجيناكم.

د- من لفظ الجلالة في كلمة (الله).

ﻫ- من لفظتي (الرحمن) و(سبحان) إلا في موضع واحد في سورة الأسراء قوله سبحانه وتعالى: (سبحان الذي أسرى بعبده).

و- بعد اللام مثل كلمة (خلئف) وأصلها خلائف، ومثل كلمة (ملئكة) وأصلها ملائكة، وبين اللامين مثل كلمات (كللة) كلالة (الضللة) الضلالة.

ز- من كل مثنى نحو رجلان فتكتب في المصحف هكذا (رجلن) و(امرأتن) و(يحكمن).

ح- من كل جمع صحيح لمذكر أو مؤنث مثل (سمّعون) و(مؤمنت).

ط- من كل جمع على وزن مفاعل مثل (مسجد) و(نصرى).

ي- من كل عدد نحو (ثلث).

وتحذف كذلك بعد العين مثل (تعلى الله)، وبعد الباء (تبرك) و(مبركاً)، وبعد الياء مثل (القيمة)، وبعد الطاء مثل (الشيطن) و(سلطن)، وبعد الحاء مثل (أصحب الجنة) وبعد الواو مثل (السموت) في جميع القرآن.

وتحذف بعد الراء في ثلاثة مواضع هي:

في سورة الرعد، آية 5 (أئذا كنا تـربا)، وفي سورة النمل آية 67 (أئذا كنا تربا) وفي سورة عمَّ: آية 40 (يا ليتني كنتُ تربا) وتثبت في ما عدا ذلك.

وتحذف الألف بعد الهمزة (إنا أنزلناه قرءناً عربياً) سورة يوسف آية 2.

وتحذف في لفظة (كتب) إلا في أربعة مواضع هي: في سورة الرعد آية 38 (لكل أجلٍ كتاب)، وفي سورة الحجر آية 4 (إلا ولها كتاب معلوم)، وفي سورة الكهف آية 27 (من كتاب ربك)، وفي سورة النمل آية 1 (تلك آيات القرآن وكتاب مبين).

وتحذف من جميع الأسماء الأعجمية المستعملة كثيراً: إبرهيم وإسمعيل وإسحق وهرون وعمرن ولقمن وغيرها. وما لم يكثر استعماله تثبت الألف فيه مثل طالوت وجالوت.

وتحذف في مواضع كثيرة غير ما ذُكر فلينتبه لها القارئ في أثناء القراءة، ومن شاء التوسع فليرجع إلى كتاب "المقنع" للإمام أبي عمرو الداني من ص 18 – 38.

وتحذف الياء في:

كل منقوصٍ منوَّن رفعاً وجراً نحو (غير باغٍ ولا عادٍ) في سورة البقرة، الآية 173.
هذه الكلمات (أ طيعونِ، اتقونِ، فأرسلونِ)، وأمثالها.
وتحذف في إحدى الياءين اختصاراً مثل (يستحي، النبين).

وتحذف الواو:

إذا وقعت مع واو أخرى مثل (لا يستون) و(فأوا إلى الكهف) وأصلها يستوون، فأووا.
مثل (يمحُ الله الباطل) و(سندعُ الزبانية) في سورتي الشورى /24 والعلق/ 18.
تحذف الواو التي هي في صورة الهمزة مثل (الرءيا) و(رءياك) و(تؤي) وأصلها رؤياك وتؤوي ورؤيا.

وتحذف اللام:

إذا كانت مدغمة في مثلها، نحو (الّيل) و(الّذي)([1]).

الثانية: الزيادة

الألف:

تزاد الألف بعد الواو في أخر كل اسم مجموع أوفي حكم المجموع نحو (ملاقوا ربهم) ونحو (بنوا إسرائيل) ونحو (أولوا الألباب) ونحو (الربوا) ونحو (إن امرؤا هلك).
تزاد الألف بعد الواو صورة للهمزة كما في سورة المائدة آية 29 (أني أريد أن تبؤا بإثمي وإثمك) وفي سورة القصص، آية 76 (لتنؤا بالعصبة أولي القوة) وفي سورة يوسف آية 85 (تا الله تفتؤا)([2]).
تزاد الألف بعد الميم مثل مائة ومائتين ولم تزد فئة ولا ينطق بها.
تزاد الألف في الكلمات التالية وشبهها كما في سورة يوسف آية 7 (ءايت للسائلين) وفي سورة الكهف آية 38 (لكنا هو الله ربي) وفي سورة الأحزاب آية 10 (وتظنون بالله الظنونا) وفي آية 66 (وأطعنا الرسولا) وفي آية 67 (فأضلون السبيلا) وفي سورة الدهر آية 4 (سلسلا) وفي آية 15 (وقواريرا من فضة)([3]).
ترسم النون الخفيفة ألفاً في موضعين: في سورة يوسف آية 32 (وليكوناً من الصاغرين) وفي سورة العلق آية 15 (لنسفعاً بالناصية).
ترسم نون (إذن) ألفاً (إذاً) ولم ترد في القرآن إلا كذلك([4]).
تزاد في مثل (لأاذبحنه) في سورة النمل آية 21.

