أضيف بتاريخ : 05-12-2018


القرينة الحالية وأثرها في تبيُّن علَّة الحكم الشرعي- دراســــة أصوليـــــة (*)

الدكتور عبد الرحمن الكيلاني/ كلية الشريعة، جامعة مؤتة

ملخص

يتناول هذا البحث دراسة موضوع القرينة الحالية وأثرها في تبين علّة الحكم الشرعي، وقد جعله الباحث في مبحثين، عرض في المبحث الأول منه، تعريف القرينة الحالية، وأركانها، و وظيفتها، ومعاييرها، وطرق الوقوف عليها، وانتهى إلى أن القرينة الحالية هي دليل غير لفظي يقترن بالنص فيؤثر في دلالته، أو ثبوته، أو إحكامه، أو ترجيحه، وأن المعايير التي يحتكم إليها للوقوف على القرينة الحالية هي النظر إلى الأحوال والملابسات التي احتفت بالمتكلم الذي صدر عنه الخطاب، أو المخاطب الذي توجه إليه الخطاب، أو البيئة والظروف التي احتفت بالخطاب نفسه، أو النظر إلى هذه الأمور مجتمعة، وأنه لا سبيل إلى معرفة هذه الملابسات والأحوال التي اقترنت بنصوص الكتاب والسنة لمن لم يشاهدها ويعاينها إلا بطريقين، الأول: ما نقله الصحابة الكرام رضوان الله عنهم لكونهم قد شاهدوا وعاصروا الأحوال التي اكتنفت الخطاب الشرعي، والثاني: جمع الروايات المختلفة في الموضوع الواحد، التي تفيد بمجموعها التنبيه إلى الأحوال والملابسات التي احتفت بالخطاب الشرعي.

أما المبحث الثاني فعرض فيه الباحث تأثير القرينة الحالية في تبيُّن علَّة الحكم الشرعي التي يدور معها الحكم وجوداً وعدماً، وأبرز فيه الدور الحيوي الذي تضطلع به القرينة الحالية في الكشف عن مناط الحكم الشرعي، وعزّز هذا كله بإيراده لبعض النصوص الشرعية التي من شأن الوقوف على القرينة الحالية فيها، فهم النص الشرعي فهماً سليماً موافقاً لمقصود الشارع ومراده من أصل إنشاء الخطاب.

مقدمة

الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على النبي الكريم وعلى آله وأصحابه أجمعين، وبعد:

فإن الناظر في العطاء الأصولي الذي تركه لنا علماء الأمة، يجد الجهد الكبير الذي بذلوه - جزاهم الله خير الجزاء - في سبيل صياغة الأصول والقواعد التي تعين على استنباط الأحكام الشرعية من أدلتها التفصيلية، وتمكِّن الفقيه من الوقوف على مقصود الشارع ومراده من خطابه ونصوصه وألفاظه.

وتوجهت هذه الأصول والقواعد نحو رسم المعالم، ووضع المناهج التي ينبغي على الفقيه أن يترسمها أثناء نظره في نصوص الشريعة، حتى يتمكن من فهمها على وفق مقصود الشارع منها.

ولقد تتابع العلماء على تجلية هذه الأصول والقواعد من خلال المباحث والموضوعات الأصولية المختلفة، كمباحث الأدلة الشرعية الأصلية والتبعية، والقواعد التي يتوقف عليها استنباط الأحكام من الأدلة، ومباحث الحكم الشرعي ومحله وأقسامه، ومباحث التعارض والترجيح والنسخ، وغيرها كثير من المباحث الأصولية التي تهدف في نهايتها إلى العلم بالقواعد التي يتوصل بها إلى الفقه.

وإن من الموضوعات الأصولية التي عني بها الأصوليون موضوع القرينة بوصفه واحداً من أهم الأدوات التي يستعين بها المجتهد لفهم الألفاظ والوقوف على مقصود صاحبها منها، حيث يجد الباحث في أمهات الكتب الأصولية الإشارة إلى أهمية الوقوف على القرائن المحيطة بالخطاب وضرورة إدراك الملابسات المكتنفة للنص من أجل حسن فهمه وتعقل معناه وإدراك حقيقة المقصود منه حتى قيل: "القرائن أصدق الأدلة".

الجهود السابقة:

ونظرا لأهمية موضوع القرائن في تفسير النصوص وبيان معناها، فقد اهتم الباحثون المعاصرون في التأصيل لموضوع القرينة وبيان أهميتها وقد وقفت في هذا الموضوع على الدراسات الآتية:

1- كتاب (اللغة العربية معناها ومبناها) للدكتور تمام حسان تناول فيه معنى القرينة عند النحويين، وعمل على استقراء أنواع القرائن الكاشفة عن المعنى، وقسّمها إلى نوعين: قرائن معنوية، وقرائن لفظية.

2- الدراسة القيمة التي قدَّمها الزميل الدكتور أيمن صالح بعنوان (القرائن المحتـفّة بالنص وأثرها في دلالته) للحصول على درجة الدكتوراة من الجامعة الأردنية، و تضمنت هذه الدراسة ثلاثة فصول، بحث في الفصل الأول النص والغاية من تلقيه، وفي الفصل الثاني: القرينة من حيث تعريفها وأركانها وشروطها وأنواعها وتقسيماتها، وفي الفصل الثالث: الأدوات اللازمة لتدبر النص.

3- البحث المشترك للزميلين الدكتور محمد يونس علي والدكتور بن عيسى بطاهر بعنوان: "القرينة وعلاقتها بالمعنى المراد" وتوجه هذا البحث لإبراز أمرين الأول محاولة صياغة تعريف اصطلاحي واضح للقرينة، والثاني بيان أنواع القرائن ووظائفها في عملية التخاطب، وعلاقتها المباشرة بتحديد المراد.

وقد وجدت بعد البحث والدراسة، أن من مفردات موضوع القرينة التي يمكن أن تضاف إلى جهود السابقين تجلية وتبيينا، وإلى دراسات المعاصرين تكميلاً وتتميماً القرينة الحالية وأثرها في تبين علة الحكم الشرعي وهو واحد من فروع تأثيرات القرينة في تفسير النص ودلالته، حيث تبين لي أن للقرينة تأثيرا كبيرا في الكشف عن علة الحكم الشرعي التي يدور معها الحكم وجوداً وعدماً، وأن المتلقي للنص قد لا يفهم من منطوقه العلَة التي أرادها الشارع، إلا إذا اقترن بمنطوق النص الوعيُ والإحاطة بالظروف والملابسات والأحوال التي أحاطت بالخطاب واكتنفته.

وعلى الرغم من عدم إفراد العلماء لهذا الموضوع بمبحث خاص فإنني قد وجدت له شواهد وإشارات وتطبيقات في مواطن شتى، تصلح أن تكون نواة لموضوع هذا البحث.

وقد جعلت خطتي في البحث على النحو الآتي:

المبحث الأول: تعريف القرينة الحالية ومعاييرها وطريق الوقوف عليها.

المطلب الأول: تعريف القرينة لغة واصطلاحاً.

المطلب الثاني: تعريف القرينة الحالية.

المطلب الثالث: معايير القرينة الحالية.

المطلب الرابع: طريق الوقوف على القرينة الحالية.

المبحث الثاني: أثر القرينة الحالية في تبين علة الحكم الشرعي.

المطلب الأول: علاقة القرينة الحالية بمسالك العلة.

المطلب الثاني: تطبيقات عملية على أثر القرينة الحالية في تبين علة الحكم الشرعي.

والله أسأل أن يوفقني فيما أنا بصدد بحثه ودراسته إنه نعم المولى ونعم النصير.

المبحــث الأول

تعــــريف القرينــة الحاليـــة ومعـــــاييرها وطريـــق الوقــــوف عليــــها

المطلب الأول: تعريف القرينة لغة واصطلاحا.

أولاً: القرينة لغةً.

القرينة لغة: مؤنث القرين على وزن فعيلة بمعنى مفعولة، مشتقة من أصل مادة الفعل قرن، الذي يدل على الجمع والمصاحبة([1])، يقال قرن الشيء بالشيء قرنا أي جمع، وقارنه مقارنة وقراناً أي صاحبه واقترن به، ومنه سمي الصاحب قرينا كما في قوله تعالى: (وَمَن يَعْشُ عَن ذِكْرِ الرَّحْمَنِ نُقَيِّضْ لَهُ شَيْطَاناً فَهُوَ لَهُ قَرِينٌ)[36: الزخرف]، وسميت زوجة الرجل قرينة لأنها تصاحبه.

ثانيا: القرينة اصطلاحاً.

إن الدارس لمصطلح القرينة في عبارات الفقهاء والأصوليين يجد أن جلّ عباراتهم كانت تتوجه نحو تعريف القرينة بأثرها من خلال بيان أهميتها ووظيفتها وضرورتها، دون الخوض في تعريفها بماهيتها ووضع حد جامع مانع لها، ومن هذا مثلاً:

قول الشيرازي: "إنها ما يُبين معنى اللفظ ويفسِّره"([2]).

وقول الرازي: "هي أن يذكر المتكلم عقيب الكلام ما يدل على أن المراد من الكلام الأول غير ما أشعر به ظاهره"([3]).

وقول القرافي: "هي الأمارة المرشدة للسامع أن المتكلم

أراد المجاز"([4]).

وقول الجرجاني: "أمر يشير إلى المطلوب"([5]).

وقول التهانوي: "ما نصب للدلالة على المراد"([6]).

وظاهرٌ من هذه العبارات جميعها أنها وصفت القرينة، وأشارت إلى أهميتها، وأرشدت إلى وظيفتها، دون أن تحدد حقيقتها وتكشف عن تعريفها الجامع المانع.

ولعلّ السبب في نأي العلماء السابقين عن الخوض في صياغة تعريف محدد للقرينة يعود إلى تعويلهم على الصور والتطبيقات التي أوردوها أمثلة على القرينة، ورأوا فيها كفاية في توضيح معناها العام دون الخوض في حدِّها الجامع المانع.

ونظرا لخلوِّ عبارات السابقين من تعريف جامع للقرينة وسعياً لتكميل الجهود التي قدموها في هذا المضمار، فقد اعتنى بعض الباحثين المعاصرين في صياغة تعريف للقرينة يظهر حقيقتها، ويستوعب جميع عناصرها التي تتميز وتختص بها.

وقد وقفت للمعاصرين على تعريفين للقرينة:

الأول: لمحمد يونس وبن عيسى بطاهر بقولهما: "دليل غير مستقل، مقترن باللفظ، ينصََب لبيان المراد من النص"([7]).

والثاني لأيمن صالح بقوله: "دليل يقترن بالنص، فيؤثر في دلالته، أو ثبوته أو إحكامه، أو ترجيحه"([8]).

وبالتأمل والتدقيق في كلا التعريفين، ومقارنتهما ببعضهما نجد أن بينهما اختلافاً جوهريا في جانبين: أولهما: أن التعريف الأول جعل القرينة خاصة بالأدلة غير المستقلة وهي الأدلة التي لا تدل على معنى بنفسها: كالشرط، والصفة، والغاية، وغيرها من الأدلة التي لا تستغني عن غيرها للدلالة على المعنى،.بينما اعتبر التعريف الثاني كلَّ دليل يقترن بالنص ويؤثر فيه دلالةً أو ثبوتاً أو إحكاماً، هو من قبيل القرينة مستقلاً كان، أو غير مستقل.

ثانيهما: أن التعريف الأول قد حصر وظيفة القرينة وتأثيرها ببيان المراد من النص، بينما استوعب التعريف الثاني جميع تأثيرات القرينة على النص من حيث الدلالة، والثبوت، والإحكام.

وبخصوص الفرق الأول أرى أن في حصر القرينة في الأدلة غير المستقلة إخراجا ً لبعض أفرادها منها؛ إذ إننا لو رجعنا إلى مصطلح القرينة في استعمال العلماء لوجدناه شاملاً لكل دليل يقترن بالنص مستقلاً كان أو غير مستقل؛ ومن هذا مثلاً ما ذكره الرازي في معرض بيانه للحالات التي تنقل القرينة فيها اللفظ العام من الحقيقة إلى المجاز حيث قال: "إن القرينة المخصِّصة إن استقلت بنفسها صارت مجازاً، وإلا فلا، وتقريره: أن القرينة المخصصة المستقلة ضربان: عقلية، ولفظية. أما العقلية فكالدلالة الدالة على أن غير القادر غير مراد بالخطاب بالعبادات.

وأما اللفظية فيجوز أن يقول المتكلم بالعام: أردت به البعض الفلاني وفي هذين القسمين يكون العموم مجازاً"([9]) ومثّل للقرينة غير المستقلة بقوله: "وأما إن كانت القرينة لا تستقل بنفسها نحو الاستثناء والشرط والتقييد بالصفة – كقول القائل: "جاءني بنو أسد الطوال، فههنا لا يصير مجازاً"([10]).

وهذا نصُّ على أن القرينة قد تكون مستقلة في الدلالة على المعنى، وقد تكون غير مستقلة في الدلالة على المعنى.

ومن هذا أيضا، قول أبي الحسين البصري في تعريف القرينة السمعية: "هي بيان نسخ، أو بيان تخصيص، أو غيرهما من وجوه المجاز"([11])، وبيان التخصيص-كما هو معلوم- قد يكون بالأدلة المستقلة وقد يكون بالأدلة غير المستقلة.

ومما يرجح شمول القرينة لكل دليل مقارن للنص مستقلاً كان أو غير مستقل، ما نقله ابن برهان عن أبي الحسين البصري أنه لا يجوز نسخ الحكم إلا إذا اقترن به ما يدل على النسخ في الجملة وذكر مثالاً على هذا قوله تعالى: (قَدْ نَرَى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّمَاء فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةً تَرْضَاهَا) [144: البقرة] قال: فهذه قرينة أن الله تعالى سينسخ القبلة من بيت المقدس"([12]).

ومن المعلوم أن قوله تعالى: (قَدْ نَرَى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّمَاء) دليل مستقل يدل على المعنى بنفسه أصالة، ولا يحتاج إلى غيره لإفادة معناه التام.

وبخصوص الفرق الثاني بين التعريفين فإن المتأمل في عبارات الأصوليين يجد أن وظيفة القرينة لا تنحصر في كونها دليلاً ينصب لبيان المراد من النص- وإن كان هذا هو أهم وظائفها وآثارها -ولكنها تتعداه لتكون مؤثرة على دلالته، أو ثبوته، أو إحكامه، أو ترجيح أحد النصين على الآخر وفق ما سأبينه لاحقاً.

ومن ثَمّ فإنني أرجح التعريف الثاني بعد تعديل طفيف عليه وهو إبدال كلمة يقترن بـ"يصاحب" لأن التعريفات ينبغي أن تصان عن ذكر المعرّف أو مشتقاته، ليكون التعريف المختار للقرينة هو: دليل يصاحب النص فيؤثر في دلالته، أو ثبوته أو إحكامه أو ترجيحه([13]).

