أزمة التعليم والبحث العلمي المعاصر
أبعادها، وأسبابها، وسبل علاجها في الكتاب والسنة (*)
الدكتور نايل ممدوح أبو زيد/ جامعة مؤتة
ملخص
تعالج هذه الدراسة أزمة التعليم والبحث العلمي المعاصر في العالم الإسلامي حيث بينت أبعاد هذه الأزمة، وأسبابها التربوية، والاقتصادية، والاجتماعية والسياسية، وأوضحت المخاطر المترتبة على انفصال التعليم والبحث العلمي عن الدين، وبينت فلسفة التعليم والبحث العلمي من منظور إسلامي وغربي، وذلك من باب مقارنة الظلمات بالنور والظل بالحرور.
مقدمة
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيد المعلمين، وقدوة العالمين، سيدنا محمد الأمين، وآله الطيبين الطاهرين، وصحابته أجمعين، وبعد فإن التعليم والبحث العلمي أساس تطور الأمم ورقيها، وسبيل سعادتها، وذلك عندما يرتبط بدين قويم ونهج سليم، وحين ينفصل عن الدين يكون في الغالب سبب دمار وشقاء، وتخريب إراقة دماء والعالم الإسلامي اليوم بالرغم من تنوع العلوم فيه وتعددها إلا أنه يعاني من أزمة حادة في التعليم، فتخلف بعد أن كان حاملا لواء العلم والمعرفة قرونا من الزمان، وتقدم الغرب في العلوم المادية التجريبية، وبذلوا في سبيل ذلك مبالغ باهظة، فاستقدموا الكفاءات والخبرات والعقول، وسيطروا على العالم، وبقى العالم الإسلامي يعج في أزمته التعليمية، وأخذت تتفاقم أزمته يوما بعد يوم، الأمر الذي زاد في رغبتي في كتابة بحث حول هذا الموضوع.
وقد بحثت بقدر طاقتي وجهدي لأرى من أفرد هذا الموضوع في البحث، فوجدت كتابا للدكتور عبد الفتاح خضر بعنوان" أزمة البحث العلمي في العالم"، وكتابا للدكتور زغلول النجار بعنوان "أزمة التعليم" لكنها من وجهة نظري لا تفي بالغرض المطلوب، لكونها لا تجلي فلسفة الإسلام والغرب حول هذا الموضوع بشكل واضح فأحببت أن أتوسع فيه.
وكانت خطتي في هذا البحث تحتوي على مقدمة وتمهيد، وثلاثة مباحث، وخاتمة يتبعها فهرس المراجع، وهي على النحو التالي:
المقدمة: وفيها أهمية البحث وخطته.
التمهيد: وفيه معنى التعليم والبحث العلمي لغة واصطلاحا.
المبحث الأول: وفيه أسباب أزمة التعليم والبحث العلمي.
المبحث الثاني: وفيه أسباب أزمة التعليم والبحث العلمي.
المبحث الثالث: انفصال التعليم عن الدين وآثاره على التعليم والبحث العلمي.
الخاتمة: وفيها ما توصلت إليه من نتائج.
التمهيد
يعتبر التعليم والبحث العلمي من المقاييس العلمية التي ينظر إليها لقياس مدى تقدم الأمم أو تأخرها، فالبحث العلمي هو الذي ينتج العلم والمعرفة والمدخلات الرئيسية والأساسية من أجل اتخاذ القرار السليم.
والتعليم مأخوذ في اللغة من العلم: وهو نقيض الجهل، وهو إدراك شي بحقيقته[1] وبه يتم حصول صورة الشيء في العقل[2]، والعلم إنما سمي علما لأنه علامة يهتدي بها العالم إلى ما جهله الناس من الأمور. فمن علم بالأمر عرفه وأتقنه[3].
والتعليم في الاصطلاح: هو نقل المعرفة من المعلّم إلى المتعلم، وإنشاء عملية التفاعل مع موضوعات التعليم، بهدف إحداث التغيير المرغوب في سلوكه[4].
وأما البحث العلمي: "فهو محاولة لاكتشاف المعرفة والتنقيب عنها، وتنميتها، وفحصها وتحقيقها تحقيقا دقيقا ونقدها نقدا عميقا ثم عرضها عرضاً كاملاً بذكاء وإدراك"[5].
فالبحث إذن هو المحدد الرئيس للقوى الفاعلة على المستوى العالمي, فمن ينتج المعرفة والمعلومة يستطيع أن يجد لنفسه مكانا بين الأمم، ومن لا ينتج المعرفة يحكم على نفسه بالتبعية للغير، ويحكم عليها بالتخلف والضعف. والحقيقة أنه بالرغم من توسع التعليم في العالم، والتطور التكنولوجي، وتوفر وسائل احتياجات الإنسان المختلفة، فإن العالم اليوم يعيش أزمة تعليمية تفوق أزمة الطعام والشراب، وأزمة الطاقة والأزمات السياسية، وهذه الأزمة في التعليم المعاصر تختلف في شكلها وحدتها من دولة إلى أخرى، لكن آثارها تنعكس بوضوح على جميع الشعوب في العالم.
أبعاد أزمة التعليم والبحث العلمي: والحق أن أزمة التعليم والبحث العلمي في العالم الإسلامي تعود إلى أسباب متعددة بعضها يرجع إلى مشاكل تربوية، وبعضها يعود إلى مشاكل اقتصادية، وبعضها يرجع إلى أسباب اجتماعية، وبعضها يعود لجوانب سياسية، والمنهج العلمي السليم في علاج الأزمة يقتضي الإلمام بأبعادها وأسبابها والآثار المترتبة على وجودها.
أما أبعاد هذه الأزمة في التعليم والبحث العلمي: فإننا نجد أن التعليم والبحث العلمي يعاني في العالم الإسلامي اليوم من ازدحام المكتبات في النتاج العلمي دون أن يكون هذا النتاج- في الغالب- على المستوى المطلوب في مجال العلوم المختلفة، فيفتقر تارة إلى الأصالة وتقع فيه السرقات العلمية تارة أخرى، ويقع فيه الإخلال في المنهج العلمي وأصوله تارة ثالثة.
والأصالة في البحث العلمي: تعني تفرد البحث وتميزه عن غيره بما فيه من أفكار مفيدة تتسم بالجدة من ناحية، وبالاستقلالية من ناحية أخرى[6].
لذا كان على العالم الباحث أن يتبع خطوات فكرية دقيقة في مساره لتحصيل العلم والمعرفة[7]، لأن البحث العلمي السليم يقتضي وجود أفكار جديدة تؤدي إلى إضافة جديد في البحث العلمي حول موضوع ما، فينصرف الإنسان من خلال ذلك في عالم الشهادة وشؤون الحياة ويسعى لتسخيرها وتنظيمها ورعايتها وإصلاح شؤونها على أساس من البحث والمعرفة.
وأضرب مثلا على الأبحاث التي تفتقر إلى الأصالة بتلك الأبحاث التي تعج بالأفكار غير الإسلامية، فيغتر بها بعض الناس لمجرد أنها أفكار مستوردة، من غير تمحيص لها، ومن غير تفريق بين الغث والسمين منها، فيأخذون بمضمونها ومحتواها، بالرغـم من مخالفتـها لمنـهج الله، وبعـدها عـن الموضوعية، فبعض الباحثين يسّلم بما ورد في المراجع الأجنبية من أفكار دون محاولة لمناقشتها، في الوقت الذي نجد فيه تلك الأفكار، منها الصواب، ومنها ما يجانب الصواب.