اليـاء:

ا - كل ياء سقطت من الأصل لحرف ساكن لقيها في كلمة أخرى فهي ثابتة في الرسم ككلمة (يؤتي الحكمة) في سورة البقرة آية 269 فقد بقيت الياء في كلمة (يؤتي) حرف اللام الساكن في كلمة (الحكمة) فلم تلفظ وبقيت ثابتة. وفي سورة مريم آية 92 (إلا ءاتي الرحمن عبدا) وفي سورة النمـل آية 81 (وما أنـت بهادي العمي).

ب - تزاد في أحد عشر موضعاً:

1 - في سورة آل عمران آية 144 (أفإين مات).

2 – في سورة الأنعام آية 34 (ولقد جاءك من نبإي المرسلين).

3 – في سورة يونس آية 15 (من تلقاءِي نفسي).
4 – في سورة النحل آية 90 (وإيتاءِي ذي القربى).
5 – وفي سورة طه آية 130 (ومن ءاناءِي الليل).
6 - وفي سورة الأنبياء آية 34 (أفإين مِتَّ).
7 - وفي سورة الشورى آية 51 (أو من وراءِي حجاب).
8 - وفي سورة الذاريات آية 47 (والسماء بنيناها بأيْيد).

9- وفي سورة الروم آية آية 8 (بلقاءي ربهم) وآية 16 (وكذبوا بآياتنا ولقاءي ربهم).

10- وفي سورة الأعراف آية 103 (إلى فرعون وملإيه).

11- وفي سورة آية 7 (بأييكم المفتون).

الواو:

تزاد الواو

ا - في نحو (أولئك) و(أولاء).

ب- في قوله سبحانه وتعالى في سورة الأعراف آية 145 (سأوريكم دار الفاسقين).

الثالثة: الهمز

أ- القاعدة أن (الهمزة إذا كانت متطرفة تكتب بحرف حركة ما قبلها مثل (نبأ)، ووردت استثناءات مثل (نبؤا) في سورة إبراهيم لآية 9 (ألم يأتكم نبؤا الذين من قبلكم) وفي سورة ص آية 67 (قل هو نبؤا عظيم) وفي سورة النحل آية 48 (يتفيؤا ظلاله)، وفي سورة النور آية 8 (ويدرؤا عنها) وفي سورة طه آية 119 (وأنك لا تظمؤا) وفي سورة الفرقان آية 77 (قل ما يعبؤا بكم) وفي سورة يونس آية 4 (يبدؤا الخلق) وفي سورة المؤمنون آية 24 (فقال الملؤا).

ب - والقاعدة أيضاً (إذا سكنت الهمزة تكتب بحركة حرف ما قبلها كما في سورة التوبة آية49 (إ ئذن لي).

ج - والقاعدة كذلك أن الهمزة (إذا كانت مسبوقة بحرف ساكن تكتب بدون حرف (أي لوحده) مثل (ملء) و(جزاء) إلا إذا وردت في القرآن مع الواو مثل (علماؤا) و(شركاؤا) و(جزاؤا) وما عدا ذلك فالهمزة على القاعدة.