تحليل التعريف:

من خلال النظر في التعريف السابق نجد أن القرينة تتميز بثلاث خصائص هي:

الدلالة-المصاحبة (الاقتران) – التأثير.

أولا: الدلالة:

إن القرينة دليل من الأدلة يتحقق فيها ما يتحقق في كل دليل من حيث إنه يلزم من العلم بها العلم بشيء آخر، أو يتوصل بصحيح النظر فيها إلى مطلوب. وهذا ما عبر عنه التهانوي بقوله: "القرائن أصدق الأدلة"([14]).

وإن من نتائج اعتبار القرينة دليلاً، أنه يجري عليها ما يجري على سائر الأدلة من التقسيم، فكما أن الأدلة تنقسم إلى مقالية وعقلية وحالية، فكذلك الأمر بالنسبة للقرينة، قد تكون القرينة مقالية، وقد تكون عقلية، وقد تكون حالية. وسيأتي توضيح هذه الأقسام لاحقا.

ثانيا: المصاحبة أو الاقتران.

إن شرط الدليل حتى يسمى قرينةً أن يكون مصاحباً للنص المقترن به، وهذه المصاحبة قد تكون حقيقية تلقائية، وهي تشمل كل قرينة تتزامن مع صدور النص عن الشارع؛ كالاستثناء وسائر المخصصات المتصلة-أي غير المستقلة- والقرائن العقلية، وأكثر القرائن الحالية.

وقد تكون المصاحبة اعتباريَّة تمت بفعل المتكلِّم أو المخاطَب، بأن يقوم المتكلم بذكر ما يوجب تخصيص النص الصادر عنه، أو تأويله، أو إتباعه ببعض الحركات أو الإشارات التي تفسر مقصوده من النص، أو يقوم المخاطَب الذي تلقى الخطاب بضم النصوص بعضها إلى بعض لاستثمار دلالاتها مجتمعة، فتعتبر الأدلة المنضمة إلى أصل النص بفعل المخاطَب، قرائن توضح المقصود بأصل الخطاب المقترَن به، وإن لم يكن هذا كلُّه متزامناً مع أصل النص المقترن به([15]).

مثال المصاحبة الحقيقية الطبيعية: قوله تعالى: (تُدَمِّرُ كُلَّ شَيْءٍ بِأَمْرِ رَبِّهَا)[25: الأحقاف] فإن الواقع المشاهد المقترن بالنص أن الريح لم تدمِّر السماوات والجبال والأرض وغيرها مما لا يدمَّر بحكم العقل والعادة المقترنين بالنص نفسه.

ومثالها أيضا قوله تعالى: (وَاسْأَلِ الْقَرْيَة)[82: يوسف]، فإن العقل المصاحب للنص يقتضي أن المراد بسؤال القرية أهلها، لا القرية ذاتها.

أما المصاحبة الاعتبارية التي تتم بفعل المتكلم أو المخاطَب، ولا تكون متزامنة مع النص، فمثالها: ما قام به علي رضي الله عنه في تفسير قوله تعالى: (وَحَمْلُهُ وَفِصَالُهُ ثَلَاثُونَ شَهْراً)[15: الأحقاف]، والذي ضمَّه إلى قوله تعالى: (وَالْوَالِدَاتُ يُرْضِعْنَ أَوْلاَدَهُنَّ حَوْلَيْنِ كَامِلَيْنِ) [233: البقرة] ليتحصل من هذا الضم والتركيب الذي حصل بفعله رضي الله عنه أن أقلّ مدة الحمل ستة أشهر([16])، فالاقتران هنا قد تم بفعل المجتهد ولم يكن اقتراناً أصلياً تلقائياً.

ثالثا: التأثير.

إن الدارس لعبارات الأصوليين التي وصفت القرينة يجد أن الدليل لا يعتبر قرينة إلا إذا كان له نوع تأثيـر يعود على النص، وهذا التأثـير الذي تلقيه القرينة على النص أربعة أنواع هي([17]):

الأول: التأثير في ثبوت النص: وهو كلُّ دليل يقترن بالنص فيؤثر في صدق ثبوته، ويبرز مدى مطابقته للحقيقة والواقع، وقد مثل إمام الحرمين لهذا النوع ببعض القرائن الحالية التي تقترن بالأخبار فقال: "إذا وجدنا رجلاً مرموقاً، عظيم الشأن معروفاً بالمحافظة على رعاية المروءات حاسراً رأسه، شاقاً جيبه، حافياً وهو يصيح بالثبور والويل، ويذكر أنه أصيب بوالده أو ولده، وشهدت الجنازة، ورئي الغسال مشمراً يدخل ويخرج، فهذه القرائن وأمثالها، إذا اقترنت بإخباره مع القطع بأنه لم يطرأ عليه خبلٌ ولا جنةٌ، تضمنت العلم بصدقه"([18]).

وبهذا فإنَ القرينة الحالية المتمثلة بحال المتكلِم نفسه من جهة كونه مرموقاً ومن أهل المروءة والفضل، وما اكتنف خطابه من شهود الجنازة، ورؤية الغسال، قد أفضت كلها إلى التأثير في ثبوت الخبر، والحكم بصحته ومطابقته للواقع، وإن لم يُرَ الوالدُ ولا الولدُ ميتاً.

الثاني: التأثير في إحكام النص والمنع من طروء النسخ عليه.

إن من وظائف القرائن وتأثيراتها على النص أن تحتف به فتمنع من نسخه وزواله، مثاله: ما يقترن بالنص من صيغ التأبيد والدوام التي تبين أن النص محكم قطعاً([19])، أو أن يكون موضوع النص متعلقا بأمهات الفضائل ومكارم الأخلاق([20])، أو الإخبار عن أحوال الأمم الماضية أو غيرها من الموضوعات التي لا تقبل النسخ حتى في عهد الرسالة([21]).

فيكون ذلك كله قرينة على أن النص محكم وغير قابل للنسخ.

الثالث: التأثير في ترجيح أحد النصين على الآخر.

إن من أشكال تأثير القرائن في النصوص أن ترجح أحد النصين على الآخر، وذلك عندما يتعذر الجمع بينهما بأي وجه من وجوه الجمع، فيصار إلى القرائن المحتفة لترجيح أحد النصين على الآخر، ومن هنا كان تعريف الترجيح عند العديد من الأصوليين بما يفيد التعويل على القرينة في عملية الترجيح مثل قول ابن الحاجب: "هو اقتران الأمارة بما تقوى به على معارضها"([22]) وتعريف الآمدي للترجيح بأنه "اقتران أحد الصالحين للدلالة على المطلوب- مع تعارضهما – بما يوجب العمل به وإهمال الآخر"([23]).

الرابع: التأثير في دلالة النص.

أما الأثر الرابع الذي تتركه القرينة في النص فهو التأثير في دلالة النص إما بالتأكيد أو التأويل أو التعليل([24])، وهذا الأثر للقرينة الحالية هو من أبرز آثار القرينة وأكثرها وضوحاً وظهوراً، ولهذا وجدت بعض العبارات التي تحصر وظيفة القرينة في ميدان الدلالة وحده؛ وذلك لأهمية هذا الميدان ولكونه من أبرز تأثيرات القرينة في النص، من هذا مثلا قول الشيرازي: "القرينة ما يبين اللفظ ويفسره"([25]).

وقول الرازي: "أن يذكر المتكلم عقيب الكلام ما يدلُّ على أنّ المراد من الكلام الأول، غير ما أشعر به ظاهره"([26]).

فللقرينة المحتفة بالنص أثر كبير في تفسير اللفظ، وبيان مقصود صاحبه منه، وتوضيح مجمله، وتفسير مشكله، وتخصيص عامه، وتقييد مطلقه، والانتقال به من الاحتمال إلى القطعية، أو من القطعية إلى الظنية.

وإنَ من فروع تأثير القرينة في دلالة النص أنها تساعد في الكشف عن حقيقة مراد المتكلم عن طريق تعيين علَّة الحكم التي توجهت إليها إرادة المتكلم وقصده.

وهذا ما ألمح إليه الغزالي بقوله: "إن المريض إذا قال لغلامه لا تدخل علي الناس وقرينة الحال تشهد: لتأذيه بلقياهم، فأدخل عليه العبد جماعة من الثقلاء وزعم أني خصصت لفظك بمن عداهم، استوجب التعزير"([27]).

أي أن قرينة حال السيد وهي مرضه، قد كشفت أن علة النهي عن إدخال الناس تتمثل في الخشية من التأذي بمخالطتهم، فإذا أدخل عليه الخادم مجموعة من الثقلاء زاعماً أن اللفظ عام يحتمل التخصيص، كان بفعله هذا مخالفا لمقصود سيده ومصادماً لإرادته، لأن القرينة المحتفة بالنص قد بينت أن هذا العموم لا يحتمل التخصيص بما فعله الخادم، نظراً لتبيُّن العلة التي انكشفت بالقرينة المحتفة بالنص.

وهذا التأثير للقرينة هو ما وضحه ابن القيم أيضا بقوله: "للظهور مراتب تنتهي إلى اليقين والقطع بمراد المتكلم، وذلك بحسب الكلام في نفسه وما يقترن به من القرائن الحالية واللفظية، وحال المتكلم وغير ذلك"([28]).

هذا، وإن تأثير القرينة في دلالة النص موضوع واسع ومتشعب، ومن هنا فسيكون بحثي محصوراً في أثر القرينة الحالية في الدلالة على علة الحكم الشرعي، وهو واحد من مفردات تأثير القرينة في دلالة النص وتفسيره.

وبعد أن بيَّنت حقيقة القرينة بياناً عاماً، أنتقل إلى تعريف القرينة التي جعلتها محلاً للبحث وهي القرينة الحالية.

المطلب الثاني: تعريف القرينة الحالية.

أشرت فيما تقدم أن القرينة باعتبار كونها دليلا فإنها تنقسم إلى عدة أقسام: مقالية وعقلية وحالية.

أما القرينة اللفظية فهي كل مادة لفظية منطوق بها تكون مصاحبة للنص فتؤثر فيه دلالة أو ثبوتا أو ترجيحا أو إحكاما، كقوله تعالى:(وَآتُواْ حَقَّهُ يَوْمَ حَصَادِهِ)[141: الأنعام] الذي صاحبه بيان رسول الله صلى الله عليه وسلم لهذا الحق بقوله: "فيما سقت السماء العشر وفيما سقي بنضح نصف العشر"([29]).

وأما القرينة العقلية فهي ما كان إفضاؤها إلى المدلول بواسطة العقل بما أودع فيه من معايير وموازين فطرية. كمن قال رأيت الناس، فإن القرينة العقلية توجب أنه لم ير الناس كلهم لأنه يستحيل بحكم العقل أن يكون قد رأى جميع الناس، وإنما الذي رآه هو بعض الناس فقط.

وقد تكون القرينة حالية.

وهذا التقسيم هو ما أشار إليه الإمام الغزالي بقوله: والقرينة: إما لفظ مكشوف مثل: (وَآتُواْ حَقَّهُ يَوْمَ حَصَادِهِ)[141: الأنعام]، والحق هو العشر.

وإما إحالة على دليل العقل مثل:(وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ وَالْأَرْضُ جَمِيعاً قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَالسَّماوَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ)[67: الزمر]".

وإما قرائن أحوال من إشارات ورموز وحركات وسوابق ولواحق، لا تدخل تحت الحصر والتخمين يختص بدركها المشاهد لها، فينقلها المشاهدون من الصحابة إلى التابعين بألفاظ صريحة، أو مع قرائن من ذلك الجنس أو من جنس آخر، حتى توجب علما ضرورياً يفهم المراد، أو توجب ظناً"([30]).

فما هي حقيقة القرينة الحالية؟

تنوعت العبارات التي وضحت المقصود بالقرينة الحالية، فقد عرّفها الغزالي بأنها: "إشارات ورموز وحركات وسوابق ولواحق، لا تدخل تحت الحصر والتخمين، يختص بدركها المشاهد لها"([31]).

وعرّفها الرازي بأنها:"هيئات مخصوصة قائمة بالمتكلم دالّة على أن المراد ليس هو الحقيقة، بل المجاز"([32]).

وعرّفها أبو الحسين البصري بأنها: "الأحوال التي تعدل بالخطاب من معنى إلى معنى مع كونه متردِّداً بينهما"([33]).

وبالنظر في هذه العبارات نتبين أن أهم ما تمتاز به القرينة الحالية: أنها ليست مادة لغوية لفظية صادرة عن المتكلم، ومن هنا جاء تعريفها بأنها إشارات ورموز وحركات على وفق تعبير الغزالي، أو هيئات على حدّ تعبير الرازي، أو أحوال وملابسات على وفق تعبير أبي الحسين البصري، وكل هذا لإظهار أنها ليست مادة لفظية، وإنما هي عوارض غير منطوق بها وملابسات غير لفظية تحتف بالخطاب فتؤثر في دلالته وفهمه وتفسيره.

على أن هذه التعريفات قد حصرت أثر القرينة الحالية في فهم النص فقط، دون الإشارة إلى آثارها الأخرى التي أشرت إليها آنفا في التعريف العام للقرينة، والمتمثلة: بالترجيح، والإحكام، والنسخ، إضافة إلى الدلالة التي تعتبر أبرز أثر من آثار القرينة.

ولهذا فإنه يمكن تعريف القرينة الحالية بأنها: دليلٌ غير لفظي ابتداءً يصاحب الخطاب فيؤثر فيه دلالة، أو ثبوتاً أو إحكاماً أو ترجيحاً.

تحليل التعريف وبيان محترزاته:

أولاً: تتحقق في القرينة الحالية جميع العناصر والخصائص التي ينبغي أن تتحقق في كل قرينة وهي: الدلالة والمصاحبة والتأثير.فلا بدَ أن تكون دالة على معنى معين، وهذا ما نبه إليه أبو الحسن الكرخي: "الأصل أن للحالة من الدلالة كما للمقالة"([34]).

ويجب أن يتحقق فيها شرط الاقتران الحقيقي أو الاعتباري، حتى تكون قسيماً للقرينة المقالية، وهو ما وضحه إمام الحرمين بقوله: "القرائن تنقسم إلى قرائن حالية وإلى قرائن لفظية: فأما الحالية، فكقول القائل رأيت الناس، وأخذت فتوى العلماء. ونحن نعلم أن حاله لا يحتمل رؤية الناس أجمعين ومراجعة جميع العلماء"([35]).

ولا بدَّ أن يكون لها جنس تأثير في النص دلالةًً أو ثبوتاً أو إحكاماً أو ترجيحاً، ولقد أشار العلماء إلى هذه التأثيرات بعبارات مختلفة، منها ما وضحه الجصاص في أثر القرينة الحالية في الكشف عن مقصود المتكلم وحسن فهم النص وتوجيهه بقوله: "ومن الظواهر ما يقضي عليه دلالة الحال فينقل حكمه إلى ضد موجب لفظه في حقيقة اللغة نحو قوله تعالى:(اعْمَلُوا مَا شِئْتُمْ)[40: فصلت]، وقوله تعالى: (فَمَن شَاء فَلْيُؤْمِن وَمَن شَاء فَلْيَكْفُرْ)[29: الكهف]، وقوله: (وَاسْتَفْزِزْ مَنِ اسْتَطَعْتَ مِنْهُمْ )[64: الإسراء] ونحو ذلك. فلو ورد هذا الخطاب مبتدئاً عارياً عن دلالة الحال لكان ظاهره يقتضي إباحة جميع الأفعال، وهو في هذه الحال وعيدٌ وزجرٌ ، بخلاف ما يقتضـيه حكم اللفظ العاري عن دلالة الحال"([36]).