ولعل السبب في ذلك يعود إلى سيطرة الفكر الغربي على العالم لتقدم الغرب في الجانب العلمي المادي، علماً بأن للعرب والمسلمين تراثا عريقا في مختلف الفروع والعلوم وإن كانوا اليوم متأخرين في العلوم المادية التجريبية.
وأما السرقات العلمية وهي بعد ثان لأزمة التعليم فإنها تقع في بعض الأبحاث العلمية وتشكل جانبا خطيرا في حياة البشر، فنجد بعض الباحثين ينقل حرفياً من المراجع دون نسبتها إلى أصحابها، ويسطو على أفكار غيره، فينقل العبارات كما هي-بالمعنى والمبنى-دون أي جهد من جانبه، وقد يصل ذلك إلى حد النقل غير الواعي الذي ينقل فيه السارق الأخطاء كما هي، ثم ينسبها من بعد ذلك لنفسه.
وأما الإخلال بأصول البحث العلمي: وهو بعد ثالث للأزمة ويقصد به عدم التزام الباحث بالطريقة العلمية، أو بالأصول التي يتعين إتباعها عند إجراء البحوث العلمية سواء ما يتعلق بإتباع خطوات التفكير العلمي المنظم، أو باختيار المنهج الملائم للبحث وعرض الأفكار بموضوعية تامة، وفق خطة علمية منطقية، وكتابة الهوامش والحواشي، وترتيب البيانات، وغير ذلك من الأصول العلمية المعتمدة في البحث[8].
فهذه أبعاد ثلاثة لأزمة التعليم في العالم المعاصر حري بأهل العلم والمعرفة أن يقفوا عندها طويلا لعلاجها بعد الوقوف عند مظاهرها، وأسبابها، وتوجيه الناشئة إلى المنهج السليم في البحث والتعليم.
المبحث الأول
أسباب أزمة التعليم والبحث العلمي
بعد أن تبينت لنا أبعاد الأزمة نقف على الأسباب التي أدت إلى هذه الأزمة والمشكلة في التعليم والبحث العلمي، لأننا إذا وقفنا على الأسباب وصلنا عند ذلك إلى الدواء الناجع للمشكلة وأجمل هذه الأسباب بما يلي:
أولا: الأسباب التربوية للأزمة التعليمية والبحث العلمي:
مما يعاني منه التعليم اليوم وجود التفاوت بين الأخلاق والعلم، فأصبح الإنسان المتعلم يعلم بالشيء ولا يعمل به، فيعلم سبل الخير ولا يعمل بمقتضاها، ويعلم بالإثم ولا ينتهي عنه، ويعلم بالرشوة ويتعامل بها، ويعرف أن الاحتكار جريمة محرمة ومخالفة للشرع ثم يفعله، وعليه فالتربية لا تقل أهمية عن التعليم وإذا خلا التعليم من التربية أصبح بلا ثمرة مجدية في واقع الحياة.
إن التعليم والتربية يتوقفان -في كثير من الأحيان- على وجود معلمين يؤمنون بهذه المبادئ فلا بد من السيرة الطيبة والخلق الكريم والتربية القويمة لمن يقوم بالعملية التعليمية، بحيث يخلص المعلمون والمتعلمون للمبادئ التي يعلّمونها ويتعلّمونها، ويدعون إليها بإيمان وحكمة، ولن ينجح التعليم ولن يؤتي أكله إذا كان المعلمون لا تتفق حياتهم وأخلاقهم مع ما يدعون إليه من رسالة العلم والمعرفة.
ومما ينبغي علمه أن بناء الشخصية بالتربية السليمة هي قضية التعليم الأولى، وعليه فيجب أن نهتم بتزكية النفس كما نهتم ببناء الجسد، وأن نهتم بما يعلّم للطلاب قبل البناء الذي سوف يتلقون فيه العلم، وبالتغيير الذي يمكن أن يحدثه الإنسان قبل الدرجة العلمية التي نمنحها له، وبعد ذلك نحظى بالإنسان القادر على التحكم بنفسه، وضبط سلوكه وتصرفاته، الملتزم بقيم أخلاقية سامية، المؤمن بمثل عليا يحيا لها ويموت في سبيلها، وهذا هو الأمر الذي يحدد سلوكه[9].
لذا كان الرسول صلى الله عليه وسلم قدوة للناس جميعا عالمهم ومتعلمهم على السواء في سلوكه وتصرفاته وعلمه "فقد كان عليه الصلاة والسلام بشخصيته وسلوكه وشمائله وتعامله مع الناس ترجمة عملية بشرية حية لحقائق القرآن وتعاليمه"[10] ومن هنا كان الحري بمن يقومون بعملية التعليم أن يكونوا قدوة للناس في سلوكهم وتعاملهم، وإلا كان هنالك إشكال في العملية التعليمية.
ومن هذه الأسباب التربوية التي تؤدي إلى أزمة في التعليم والبحث العلمي أيضا:
1- انتشار التحلل الأخلاقي وسط انفجار حقيقي من المعرفة، فأصبح هم طلاب العلم الحصول على المؤهل المرجو في الدراسة فقط، ففقد الأستاذ بذلك صفة القدوة الحسنة وانفقد دوره القيادي لخلوه من الأخلاق والقيم والتربية الروحية، والتعليم إذا كانت هذه فلسفته لا يساعد المتعلم إلا على النمو بقدراته المادية فقط وإن تم ذلك فإنه يتم على حساب ملكاته الروحية والنفسية، والتزامه الأخلاقي وذلك يخرجه عن الفطرة السليمة المتزنة بين المادة والروح[11].
2- ومن الأسباب التربوية للأزمة أيضا اقتصار بعض المعلمين على الجانب التلقيني فحسب في العملية التعليمية، وهي سياسة يترتب عليها إفراز نوعية من البشر لا يمكن أن تفهم ما يقع إلا بعقل المعلم، وفرق بين التلقين وبين الاعتماد على التفكير، والبحث، وعمق النظر.
ولا شك في أن سيطرة التعليم التلقيني وعدم ربط التعليم بالعمل وبالواقع والفكر مما يخل بالعملية التعليمية عن مسارها الصحيح علما بأن الإسلام يسعى لبناء المنهج العلمي النظري والتجريبي بأدواته وأساليبه التي يبني بها في الإنسان الذاتية العلمية المؤهلة المنضبطة، القائمة على التفكير السليم، والنمو والارتقاء.
ثم إن الاعتماد على التلقين وحده في الجانب التعليمي له أثر سلبي على شخصية الأجيال من جانبين: أولها: عجز القائمين على أمر التربية والتعليم عن التطوير ومواكبة الحداثة والتنمية في الأجيال. لاستمرارهم في التعليم التلقيني فحسب فتتطور الأمم من حولهم وهم على سجيتهم.
ثانيها: الانفصام بين المناهج التعليمية وروح العصـر في المجتمع، وهذا يؤدي إلى أن تكون الأجيال مجرد أدوات تنفيذ لسياسات ومناهج تعليمية من غير قناعة وجدانية بها ولا تفاعل مع مضامينها.
3- ومن الأسباب التربوية في أزمة التعليم شيوع المسكرات والمخدرات والزنا وغيره من أنواع الاعتداء والسلوكيات المحرمة في المجتمعات، الأمر الذي يزيد في مشكلة التعليم وانحراف الشباب عنه، وتنبع هذه المشكلة التربوية الأخلاقية من ابتعاد الناس عن القيم الإسلامية، وغياب التربية الأخلاقية عن مناهج التعليم والتربية[12].