الرابعة: البدل

وخلاصة ذلك:

تكتب الألف واواً إذا للتفخيم مثل (الصلوة) و(الزكوة) و(الربوا) و(الغدوة) و(كمشكوة) و(النجوة) و(الحيوة) بدل ألصلاة والزكاة والغداة والمشكاة والنجاة والحياة.
تكتب الألف ياءً إذا كانت منقلبة عن ياء مثل (ياحسرتي) و(يا أسفي) و(يا ويلتي).
ترسم ألف هذه الكلمات على صورة الياء (إلى، على، بلى، حتى، عسى) إلا (لدى) فقد وردت بالألف في سورة يوسف آية 25 (فالفيا سيدها لدا الباب).
ترسم (هاء التأنيث) تاءً مفتوحة في سبعة مواضع للفظ الرحمة في سورة مريم آية 2 (ذكر رحمت ربك) وفي الأعراف والبقرة وهود والروم والزخرف. وللفظ (النعمة) في أحد عشر موضعاً في البقرة وآل عمران والمائدة وإبراهيم والنحل ولقمان وفاطر والطور([5]).
كذلك وردت الألفاظ (السنة والمرأة واللغة والمعصية والشجرة والجنة والآية وغيابة وجِمالة ومرضاة وفطرة وابنة وبقية) بالتاء المفتوحة مع أنها هاء في الأصل، في مواضع متعددة في القرآن الكريم.

الخامسة: الفصل والوصل

ا– توصل كلمة (إن، أن) مع (لا) إذا وقعت (لا) بعدها (إلاّ) (ألاّ). ويستثنى من ذلك عشرة مواضع من القرآن مثل (أن لا تعبدوا) سورة هود آية 26، سورة يس آية 60.

ب- كلمة (مِن) توصل بكلمة (مَن) مطلقاً. كلمة (عن) توصل بكلمة (ما). إلا قوله سبحانه (عن ما نهوا عنه) سورة الأعراف آية 166.

ج- كلمة (إن) توصل بكلمة (ما) مثل (فإما ترين) سورة مريم آية 26. إلا قوله (وإن ما نرينك) سورة الرعد آية 40.

ﻫ- كلمة (أن) توصل مع كلمة (ما) مثل (فأما من آمن) إلا في موضعين قوله سبحانه وتعالى في سورة الحج آية 62 (وأنَّ ما يدعون من دونه) وفي سورة لقمان آية30.

و- كلمة (كل) توصل بِ (ما) التي بعدها، إلا في سورتي النساء وإبراهيم في قوله سبحانه وتعالى: (كل ما ردوا إلى الفتنة) (كل ما سألتموه).

كلمة (كي) توصل مع (لا) في سورة آل عمران آية 153 (لكيلا تحزنوا على ما فاتكم) وفي سورة الحج آيـة 5 (لكيلا يعلم من بعد علم شيئا) وفي سورة الحديد آية 23 (لكيلا تأسوا على ما فاتكم) وفي سورة الأحزاب آية 37 (لكيلا يكون عليك حرج) وما عدا ذلك تنفصل كي عن لا كقوله سبحانه وتعالى (كي لا يكون دولة بين الأغنياء منكم) في سورة الحشر آية 7.

ح - هناك كلمات وردت موصولة مثل (يبنؤم) (نعما) (كأنما) (ويكأن) (بئسما) وغيرها.

ط - تفصل الكلمات بعضها عن بعض مثل فصل (لام الجر) عما بعدها نحو (فمال هؤلاء القوم لا يكادون يفقهون حديثا) ونحو (مال هذا الكتاب لا يغادر صغيرة ولا كبيرة إلا أحصاها) في سورة الكهف آية 49، ونحو (ما ل هذا الرسول يأكل الطعام) في سورة الفرقان آية 7، ونحو (فمال الذين كفروا قبلك مهطعين) في سورة المعارج آية 36 ونحو (ولات حين مناص) في سورة ص آية 3، ونحو (سلام على إل ياسين) في سورة الصافات آية 130.

مزايا الرسم العثماني

وللكتابة بالشكل الذي ذكرناه سابقاً فوائد جمة، ومزايا عظيمة، من أهمها:

1- أن هذ الرسم بما سبق يدل على القراءات المختلفة التي كان عليها أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم وتناقلها القراء عنهم.

2– يفيد الرسم العثماني الدلالة على المعاني بطرق مختلفة فكلمة (أم) حين تكتب منفصلة عن (من) في قوله سبحانه وتعالى (أم من يكون عليه وكيلاً)([6]) يدل على أنها أم المنقطعة، أي لا يفارقها الإضراب عما سبق، وتجاب بِ (نعم) أو بِ (لا). وكلمة أم المدغمة مع مَن في قوله سبحانه وتعالى: (أفمن يمشي مكباً على وجهه أهدى أمَّن يمشي سوياً على صراط مستقيم) في سورة الملك آية 22 دل على أم متصلة، أي تستحق الجواب بالتعيين لا بنعم ولا بلا ففي الآية السابقة يكون الجواب الذي يمشي على صراط مستقيم أهدى.