وقول القفال الشاشي: "قد يقترن بالخطاب من دلالة الحال ما يقف به السامع على مراد المتكلم"([37]).

ثانياً: تمتاز القرينة الحالية عن غيرها بأنها دليل غير لفظي، أي أنها ليست مادةً لفظيةً منطوقاً بها، وهذا ما يميزها عن القرينة اللفظية، مثل: الزمان الذي ورد فيه الخطاب، أو القيم والعادات والأعراف السائدة وقت وروده، أو حال المتكلم عند ورود الخطاب، أو طبيعة المخاطب الذي توجَه إليه الخطاب وما هو عليه من الطباع والتصورات، فهذه جميعها أمور تحيط بالنص وتغشاه وتقترن به، ولكنها ليست منطوقاً بها. ويعد هذا شرطا في القرينة حتى يصدق عليها وصف حالية أي أن لا تكون مادة لغوية منطوقا بها.

ثالثا: القرينة الحالية غير منطوق بها ابتداء، أي عند صدور الخطاب من المتكلم، إذ لو كانت لفظاً منطوقاً به أول الأمر لاعتبرت قرينة مقالية، ومن شأن هذا التقييد أن يحترز عما يكون بعد صدور الخطاب من نقل لهذه القرينة الحالية باللفظ من قبل من شاهدها ورآها وأحاط بها، أو من قبل المتكلم نفسه، فإن هذا النقل للحال لفظاً، لا يطعن في كونها قرينة حالية، ذلك أن كل قرينة حالية لا يمكن أن يتحقق العلم بها لمن لم يشاهدها إلا بنقلها من قبل من شاهدها وعاشها ووعاها وعاصرها. وبهذا فإن تصيير قرينة الحال إلى مقال منطوق به، لا يخرجها عن كونها قرينة حالية لأن معيار اعتبارها قرينة حالية أو مقالية هي ساعة صدور الخطاب، فإذا كانت مجرد أحوال تكتنف الخطاب، ولم تكن دليلاً لفظياً مقترناً به، فإنها تكون قرينة حالية وإن نقلت باللفظ بعد ذلك. أما إذا كانت من أوَل الأمر دليلاً لفظياً مقترناً بالخطاب فإنها تكون قرينة لفظية.

المطلب الثالث: معايير القرينة الحالية.

قدمت فيما سبق أنّ القرينة الحالية هي أحوال وملابسات وظروف تغشى الخطاب وقت صدوره عن المتكلم، يدركها من شاهدها ورآها وعاصرها ثم ينقلها إلى من جاء بعده، والسؤال المطروح هنا ما الأحوال والملابسات التي يحتكم إليها في فهم النص وتوجيهه وحسن الوقوف على مقصود صاحبه منه؟

والجواب: أن هذه الأحوال والملابسات كثيرة جداً حتى إن الإمام الغزالي قرر أن هذه الأحوال لا تدخل تحت الحصر والتخمين نظراً لكثرة مفرداتها وتفصيلاتها وجزئياتها فقال: "إشارات ورموز وحركات وسوابق ولواحق لا تدخل تحت الحصر والتخمين، يختص بدركها المشاهد لها"([38]).

ومع التسليم بما قاله الغزالي بأن هذه الأحوال صعبة الحصر والعدّ لكثرة مفرداتها وتفصيلاتها وجزئياتها، فإن من الممكن أن أحدد معايير لها تعتبر بمثابة منطلقات عامة للتفصيلات الجزئية والدقيقة، وهذه المعايير هي:

أحوال الخطاب نفسه.

أحوال المتكلِّم.

أحوال المخاطَب.

وقد استقيت هذه المعايير من قول الشاطبي بقوله: "إنَّ علم المعاني والبيان الذي يعرف به إعجاز القرآن الكريم، فضلاً عن معرفة مقاصد كلام العرب، إنما مداره على معرفة مقتضيات الأحوال: حال الخطاب من جهة نفس الخطاب، أو المخاطَب، أو المخاطِب أو الجميع، إذ الكلام الواحد يختلف فهمه بحسب حالين، وبحسب مخاطَبين، وبحسب غير ذلك؛ كالاستفهام لفظ واحد، ويدخله معنى آخر من تقرير وتوبيخ وغير ذلك، وكالأمر يدخله معنى الإباحة والتهديد والتعجيز وأشباهها، ولا يدلّ على معناها المراد إلا الأمور الخارجية، وعمدتها مقتضيات الأحوال وليس كل حال ينقل، ولا كل قرينة تقترن بنفس الكلام المنقول، وإذا فات فهم بعض القرائن الدالة فات فهم الكلام جملة أو فهم شيء منه، ومعرفة الأسباب رافعة لكل مشكل في هذا النمط، فهي من المهمات في فهم الكتاب بلا بدّ، ومعنى معـرفة السبب هو معرفة مقتضى الحال"([39]).

وسأعمل على بيان هذه المعايير الثلاثة التي تُّعدُّ أسُساً ومنطلقات للوقوف على القرينة الحالية.

أولا: أحوال الخطاب:

يقصد بأحوال الخطاب: الزمان والمكان والظروف والأوضاع والأعراف والقيم والبيئة التي تحيط بالخطاب عند صدوره من المتكلّم.

فما يحيط بالخطاب من أعراف سائدة، وقيم مستقرة، وأوضاع قائمة وما اكتنف الخطاب من زمان أو مكان تلقي جميعها بظلالها على فهم الخطاب نفسه، وتساعد على تبيُّن مقصود المتكلم وتحديد المراد بالخطاب، وتفسير ما يكتنف بعض ألفاظه من إجمال وخفاء.

وتحت هذا الأمر تندرج أسباب نزول الآيات الكريمة وأسباب ورود الأحاديث الشريفة؛ ذلك أن كلَّ واقعة كانت سبباً في نزول الآية أو ورود الحديث، هي من قبيل الأحوال التي تقترن بالخطاب نفسه.

وهذا ما تنبه له صحابة النبي الكريم صلى الله عليه وسلم، حيث قدروا أهمية هذه الأسباب من أجل فهم نصوص القرآن الكريم فهماً صحيحاً، فقد أخرج أبو عبيد عن إبراهيم التيمي قال: خلا عمر ذات يوم فجعل يحدّث نفسه كيف تختلف هذه الأمة ونبيها واحد وقبلتها واحدة؟ فقال ابن عباس: يا أمير المؤمنين، إنا أنزل علينا القرآن فقرأناه وعلمنا فيم نزل وإنه سيكون بعدنا أقوام يقرؤون القرآن ولا يدرون فيم نزل، فيكون لهم فيه رأي، فإذا كان لهم فيه رأي اختلفوا، فإذا اختلفوا اقتتلوا. قال: فزجره عمر وانتهره، فانصرف ابن عباس ونظر عمر فيما قال، فعرفه فأرسل إليه فقال: أعد عليَّ ما قلت. فأعاده عليه فعرف عمر قوله، وأعجبه"([40]) فقول ابن عباس علمنا فيم نزل يدل على أن الصحابة قد أحاطوا بالملابسات والظروف والأحوال التي اكتنفت الخطاب نفسه، ولهذا فهموا النصوص فهماً صحيحاً لا وكس فيه ولا شطط، أما الذين سيأتون من بعد، فإنهم سيعرفون الخطاب بألفاظه، ولكن عريَّا عن الظروف والملابسات التي أحاطت به، فيحملونه على غير مراد الشارع منه، وهنا يقع الاختلاف والضلال وتنزيل نصوص الشريعة على غير محالها ووقائعها المناسبة.

ولهذا تتابعت العبارات التي تدل على أهمية الإحاطة بأسباب النزول والورود كقول الواحدي: "فآل الأمر بنا إلى إفادة المبتدئين بعلوم الكتاب إبانة ما أنزل فيه من الأسباب، إذ هي أوفى ما يجب الوقوف عليها، وأولى ما تصرف العناية له، لامتناع تفسير الآية وقصد سبيلها دون الوقوف على قصتها، وبيان نزولها"([41]).

وقول ابن تيمية: "ومعرفة سبب النزول تعين على فهم الآية فإن العلم بالسبب يورث العلم بالمسبب"([42]).

وقول الشاطبي "أسباب التنزيل لازمة لمن أراد علم القرآن"([43]).

وقوله أيضا: "إن الجهل بأسباب التنزيل موقع في الشُبه والإشكالات، ومورد للنصوص الظاهرة مورد الإجمال، حتى يقع الاختلاف، وذلك مظنة وقوع النزاع([44])".

ولا تنحصر قرينة الحال الخاصة بالخطاب بأسباب النزول والورود فقط، وإنما تشمل أيضا البيئة التي قيل فيها الخطاب، وما كان عليه حال العرب من أقوال وأفعال وعادات وتصرفات، فجميع هذه الأمور تلقي بظلالها على تفهم الخطاب وتبينه التبين الأمثل والأكمل، وهذا ما عناه الشاطبي بقوله: "ومن ذلك معرفة عادات العرب في أقوالها وأفعالها ومجاري أحوالها حالة التنزيل، وإن لم يكن ثَمّ سبب خاص، فلا بد لمن أراد الخوض في علم القرآن منه، وإلا وقع في الشبه والإشكالات التي يتعذر الخروج منها إلا بهذه المعرفة"([45]).

هذا، وإن من فروع تأثير حال الخطاب في تفسير النص وتبين المقصود منه، أنه يساعد في الوقوف على حكمة تشريع الحكم، ويكشف لنا عن مناط الحكم وعلته، وهذا ما أشار إليه السيوطي بقوله: "زعم زاعم أنه لا طائل تحت هذا الفن لجريانه مجرى التاريخ وأخطأ في ذلك بل له فوائد منها: معرفة وجه الحكمة الباعثة على تشريع الحكم"([46]).

وزاده الدكتور محمد رأفت سعيد وضوحاً وبياناً بقوله: "فمعرفة سبب الورود تمكن من إدراك حقيقة المعنى والإحاطة بأبعاده، ومعايشة جزئيات الأسباب، ووجه الارتباط بين النص والحكم والحكمة التي تكون في هذا الارتباط، وهذا يعين في باب الاجتهاد على معرفة الصفات المشتركة بين الفرع والأصل عند القياس، كما ييسر الوقوف على تحقق الحكمة عند استنباط الأحكام للمشكلات المعاصرة"([47]).

الثاني: أحوال المتكلم:

كما أن للأحوال التي تحيط بالخطاب نفسه تأثيراً في دلالته وفهمه، فإن للأحوال التي تحيط بالمتكلِم الذي صدر عنه الخطاب تأثيراً على فهم خطابه والوقوف في مقصوده.

ويقصد بأحوال المتكلم ما عليه من الصفات والطباع والميول والرغائب والتوجهات والاصطلاحات وكل ما يمكن أن يدخل تحت الخبرة بالمتكلم([48]).

وهذا ما بينه العديد من العلماء حيث أرشدوا إلى أثر الإحاطة بالحال الذي يحيط بالمتكلم في فهم خطابه والوقوف على مقصوده.

ومن هذا مثلا ما ذكره البزدوي فيما تترك به الحقيقة ويصار إلى المجاز حيث قال: "ما تترك به الحقيقة خمسة أنواع: فقد تترك بدلالة الاستعمال والعادة، وقد تترك بدلالة سياق النظم، وقد تترك بدلالة ترجع إلى المتكلم، وقد تترك بدلالة في محلّ الكلام"([49]).

ومثّل لحال المتكلم بقوله: "وأما الثابت بدلالة من قبل المتكلم فمثالها قوله تعالى مخاطبا الشيطان: (وَاسْتَفْزِزْ مَنِ اسْتَطَعْتَ مِنْهُمْ بِصَوْتِكَ وَأَجْلِبْ عَلَيْهِم بِخَيْلِكَ وَرَجِلِكَ)[64: الإسراء] إنه لما استحال منه الأمر بالمعصية والكفر حمل على إمكان الفعل وإقداره عليه مجازاً"([50]).

فالوقوف على معهود  الله سبحـانه وتعـالى في الأوامر والنواهي- وهو المتكلم هنا- من أنه لا يأمر بالمعصية والإثم والعدوان، هي القرينة الحالية التي صرفت لفظ الأمر من أن يراد به حقيقته الظاهرة إلى أن يراد به معنى آخر وهو مجرد إقدار الشيطان على الفعل، وهذا المعنى الذي تفيده القرينة الحالية هو المقصود الحقيقي لله تعالى.

وعليه فإن من شأن حال المتكِلم أن يصرف اللفظ من الحقيقة إلى المجاز، وهذا ما أشار إليه الفخر الرازي أيضا بقوله: " أما الحالية فهي إذا ما علم أو ظن أن المتكلم لا يتكلم بالكذب، فيعلم أن المراد ليس هو الحقيقة بل المجاز.

ومنها أن يعلم بسبب خصوص الواقعة، أنه لم يكن للمتكلم داعٍ إلى ذكر الحقيقة فيعلم أن المراد هو المجاز"([51]).

ويدخل في حال المتكلم أيضاً معرفة ألفاظه واصطلاحاته الخاصة به، كأن يكون للّفظ معنى لغوي ولكن للمتكلم استعمال خاص به، فيصرف عندها من معناه اللغوي إلى معناه الاصطلاحي الخاص في استعمال المتكلم، وهذا ما نبّه إليه الرازي بقوله: "أن يضم إلى النص شهادة حال المتكلم، كما إذا كان كلام الشارع متردّداً بين الحكم العقلي والشرعي، فحمله على الشرعي أولى، لأن النبي صلى الله عليه وسلم بعث لبيان الشرعيات، لا لبيان ما يستقل العقل بإدراكه"([52]).

ثالثاً: حال المخاطَب.

المخاطَب هو الجهة التي توجه إليها الخطاب فرداً كان أو جماعة، ويمثل حاله واحداً من الأدوات اللازمة التي يستعان بها في فهم النص وتبين حقيقة المقصود منه، فالخطاب الواحد قد يختلف مقصود صاحبه منه باختلاف الجهة المخاطبة، واللفظ الواحد قد تختلف دلالته باعتبار الطرف الذي توجه إليه الخطاب، فيميز في هذا بين أن يكون المخاطب كبيرًا أو صغيراً، أو غنياً أو فقيراً، أو ذكراً أو أنثى، أو غيرها مما لا يحصى من الاعتبارات التي تدخل في حال المخاطَب.