4- ومما يشارك في أزمة التعليم والبحث العلمي التربوية أيضا عدم وجود الوقت الكافي لدى من يشرفون على العملية التعليمية والبحث العلمي وذلك بسبب العبء الإضافي الذي يوكل إلى كثير منهم اليوم، الأمر الذي لا يبقي لهم متسعا من الوقت من أجل إجراء البحث العلمي العميق، أو الإشراف الدقيق على الباحثين فيه.
5- عدم توفر الحرية الفكرية الكافية لدى الباحثين وتوجيه البحوث والباحثين-في بعض الأحيان- نحو اتجاهات فكرية معينة على حساب الصالح العام، وعلى سبيل المثال تتضمن حرية التعليم والبحث العلمي ثلاثة أمور وهي: حق الفرد أن يلقن العلم للآخرين، وحقه في أن يتلقى قدرا من التعليم عن الآخرين، وحقه في أن يختار من المعلمين من يشاء[13]، فتوضع العراقيل التي تحرم الفرد من هذه الحقوق بالرغم من عدم وجود مانع شرعي لذلك.
6-عدم تركيز المؤسسات التعليمية المختلفة على حاجات المجتمعات المحيطة بها ففي الوقت الذي يتزايد فيه الإقبال على التعليم في العالم الإسلامي، لا نرى إقبال الطلاب بالضرورة على التخصصات الصناعية التي يحتاجها المجتمع لتطوره مما أدى إلى تصدع واضح بين التعليم والمجتمعات.
ثانيا: األأسباب الاقتصادية لأزمة التعليم:
ومما يشارك في أزمة التعليم والبحث العلمي المعاصر أسباب اقتصادية تتعرض لها بعض الدول في العالم الإسلامي، الأمر الذي قد يؤدي إلى زيادة عدد الأميين في العالم، وذلك بسبب الانفجار السكاني من جهة، وما صاحبه من مشاكل اقتصادية تحول في كثير من الأحيان دون مسايرة التوسع في التعليم من جهة أخرى بسبب النمو السكاني الذي يرافقه قلة الدخل الاقتصادي لدى الفرد، وشدة العوز للأسر في بعض الدول الفقيرة. وبناء على ذلك فالتأزم الاقتصادي في عملية التعليم يعود إلى عاملين رئيسيين:
الأول: أن الزيادة السكانية في الدول النامية أو ما يسمى بالعالم الثالث اليوم عالية جداً إذا قورنت بالزيادة في الدول الصناعية الأمر الذي يرهق كاهل الموازنة وهذا بدوره يؤثر سلبا على عملية التعليم والبحث العلمي.
الثاني: انخفاض الناتج الوطني في الدول النامية بالمقارنة بالناتج الوطني في الدول المتقدمة مما يجعل ما ينفق على التعليم منخفضاً تبعاً للموازنات الحكومية، في المؤسسات التعليمية[14].
ومما لاشك فيه أن مشكلات التعليم لا تنبع من ضعف الاقتصاد وحده، لكنها تشارك في الأزمة وتساعد على تفاقمها، إذ إن الأموال التي تنفق على البحث العلمي إضافة إلى الإمكانات العقلية التي وهبها الله لبني البشر تؤتي ثمارها أضعافاً مضاعفة، وبذلك يتم استثمار المواد الخام في هذا الكون.
والبحث العلمي في العالم الإسلامي لم يقدم له الدعم الاقتصادي الكافي مما أدى إلى ضآلة البحث العلمي، وبناء عليه وقع ضمور شديد في التقدم التقني، ولعل هذا أيضا من الأسباب التي ساعدت على انتشار الفقر بين السكان[15].
فالبحث العلمي يحتاج إلى مال من أجل تفريغ الباحثين، وتأمين المواد والتجهيزات المختلفة، والمال لوحده لا يكفي فلابد من العقول التي تبحث وتجد وتجتهد. الأمر الذي يلقى على كاهل الدولة ضرورة إيجاد تشريعات ونظم تجعل الناس يقبلون على التعليم والبحث العلمي النافع.
أما العوامل الاقتصادية الفرعية فنجعلها بالآتي:
- التعليم غير المخطط له الذي يعتري مؤسساتنا التعليمية في بعض الأحيان يزيد في البطالة، فنجد أفواجا من العاطلين عن العمل لاسيما عندما يركز الناس في تعليمهم على الجوانب الأكاديمية ويتركون ما يتعلق بالصناعة والمهن من العلوم، فالحكومات المتعاقبة في أي دولة لديها كمية محدودة من الوظائف ولا تستطيع توظيف جميع الخرجين أو تشغيل كل متعلم علما أكاديميا[16].
ونجد بعض الناس في مجتمعنا يقوم ببيع ما يملك من الأرض أو العقار في سبيل تعليم ولده بعض العلوم غير المدروسة، والتي لا يكون الوطن بحاجة إليها، فتزاد بذلك أزمة البطالة برفد المجتمع بمتعلمين جدد لا عمل لهم بما تعلموا، ونفقد بذلك ثروات اقتصادية في تعليم لا يعود على المتعلم ومجتمعه بكبير فائدة.
2- عدم وجود الإمكانات الاقتصادية في بعض الدول الإسلامية لدى الأفراد لتعلم بعض العلوم التي يحتاجها أبناء البلد الواحد، مما يلقي على كاهل الدولة تبني هذا النوع من العلوم لرفد المجتمع بالكفاءات العالية، وقد تعجز هذه الدول فتسعى إلى الاستدانة والاقتراض الخارجي من الدول الغنية، فتقدم لها يد العون والمساعدة ولكن بقيود وشروط، يكون لها تأثير كبير على توجيه العملية التعليمية في الدول الفقيرة.
والدعم المادي الخارجي من الدول ذات الفائض المادي إلى الدول الفقيرة له أهمية كبيرة وفائدة قيمة، إذا لم تستغل تلك الدول المانحة هذه الحاجة من أجل السيطرة على الدول الفقيرة، وهذا يلقي على كاهل الدولة ضرورة العمل على تحرير الاقتصاد من هيمنة الدول الغنية بكل الطرق التنموية المشروعة.
3- افتقار الأمة للمبدعين والمبتكرين والمخترعين والفنيين في المجالات الصناعية المختلفة سبب آخر من أسباب التخلف الصناعي، والسبب في هذا الافتقار هو القصور أو التقصير في إعدادهم على النحو الذي يستطيعون فيه تحقيق حاجات الأمة في كل الصناعات، وقد يوجد المبدعون الأكفاء فيتعرضون للمنع بسبب الضغط الدولي الكبير من قبل الدول التي تحاول السيطرة على العالم.
4- مما هو معلوم أن التخلف العلمي في المجالات الاقتصادية يؤدي إلى التخلف الزراعي والصناعي والتجاري، وذلك لأن التقدم العلمي في هذا المجال مما يضيف إلى الإنتاج الزراعي والصناعي أضعافاً مضاعفة من حيث استصلاح الأراضي الزراعية وتوسيع نطاقها[17] بتطوير الصناعات المختلفة.
5- عوامل الرخاء والكساد في المجتمع لها آثارها في حركة البحث العلمي، فمن المسلم به أن البحث العلمي لكي يتقدم يحتاج إلى إمكانيات، قد لا تقوى عليها دولة تعاني في نظامها الاقتصادي من الأزمات الشديدة.