3 – تفيد كلمات أخرى معاني أخرى كزيادة (الياء) في قوله سبحانه وتعالى: (والسماء بنيناها بأييد وإنا لموسعون) في سورة الذاريات آية 17 للدلالة على تعظيم قوة الله سبحانه. وحذف الواو في قوله سبحانه وتعالى (سندعُ الزبانية) في سورة العلق آية 18، أو (يمحُ الله الباطل) في سورة الشورى آية 1 4،أو آية (يوم يدعُ الداع) في سورة القمر آية 6 وأمثال هذه الآيات مما يدل على سرعة وقوع العمل.

4 – قد يفيد إثبات الواو في مثل (سأوريكم) في سورتي الأعراف والأنبياء الإشارة إلى أصل الحركة.

5 - كما يدل الرسم العثماني على اختلاف لهجات العرب ويدعو إلى التثبت من ألفاظ القرآن.

6 - وهو يفيد الاتصال بالسند إلى أصحاب النبي عليه الصلاة والسلام مما يدل على صحة القراءات.

7 - كما يفيد أن القرآن لم ينقطع اتصال المسلمين به عن نبيهم وصحابته كما حصل لليهود والنصارى([7]).

8 - يربط حلقة مهمة من حلقات التطور الكتابي للخط العربي وصلة الخط العربي بالخط الآرامي والخطوط السامية الأخرى([8]).

هل رسم القرآن توقيفي

نعني بالتوقيفي: ما لا يصح فيه التغيير ولا التبديل، بل هو تنـزيل من التنـزيل كألفاظ القرآن الكريم سواء بسواء.

وقد اختلف العلماء في ذلك على أقوال ثلاثة:

أولها:

أنه توقيفي لا تجوز مخالفته، ويستشهد القائلون به لرأيهم بما يلي:

كان كتاب الوحي يكتبون لرسول الله صلى الله عليه وسلم آيات القرآن وأقرهم على كتابتهم، وسائر الصحابة على هذه الكتابة.
قول النبي عليه السلام لأحد كتابه معاوية بن أبي سفيان: "ألق الدواة، وحرف القلم، وانصب الياء، وفرق السين، ولا تعوِّر الميم، وحسِّن (الله)، ومدَّ الرحمن، وجوِّد الرحيم، وضع قلمك على أذنك اليسرى فإنه أذكر لك".
استمرار خليفة رسول الله أبي بكر الصديق رضي الله عنه على هذه الكِتبة، وفي رواية ضعيفة أن أبا بكر أو عمر كتب المصحف على الكتبة الآولى، وأن عثمان رضي الله كتب الكتبة الثانية واستنسخ المصاحف على تلك الكتِبة، وأقر الصحابة عثمان عليها فكان ذلك إجماعاً، فدل على أنه توقيفي.
 روى أبو عمرو الداني([9]) بإسناده عن مصعب ابن سعد قال: "أدركت الناس حين شقق عثمان رضي الله عنه المصاحف فأعجبهم ذلك أو قال "لم يَعِب ذلك أحد".

ويروي شارح العقيلة عن أنس بن مالك رضي الله عنه أن عثمان أرسل إلى كل جند من أجناد المسلمين مصحفاً، وأمرهم أن يحرقوا كل مصحف يخالف الذي أُرسل إليهم([10]).

وقد سئل مالك رحمه الله "هل يكتب المصحف على ما أحدثه الناس من الهجاء؟ فقال" لا إلا على الكتبة الآولى"([11]). وقال القاضي "أجمع المسلمون على أن من نقص حرفاً، أو بدَّله بحرف آخر مكانه، أو زاد فيه حرفاً مما لم يشتمل عليه المصحف العثماني وأُجمع على أنه ليس من القرآن عامداً لكل هذا؛ أنه (كافر) ([12]).

وقال الإمام أحمد بن حنبل: "تحرم مخالفة خط مصحف عثمان في واو، أو ياء أو ألف أو غير ذلك([13]). وذكر الشافعية والأحناف أنه لا تجوز كتابة المصحف بغير الرسم العثماني.

وثانيها:

أنه يجوز كتابة المصحف بغير الرسم العثماني، لأن الرسم العثماني ليس توقيفيا، بل هو من اصطلاح الصحابة ارتضاه عثمان بن عفان الخليفة الراشد الثالث. وممن جنح لهذا الرأي ابن خلدون في مقدمته، وأبو بكر الباقلاني في كتاب "الانتصار"، يقول ابن خلدون في فصل "أن الخط والكتابة من عداد الصنائع البشرية"([14]).