مثال هذا صيغة الأمر"افعل" إذ تختلف دلالتها بناء على اختلاف الجهة المخاطَب بها، ومن ذلك قوله صلى الله عليه وسلم لعمر بن أبي سلمة وهو غلام صغير: "سم الله وكل بيمينك وكل مما يليك"([53]) فالصيغة هنا (سمِّ) و(كلْ) فعل أمر"، ولكنها محمولة هنا على الندب لا على الوجوب؛ لأن المخاطَب بهذا الأمر ليس أهلا للتكليف، فكان قرينة حالية صارفة للأمر من أن يراد به الوجوب ليكون مراداً به الندب([54]).

ومن هذا أيضا قوله تعالى للكافرين: (اعْمَلُوا مَا شِئْتُمْ)[40: فصلت] فإنه فعل أمر يراد به التهديد، والذي حمله على معنى التهديد لا الوجوب، حال المخاطَب المصر على العناد والاستكبار والعصيان.

هذا وتمتدُّ آثار حال المخاطَب في فهم النص وتفسيره إلى تخصيص اللفظ العام، أو تقييد اللفظ المطلق، وهذا ما وضحه ابن تيمية بقوله: "اللفظ وإن كان في نفسه مطلقاً، فإنه إذا كان خطاباً لمعين في مثل الجواب عن سؤال، أو عقب حكاية حال ونحو ذلك، فإنه كثيرًا ما يكون مقيداً بمثل حال المخاطب كما لو قال المريض للطبيب إن به حرارة، فقال: لا تأكل الدسم، فإنه يعلم أن النهي مقيد بتلك الحال، وذلك أن اللفظ المطلق إذا كان له مسمىً معهود أو حال يقتضيه انصرف إليه"([55]).

وخلاصة القول: إن القرينة الحالية وإن كانت لا تدخل تحت الحصر والتخمين إلا أنه يمكن النظر إليها من خلال ثلاثة أمور: الخطاب نفسه، والمتكلم الذي صدر عنه الخطاب، والمخاطب الذي توجه إليه الخطاب، والنظر إلى هذه المعايير الثلاثة قد يكون على سبيل الانفراد بحيث ينظر إلى كل واحد منها على حدة، وقد يكون على سبيل الاجتماع بحيث ينظر إليها جميعا. وهنا قد يتفاوت الأفراد في فهم الخطاب وتبين المقصود منه نظرا لتفاوتهم في الإحاطة بهذه القرائن، وتمكنهم منها، ووقوفهم عليها، وهذا ما نبه الشاطبي إليه بقوله: ليس الطارئ الإسلام من العرب في فهمه كالقديم العهد، ولا المشتغل بتفهمه وتحصيله كمن ليس في تلك الدرجة، ولا المبتدئ فيه كالمنتهي، حتى إذا تبحر في إدراك معاني الشريعة نظره، واتسع في ميدانها باعه، زال عنه ما وقف من الإشكال، واتضح له القصد الشرعي على الكمال"([56]).

وقد عزا ابن القيم القصور في فهم بعض المخاطبين عن الإحاطة بمقصود المتكلم إلى عدم الوقوف على هذه القرائن التي تعين على تفسير النص وتبين حقيقة المقصود به، وهذا ما عبر عنه بقوله: "فكم من حكم دلّ عليه النص ولم يفهموا دلالته عليه، وسبب هذا الخطأ: حصرهم الدلالة في مجرد ظاهر اللفظ دون إيمائه وتنبيهه وإشارته وعرفه عند المخاطبين"([57]).

ولكن كيف يمكن كشف هذه الأحوال سواء كانت أحوال المخاطَب أو المتكلم أو الخطاب نفسه، وما هو السبيل إلى تعيين هذه الأحوال وتحديدها وتعيينها، هذا ما سأتناوله في المطلب الآتي:

المطلب الرابع: طريق الوقوف على القرينة الحالية.

إن ما تختص به القرينة الحالية من حيث كونها مادة غير منطوق بها، يجعل إدراكها وتعيينها والوقوف عليها أمراً خفيا غير ظاهر للعديد من الأفراد الذين تلقّوا الخطاب، لاسيِّما من خفي عليه حال الخطاب وحال المخاطَب وحال المتكلم ساعة إنشاء الخطاب وصدوره، ومن شأن هذا الخفاء الذي يكتنف إدراك القرينة الحالية أن يجعل المخاطَبين متفاوتين في إدراك المقصود الحقيقي من الخطاب نفسه، نظراً لتفاوتهم في إدراك القرائن المحتفة غير المنطوق بها، وإن كانوا غير متفاوتين في إدراك المعنى الظاهر الذي يفيده ظاهر النص مجرداً عن قرينته الحالية.

وإن الأصل في فهم الألفاظ والنصوص الشرعية أن تحمل على دلالاتها الظاهرة وعلى معانيها المتبادرة التي يشترك فيها المتلقون للخطاب، والتي تفهم من أصل الوضع اللغوي للألفاظ، أو ممّا تمليه الحقيقة الشرعية الاستعمالية، ما لم يقم دليل يرشد إلى أن هذا الظاهر غير مراد ولا مقصود للمتكلم، ولا يجوز صرف الألفاظ عن ظاهر معانيها لمجرد توهم وجود قرينة حالية يمكن أن يفهم منها معنى آخر غير المعنى الظاهر المتبادر، دون أن يكون ثمة دليل ولا بينة على وجود هذه القرينة،.وهذا ما عبّر عنه القفال بقوله: "إذا ورد الخطاب مجرداً عن دلالة تقترن به، فالواجب على المخاطب أن يعتقد ما حصل عنده من ظاهر اللفظ"([58]).

ومثل هذا أيضا ما جاء في شرح التوضيح: "إن اللفظ متى وضع لمعنى كان ذلك المعنى لازماً له إلى أن تدل القرينة على خلافه"([59]).

وعليه، فإن معرفة القرينة الحالية لا تكون بالتوهم والتخمين والتخرص والافتراض، وإنما تكون بطرق محددة يسلكها المتلقي للخطاب الشرعي للوقوف عليها وتعيينها.

وقد وجدت بعد البحث والدراسة أن طريق الوقوف على القرائن الحالية لمن لم يكن مشاهداً ومعاصراً للحال الذي اكتنف الخطاب الشرعي، يتمثل في أمرين:

الأول: ما نقله الصحابة من هذه القرائن، لكونهم قد شاهدوا وعاصروا الأحوال والمناسبات التي احتفت بالخطاب نفسه، وهذا ما نبَه إليه الإمام الغزالي في تعريفه للقرينة الحالية بقوله: "يختص بدركها المشاهد لها"([60]).

ومعنى هذا أن من لم يشاهد القرينة الحالية يتوقف إدراكه لها على نقل من شاهدها، وأن من لم يعاصرها يتوقف فهمه لها على حكاية من عاصرها، وهذا ما حدا بالعلماء إلى تقديم تفسير الصحابة على تفسير غيرهم لأن الصحابة ألصق بهذه القرائن من غيرهم ممن لم يعاصرها ويشاهدها ويتصل بها وفي هذا المعنى يقول الشاطبي: "متى جاء عن الصحابي تخصيص عموم أو تقييد مطلق نأخذ به لأنهم أقعد في فهم القرائن الحالية"([61]).

وهذا يقتضي ضرورة الرجوع إلى ما أثر عن الصحابة رضوان الله عنهم من فهم وتفسير للنصوص الشرعية؛ لأن ما تهيأ لهم من إحاطة بقرائن الأحوال لم يتهيأ لغيرهم ممن جاء بعدهم، وهذا ما كشف عنه السرخسي بقوله: "ولئن كان قولهم - أي الصحابة- صادراً عن الرأي، فرأيهم أقوى من رأي غيرهم، لأنهم شاهدوا طريق رسول الله صلى الله عليه وسلم في بيان أحكام الحوادث، وشاهدوا الأحوال التي نزلت فيها النصوص، والمحال التي تتغير باعتبارها الأحكام، فبهذه المعاني يترجح رأيهم على رأي من لم يشاهد شيئا من ذلك"([62]).

ومثل هذا نجده أيضا عند ابن تيمية في قوله: "إذا لم نجد التفسير في القرآن ولا في السنة رجعنا في ذلك إلى أقوال الصحابة، فإنهم أدرى بذلك لما شاهدوه من القرآن، والأحوال التي اختصوا بها، ولما لهم من الفهم التام والعلم الصحيح والعمل الصالح، لا سيِِّما علماؤهم وكبراؤهم كالأئمة الأربعة الخلفاء الراشدين([63]).

ولقد نبَه الشيخ محمد الطاهر بن عاشور إلى أهمية القرائن المحتفة بالنص في تفسير النص، وتميُّز من تلقى الخطاب مباشرة عن المتكلم، على غيره ممن بلغه الخطاب بالواسطة نظرا لحضور المتلقي مباشرة للقرائن المحتفة التي قد يغفل عنها المتلقي بالواسطة وذلك بقوله رحمه الله: "وبذلك لم يستغن المتكلمون والسامعون عن أن تحف بالكلام ملامح من سياق الكلام ومقام الخطاب ومبينات من البساط لتتظافر تلك الأشياء الحافة بالكلام على إزالة احتمالات كانت تعرض للسامع في مراد المتكلم من كلامه.ولذلك تجد الكلام الذي شافَه به المتكلم سامعيه أوضح دلالة على مراده من الكلام الذي بلغه عنه مبلغ، وتجد الكلام المكتوب أكثر احتمالات من الكلام المبلغ بلفظه، بله المشافه به لفقده دلالة السياق وملامح المتكلم والمبلغ، وإن كان هو أضبط من جهة انتفاء التحريف والسهو والتصرف في التعبير عن المعنى عند سوء الفهم"([64]).

وبهذا يعلم أنه لا غنى لمن أراد الوقوف على القرينة الحالية عن الرجوع إلى ما نقل عن الصحابة في خصوص هذه المسألة، لأنهم الأقرب إلى قرائن الأحوال والألصق في عصر التشريع وبيئة النص، والأدرى بحال الخطاب وحال المخاطِب وحال المخاطَب.

أما الطريق الثانية للوقوف على القرينة الحالية: فهي جمع الروايات المختلفة الواردة في الموضوع الواحد، وهذا يختص بدراسة أحاديث الرسول صلى الله عليه وسلم التي قد يرشد مجموعها إلى وجود قرينة حالية خاصة، لا تنكشف فيما لو أخذت كل رواية بمعزل عن الروايات الأخرى.

ذلك أن الاكتفاء بظاهر حديث واحد، دون النظر في سائر الأحاديث وسائر النصوص المتعلقة بموضوعه، قد يكون في الكثير من الأحيان سبباً موقعاً في الخطأ، ومبعداً عن جادة الصواب وعن المقصود الذي سيق له الحديث([65]).

وكثيراً ما يكون تقدير القرينة الحالية أمراً تفرضه عملية الجمع والتوفيق بين النصوص المتعارضة ظاهرياً، حتى إن الغزالي رأى أن تقدير القرينة أمرٌ حتميٌّ في بعض هذه الحالات التي لا يمكن الجمع بين الأحاديث إلا بتقديرها، وإن كانت هذه القرينة لم تنقل صراحة، وعبر عن هذا المعنى بقوله: " فإذا ورد حديثان متضادان في ظاهرهما وافتقرنا في الجمع إلى تقدير قرينة لم تنقل، فعلنا ذلك وإن كنا لا نتجاسر على مثله بمحض القياس، وهذا كحديث الربا في النقد فإنه رواه عبادة بن الصامت وجماعة([66]).

وروى أسامة بن زيد عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: إنما الربا في النسيئة"([67]) وهذا صريح في الحصر ونفي الربا في النقد، وإليه ذهب ابن عباس وعامة أصحابه وسعيد وعروة([68]).

فنجمع بينهما ونقول: لعلّ رسول الله صلى الله عليه وسلم سئل عن صنفين مختلفين إذا بيع أحدهما بالآخر من ذهب وفضة، أو تمر وحنطة، فقال عليه السلام: إنما الربا في النسيئة وأراد به ما سئل عنه.

وهذا وإن كان تقدير قرينة لم تنقل ولكنه محتمل، وإغفال الراوي لسبب الجواب واقتصاره في النقل على كلامه ممكن ، وإن كان بعيداً فهـو أولى من تكـذيب العدل أو نسخ ما هو ثابت في الشرع"([69]).

وهكذا نجد كيف تمَّ تقدير القرينة الحالية من خلال جمع الروايات المختلفة وحمل قوله صلى الله عليه وسلم: "لا ربا إلا في النسيئة" على أنه خاص بحالٍ تم تقديره هو أنه جاء جواباً على سؤال من سأل عن حكم بيع صنفين مختلفين لا تتحقق فيهما علة ربا الفضل؛ كبيع التمر بالحنطة؛ أو الذهب بالفضة فقال: "لا ربا إلا في النسيئة"، والمقصود بالعموم خصوص الحالة المسؤول عنها والتي اقتضتها الروايات الأخرى الواردة في هذا الموضوع.

المبحث الثاني

أثر القرينة الحالية في تبيُّن علَّــــة الحكــــم الشرعـــــي

قدمت سابقاً أن من آثار إدراك القرينة الحالية وتعيينها والوقوف عليها، التمكنَ من تبيَُن العلة التي ترتبط بالحكم وجوداً وعدماً، وفهم حقيقة مقصود الشارع من ألفاظه ونصوصه.

وهذا يقود إلى التساؤل عن موقع القرينة الحالية داخل منظومة المسالك التي يتوصل بها إلى علّة الحكم الشرعي؟ وهل ثمة شواهد عملية يمكن أن تجلي تأثير القرينة الحالية في فهم النص عن طريق تبين علته؟

هذا ما سأحاول الإجابة عليه من خلال المطلبين الآتيين:

المطلب الأول: علاقة القرينة الحالية بمسالك العلة.

المطلب الثاني: تطبيقات عملية على أثر القرينة الحالية في تبين علة الحكم الشرعي.

المطلب الأول: علاقة القرينة الحالية بمسالك العلة.

وفيه فرعان:

الفرع الأول: عرض مجمل لمسالك العلة.

الفرع الثاني: صلة القرينة الحالية بمسالك العلة.

الفرع الأول: عرض مجمل لمسالك العلة.

إن من المقرر عند الأصوليين أن التوصل إلى علَة الحكم الشرعي، يتمَّ من خلال مجموعة من مسالك يتبعها المجتهد لتعيين هذه العلة والكشف عنها، وقد اصطلح الأصوليون على تسمية مجموع هذه الطرق بمسالك العلة ويقصدون بها: الطرق الدالة على كون الوصف علّة للحكم الشرعي([70]).

وقد اختلف الأصوليون في عدد هذه المسالك، وتباينوا في تحديد أنواعها ولكنهم درجوا على جعلها ضمن قسمين؛ الأول: مسالك نقلية. والثاني: مسالك عقلية.

وليست الغاية من هذا الفرع تتبع هذه المسالك تتبعاً تفصيلياً، واستيعابها بالدراسة التحليلية، فالمقام لا يتسع لمثل هذه الدراسة؛ ذلك أنَ كل واحد منها يصلح أن يكون بحثاً قائماً بذاته، و غاية ما أريده من هذا المطلب أن أعرض هذه المسالك عرضاً مجملاً، من أجل تبيُّن وجه العلاقة والصلة بين القرائن الحالية من جهة، وبين مسالك العلة من جهة أخرى.