وهذه الإمكانات إذا توفرت تساعد على توفير الأجهزة والأدوات اللازمة للبحث العلمي كما أنها تساعد على التخطيط السليم له، وإرسال البعثات واستقدام الأساتذة والخبراء والتوسع في مؤسسات البحث العلمي، وإعداد الأجيال اللازمة من الباحثين إعداداً جيداً، وتوفير الحياة الكريمة لرجال البحث العلمي[18].
إن من أهم أسباب هبوط مستوى البحث العلمي في بعض البلاد العربية والإسلامية التقدير المالي فقد يتعرض أهل العلم لضغوط مالية كبيرة نتيجة عدم كفاية التقدير المالي، أو العائد المالي لإنتاجه العلمي.
6- والعمل في البحث العلمي يحتاج فضلاً عن المعرفة والعلم إلى راحة البال وصفاء الذهن، ولا شك في أن المال إن لم يكن ميسوراً لرجل العلم لاسيما في هذا العصر خاصة الذي تطغى عليه النزعة المادية فإنه يتعرض لضيق وحرج بسبب عدم إشباع حاجاته وحاجات أفراد أسرته، فيصاب بالقلق والتوتر والابتعاد عن الدقة في استيعاب الأمور وعدم التفكير السديد[19].
7- ضعف رفد المكتبات بمصادر المعرفة والبحث العلمي ومرافقه والتسهيلات اللازمة لقلة الموارد المادية، في بعض الدول الفقيرة في العالم الإسلامي ساعد في تفاقم الأزمة التعليمية، فالمكتبات في بعض الأحيان تفتقد أهم الدوريات والمجلات المتخصصة، التي يكون الباحث في أمس الحاجة إليها للإبقاء على الاتصال بآخر التطورات العالمية التي تحدث في مجال اختصاصه.
8- ضعف الموازنة التي ترصد للبحث العلمي في العالم الإسلامي من الأمور التي تزيد في الأزمة التعليمية.
9- ارتفاع تكاليف التعليم وتزايد احتياجاته المادية بشكل مستمر سبب اقتصادي آخر شارك في وجود أزمة التعليم والبحث العلمي.
ثالثا: الأسباب الاجتماعية لأزمة التعليم:
بالرغم من كثرة المتعلمين في البلاد الإسلامية وقعت أزمة التعليم فيها بسبب عدم الالتفات إلى المبادئ الإنسانية السامية والوعي الديني، فظهرت مشكلة البطالة، وعطلت المتعلمين في كثير من البلدان الإسلامية عن القيام بواجبهم بكفاءة واقتدار، وليس من شك في أن هنالك جوانباً اجتماعية شاركت في تولد الأزمة التعليمية في العالم الإسلامي، وهي على النحو التالي:
1- الفكر الاجتماعي غير المسؤول بحكم بعض العادات والتقاليد التي تحقر بعض المهن وتنظر إلى بعضها الآخر بازدراء، مما ينفر كثيرا من الشباب من تعلمها واكتساب لقمة العيش منها، فينصب التعليم على جانب نظري معين يؤدي إلى البطالة وتكديس الكفاءات في ذلك الجانب.
2- ومن هذه العوامل ما يتعلق بالأسرة في المجتمع واستقرارها، ومدى حصانتها ضد التصدع، وعلاقة أفراد هذه الأسرة في المؤسسات التعليمية، فتصدع الأسرة وتفككها يؤدي إلى ضياع الطفل الذي يحرمه من أن يكون في مستقبل الزمان من الباحثين النابغين، لو توفرت له أسباب الرعاية الاجتماعية الصحيحة.
3- ومن العوامل الاجتماعية التي أدت إلى الأزمة التعليمية التقليد الأعمى الذي قد يضعف عملية البحث العلمي ويؤدي إلى الجمود والانحصار. علما أن بعض الأمور التي تبنى على الاقتباس ممن سبق قد يكون منها الحسن، وهو ما نبه له رسول الله في حديثه عن حلف في الجاهلية أقامته قريش لنصرة المظلوم وهو حلف الفضول قال فيه رسول الله: "ما أحب أن لي بحلف حضرته بدار بن جدعان حمر النعم... تحالفوا به أن يكونوا مع المظلوم ولو دعيت به لأجبت وهو حلف الفضول[20].
4- إن جوهر كثير من الأزمات الاجتماعية يعود إلى أسس أخلاقية اعتادها الناس باجتماعهم مما يولد بطبيعته توترات كثيرة، ويولد قيماً وأخلاقا تشربوها فيجد التعليم نفسه أمامها عاجزا عن إصلاح الخلل[21].
5- ومن الأسباب الاجتماعية أيضا أن أكثر المعلمين والآباء والطلاب والقائمين على وسائل التثقيف والتعليم قد تغيرت نظرتهم للعلم، فأصبح همهم الجانب المادي بعد أن كان طلب العلم في نظرهم من أفضل الأعمال التي يتقرب بها إلى الله، فأصبحت اليوم النظرة لتعليم الناشئة العلم بهدف الحصول على الشهادة للوظيفة، والوظيفة من أجل الرفاهية، وهذا بدوره جعل طلب العلم مصبوغا بصبغة تجارية من غير النظر إلى الأهداف السامية، فأصبح النظر إلى العلم على أنه وسيلة لتحقيق مآرب دنيوية محضة[22].
6- ومن الجوانب الاجتماعية التي تشارك في أزمة التعليم وجود الطبقية بوضوح في بعض البلاد وذلك في المدارس والمؤسسات التربوية أحيانا، فنجد المدارس والمؤسسات التعليمية في القرى والبوادي والأحياء الفقيرة تزدحم بالطلاب وبالمدرسين الأقل كفاءة مع شح في وسائل التعليم، بينما نجد المدارس في الأحياء الراقية تزخر بالإمكانات المختلفة، ومدارس التعليم الخاص، فأخذ التعليم الخاص يزيد من تفاقم المشكلة، فالقادرون على الدفـع من رجـال الأعمال وطبقـة النخبـة في المجتمعات يدفعون بأبنائهم إلى المدارس الخاصة التي تتوفر فيها عادة إمكانات أفصل من المدارس الحكومية، وهذا يجعل التعليم الذي هو وسيلة للدفع الاجتماعي أداة تمزيق في أوصال المجتمع بانعدام تكافؤ الفرص[23].
رابعا: الأسباب السياسية لأزمة التعليم:
وإضافة إلى ما سبق من أسباب فهنالك أسباب سياسية كان لها أثر كبير في أزمة التعليم والبحث العلمي والمناهج التعليمية ومن هذه الأسباب:
1- القرارات السياسية التي تصدر عن بعض الدول والمؤسسات والتي تحظر على العلماء الباحثين إجراء بحوث علمية معينة لها أهمية كبيرة في حياة الدول والمجتمعات، وذلك كالبحوث المتعلقة بتصنيع وتطوير الأسلحة النووية والذرية والجرثومية، بحجة أنها محظورة عالميا ومحرمة دوليا، الأمر الذي أدى إلى أن ملكها الأعداء، وحرمتها أمتنا، فسيطروا بذلك على القرار السياسي في العالم. ومن الطبيعي كي نقابل القوة بالقوة لا بد من اتخاذ القرارات السياسية الجريئة، التي تمكن العلماء من البحث في هذا الجانب وتطويره، حتى لا نبقى تحت رحمة تلك الدول في ما نشتريه منها من سلاح، إذ لا فائدة من شراء سلاح يسهل على الأعداء إبطال مفعوله، ولكن قد نستفيد مما توصلوا إليه من تكنولوجيا في هذا الجانب بتطوير النظم التعليمية ومناهج البحث، وهذا لا حرج فيه لمواكبة روح العصر، والاستفادة مما توصلوا إليه من رقي مادي في هذا الإطار، لقوله عليه الصلاة والسلام: "الحكمة ضالة المؤمن فحيث وجدها فهو أحق بها"[24].