"وكانت كتابة العرب بدوية، فكان الخط العربي لأول الإسلام غير بالغ إلى الغاية من الإحكام والإتقان والإجادة، ولا إلى التوسط لمكان العرب من البداوة والتوحش وبُعدهم عن الصنائع، وانظر ما وقع لأجل ذلك في رسمهم المصحف، حيث رسمه الصحابة بخطوطهم وكانت غير مستحكمة في الإجادة، فخالف الكثير من رسومهم ما اقتضته رسوم صناعة الخط عند أهلها، ثم اقتفى التابعون من السلف رسمهم فيه تبركاً بما رسمه أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم وخير الخلق من بعده، المتلقون لوحيه من كتاب الله، كما يقتفي لهذا العهد خط ولي أو عالم تبركاً ويتبع رسمه خطأً أو صواباً". ويدفع بعد ذلك ما يقولونه عن الأسرار في كون الخط العثماني توقيفا بأنه من التحكم المحض، وما حملهم على ذلك إلا تنزيه الصحابة من توهم النقص في قلة إجادة الخط".

ويقول أبو بكر في الانتصار: "وأما الكتابة فلم يفرض الله على الأمة فيها شيئاً إذ لم يأخذ على كتّاب القرآن وخطاط المصاحف رسماً بعينه دون غيره أوجبه عليهم وترك ما عداه، إذ وجوب ذلك لا يدرك إلا بالسمع أو التوقيف وليس في نصوص الكتاب ولا مفهومه أن رسم القرآن وضبطه لا يجوز إلا على وجه مخصوص وحد محدود لا يجوز تجاوزه، ولا في إجماع الأمة ما يوجب ذلك. وقد دلت عليه القياسات الشرعية بل السنة دلت على جواز رسمه بأي وجه سهل لأن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يأمر برسمه ولم يبين لهم وجهاً معيناً ولا نهى أحداً على كتابته… وبالجملة فكل من ادعى أن يجب على الناس رسم مخصوص وجب عليه أن يقيم الحجة على دعواه، وأنى له ذلك".

ومما يدل لهذا الرأي أيضاً ما أورده أبو عمرو الداني من حديثه بإسناده إلى الشعبي قال: سألنا المهاجرين من أين تعلمتم الكتابة ؟ فقالوا "من أهل الحيرة، وقالوا لأهل الحيرة: من أين تعلمتم الكتابة ؟ قالوا: من الأنبار([15]).

كما يدل لهذا اختلاف زيد بن ثابت ومن معه في كلمة "التابوت" أيكتبونها بالتاء أم الهاء؟ فرفعوا الأمر إلى عثمان رضي الله عنه، فأمرهم أن يكتبوها بالتاء. فلو كان الرسم توفيقاً بإملاء النبي عليه الصلاة والسلام كما ظنه لقال لهم زيد: "إن النبي أمرني بكتابتها بالتاء، ولقال عثمان لزيد كاتب الوحي" أكتبها بالكيفية التي أملاك بها رسول الله صلى الله عليه وسلم.

وثالثها:

أنه يجوز كتابة المصحف الآن لعامة الناس باصطلاح الكتابة الشائعة اليوم مع بقاء الرسم العثماني هو المرجع حتى لا يقع الجهال في تغيير الرسم، ويبقى الرسم العثماني أثراً نفيساً عن السلف الصالح. وأشهر القائلين بهذا الرأي هم: عز الدين بن عبد السلام ونص عبارته كما رواها صاحب التبيان "لا تجوز كتابة المصحف الآن على الرسم الأول باصطلاح الأئمة لئلا يوقع في تغيير من الجهال"([16])، وعقب الزركشي على العز بن عبد السلام بقوله: ولكن لا ينبغي إجراء هذا على إطلاقه لئلا يؤدي إلى دروس العلم، وشيء قد أحكمته العلماء لا يترك مراعاة للجهال، ولن تخلو من قائم بحجة"([17]).