فأقول: إن المسالك النقلية هي الطرق النقلية التي تثبت بها العلة الشرعية وهي تنقسم إلى:

1-النص من الشارع صراحةً أو ظهوراً أو إيماءً.

أما النص الصريح فهو أن ينص الشارع على لفظ يدلُّ على العلية بوضعه الحقيقي ولا يحتمل غير العلية([71]) ويكون هذا بالتعليل بألفاظ خاصة تدل على التعليل صراحة ولا تحتمل غيره: مثل ألفاظ كي، ولأجل، ولعلَة كذا، كقوله تعالى: (كَيْ لَا يَكُونَ دُولَةً بَيْنَ الْأَغْنِيَاء مِنكُمْ)[7: الحشر]، وقوله تعالى:(مِنْ أَجْلِ ذَلِكَ كَتَبْنَا عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ أَنَّهُ مَن قَتَلَ نَفْساً بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسَادٍ فِي الأَرْضِ فَكَأَنَّمَا قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعاً وَمَنْ أَحْيَاهَا فَكَأَنَّمَا أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعاً)[32: المائدة].

أما النّص الظاهر فهو أن ينص الشارع على ألفاظ تدل على العلية دلالة راجحة، و تحتمل غير العلية احتمالاً مرجوحاً([72]) مثل حرف اللام كقوله تعالى:(وَأَنزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ)[55: النحل]، فإن اللام مع ظهور إفادتها للعلية ظهوراً راجحاً، فإنها تحتمل أن يكون المراد منها معاني أخرى مرجوحة مثل: العاقبـة، والصيـرورة، والملك، والاختصاص.

ومن هذا أيضا حرف الباء في قوله تعالى: (فَبِظُلْمٍ مِّنَ الَّذِينَ هَادُواْ حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ طَيِّبَاتٍ أُحِلَّتْ لَهُمْ)[160:  النساء]، فإن الباء مع إفادتها التعليل إفادة راجحة ظاهرة فإنها تحتمل في أصل وضعها معاني أخرى: كالإلصاق، والاستعانة، وإن كانت دلالتها على غير معنى التعليل في هذه الآية مرجوحة.

أمَّا النص من الشارع إيماءً فيقصد به: أن يقرن الحكم بوصف، لو لم يكن هو أو نظيره للتعليل، كان بعيداً([73]).

ولهذا القسم أنواع كثيرة منها:

أن يرتِّب الشارع الحكم على الفعل بفاء التعقيب مثاله قوله تعالى: (وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُواْ أَيْدِيَهُمَا)[38: المائدة]، ففي الاقتران بين الفعل وهو القطع، وبين الوصف وهو السرقة، إيماءٌ إلى أن السرقة هي علة القطع.

ومنها: أن يذكر الشارع في الحكم وصفاً لو قدِّر غير مؤثر في الحكم لكان خارجاً عن الإفادة([74]) مثاله: قوله عليه السلام: "قاتل الله اليهود: اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد"([75]) حيث نبَه الشارع في هذا الاقتران بين الوصف والحكم، على أن علَة اللعن هي اتخاذ قبور الأنبياء مساجد، ولو لم يكن كذلك، لما كان لذكر اتخاذ اليهود لقبور أنبيائهم مساجد أي معنى في هذا المقام([76]).

2- الإجماع: أما المسلك الثاني من المسالك النقلية فهو الإجماع: وذلك بأن يتفق المجتهدون من أمة محمد صلى الله عليه وسلم بعد وفاته على عِليَّة وصف معين لحكم معين([77])، كالإجماع على أن علَة تقديم الأخ الشقيق على الأخ لأب في الإرث هو امتزاج النسبين، من حيث إنّ الأخ الشقيق قد اجتمع فيه النسب من جهة الأب ومن جهة الأم، بخلاف الأخ لأب الذي تحقَق فيه النسب من جهة الأب فقط.

وبناءً على هذه العلة المجمع عليها وهي امتزاج النسبين ، يقاس تقديم الأخ الشقيـق على الأخ لأب في

ولاية النكاح، وفي الصلاة عليه.

ومنه أيضا الإجماع على أن العلَة في تضمين الغاصب إذا تلف المال تحت يده هي التعدي، فيقاس على الغاصب السارقُ إذا تلف المال تحت يده ويطالب بالضمان؛ لأن يده يدٌ عادية كيد الغاصب([78]).

هذا فيما يتعلق بالمسالك النقلية، أما المسالك العقلية: فهي الطرق التي تثبت بها العلة الشرعية باجتهاد يبذله المجتهد، دون أن يكون النص قد ذكرها لا صراحة ولا ظهوراً ولا إيماءً. وأهم هذه المسالك هي: المناسبة، والسبر والتقسيم، والشبه، والدوران([79]).

ويقصد بالمناسبة: أن يحصل من ترتيب الحكم على الوصف الإفضاء إلى مصلحة مقصودة للشارع([80]). "كالإسكار" مثلاً فإنه وصف مناسب للتحريم، لأن من شأن ترتيب الحكم عليه، الإفضاء إلى مصلحة تتمثل في المحافظة على العقل.

أما السَبر والتقسيم: فهو يتضمن عمليتين الأولى: حصر جميع الأوصاف المحتملة للعلية وهو المعبَر عنه بالتقسيم، و الثانية: اختبار هذه الأوصاف واحداً واحداً، ليلغي المجتهد كل وصف لا يصلح أن يكون علة، ويبقي على الوصف الصالح المتعين أن يكون هو علّة الحكم([81])، وهذا ما وضحه الجويني بقوله: "إن الناظر يبحث عن معان مجتمعة في الأصل ويتتبعها واحداً واحداً ويبين خروج آحادها عن صلاح التعليل به، إلا واحداً يراه ويرضاه"([82]) مثال هذا: أن يبحث المجتهد في علّة تحريم الأصناف الربوية، فيحصر أولاً الأوصاف المحتملة لتكون علّة: كالكيل أو الوزن أو الطعم أو الاقتيات أو الادخار، ثم يقوم بعدها باختبار كل وصف على حِدة ليلغي جميع الأوصاف غير الصالحة للتعليل، ويتعين عنده وصف واحد أخير، يكون هو العلة الحقيقية التي أراد الشارع نوط الحكم بها.

ويراد بالدوران: أن يثبت الحكم عند ثبوت وصف وينتفي عند انتفائه([83])، فيتوصل المجتهد من خلال هذا الارتباط بين الوصف والحكم وجوداً وعدماً، إلى أن هذا الوصف هو علة الحكم ومناطه([84]).

أما الشَبه: فهو الوصف الذي لا تظهر مناسبته للحكم بعد البحث التام، ولكن ألف من الشارع الالتفات إليه في بعض الأحكام([85]).

ويمثلون عليه بقولهم: إذا قلنا: في إزالة الخبث طهارة تراد للصلاة فيتعين فيها الماء كطهارة الحدث، فإن المناسبة بين الوصف وهو "طهارة تراد للصلاة" وبين الحكم وهو "تعين الماء" مناسبة غير ظاهرة، غير أننا نجد التفات الشارع إلى بعض الأحكام القريبة من هذا الوصف في مواطن عدة، وذلك أن الشارع رتَّب الحكم وهو تعيُّن الماء في الطهارة من الحدث للصلاة، والطواف بالبيت، ومسِّ المصحف، فغلب على ظننا أن هذا الوصف مشتمل على المصلحة، وإن لم تظهر مناسبته.

ونلاحظ عند النظر في القول: الطهارة من الخبث تراد للصلاة، فيتعين فيها الماء أن ثمة ثلاثة قيود([86])؛ الأول: أنها طهارة. والثاني: كونها من الخبث، والثالث: كونها تراد للصلاة. ومن خلال النظر في عادة الشارع نجد أنه التفت للقيدين الأول والثالث؛ فحكم بتعين الماء للطهارة لأجل الصلاة، أما القيد الثالث وهو أنها طهارة من الخبث، فلم يعهد التفات الشارع إليه، ولكننا نغلب ما ألف اعتبار الشارع له، على ما لم يعهد من الشارع التفات إليه. للاشتمال على تلك المصلحة، فهذا معنى شبهية الوصف.

هذا عرضٌ مجمل لأبرز مسالك العلة عند الأصوليين، وقد تحريت الاختصار قدر الإمكان، لأنني لا أهدف في هذا المقام أن أفصِّل هذه المسالك وأن أعرض أقوال الأصوليين فيها، وإنما هدفت فقط إلى تبيُّن هذه المسالك على وجه الإجمال، حتى يتسنى لي أن أحدد ما جعلته محلا للبحث في الفرع الثاني وهو العلاقة بين القرينة الحالية و مسالك العلة بقسميها النقلي والعقلي.

الفرع الثاني: العلاقة بين القرينة الحالية ومسالك العلة.

ظهر من خـلال الفرع السابق أن القرينة الحالية ليست مسلكاً مستقلاً من المسالك النقلية أو العقلية التي يتوصل بها إلى علة الحكم الشرعي، وأن أيا من العلماء - فيما اطلعت عليه - لم يورد قرائن الأحوال بما هي أدلة غير لفظية تحتف بالخطاب، ضمن المسالك المعتبرة التي يلجأ إليها المجتهد لتبين علة الحكم الشرعي.

والسبب في ذلك يرجع إلى أن القرينة الحالية لا تستغني عن غيرها من المسالك النقلية والعقلية وأنها تمتزج بها، وترتبط معها برباط وثيق، حيث إن أكثر القرائن الحالية يتم التعرف عليها من خلال عبارات الصحابة وألفاظهم باعتبارهم عاشوا مع المناسبات والأحوال التي احتفت بالخطاب، وأدركوا أن بعض الأحكام الشرعية منوطة بحال معينة كانت سائدة ومستقرة زمان التشريع، فإذا انكشفت العلة من خلال ما نقله الصحابي من قرائن حالية، كان تبيُّن العلة حينئذ راجعاً إلى المسالك النقلية لاسيِّما مسلك النص ‘حيث إن الصحابي قد ينصُّ صراحة على أن ثمة قرينة حالية هي علة هذا الحكم، أو يظهر هذه العلة دون أن يصرِّح بها، أو يومئ إليها فقط، وحينئذ يكون تبين العلة من خلال مسلك النص صراحة أو ظهوراً أو إيماءً، لأن القرينة الحالية – في الغالب - لا تعرف لمن لم يشاهدها، إلا بالنقل ممن شاهدها.

وعليه فإن الحال الذي يغشى الخطاب ويقترن به ليس مسلكاً مستقلا لتبين علة الحكم الشرعي، وإنما هو وسيلة مساعدة تنضم إلى المسالك العقلية والنقلية معاً، في سبيل حسن الوصول إلى علة الحكم و تعيين مناطه.

ولقد نبه الإمام الغزالي إلى هذا المعنى وأشار إلى أثر قرائن الأحوال في التنبيه إلى علة الحكم الشرعي ولكن دون الاستغناء عن سائر المسالك الأخرى، وذلك في معرض بيانه لأنواع مسلك الإيماء والتي منها أن يعلم النبي صلى الله عليه وسلم أمراً حادثاً فيحكم عقيبه بحكم، فيكون هذا إيماءً إلى أن هذا الأمر الحادث هو علة الحكم الذي حكم به، كما إذا قال واحد أفطرت يا رسول الله فيقول عليه السلام: عليك الكفارة، فذكر الكفارة عقيب معرفته بالإفطار تنبيه على أن علة الحكم هي الإفطار.

غير أن هذا الإيماء الذي يفيده ترتيب الحكم عقب العلم بالأمر الحادث لا يتمحض للدلالة على العلة، وذلك لأن قوله أعتق رقبة قد يكون إجابة عن سؤال آخر، وقد يكون أمراً مبتدأً لا علاقة له بالسؤال، فلا يتعيَّن أن يكون الإفطار علَّة للحكم إلا إذا عرف من قرينة الحال أن قوله: أعتق رقبة، جاء إجابة عن السؤال أفطرت في رمضان وليس لأمر آخر، وهذا ما ألمح إليه الغزالي بقوله: "إذ لا يفهم التعليل في هذا المقام، إلا إذا عرف أنه أجاب عن سؤاله، وأنه لم يذكر ذلك ابتداءً بعد الإعراض عن كلامه، إذ الغلام المنصوب لإسراج الدابة قد يقول لسيده: دخل فلان، فيقول السيد: أسرج الدابة. أي اشتغل بشغلك فمالك وذكر ما لا فائدة لك من ذكره؟ وليس هو من شغلك، وذلك يفهم منه بقرينة الحال. فبقرينة الحال يعلم أن المذكور مسبَّب ما ذكره المبتدئ، وقد تكون المناسبة فيه قرينة ظاهرة"([87]).

وبهذا فإن التردد بين أن يحمل الكلام على الابتداء، وبين أن يحمل على كونه إجابة على سؤال متقدّم، قد حُسِم من خلال الوقوف على القرينة الحالية التي واكبها الصحابي، فعرف أن هذه الواقعة هي علَة هذا الحكم، وهذا هو الفرق بين من واكب القرينة الحالية فيحكِّم عقله وذهنه، وبين من لم يواكبها فيحتكم إلى مجرد الظاهر فقط([88]).

وأشار الغزالي في موطن آخر أيضا، إلى أثر القرينة الحالية في تبيُّن علة الحكم الشرعي، وذلك عند كلامه عن مسلك المناسبة، حيث بيّن أن علّة الحكم التي لم ينص عليها صراحة ولا إيماءً قد تعرف مناسبتها للحكم بالنظر إلى حال المتكلم نفسه ومعرفة عادته وطبيعته وأخلاقه، وهذا ما بيّنه رحمه الله بقوله: "فأما ما ذكره –أي الحكم -ولم يذكر علته فطريق التفطن لعلته ملاحظة عادته المألوفة في إثبات الأحكام ونفيها. كالواحد منا إذا قال لغلامه: اضرب فلانا لأنه سرق مالي؛ فهم سببه بنصه. فلو قال: اضرب فلانا، واقتصر ولم يذكر سببه، ولكن علم الحاضرون أنه قد شتمه غلب على ظنونهم أن الداعي له إلى الأمر بالضرب شتمه. هذا إذا عرف من دأبه وعادته مقابلة الإساءة بمثلها، على طريق العقاب والزجر والانتقام والتشفي.

فأما الرجل الذي عرف من دأبه – على الطرد- مقابلة الإساءة بالإحسان، أو الإغضاء والتجاوز فإذا قال: اضرب فلانا، وكنا قد علمنا شتمه، لا يتبين لنا أن ضربه للشتم، فإن الدواعي والصوارف تختلف بالطباع والعادات، فالرجل المنعم المتقي إذا تواضع له رجل: احتمل ذلك أن يكون تبركاً منه بتقواه، واحتمل أن يكون طمعاً منه في نعماه ودنياه، ولا يعرف ذلك إلا بعادة المتواضع. "إلى أن قال: "فإن عرف من دأبه الزهد في الدنيا والإعراض عنها والترفع عن التضمخ برذيلة السؤال، وهو مع ذلك ملازم سمت التقوى والسداد، ظهر أنه تواضع لتقواه، لا لغناه ودنياه. وإن لم يعرف من عادة المتواضع شيء من ذلك، بقي الأمر محتملا"([89]).