- تشريع القوانين والأنظمة والتعليمات التي تحول بين بعض العلماء المختصين أصحاب الخبرات، والكفاءات العالية من أبناء الأمة وبين التعيين في مواطن التعليم والبحث العلمي، بالرغم من تميزهم وقدرتهم على التدريس والبحث، بسبب خلافات سياسية لا تقوم على أساس المصلحة العامة، وإنما فقط لكون أصحابها لا يتفقون مع بعض أصحاب القرار السياسي في بعض أفعالهم، وقراراتهم المخالفة لشرع الله "علما بأن حرية الرأي للفرد مضمونة في النظام الإسلامي لمصلحة الفرد، بالقيود التي وضعتها الشريعة لمصلحة الجماعة"[25].
3- التخبط السياسي واختلال الأمن والاستقرار في بعض الدول له دور أساسي في قضية انهيار مستوى التعليم، وأكبر شاهد على ذلك ما نراه اليوم في بعض الدول التي احتلت وانهار نظامها السياسي، واختل فيها الأمن والاستقرار، وانعدمت فيها الرؤية الواضحة عند القيادة السياسية الجديدة، لعدم وعيها لما نريد تعلمه وممن تستقي هذه العلوم، والهدف من ذلك.
4- السياسات التي تسلكها بعض المؤسسات التعليمية المختلفة ومدى اهتمام الدول في البحث العلمي من الأمور التي تؤثر تأثيراً جلياً في توجيه البحث العلمي، فضلاً عن وسائل الإعلام المختلفة فيها.
فالدولة يمكن أن تجعل هذه العوامل مجتمعة سلاحاً فعالاً يسهم إلى حد كبير في الثقافة والوعي وإبراز أهمية البحث العلمي، وقد تجعلها عكس ذلك[26].
5- الضغط السياسي على الباحثين وعدم استقلالية الباحث في البحث والرأي من الأمور التي تورث الاستسلام للواقع وهذا يتنافى مع الربط بين الحاضر والماضي في التعليم والتقدم في البحث العلمي، فيخوض الباحث غمار التعليم بلا استقلالية الأمر الذي يمنع من الإضافة والتجديد، لذا جاءت الشريعة تطلق للباحث فكره في رحاب هذا الدين بعيدا عن هذه الضغوطات "فلقد كان من مزايا هذه العقيدة الكبرى أن أطلقت العقل البشري يعمل في أوسع نطاق متاح على الأرض ولم تغلق عليه الأبواب أو تجمده في قوالب مصبوبة لا فكاك منها"[27].
وعليه فالعوامل السياسية ذات تأثير واضح في توجيه البحث العلمي وبخاصة إذا عمدت بعض الدول إلى التربية السياسية وبث مبادئ واتجاهات معينه في أعماق الباحثين وطلاب العلم. وهذا يرتبط بموقف الدولة في مكان ما من حرية الفكر ذلك أن حرية الفكر تدعم التحليل النقدي للأمور بموضوعية ومن شأن ذلك أن يقود الباحث إلى إعلان الحقائق التي يؤدي إليها.
المبحث الثاني
انفصال التعليم عن الدين وآثاره على التعليم والبحث العلمي
إن الأصل في التعليم أن يكون مرتبطا ارتباطا وثيقا بمبدأ العقيدة، وكل تعليم لا يقوم على هذا الأساس غالبا ما يؤدي بالإنسان إلى أن يغدر بذمته ويخون أمانته، وبدلا من أن يكون في مجتمعه أداة بناء وتعمير يصبح معول هدم، وإفساد وتدمير.
لقد أحدث القرآن تحولاً كاملاً في حياة الناس وأخلاقهم وعاداتهم وتقاليدهم عندما تربوا على مائدة القرآن، فنقلهم نقلة نوعية من الشرك إلى الإيمان، ومن الفرقة إلى الوحدة، واجتماع الكلمة، وفتح أبواب العلم والمعرفة.
أما حين ينفصل التعليم والبحث العلمي عن الدين وما يدعو إليه من أخلاق، فإن الناس ينشغلون عن العلم، ويقضون أوقاتهم في دور الملاهي لقتلها.
وفي حال تعلمهم العلوم بعيدا عن الدين غالبا ما يقعون في محاذر، ومثالب خطيرة ومنزلقات أخطر، ويتمثل ذلك بالآثار المترتبة على هذا الانفصال بين الدين والعلم وأجملها بالآتي:
1- فقد المنهجية الصادقة في البحث والتعلم التي تقوم على أساس الأخلاق والصدق في العلم والعمل، فإذا فقد العالم الدين لم يمنعه علمه عند ذلك من استخدام العلم في مصالح شخصية وإن ترتب على ذلك تدمير الآخرين، أما إذا ارتبط علمه بالالتزام بالدين الحق، فإنه يغرس فيه أسس الفضيلة والصدق والأمانة ورعاية مصالح الآخرين وهي أمور أساسية في الدين يرشد أتباعه إليها حال تعلمهم وتعليمهم وبحثهم واستقصائهم للحقائق.
وبناء على ذلك لا يمكننا ادعاء بقاء الأخلاق في البلاد المتطورة علميا المقطوعة صلتها بالدين، ولا يمكن ادعاء وجود واسطة لصيانة الأخلاق فيها من السقوط أفضل من الدين[28].
2- فقد الأمانة العلمية التي نريدها في العالم والمتعلم والباحث على السواء إلا عند النادر القليل من الناس، إذ الأمانة أساس متين أرشد إليها كتاب رب العالمين قال تعالى: (وَالَّذِينَ هُمْ لِأَمَانَاتِهِمْ وَعَهْدِهِمْ رَاعُونَ) المؤمنون/8، والقرآن الكريم حين يبين اختصاص الإنسان بحمل الأمانة فذلك من أجل أن يتحمل عاقبة اختياره وليكون جزاؤه من عمله[29] وليس من شك أن هذا تكريم من الله للإنسان لكن هذا التكريم يلقي عليه عبئا ثقيلا يتطلب منه التفاتا قويا إلى نفسه باستعمال القوى المدركة المودعة فيه وحراستها في الآفاق التي تعرض لها حتى يؤدي ما اؤتمن عليه[30] فإذا فقد الدين من الإنسان فقدت هذه المعاني السامية في حياته.
3- عدم القدرة على التعبير بلغة أمينة واضحة من قبل المتعلمين، فيصبح التعليم والبحث قائما على أساس النفاق والمداراة على حساب المبادئ الفاضلة فيفقد التعليم بذلك مضمونه المراد منه. أما عندما يكون العالم والمتعلم مرتبطان بالدين فيصدعان بالحق يقول الله عز وجل: (الَّذِينَ يُبَلِّغُونَ رِسَالَاتِ اللَّهِ وَيَخْشَوْنَهُ وَلَا يَخْشَوْنَ أَحَدًا إِلَّا اللَّهَ وَكَفَى بِاللَّهِ حَسِيبًا) الأحزاب/39، فيمدح الله جل وعلا الذين يبلغون رسالات الله إلى خلقه ويؤدونها بأماناتها ويخشونه ولا يخافون أحدا سواه، فلا تمنعهم سطوة أحد عن التبليغ والإبلاغ[31] فإن فقد الدين حصل الخوف والهلع على المصالح فانتشر النفاق وفقد العالم مصداقيته.