هذه هي الآراء الثلاثة في رسم المصحف، ويبدو أن الرأي الثالث هو أوجه هذه الآراء وأقواها، وأرجحه للأسباب التالية:

1- الحديث الذي روي أنه قال لمعاوية رضي الله عنه ليس في كتابة القرآن، إذ من المعروف أن معاوية ليس من كتبة الوحي، ولم يُعرف أنه كتب آية من القرآن لرسول الله صلى الله عليه وسلم، إنما هو من كتبة الرسائل، هذا من وجه، ومن وجه آخر فإن هذا الحديث يضعف دراية، لأنه يناقض كون النبي أمياً لا يقرأ ولا يكتب كما قال سبحانه وتعالى:(وما كنت تتلو من قبله من كتاب ولا تخطه بيمينك إذاً لارتاب المبطلون) فكيف إذن يعلم معاوية قواعد الخط والإملاء.

2- لو كان الرسم توقيفياً لما اختلف الرسم في المصاحف التي أرسلها عثمان رضي الله عنه إلى الأمصار([18]).

3 - الصحابة رضوان الله عليهم لا يزيدون حرفاً ولا ينقصون وهم قد كتبوا الألفاظ المسموعة بالكتابة المعروفة في ذلك العهد، وهذه الكتابة ليست توقيفية، إنما هي حسب المعروف كما حصل للتنقيط فيما بعدُ فهو اصطلاح للدلالة على شكل الحرف وكما حصل لعلامات الرفع والنصب والجر فهي اصطلاح للتابعين للدلالة على الملفوظ المسموع.

4 - رسم المصحف لم ينقل تواتراً وإنما نُقل آحاداً، ولهذا اختلف الصحابة في كتابة بعض كلماته، وما نُقل آحاداً لا يكون توقيفياً.

5 – يقول ابن كثير: "إن الكتابة في ذلك الزمان لم تُحكم جيداً ولذلك وقع في كتابة المصحف اختلاف في وضع الكلمات من حيث صناعة الكتابة لا من حيث المعنى"([19]).

ويدل على هذا ضعف الخط في ذلك الوقت فلا يستبعد أن ما نجده من اختلاف راجع لضعف الكتاب في صناعة الخط وبالتالي يفهم من هذا أن رسم المصحف ليس توقيفياً.

ولهذا أرى أن لا مانع من كتابة المصحف بالخط المعروف اليوم لتعليم الطلبة المبتدئين مع خط المصحف بالرسم العثماني حتى يسهل عليهم قراءته وفهمه. وأن يُحتفظ بالرسم العثماني في التعليم الثانوي والجامعي والمعاهد العالية والعلماء والقارئين، وأن يكون ذلك في مناهج التربية الإسلامية.

وحبذا لو طبعت أجزاء القرآن بالخط العثماني ومقابله الخط المعروف اليوم مفردة كل جزء على حدة, وأن يطبع المصحف كله بهذه الكيفية كالمصاحف التي تطبع ومعها ترجمة الآيات إلى لغة غير عربية مقابل كتابة القرآن في الصفحة المقابلة بالخط العثماني. ونكون بذلك قد سهلنا على الدارسين فهم القرآن من الخط المعروف اليوم مع المحافظة على القراءة بالخط العثماني النفيس.

والله سبحانه وتعالى أعلم وهو الهدي إلى سواء السبيل.

(*)منشور في المجلة الأردنية في الدراسات الإسلامية، المجلد الثاني، العدد (2)، 1427 ه‍/2006م

-------------

([1]) مناهل العرفان / 363.

([2]) مناهل العرفان / 363.

([3]) المقنع / 43.

([4]) المقنع / 44

([5]) مناهل العرفان / 364، المقتع / 54، 55، 65

([6]) سورة النساء 109.

([7]) مناهل العرفان / 366.

([8]) القراءات واللهجات، عبد الوهاب حموده /2-6..

([9]) المقنع / 8.

([10]) مناهل العرفان /371.

([11]) المقنع / 9.

([12]) الشفا للقاضي عياض.

([13]) البرهان للزركشي 1 / 379. الإتقان للسيوطي 4 / 146.

([14]) مقدمة ابن خلدون / 248.

([15]) المقنع / 9.

([16]) البرهان للزركشي 1 /379.

([17]) البرهان للزركشي 1/ 379، والعسقلاني 1/ 279.

([18]) القراءة واللهجات/ 100، وكتاب تاريخ القرآن لمحمد طاهر الكردي/101 طبع جدة، ومباحث في علوم القرآن للدكتور صبحي الصالح/ 375 طبع دار العلم للملايين بيروت سنة 1964م.

([19]) ملحق بالجزء الرابع لتفسير ابن كثير/ 15. رسم المصحف لغانم قدري الجد/ 303 طبع بغداد 1983، وكتاب حكمة الإشراق للمرتضى الحسيني الزبيدي/ 67.