وهذا التوضيح من الإمام الغزالي يفيد أن وصف العلة بأنها مناسبة للحكم قد اعتمد على جملة من القرائن الحالية كعادة المتكلم نفسه، وأسلوبه في التعامل، أو ما سبق خطابه من وقائع وأحداث احتفت به.

وهذا كله يؤكد أن القرينة الحالية ليست مسلكا مستقلا عن غيره وإنما هي أداة مساعدة تنضم إلى جملة المسالك النقلية والعقلية وتمتزج بها للمساعدة في الكشف عن علة الحكم ومناطه المناسب.

على أنّ هذا التأصيل النظري يبقى بحاجة إلى أمثلة تطبيقية وعملية، لتوضيح الأثر العملي الذي يمكن أن يستفاد من القرينة الحالية في تبيُّن علة الحكم الشرعي ولإبراز كيفية انضمامها إلى مسالك العلة للكشف عن العلة الحقيقية للحكم، وهذا هو ما أفردت له المطلب الآتي.

المطلب الثاني: تطبيقات عملية على أثر القرينة الحالية في تبين علة الحكم الشرعي.

وفيه مسائل:

المسألة الأولى : علَة النهي عن صبغ الشعر بالسواد.

المسألة الثانية : علة النهي عن الإقامة بين أظهر المشركين.

المسألة الثالثة : علَّة النهي عن كراء الأرض.

المسألة الأولى: علَة النهي عن صبغ الشعر بالسواد.

عن جابر رضي الله عنه قال جاء أبو بكر بأبيه إلى الرسول صلى الله عليه وسلم ورأسه ولحيته كالثغامة بياضاً، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم غيِّروهما واجتنبوا السواد"([90]).

يرشد ظاهر هذا الحديث إلى منع اختضاب الرجل بالسواد وذلك بناء على المعنى الأوَّلي المتبادر من قوله صلى الله عليه وسلم: "غيروهما واجتنبوا السواد" وهذا ما أخذ به جمهور الفقهاء حيث حمل بعضهم النهي على محمل التحريم([91]) وحمله آخرون على محمل التنزيه([92])، إلا إذا كان بقصد إرهاب العدو في الجهاد في سبيل الله، فإنه يكون مندوبا إليه([93]).

بينما ذهب بعض الفقهاء منهم الزُّهري، و ابن أبي عاصم، و أبو يوسف من الحنفية([94]) وبعض المالكية([95]) إلى أن النهي المستفاد من قوله صلى الله عليه وسلم: "وجنِّبوه السّواد" إنما يتوجه إذا كان بقصد التغرير والخداع والتشابب، أما إذا كان بقصد التزين وتحسين الصورة فإنه لا يحرم.

وقد اعتمد هذا الفريق من العلماء على القرينة الحالية التي نبَّهت إلى علّة النهي عن الاختضاب بالسواد وبيان هذا: أن النهي قد ورد بحقِّ أبي قحافة الذي أتي به إلى النبي صلى الله عليه وهو رجل هرم، قد غدا رأسه كأنه ثغامة بيضاء، والثغامة البيضاء نبت أبيض الزهر والثمر([96])، فلو أنه خضب بالسواد لأدّى هذا إلى ازدياد البشاعة والقبح، وحكمة الخضاب الذي أمر به الرسول صلى الله عليه وسلم، التزين وإزالة البشاعة لا زيادتها.

وهذا المعنى هو ما عبر عنه ابن أبي عاصم في تفسيره لفقه الحديث والمعنى المستفاد منه، بقوله: "النهي عن الخضاب بالسواد هو في حق من صار شيب رأسه مستبشعاً، ولا يطّّرد ذلك في حقِّ كل أحد"([97]).

وإلى المعنى نفسه أشار الإمام الزهري بقوله: "كنا نخضب بالسواد إذا كان الوجه جديداً فلما نفض الوجه والأسنان تركناه"([98]) أي أن العلَة هي قبح المنظر والصورة، التي سيكون عليها المختضب بالسواد في حال تقدُّم عمره.

وواضح من هذا الرأي أنه قد فهم أن علة النهي عن الصباغة بالسواد ليس لذات السواد، وإنما العلة تفهم من خلال حال المراد بالخضاب وهو أبو قحافة نفسه الذي تقدم به العمر، فلو خضب بالسواد لكان هذا على الضد من حكمة الاختضاب، ولغدا أكثر قبحا وشناعة، فحال المعنيّ بالخضاب – وهو أبو قحافة -، قد نبَّه إلى علَّة الحكم ومناطه.

وقد بيّن هذا المعنى وجلاه الشيخ عبد الحي الغماري بقوله: "إنما أمرهم صلى الله عليه وسلم باجتناب السواد لعلّة ظاهرة واضحة ذلك أن رأس أبي قحافة ولحيته كان الشيب قد عمّهما حتى صارا كالثغامة – وهو نبات شديد البياض – وخضبهما بالسواد يزيدهما بشاعة في المنظر، وذلك مناقض للمقصود من الأمر بتغيير شيبهما، إذ المقصود به هو تحسين الهيئة وتجميلها"([99]).

إلى أن قال "وفي ضوء ما مر بك تعلم أن خضاب الشعر مستحب وكونه بسواد أو حمرة أو صفرة شيء واسع لا تحجير فيه، كما يدلّ عليه خضاب جماعة من الصحابة والتابعين؛ لأنهم أعلم الناس وأعرفهم بالقرائن الصارفة لأوامره صلى الله عليه وسلم عن الوجوب إلى الندب أو الإباحة، لمشاهدتهم من أحواله وأقواله وأفعاله ما يبين ذلك. ومن البعيد جداً أن يفهموا من الأمر المراد به الوجوب مجرد الندب أو الإباحة، كيف وهم أهل اللسان العربي"([100]).

ولعلّ من المرجِّحات التي تؤيـد أن النهي عـن الخضاب مرتبط بعلّة قد نبهت إليها قرينة حال أبي قحافة، ما ورد عن جمع من الصحابة أنهم كانوا يختضبون بالسّواد، منهم: عثمان بن عفان، والحسن والحسين، وسعد بن أبي وقاص، وعقبة بن عامر و جرير، ومن التابعين: ابن سيرين وأبو بردة([101])، الأمر الذي يدل أن النهي عن الخضاب ليس على عمومه، وإنما هو منوط بوصف مدرك ومعقول، هو الاستبشاع والقبح، فإذا تحقق هذا الوصف حرم الخضاب، وإذا انتفى جاز الخضاب، بشرط ألا يكون فيه تغرير أو تدليس أو تشبب.

المسألة الثانية: علّة النهي عن الإقامة بين أظهر المشركين.

في الحديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: "أنا بريء من كل مسلم يقيم بين أظهر المشركين، قالوا يا رسول الله لم؟ قال: لا تراءى ناراهما"([102]).

يفهم من ظاهر هذا الحديث حرمة إقامة المسلم في أرض الكفر، وذلك لبراءته عليه الصلاة والسلام من كل مسلم يقيم بين أظهر المشركين، وطلبه بأن لا تراءى ناراهما أي لا تتقابلان، من قولهم دار فلان تنظر إلى داري أي تقابلها([103])، وهذا يقتضي على وفق المعنى الظاهر المتبادر من النص، وجوب ابتعاد المسلم في مسكنه ومحل إقامته عن مساكن المشركين وديارهم، وهو ما قرره وعبّر عنه الإمام ابن القيم بقوله: "ومنع رسول الله من إقامة المسلم بين المشركين، إذا قدر على الهجرة من بينهم"([104]).

على أننا عند النظر والتأمل في الحال الذي اقترن بالحديث نجد أن الإقامة في أرض المشركين ليست منهيا عنها لذاتها وإنما لعلة ووصف معقول، وبيان هذا: أنه قد ورد في سبب ورود هذا الحديث أن رسول الله صلى الله عليه وسلم بعث سريّة إلى خثعم، فاعتصم ناس منهم بالسجود، فأسرع فيهم القتل، فبلغ ذلك النبي صلى الله عليه وسلم، فأمر لهم بنصف العقل (الدية) وقال: أنا بريء من كل مسلم يقيم بين أظهر المشركين.

فعلّة إسقاط نصف دية هؤلاء كما يفهم من قرينة الحال التي أرشد إليها سبب الورود أنهم قد أعانوا على أنفسهم حين أقاموا بين أظهر المشركين، فكانوا كمن أسقط نصف حقّه، وهذا ما ألمح إليه الخطابي في تعليله للحكم بقوله: "لأنهم قد أعانوا على أنفسهم بمقامهم بين ظهراني الكفار، فكانوا كمن هلك بجناية نفسه وجناية غيره، فسقطت حصّة جنايته من الدية"([105]) أي أنهم كانوا متسببين في إلحاق الضرر والقتل بأنفسهم، ولهذا برئ الرسول صلى الله عليه وسلم من حقوقهم.

ومن العلماء من تنبه إلى أن الحديث قد ورد في الظرف الذي كان المسلمون فيه بحاجة إلى هجرة المسلمين إلى المدينة المنورة في سبيل نصرة الإسلام والمسلمين، والمشاركة في بناء الدولة الإسلامية. ومن هؤلاء الشيخ محمد رشيد رضا رحمه الله، حيث عدّ الإقامة في دار الكفر ممنوعة إذا كان المسلمون بحاجة إلى هجرة المسلم إلى دار الإسلام، أما إذا كانت الحاجة هي في إقامة المسلمين في أوساط المشركين أملاً في دعوتهم وهدايتهم، فإن النهي لا يتوجه في هذه الحالة، وهذا ما عبر عنه بقوله: "إن اختلاط المؤمنين الأقوياء في إيمانهم بالكافرين سببٌ قوي لانتشار الإسلام وظهور حقيقته وفضائله، كما وقع بعد صلح الحديبية ولذلك سماه الله تعالى فتحاً مبيناً. وكذلك كان انتشار المسلمين في كثير من بلاد الكفر بقصد التجارة سبباً لإسلام أهلها كلهم أو بعضهم، كما وقع في جزائر الهند الشرقية جاوة، وما جاورها وفي أواسط إفريقية"([106]).

فالنكير متوجِّه إلى الإقامة في دار الكفر التي ينبني عليها القعود عن نصرة الله ورسوله وهي التي أرادها الله تعالى بقوله: (وَالَّذِينَ آمَنُواْ وَلَمْ يُهَاجِرُواْ مَا لَكُم مِّن وَلاَيَتِهِم مِّن شَيْءٍ حَتَّى يُهَاجِرُواْ وَإِنِ اسْتَنصَرُوكُمْ فِي الدِّينِ فَعَلَيْكُمُ النَّصْرُ إِلاَّ عَلَى قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُم مِّيثَاقٌ)[72: الأنفال]، فنفى تعالى ولاية المسلمين لغير المهاجرين إذا كانت الهجرة واجبة، لأن المسلمين بحاجة إلى هذه الهجرة.

وبناء على ما تقدم يمكن القول إن قرينة الحال قد أرشدت إلى أن علَّة النهي عن الإقامة في ديار المشركين هي الضرر الذي سيحيق بالمسلم المقيم بدار غير إسلامية، أو الضرر الذي سيلحق بالمسلمين أنفسهم من جراء تقاعس بعض المسلمين عن واجب النصرة والإعانة في الوقت الذي يحتاجون فيه إلى تعاون الجميع ونصرتهم. ويكون قوله صلى الله عليه وسلم: أنا بريء من دمه إذا قتل، لأنه قد تسبب بهذا القتل حين أصرَّ على البقاء مقيماً بين هؤلاء المحاربين لدولة الإسلام([107]) ولأنه قد تقاعس عن نصرة المسلمين في الوقت الذي احتاج الإسلام فيه إلى النصرة بالهجرة.

وبناءً على هذه العلة المعقولة من قرينة الحال، تكون إقامة المسلم في بلاد غير إسلامية إقامة مشروعة، إذا انتفت علّة الحظر المفهومة من قرينة الحال، بحيث لا يكون في الإقامة خطرٌ على نفس المسلم ولا دينه ولا عرضه، ولا يلحق بالمسلمين ضرر بعدم إقامته في دار الإسلام. ويتصور هذا إذا كانت الإقامة في ديار غير إسلامية لغايات دعوية أو علمية أو علاجية، أو طلباً للأمن على النفس والمال إذا فات هذا الأمن في البلاد الإسلامية([108]).

أمَّا إذا تحققت علّة الحظر، وصار في إقامة المسلم في ديار غير إسلامية مظنةُُ للإضرار بدين المسلم أو عرضه أو ماله أو فكره وسلوكه، أو تأثير في عقيدة أبنائه وذريته، أو كان فيها تفويت لمصالح المسلمين بالتقاعد عن واجب نصرة ديار الإسلام، وإمدادها بالكفاءات والخبرات العلمية، فإن الإقامة تكون محرمة في هذه الحالة، نظراً لتحقق علّة الحظر التي أراد الرسول الكريم تفاديها بقوله: "أنا بريء من كل مسلم يقيم بين أظهر المشركين" والله أعلم.

المسألة الثالثة: علَّة النهي عن كراء الأرض.

ورد في الحديث عن جابر بن عبد الله أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى عن كراء الأرض([109]).

وعن نافع أن ابن عمر رضي الله عنه كان يـكري مزارعه على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم، وفي إمارة أبي بكر وعمر وعثمان، وصدراً من خلافة معاوية، حتى بلغه في آخر خلافة معاوية أن رافع بن خديج يحدث فيها بنهي عن النبي صلى الله عليه وسلم فدخل عليه وأنا معه، فسأله فقال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم ينهى عن كراء المزارع. فتركها ابن عمر بعد. وكان إذا سئل عنها بعد، قال: زعم رافع بن خديج أن رسول الله نهى عنها([110]).

إن الناظر في منطوق هذه الأحاديث يتوصل-بادي الأمر- إلى أن إجارة الأراضي الزراعية من العقود المنهي عنها، وأنه لا يجوز للرجل أن يدفع إلى آخر الأرض ليزرعها مقابل أجرة معينة، ذلك أن الأحاديث ظاهرة الدلالة على النهي عن هذا العقد على وجه العموم([111]).

ولكنَّ الوقوف على الحال الذي احتف بالنهي عن عقد كراء الأرض للزراعة يظهر لنا علَّة هذا النهي وسببه ومناطه، ذلك أنه قد ورد عن بعض الصحابة ما يفصح عن الظرف الذي اكتنف النهي عن كراء الأراضي، وهو ما بيَّنه رافع بن خديج رضي الله عنه نفسه حيث قال: إنما كان الناس يؤاجرون على عهد النبي صلى الله عليه وسلم بما على الماذيانات([112]) وأقبال الجداول([113]) وأشياء من الزرع، فيهلك هذا ويسلم هذا، ويسلم هذا ويهلك هذا، فلم يكن للناس كراء إلا هذا، فلذلك زجر عنه، فأما شيء معلوم مضمون فلا بأس به" وفي رواية "كنا نكري على أن لنا هذه، فربما خرجت هذه ولم تخرج هذه، فنهانا عن ذلك، فأما الورِق فلم ينهنا"([114]).