4- عدم القدرة الكافية عند الأجيال على التحليل والاستنتاج والإبداع في العلم والتعليم لكونها قد نزع منها الإخلاص الذي يغرسه الدين في وجدان أتباعه.
5- إن الانفصال بين الدين والعلم يؤدي إلى استخدام الناس ما توصلوا إليه بالبحث العلمي من تكنولوجيا متطورة في تحقيق مصالحهم الخاصة، حتى وإن أدى ذلك إلى الاستيلاء على أرض الآخرين، وإراقة دمائهم، وإزهاق أرواحهم بغير حق وأكبر شاهد على ذلك ما نراه اليوم من أحداث تحيط بديار الإسلام وتحيط بالعالم الإسلامي.
6- انفصال العلم عن الدين يؤدي إلى الانفصال عن الواقع السلوكي فيكون العلم مجرد نظريات في الكتاب وأشد ما يحتاجه الناس في حياتهم العلماء العاملين المؤهلين، الذين يجسدون العلم سلوكا قويما في المجتمع.
7- الانفصال بين العلم والدين الحق يؤدي إلى وقوع الخلاف بين المتعلمين في الأصول والفروع، لكونهم لا يستمدون علمهم جميعا من النور الرباني، وإنما تتدخل الأهواء البشرية في ذلك عند البعض، الأمر الذي يؤدي إلى الجمود وعدم الإبداع وإلى الاستمرار في الخلافات، والاكتفاء بالتأكيد على خطأ المخالف وعدم فهمه، مما ينزع الثقة بين المتعلمين والمعلمين، ورحم الله حافظ إبراهيم وهو يشير إلى هذه الحقيقة بقوله[32]:
العلم إن لم تكتنفه شمائل تعليه كان مطية الإخفـاق
لا تحسبن العلم ينفع وحده ما لم يتوج ربه بخـلاق
كم عالم مد العلوم حبائلا لوقيعة وقطيعة وفـراق
8- إن الركون إلى الأرض والجلوس عن العمل والقعود عن معالي الأمور أثر طبيعي لانفصال العلم عن الدين، فينحط الناس بذلك انحطاطاً تختل به الموازين، ويختل به رقي البشرية وتقدمها، فالعلم الذي يبعد القلب عن ربه علم فاسد، زائغ عن مصدره وعن هدفه لا يثمر سعادة لصاحبه، ولا للناس وإنما يجلب لهم الشقاء والخوف والقلق والدمار، لأنه انقطع عن مصدره وانحرف عن وجهته وضل طريقه بالبعد عن منهج الله.
9- إن العلوم التي تنفصل عن رباط الدين تصبح سبيل ضنك ومورد شقاء للناس فيحل الضنك محل السعادة والرفاه، يقول الله عز وجل: (وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكًا وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى) طه/124، فلا يعرض أحد عن ذكر ربه إلا أظلم عليه وقته وتشوش عليه رزقه، وكان في عيشة ضنك[33].
فعلى سبيل المثال توصلت البشرية اليوم إلى مراحل عظيمة من التطور في العلم النووي والذري، ولكن ماذا جنت من هذا التقدم اليوم غير الدمار والخراب يوم أن ابتعد أرباب هذا العلم عن الدين وما يدعو إليه من أخلاق.
لقد جنى الناس التدمير من القنابل النووية، ونالهم الخوف والقلق الذي يؤرق جفون الكثيرين، وخيم عليهم العنف والفقر والأمراض، والأوبئة، والجهل، نتيجة هذا العلم لكونه لم يستخدم استخدما سليما، وأدى إلى تدمير تلك الشعوب وتجويعها وضياعها وأصبح الضغط على تلك الأمم بأن تستبدل مناهجها التي تقوم على أساس المبادئ الفاضلة والقيم النبيلة- بحجة أنها تؤدي إلى الإرهاب والعنف - بمناهج تعليمية تربي الأجيال على الميوعة والهزل بعيدا عن الجد والنشاط والرقي.
المبحث الثالث
فلسفة البحث العلمي من المنظور الإسلامي والمنظور الغربي
ولتتضح لنا سبل علاج هذه الأزمة المعاصرة في التعليم المعاصر والبحث العلمي كان لا بد من الوقوف على فلسفة الشريعة الغراء في بناء التعليم والبحث العلمي ومن ثم العروج على فلسفة التعليم الغربي في ذلك، وحاشا لله أن نقارن الظلمات بالنور، لكن الأشياء تتباين وتتضح بظهور أضدادها.
أ. فلسفة التعليم والبحث العلمي في رحاب الكتاب والسنة.
إن الفكر الإنساني قادر على التعلم والحفظ والنمو، وعلى النظر والتأمل، وعلى البحث والاكتشاف والابتكار والتطوير والتحديث يشهد لذلك التطور الحديث الذي وصلت إليه البشرية.
والبحث العلمي وسيلة مهمة يتوصل الإنسان من خلالها إلى الاكتشاف والابتكار في هذا الكون الرحب، لذا نجد القرآن والسنة النبوية المطهرة يحثان على العلم والبحث والترغيب فيهما، لأن العلم أمر ضروري في حياة الناس، والله سبحانه وتعالى أوجد في الإنسان من الخصائص ما يعينه على التعلم والبحث والاكتشاف، قال تعالى: (وَاللَّهُ أَخْرَجَكُمْ مِنْ بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ لَا تَعْلَمُونَ شَيْئًا وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَالْأَفْئِدَةَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ) النحل/78.
إن الإسلام العظيم جاء يرغب بالعلم والبحث العلمي ويشيد بأهله ويمجدهم ويرفع من شأنهم فقال تعالى: (أَمْ مَنْ هُوَ قَانِتٌ آنَاءَ اللَّيْلِ سَاجِدًا وَقَائِمًا يَحْذَرُ الْآخِرَةَ وَيَرْجُو رَحْمَةَ رَبِّهِ قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُولُوا الْأَلْبَابِ) الزمر/9. وهذه الآية دالة على أسرار عجيبة فأولها بدأ فيها بذكر العمل وختم فيها بذكر العلم أما العمل فكونه قانتا ساجدا قائما، وأما العلم فقوله" (قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ) الزمر/39. "وهذا يدل على أن كمال الإنسان بحصول هذين المقصودين"[34].
وفي هذه الآية أيضا تنبيه على عظيم فضل العلم ومنزلة أهله، ببيان رفعتهم وعلو منزلتهم عند الله[35].
ويبين القرآن الكريم الفرق الكبير بين من يتعلم ومن لا يتعلم ويبحث، قال تعالى: (إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ غَفُورٌ) فاطر/28.
فالعلماء بطبيعة تركيب الكون ودقائقه، وصفات الله وأفعاله، هم الذين يعرفون قدر الله ويخافون مقامه، فمن علم أنه جل وعلا قدير أيقن بمعاقبته على المعصية[36].
وللترغيب بالعلم والبحث العلمي بيّن الله رفعة درجات أهل العلم عنده فقال: (يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِير) المجادلة/11.
وقد أرشد القرآن الكريم الإنسان إلى الأرض وما عليها والسموات وما بينها كموضوعات للنظر والتفكر والتأمل والبحث. فقال تعالى: (الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَى جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذَا بَاطِلًا سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ) آل عمران/191.
وقال سبحانه: (قُلِ انْظُرُوا مَاذَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا تُغْنِي الْآيَاتُ وَالنُّذُرُ عَنْ قَوْمٍ لَا يُؤْمِنُونَ) يونس/101، وقال: (قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ بَدَأَ الْخَلْقَ ثُمَّ اللَّهُ يُنْشِئُ النَّشْأَةَ الْآخِرَةَ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) العنكبوت/20.
فالله سبحانه وتعالى له كتابان، كتاب مخلوق وهو هذا الكون، وكتاب منزل وهو القرآن الكريم، ويرشدنا هذا إلى طريق العلم بذاك بما آتانا من العقل[37].
ويوجه القرآن الناس إلى التفكر والنظر إلى ما في الكون والأنفس من آيات بينات دالة على قدرته بقوله سبحانه:(سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الْآفَاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ) فصلت/53. ولا غرابة من هذا التوجيه للفكر والنظر "فلا يخفى أن الفكر هو مفتاح الأنوار، ومبدأ الاستبصار، وهو شبكة العلوم، ومصيدة المعارف والفهوم"[38]
والقرآن الكريم يجعل الهدف الأسمى من البحث والابتكار التعرف على آيات الله ليزداد أهل الإيمان إيمانا، ويحققوا الحكمة من خلقهم ووجودهم والتي بينها القرآن في قوله تعالى: (وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ) الذاريات/56.
أما ما يتحقق من فوائد وأغراض دنيوية بناء على البحث والابتكار فهي ثمرات عاجلة من أجل تنظم الحياة، وتوفير أسباب الطمأنينة والصحة والراحة في إطار فطرة الله التي فطر الناس عليها.
وحتى لا يطغى الإنسان ولا يغتر بما وصل إليه من علوم من خلال البحث والاستقصاء يرشده القرآن الكريم إلى أن ما توصل إليه من اكتشافات في إسرار الكون، ومن مخترعات على درجة فائقة من القوة والتحكم زائل في لحظة من اللحظات، ليحرص على استخدامه استخداما يجد ثمرته العليا في الآخرة، قال تعالى:(إِنَّمَا مَثَلُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا كَمَاءٍ أَنْزَلْنَاهُ مِنَ السَّمَاءِ فَاخْتَلَطَ بِهِ نَبَاتُ الْأَرْضِ مِمَّا يَأْكُلُ النَّاسُ وَالْأَنْعَامُ حَتَّى إِذَا أَخَذَتِ الْأَرْضُ زُخْرُفَهَا وَازَّيَّنَتْ وَظَنَّ أَهْلُهَا أَنَّهُمْ قَادِرُونَ عَلَيْهَا أَتَاهَا أَمْرُنَا لَيْلًا أَوْ نَهَارًا فَجَعَلْنَاهَا حَصِيدًا كَأَنْ لَمْ تَغْنَ بِالْأَمْسِ كَذَلِكَ نُفَصِّلُ الْآيَاتِ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ) يونس/24. فيزداد الإنسان بناء على ذلك بما توصل إليه في بحثه من اكتشافات وابتكارات إيماناً بالله ويحرص على استخدامها في طاعة الله عز وجل.
والقرآن الكريم يحث الإنسان حال بحثه وطلبه للعلم على السؤال والاستفسار لتتحقق له بذلك المعرفة الدقيقة للأمور، قال تعالى: (فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ) النحل/43.
"فمن واجب من لا يعلم أمرا أن يسأل عنه أهل العلم قبل أن يتعامل به ويجادل فيه[39]، وبذلك يكتشف العلماء أسرار الكون، ويفقهون آيات الله فيه ويبينونها للناس، ولذا ينبغي أن يكون القرآن الكريم في حياة الناس منطلق الأفكار العلمية، ومصدراً هاماً للبحوث العلمية بما أخبر الله به من علوم.
فقد كان أول ما نزل من القرآن الكريم على النبي صلى الله عليه وسلم: (اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ) العلق/1. ولم يقل سبحانه: اقرأ باسم الله ذلك لأنه أراد سبحانه منذ البدء أن يشير إلى أن هذا الدستور الإلهي النازل من السماء إنما هو تربية، وأنه نزل باسم المربي، وما دامت هذه التربية إلهية المصدر فهي إذن محكمة الأحكام، كاملة من جميع جوانبها... فكانت كلمة اقرأ دعوة إلى الثقافة، وإلى العلم والفكر، والبحث المستفيض في السماء وفي الأرض والجبال والبحار، وفي كل ما خلق الله تعالى من كائنات صغرت أو كبرت[40].
وبهذا يرشدنا القرآن من أول لحظة إلى العلم والبحث العلمي، حيث يجعل اللبنة الأولى من البناء أن يقرأ الإنسان وأن يعلم علما يقينيا وقراءة متأنية، وكل ذلك مبني على الخضوع للمنعم جل وعلا.
ولما كان من أهم أدوات العلم قلم يكتب به الإنسان، ومداد يوضح به ما يراد كتابته ومادة يكتب عليها، فقد جاء القسم بهذه الأدوات الثلاث في قوله تعالى: (ن وَالْقَلَمِ وَمَا يَسْطُرُونَ) القلم/1، فأقسم الله بالقلم لشرفه ومكانته، لأنه يكتب به القرآن وكتبت به الكتب المقدسة، وتكتب به كتب التربية، ومكارم الأخلاق والعلوم، وكل ذلك مما له حظ وشرف عند الله تعالى"[41].
وقد حثت السنة النبوية المطهرة المسلمين على البحث والرحلة لطلب العلم والمعرفة "فعن أبي هريرة قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ما من رجل يسلك طريقا يطلب فيه علما إلا سهل الله له به طريق الجنة"[42].
والإسلام العظيم من خلال حثه على التعليم والبحث العلمي يرشد المسلمين إلى السبل التي تحميه من الأزمات وتقيه العثرات وذلك من خلال مراعاة ما يلي:
1- الإخلاص في العلم والعمل، لأن العلم عبادة من أشرف العبادات يجب أن تبنى على أساس الإخلاص قال تعالى: (وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاءَ وَيُقِيمُوا الصَّلَاةَ وَيُؤْتُوا الزَّكَاةَ وَذَلِكَ دِينُ الْقَيِّمَةِ) البينة/5.
فإن وجد الإخلاص اتجهت الغاية من طلب العلم والاجتهاد في تحصيله إلى تحقيق المنفعة العامة والخاصة لبني البشر، ولذا حث عليه الصلاة والسلام على ذلك فأوضح مكانة أهل العلم والتعليم في الإسلام، وبين أن الملائكة تضع أجنحتها لطالبيه وأن العلماء ورثة الأنبياء، فمن أخذ بالعلم فقد أخذ نصيباً وافرا من ميراث النبوة، يقول عليه الصلاة والسلام: "إِنَّ المَلاَئِكَةَ لتَضَعُ أَجْنَحِتَهَا رِضًى لِطَالِبِ العِلْمِ، وَإِنَّ العَالِم لَيَسْتَغْفِرُ لَهُ مَنْ في السَّمَواتِ وَمَنْ في اْلأَرْضِ حَتَّى الْحِيتَانُ في المَاءِ، وَفَضْلُ العَالِمِ عَلَى الْعَابِدِ، كَفَضْلِ الْقَمَرِ عَلَى سَائِرِ الْكَوَاكِبِ، إِنَّ العُلَمَاءَ وَرَثَةُ الأَنْبِيَاءِ، إنَّ الأنْبِيَاءَ لَمْ يُوَرِّثُوا دِينَاراً وَلاَ دِرْهَماً، إِنَّمَا وَرَّثُوا الْعِلْمَ، فَمَنْ أَخَذَ بِهِ فَقَدْ أَخَذَ بِحَظٍ وَافِرٍ"[43]. وبين كذلك صلى الله عليه وسلم أن العلم سبيل من السبل التي تؤدي بالإنسان إلى جنات الرضوان، بقوله: "مَنْ سَلَكَ طَرِيقاً يَلْتَمِسُ فِيهِ عِلْماً، سَهَّلَ اللّهُ لَهُ بِهِ طَرِيقاً إِلَىٰ الْجَنَّةِ"[44].