قال النووي في تفسيره لحديث رافع": ومعنى هذه الألفاظ أنهم كانوا يدفعون الأرض ببذر من عنده، على أن يكون لمالك الأرض وما ينبت على الماذيانات (مسايل المياه)، وأقبال الجداول أو هذه القطعة، والباقي للعامل، فنهوا عن ذلك لما فيه من الغرر فربما هلك هذا دون ذلك، وعكسه"([115]).

أي أنَ الحال الذي كشف عنه رافع بن خديج، قد أظهر علَّة النهي والمتمثلة بالخشية من وقوع الغرر في بعض صور إجارة الأرض للزراعة التي كانت سائدة إبّان صدور الخطاب، حيث يجعل بعض أصحاب الأراضي الأجرة هي ما يتحصَّل من زرع جزء معين من الأرض ليكون له وحده، فيسلم هذا الجزء فقط وتصاب بقية أجزاء الأرض، أو يصاب هذا الجزء ويسلم البقية، فنهاهم الرسول صلى الله عليه وسلم عن ذلك لما في هذا العقد من غرر.

فقرينة الحال التي بينها رافع بن خديج قد أظهرت علّة النهي، ولهذا قال الإمام ابن المنذر بعد إيراده لحديث النهي الوارد عن رافع بن خديج: "وقد جاءت الأخبار عن رافع بن خديج بعلل تدل على أن النهي من رسول الله لتلك العلل"([116]).

وهذا ما تنبه إليه الإمام الليث بن سعد بقوله: "أرى أن ما نهي عنه من كراء الأرض، ما لو نظر فيه ذوو الفهم بالحلال والحرام لم يجيزوه، لما فيه من المخاطرة"([117]).

وما أجمل عبارة شيخ الإسلام ابن تيمية وهو يبرز أثر الحال الذي كان عليه الناس في كراء المزارع في الكشف عن علة النهي بقوله: "وإذا كان قد جاء في بعض طرق الحديث أنه نهى عن كراء المزارع مطلقاً، فالتعريف للكراء المعهود بينهم. وإذا قال لهم النبي صلى الله عليه وسلم "لا تكروا المزارع "فإنما أراد الكراء الذي يعرفونه كما فهموه من كلامه، وهم أعلم بمقصوده"([118]).

على أنَّ ثمة قرينة حالية أخرى يظهرها ابن عباس رضي الله عنه وتكشف عن علّة أخرى لهذا النهي، فقد ورد عن طاووس عن ابن عباس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "لأن يمنح الرجل أخاه أرضه خير له من أن يأخذ عليه خرجاً معلوماً"([119]).

أي أن الأحوال والظروف الصعبة التي كان يعيشها بعض الصحابة هي التي عمل النبي صلى الله عليه وسلم على معالجتها من خلال توجيهه إلى عدم إكراء الأراضي الزراعية وذلك في سبيل حضّ الصحابة على مواساة إخوانهم وبذل المعروف لهم، ليكون في هذا التوجيه النبوي الكريم تخفيف من معاناة أصحاب الحاجة والعوز.

وبناء على هذا تكون علة النهي هي حمل الصحابة على المواساة، وهذا ما عبّر عنه الإمام البخاري بترجمته لأحاديث هذا الباب بقوله: باب ما كان أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم يواسي بعضهم بعضا في الزراعة والثمر"([120]).

وبناء على ذلك كلّه تتبين أهمية الوقوف على الحال الذي اكتنف الخطاب في إبراز علّة الحكم الشرعي وتبين المصلحة والحكمة التي تغياها الشارع من أحكامه وتشريعه، وأثر هذه العلة في تحديد مجال تطبيق الحكم، حتى يكون التطبيق على وفق إرادة الشارع وقصده، فلا يطبق على الوقائع والصور غير المقصودة ابتداء من أصل الخطاب، ولا تستثنى منه الوقائع والصور والأفراد التي هي توجهت إليهم إرادة الشارع بالتناول والشمول.

النتائج والتوصيات

بعد البحث في موضوع القرينة الحالية وأثرها في تبين علل الأحكام الشرعية، فإنني أسجل في هذا المقام أبرز النتائج والتوصيات التي توصلت إليها، وذلك على وفق النقاط الآتية:

أولا: أظهر البحث أهمية القرينة عموماً والقرينة الحالية خصوصاً في فهم النص الشرعي والوقوف على مقصود الشارع منه، وأنه لا يصح سلخ النص عن القرائن التي تحتف به وذلك لما لها من دور كبير في حسن الوقوف على المعنى الحقيقي الذي توجهت إليه إرادة الشارع وقصده، وأن من الأخطاء المنهجية التي قد يقع بها البعض في تعامله مع النصوص الشرعية بتر النص عن قرائنه التي تحتف به مما يؤدي إلى نتائج ودلالات ليست من مراد الشارع ولا مقصوده.

ثانياً: إن القرينة الحالية هي جميع الملابسات والأحوال التي تحتف بالخطاب ساعة إنشائه من المتكلم، وتؤثر على النص دلالةً أو ثبوتاً أو إحكاماً أو ترجيحاً.

ثالثاً: تبيـَّن من خلال البحث أن القرائن الحالية وإن كانت لا تقع تحت الحصر فإنه من الممكن الاسترشاد إليها من خلال النظر في أحوال الخطاب، و المتكلِّم، والمخاطَب، أو في أحوال هذه الأمور مجتمعة.

رابعاً: أظهر البحث أن تحديد القرائن الحالية التي تحتف بالخطاب الشرعي لا يكون بالتخمين والظن والتوهم، وأنه لا يتأتى إلا بأحد طريقين الأول: ما نقله الصحابة من هذه القرائن، لكونهم قد شاهدوا وعاصروا الأحوال والمناسبات التي احتفت بالخطاب نفسه، والثاني جمع الروايات المختلفة الواردة في الموضوع الواحد، وهذا يختص بأحاديث الرسول صلى الله عليه وسلم التي يفسِّر بعضها بعضاً وتنكشف بدراسة مجموع الروايات الواردة في الموضوع الواحد العديد من القرائن الحالية التي قد تخفى فيما لو أخذت كل رواية بمعزل عن الروايات الأخرى.

خامساً: أبرز الباحث تأثير القرينة الحالية في الكشف عن علَّة الحكم الشرعي التي يرتبط بها الحكم وجوداً وعدماً، وأظهر أن القرينة الحالية وإن لم تكن مسلكاً مستقلاً من مسالك العلة، فإنه يمكن الاسترشاد بها والتعويل عليها في سبيل الوصول إلى علة الحكم الشرعي التي تعتبر المناط الحقيقي للحكم حيث يدور معها وجوداً وعدماً.

سادساً: ظهرت من خلال البحث بعض التطبيقات العملية والآثار الفقهية التي يتجسد فيها تأثير القرينة الحالية على تبيُّن علة الحكم الشرعي، وبدا واضحاً أن خفاء القرينة الحالية قد يكون سبباً مباشراً في تعميم الحكم على وقائع غير مقصودة للشارع ابتداء من أصل إنشاء الخطاب الشرعي.

وأخيراً: يوصي الباحث بزيادة العناية بموضوع القرينة الحالية على وجه العموم، وتأثيرها على تبين علل الأحكام على وجه الخصوص، وذلك لما لهذا الموضوع من أهمية في فهم النصوص الشرعية فهماً صحيحاً موافقاً لمراد الشارع، وتطبيقها تطبيقاً سليماً محققاً لمقصود الشارع من أصل تشريع الأحكام. والحمد لله رب العالمين.

 

(*) المجلة الأردنية في الدراسات الإسلامية، جامعة آل البيت، المجلد الثالث، العدد (1)، 1428 ه‍/2007م.

 

الهوامش:


([1]) انظر: ابن منظور: محمد بن مكرم، لسان العرب، بيروت دار صادر مادة قرن. وابن فارس، أبو الحسين أحمد بن فارس بن زكريا، معجم مقاييس اللغة، تحقيق عبد السلام هارون، دار الفكر، بيروت، ج5، ص76.

([2]) الشيرازي: أبو إسحاق إبراهيم بن علي، التبصرة، تحقيق الدكتور محمد حسن هيتو، دار الفكر، بيروت ص39.

([3]) الرازي، فخر الدين محمد بن عمر بن الحسين (ت 606ﻫ) المحصول في علم أصول الفقه، ط3، 1418ﻫ-1997م، مؤسسة الرسالة بيروت، ج1، ص332.

([4]) القرافي، شهاب الدين أبو العباس أحمد بن إدريس (ت 684ﻫ) نفائس الأصول في شرح المحصول، تحقيق عادل عبد الموجود وعلي معوض، ط3، المكتبة العصرية، بيروت،1420ﻫ/ 1999م، ج3، ص843.

([5]) الجرجاني، علي بن محمد، التعريفات تحقيق: إبراهيم الأبياري، دار الكتاب العربي، بيروت ط1، 1405ﻫ، ص223.

([6]) التهانوي، محمد بن علي، كشاف اصطلاحات الفنون، تصحيح محمد وجيه وغلام قادر، مكتبة الخيام وشركاه 1863م، ج2، ص969.

([7]) محمد يونس وبن عيسى بطاهر، القرينة وعلاقتها بالمراد، مجلة التجديد، العدد السادس عشر، أغسطس، 2004م- رجب 1425ﻫ، ص68.

([8]) أيمن صالح، القرائن المحتفة بالنص وأثرها على دلالته قدمت استكمالا لمتطلبات درجة الدكتوراه في الفقه وأصوله، كلية الدراسات العليا، الجامعة الأردنية، 1421ﻫ/2001م، ص74.

([9]) المحصول، ج3، ص14.

([10]) المحصول، ج3، ص16.

([11]) أبو الحسين محمد بن علي بن الطيب البصري (ت 436ﻫ)، المعتمد في أصول الفقه، قدم له: الشيخ خليل الميس، دار الكتب العلمية، بيروت، ج2، ص358.

([12]) الزركشي، بدر الدين محمد بن بهادر (ت 794ﻫ)، البحر المحيط في أصول الفقه تحقيق مجموعة من العلماء، ط2، 1413ﻫ/1992م، وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية، ج4، ص73.

([13]) انظر: أيمن صالح، القرائن المحتفة، ص74.

([14]) التهانوي، كشاف اصطلاحات الفنون، ج1، ص390.

([15]) أيمن صالح، القرائن المحتفة بالنص وأثرها على دلالته، ص91.

([16]) أخرجه البيهقي، أبو بكر أحمد بن الحسين بن علي (ت 458ﻫ) السنن الكبرى، ط1، 1416ﻫ/ 1996م، بيروت، لبنان، دار الفكر، كتاب العدد باب ما جاء في أقل مدة الحمل، ج11، ص427، رقم (15965). وعبد الرزاق، عبد الرزاق بن الهمام بن نافع الصنعاني (ت 211ﻫ)، المصنف، ط1، دار الكتب العلمية 1421ﻫ/2000م، بيروت، تحقيق: أيمن الأزهري، كتاب الطلاق باب التي تضع لستة أشهر، ج7، ص279 رقم (13513).

([17]) انظر: أيمن صالح، القرائن المحتفة بالنص وأثرها على دلالته، ص93-146.

([18]) الجويني، إمام الحرمين عبد الملك بن عبد الله، البرهان في أصول الفقه، تحقيق: عبد العظيم الديب، دار الوفاء، المنصورة، ط3، 1412ﻫ/1992م، ج1، ص374.

([19]) البخاري، عبد العزيز بن أحمد (ت 730ﻫ) كشف الأسرار شرح أصول البزدوي، ضبط وتعليق: محمد المعتصم بالله البغدادي، ط3، دار الكتاب العربي، بيروت، 1417ﻫ-1997م، ج3، ص315.

([20]) الصالح، الأستاذ الدكتور محمد أديب صالح مصادر التشريع الإسلامي ومناهج الاستنباط مكتبة العبيكان ط1، 1423ﻫ/ 2002م، ص382.

([21]) انظر: الفتوحي، محمد بن أحمد بن عبد العزيز (ت 972ﻫ) شرح الكوكب المنير، تحقيق: محمد الزحيلي ونزيه حماد، مكتبة العبيكان، 1418ﻫ/1997م، ج3، ص543.

([22]) الرهوني، أبو زكريا يحيى بن موسى (ت772ﻫ) تحفة المسؤول في شرح مختصر منتهى السول، دراسة وتحقيق: الدكتور يوسف الأخضر القيم، ط1، 1422ﻫ / 2002م، دار البحوث للدراسات الإسلامية

وإحياء التراث، دبي، ج3، ص304.

([23]) الآمدي، سيف الدين علي بن محمد، الإحكام في أصول الأحكام، تحقيق: سيد الجميلي، دار الكتاب العربي، بيروت، ط1، 1404ﻫ، ج4، ص320.

([24]) انظر: أيمن صالح، القرائن المحتفة بالنص وأثرها على دلالته، ص118.

([25]) الشيرازي، التبصرة، ص39.

([26]) المحصول، ج1، ص332.

([27]) الغزالي، المنخول من تعليقات الأصول، تحقيق: محمد حسن هيتو، دار الفكر، دمشق، ط2، 1400ﻫ، ص82.

([28]) ابن القيم، محمد بن أبي بكر الدمشقي، إعلام الموقعين عن رب العالمين، تحقيق: طه سعد، دار الجيل، بيروت، 1973م، ج3، ص107.

([29]) أخرجه البخاري، كتاب الزكاة، باب العشر فيما يسقى من ماء السماء وبالماء الجاري، حديث 1483.

([30]) المستصفى، أبو حامد محمد بن محمد (ت 505ﻫ) دار الكتب العلمية، ط2، 1419ﻫ/ 1989م، ج1، ص342.

([31]) المستصفى، ج1، ص340.

([32]) المحصول، ج1، ص332.

([33]) البصري، المعتمد في أصول الفقه، ج2، ص346.

([34]) الكرخي، أبو الحسن، الأصول، مطبوع مع تأسيس النظر، ص63.

([35]) البرهان، ج1، ص253.

([36]) الجصاص، أحمد بن علي الرازي (ت 370ﻫ) الفصول في الأصول، تحقيق ودراسة: الدكتور عجيل جاسم النشمي، ط2، 1414ﻫ/1994م، وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية، الكويت، ج1، ص50.

([37]) الزركشي، بدر الدين محمد بن بهادر (ت 794ﻫ) البحر المحيط في أصول الفقه، تحقيق مجموعة من العلماء، ط2، 1413ﻫ/1992م، وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية، ج3، ص38.

([38]) المستصفى، ج1، ص340.

([39]) الشاطبي، أبو إسحاق إبراهيم بن موسى اللخمي الغرناطي (ت 790ﻫ) الموافقات في أصول الشريعة، تحقيق: الشيخ عبدالله دراز، ط2، 1395ﻫ/ 1975م، دار الفكر العربي، بيروت، ج3، ص347.

([40]) أخرجه أبو عبيد في فضائل القرآن، ص45-46. البيهقي في الشعب، ج5، ص230 (2086).

([41]) الواحدي، أبو الحسن أسباب النزول، ط1، 1959م، ج2، ص4.

([42]) ابن تيمية، تقي الدين أحمد، مجموع الفتاوى، جمع وترتيب: عبد الرحمن بن محمد بن القاسم وابنه، ج13، ص339.

([43]) الموافقات، ج3، ص346.

([44]) الموافقات، ج3، ص346.

([45]) الموافقات، ج3، ص351.

([46]) السيوطي، جلال الدين عبد الرحمن (ت 911ﻫ) الإتقان في علوم القرآن، تحقيق: محمود قيسية ومحمد الأتاسي، ط1، 1424ﻫ/ 2003م، مؤسسة النداء، أبو ظبي، ج1، ص129.

([47]) محمد رأفت سعيد، أسباب ورود الحديث تحليل وتأسيس، كتاب الأمة، رقم 37، ص 102.

([48]) انظر: أيمن صالح، القرائن المحتفة بالنص وأثرها على دلالته، ص275.

([49]) انظر: أصول البزدوي في متن كشف الأسرار للبخاري، ج2، ص175.

([50]) المرجع السابق، ص189.

([51]) المحصول، ج1، ص140.

([52]) انظر: المحصول، ج1، ص178-180.

([53]) أخرجه: البخاري، حديث 5376، كتاب الأطعمة، باب التسمية على الطعام وفي باب الأكل مما يليه. وأخرجه مسلم كتاب الأشربة، باب آداب الطعام والشراب، حديث 2022.

([54]) وهو ما قال به أكثر الشافعية وبه جزم الغزالي والنووي. انظر: ابن حجر، فنح الباري، ج12، ص270.

([55]) الفتاوى، ج29، ص111.

([56]) الموافقات، ج3، ص275.

([57]) إعلام الموقعين، ج1، ص338.

([58]) الزركشي، البحر المحيط، ج3، ص38.

([59]) صدر الشريعة: عبيد الله بن مسعود الحنفي، التوضيح لمتن التنقيح، دار الكتب العلمية، بيروت، ج1، ص240.

([60]) الغزالي، المستصفى، ج1، ص340.

([61]) الموافقات، ج3، ص338.

([62]) السرخسي، أبو بكر محمد بن أحمد، الأصول، تحقيق: أبو الوفا الأفغاني، دار المعرفة، بيروت، 1372ﻫ، ج2، ص108.

([63]) مجموع الفتاوى، ج13، ص364.

([64]) محمد الطاهر بن عاشور، مقاصد الشريعة الإسلامية، تحقيق: محمد الطاهر الميساوي، ط2، دار النفائس، 1421ﻫ/ 2001م، ص203-204.

([65]) القرضاوي، د.يوسف، كيف نتعامل مع السنة النبوية معالم وضوابط، المعهد العالمي للفكر الإسلامي، ط3، 1991م، ص110.

([66]) وهو ما روي عن عبادة بن الصامت أنه قال سمعت رسول الله e ينهى عن "بيع الذهب بالذهب والفضة بالفضة والبر بالبر، والشعير بالشعير، والتمر بالتمر، والملح بالملح، إلا سواءً بسواءٍ عينا بعين، فمن زاد أو استزاد فقد أربى". أخرجه مسلم كتاب المساقاة باب الصرف وبيع الذهب بالورق نقدا حديث (1587).

([67]) أخرجه مسلم كتاب المساقاة باب بيع الطعام مثلا بمثل حديث (1596) (101) (102).

([68]) انظر: ابن قدامة، موفق الدين أبو محمد عبد الله بن أحمد، المغني، تحقيق: د.عبد الله التركي، وعبد الفتاح الحلو، ط3، 1417ﻫ/ 1997م، دار عالم الكتب للتوزيع، الرياض، ج6، ص52.

([69]) الغزالي، أبو حامد محمد بن محمد (ت505هـ)، شفاء الغليل في بيان الشبه والمخيل ومسالك التعليل، تحقيق: الدكتور حمد الكبيسي، ط1، 1390ﻫ/ 1970م، وزارة الأوقاف، العراق، ص91.

([70]) الفتوحي، شرح الكوكب المنير، ج4، ص115.

([71]) انظر: الغزالي، شفاء الغليل، ص23-24. والقرافي، شهاب الدين أحمد بن إدريس (ت 684ﻫ) شرح تنقيح الفصول في اختصار المحصول، تحقيق: طه عبد الرؤوف سعد، طبعة مطبعة الكليات الأزهرية ودار الفكر 1393ﻫ/ 1973م، ص390. وابن قدامة، موفق الدين عبد الله بن أحمد (ت 620ﻫ) روضة الناظر وجنة المناظر، تحقيق: الدكتور عبد الكريم النملة، ط4، مكتبة الرشد، السعودية، 1416ﻫ، 1995م، ج3، ص836.

([72]) انظر: الزركشي، البحر المحيط، ج5، ص189. والرهوني، أبو زكريا يحيى بن موسى (ت 773ﻫ) تحفة المسؤول في شرح مختصر منتهى السول، دراسة وتحقيق: الدكتور يوسف الأخضر القيم، الطبعة الأولى، 1422ﻫ/2002م، ج4، ص80، الفتوحي، شرح الكوكب المنير، ج4، ص121.

([73]) الرهوني، تحفة المسؤول، ج4، ص82. الزركشي، البحر المحيط، ج5، ص197. الفتوحي، شرح الكوكب المنير، ج4، ص125.

([74]) شفاء الغليل، ص39.

([75]) أخرجه البخاري، كتاب الصلاة باب الصلاة في البيعة حديث (437). ابن حجر، أحمد بن علي بن حجر العسقلاني، (ت852ﻫ) فتح الباري بشرح صحيح البخاري، ط1، دار أبي حيان، القاهرة، 1416ﻫ/ 1996م. ومسلم، باب النهي عن بناء المساجد على القبور، حديث (1181).

([76]) شفاء الغليل، ص42. وللإيماء إلى العلة بالنص أنواع أخرى اختلف العلماء في عدها وحصرها فأوصلها البعض إلى تسعة أنواع كالزركشي، واقتصر آخرون على خمسة فقط، كالرازي والبيضاوي. انظر تفصيل المسألة: الزركشي، البحر المحيط، ج3، ص197-203. السبكي، علي بن عبد الكافي (ت756ﻫ) وولده تاج الدين عبد الوهاب (ت 771ﻫ) الإبهاج في شرح المنهاج، تحقيق ودراسة: أحمد جمال الزمزمي والدكتور نور الدين صغيري، ط1، 1424ﻫ/ 2004م، دار البحوث للدراسات الإسلامية وإحياء التراث، دبي، ج6، ص2301-2322.

([77]) الغزالي، شفاء الغليل، ص110. والرهوني، تحفة المسؤول، ج4، ص79. الزركشي، البحر المحيط، ج5، ص184. والفتوحي، شرح الكوكب المنير، ج4، ص115.

([78]) انظر: شفاء الغليل، ص111.

([79]) انظر هذه المسالك وغيرها: الغزالي، شفاء الغليل، ص142-411. والزركشي، البحر المحيط، ج5، ص206-256. الفتوحي، شرح الكوكب المنير، ج4، ص141-198.

([80]) الرهوني، تحفة المسؤول، ج4، ص96.

([81]) انظر: السبكي، الإبهاج شرح المنهاج، ج7، ص2386. والفتوحي، شرح الكوكب المنير، ج4، ص142.

([82]) الجويني، البرهان، ج2، ص35.

([83]) الرازي، محمد بن عمر بن الحسين (ت 606ﻫ) المحصول في علم الأصول، دار الكتب العلمية، بيروت، ط1، 1408ﻫ، ج2، ص347.

([84]) ولذلك سماه الآمدي وابن الحاجب الطرد والعكس: انظر: الآمدي، سيف الدين علي بن أبي علي بن محمد (ت632ﻫ) الإحكام في أصول الأحكام، مؤسسة النور الرياض، سنة 1387ﻫ، ج3، ص430. والرهوني، تحفة المسؤول، ج4، ص118.

([85]) الرهوني، تحفة المسؤول، ج4، ص115.

([86]) ميادة محمد الحسن، التعليل بالشبه وأثره في القياس والتعليل عند الأصوليين، ط1، 1421ﻫ/2001م، مكتبة الرشد، الرياض، ص219.

([87]) شفاء الغليل، ص33.

([88]) انظر: شفاء الغليل، ص35 بتصرف يسير.

([89]) شفاء الغليل، ص192.

([90]) أخرجه مسلم، كتاب اللباس والزينة، باب استحباب خضاب الشيب بصفرة أو حمرة، وتحريمه بالسواد، حديث رقم (5476).

([91]) وهو ما ذهب إليه الشافعية في الصحيح والحنابلة في قول. انظر: النووي، المجموع شرح المهذب، المطبعة المنيرية، ج1، ص294. وابن قدامة، المغني، ج1، ص127.

([92]) وهو قول المالكية، وأبي حنيفة، ومحمد بن الحسن، والشافعية والحنابلة في قول. انظر: ابن عابدين، رد المحتار على الدر المختار، طبعة بولاق، ج5، ص271. ابن عبد البر، أبو عمر يوسف بن عبد الله بن محمد (ت 463ﻫ) الاستذكار، تحقيق: حسان عبد المنان ومحمود قيسية، ط4، 1423ﻫ/2003م، ج10، ص158. وابن قدامة، المغني، ج1، ص127.

([93]) انظر: المصادر السابقة.

([94]) ابن حجر، أحمد بن علي بن حجر العسقلاني (ت 852ﻫ) فتح الباري بشرح صحيح البخاري، ط1، دار أبي حيان، القاهرة، 1416ﻫ/1996م، ج10، ص359. وابن عابدين، رد المحتار، ج5، ص271.

([95]) النفراوي، أحمد بن غنيم بن سالم (ت 1125ﻫ) الفواكه الدواني، دار الفكر، بيروت، 1415ﻫ، ج2، ص307. والزرقاني، محمد بن عبد الباقي (ت 1122ﻫ) شرح الزرقاني على موطأ مالك، دار الكتب العلمية، بيروت، ط1، 1411ﻫ، ج4، ص431.

([96]) النووي، شرح صحيح مسلم، تحقيق: خليل مأمون شيخا، دار المعرفة، بيروت، لبنان، ج14، ص306.

([97]) ابن حجر، فتح الباري، ج10، ص359.

([98]) المرجع السابق، ج10، ص359.

([99]) خضاب الرأس واللحية بالسواد ليس بحرام، دائرة الأوقاف والشؤون الإسلامية بدبي، إدارة الإفتاء والبحوث، قسم البحوث ص19.

([100]) المرجع السابق، ص22.

([101]) انظر: ابن قدامة، المغني، ج1، ص128. وابن حجر، فتح الباري، ج10، ص359. والشوكاني، محمد بن علي بن محمد (ت 1250ﻫ) نيل الأوطار من أسرار منتقى الأخبار، ط1، 1419ﻫ/ 1999م، دار الكلم الطيب، دمشق، ج1، ص191.

([102]) أخرجه الترمذي، أبو عيسى بن سورة (ت 297ﻫ) الجامع الصحيح، تحقيق: محمود نصار، ط1، 1421ﻫ-2000م، دار الكتب العلمية بيروت، كتاب السير باب ما جاء في كراهية المقام بين أظهر المشركين، حديث (1604). وأبو داود، سليمان بن الأشعث (ت 275ﻫ) السنن، تحقيق: محمد الخالدي، ط1، 1416ﻫ/1996م، دار الكتب العلمية، بيروت، لبنان كتاب الجهاد، باب النهي عن قتل من اعتصم بالسجود، حديث (2645).

([103]) الآبادي، أبو الطيب محمد شمس الحق العظيم، عون المعبود، دار الكتب العلمية، بيروت، ط2، 1415ﻫ، ج7، ص219.

([104]) ابن القيم، شمس الدين أبو عبد الله محمد بن أبي بكر (ت 751ﻫ)، زاد المعاد في هدي خير العباد، تحقيق: شعيب الأرنؤوط، ط3، مؤسسة الرسالة، 1419ﻫ/1998م، ج3، ص111.

([105]) الخطابي، أبو سليمان أحمد بن محمد (ت 388ﻫ) معالم السنن، شرح سنن أبي داود، دار الكتب العلمية، بيروت، 1416ﻫ/1996م، ج2، ص235.

([106]) الشيخ محمد رشيد رضا، تفسير المنار، ج10، ص104. ط1، دار إحياء التراث العربي، بيروت، لبنان، 1423ﻫ/ 2002م.

([107]) القرضاوي، كيف نتعامل مع السنة النبوية معالم وضوابط، ص130.

([108]) انظر هذا تفصيلا في بحث: الدكتور إسماعيل العيساوي، إقامة المسلم في بلد غير إسلامي في ضوء الفقه الإسلامي، مجلة الأحمدية.

([109]) أخرجه مسلم، كتاب البيوع، باب في كراء الأرض، حديث رقم 1536 (87).

([110]) أخرجه مسلم، في كتاب البيوع، باب في المزارعة والمؤاجرة حديث 1547 (109).

([111]) وهو ما ذهب إليه بعض التابعين مثل طاووس والحسن البصري نظرا لإطلاق الهي عن كراء الأرض انظر انظر: النووي، شرح صحيح مسلم، ج10، ص442.

([112]) هي مسايل المياه وقيل ما ينبت على حافتي مسيل الماء. النووي، شرح صحيح مسلم، ج10، ص442.

([113]) أي أوائلها و ورؤوسها. النووي، شرح صحيح مسلم، ج10، ص442.

([114]) أخرجه مسلم، في كتاب البيوع، باب كراء الأرض بالذهب والورق، حديث (1547) (15).

([115]) النووي، شرح صحيح مسلم، ج10، ص442.

([116]) أبو بكر محمد بن إبراهيم بن المنذر، الإشراف على مذاهب العلماء، تحقيق: أبو حماد صغير بن أحمد الأنصاري، ط1، 1425ﻫ/ 2005م، مكتبة مكة الثقافية، رأس الخيمة، ج6، ص259.

([117]) البخاري، كتاب الحرث والمزارعة، باب كراء الأرض بالذهب والفضة، فتح الباري، ج6، ص443.

([118]) مجموع الفتاوى، ج29، ص111.

([119]) أخرجه البخاري، كتاب الحرث والمزارعة حديـث

(2330). ومسلم، كتاب البيوع، باب الأرض تمنح، حديث 1550 (120).

([120]) كتاب المزارعة، باب ما كان من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم يواسي بعضهم بعضا في الزراعة والثمر. انظر: فتح الباري، ج6، ص438.