وبالإخلاص في العلم والعمل أيضا يصبح اتخاذ العلم وسيلة لتحقيق رضا الله رب العالمين وهو ما يرشد إليه الأمر بالقراءة مقرونا باسم الله في قوله تعالى: (اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ) العلق/1، لكن بعض المسلمين اتخذوه اليوم ليحصلوا مؤهلا يمكنهم من وظيفة معينه فحسب، وانصرفوا عن تحصيل العلم لذاته، وتركوا الهدف الأسمى والغاية العليا من التعليم وهي تحقيق العبودية لله، حتى قل من يخلص للعلم والتعلم وعندئذ يتخذ التعليم والبحث العلمي وسيلة لتحقيق العبودية الحقة لرب العالمين، قال تعالى: (إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ غَفُورٌ) فاطر/28.
فينبغي أن يكون مقصد التعليم وجه الله تعالى "عن أَبي هُرَيْرَةَ، قالَ قالَ رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم: "مَنْ تَعَلَّمَ عِلْماً مِمَّا يُبْتَغَى بِهِ وَجْهُ الله لا يَتَعَلَّمُهُ إلاَّ لِيُصِيبَ بِهِ عَرَضاً مِنَ الدُّنْيَا لَمْ يَجِدْ عَرْفَ الْجَنَّةِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ يَعني رِيحَهَا"[45]. فالتعليم في الدنيا ينبغي أن يكون معبرا للآخرة، ومقصدا أساسيا في ذلك قال تعالى: (وَابْتَغِ فِيمَا آتَاكَ اللَّهُ الدَّارَ الْآخِرَةَ وَلَا تَنْسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا وَأَحْسِنْ كَمَا أَحْسَنَ اللَّهُ إِلَيْكَ وَلَا تَبْغِ الْفَسَادَ فِي الْأَرْضِ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ) القصص/77.
2- الأمانة العلمية لدى المتعلم في كل ما تعلمه من علوم نافعة، ينفع بها نفسه وأمته والبشرية جمعاء، لذا جعل القرآن الكريم من صفات المفلحين في الدنيا ويوم الدين الرعاية للعهد والأمانة فقال تعالى: (وَالَّذِينَ هُمْ لِأَمَانَاتِهِمْ وَعَهْدِهِمْ رَاعُونَ) المؤمنون/8، "فجمع الأمانة فيه إشارة لتعددها وتنوعها، "فهي متنوعة متعددة جدا بالنسبة إلى كل مكلف، ولا يكاد يخلو مكلف من ذلك"[46]، ومن أنواعها تأدية ما توصل إليه الإنسان من علم بأمانة وصدق.
3- يطلب الإسلام من العالم والمتعلم على السواء الدقة في الفهم، والاستيعاب الكامل لكل ما يتعلمه الإنسان، وفي ذلك يقول النبي صلى الله عليه وسلم: "نضر الله وجه عبد سمع مقالتي فحفظها ووعاها، ثم بلغها من لم يسمعها"[47].
وهذا أيضا ما وجه إليه الفاروق عمر رضي الله عنه الناس في خلافته حين "جَلَسَ عَلَى الْمِنْبَرِ فَلَمَّا سَكَتَ الْمُؤَذنَ قَامَ فَأَثْنَى عَلَى اللَّهِ بِمَا هُوَ أَهْلُهُ ثُمَّ قَالَ: أَمَّا بَعْدُ فَإِنِّي قَائِلٌ لَكُمْ مَقَالَةً قَدْ قُدِّرَ لِي أَنْ أَقُولَهَا لَا أَدْرِي لَعَلَّهَا بَيْنَ يَدَيْ أَجَلِي فَمَنْ عَقَلَهَا وَوَعَاهَا فَلْيُحَدِّثْ بِهَا حَيْثُ انْتَهَتْ بِهِ رَاحِلَتُهُ، وَمَنْ خَشِيَ أَنْ لَا يَعْقِلَهَا فَلَا أُحِلُّ لِأَحَدٍ أَنْ يَكْذِبَ عَلَيَّ"[48].
4- العمل على تعليم الغير وابتغاء وجه الله في ذلك، فيتعلم الإنسان العلم ليعلمه لغيره، ولا يبخل به على أحد ولا يكتمه، إلا إذا كان في كشفه منفعة للأعداء ومضرة تعود على أهل الإيمان، وفي ذلك يقول النبي صلى الله عليه وسلم قال: "ما من رجل يحفظ علما فيكتمه، إلا أتي به يوم القيامة ملجماً بلجام من نار".[49] وبذلك يكون العلم وسيلة نافعة لعون الآخرين: "وَاللّهُ فِي عَوْنِ الْعَبْدِ مَا كَانَ الْعَبْدُ فِي عَوْنِ أَخِيهِ"[50].
5- أن يكون أهل العلم والمعرفة قدوة صالحة لغيرهم، فيطبقوا ما تعلموه تطبيقا عملياً، مقتدين بمن سبق من السلف الصالح سلوكاً وعلماً، قال تعالى: (يَا أَيّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لَا تَفْعَلُونَ كَبُرَ مَقْتًا عِنْدَ اللَّهِ أَنْ تَقُولُوا مَا لَا تَفْعَلُونَ) الصف/2-3، فقول المرء ما لا يفعل موجب مقت الله تعالى، وكل من يقول ما لا يفعل فهو ممقوت[51].
6- الالتزام بالصدق حال التعلم وتأدية رسالة العلم والبحث كي يثمر العلم وتسير الأمة على هدى من ربها إلى عزتها وقوتها، يقول النبيِّ صلى الله عليه وسلم قال: "إنَّ الصدقَ يَهدِي إلى البِرّ، وإن البرَّ يَهدي إلى الجنَّة، وإن الرجلَ لَيَصدُق حتى يكونَ صدِّيقاً. وإن الكذبَ يَهدِي إلى الفجور، وإن الفجورَ يَهدِي إلى النار، وإن الرجلَ لَيَكذِب حتى يُكتبَ عند اللهِ كذّاباً"[52].
7- أن يتجه التعليم والبحث إلى إعداد الإنسان الصالح المصلح في المجتمعات وهذا الأمر من أهم غايات التعليم الإسلامي للرقي بالإنسان في إطار المنهج الرباني فيصبح بذلك صالحاً مصلحاً، آمراً بالمعروف ناهياً عن المنكر، الأمر الذي يساعد الإنسان على الارتقاء في سلّم القيم السامية والأخلاق الرفيعة إلى أسمى الدرجات، ولذا كان خلق رسول الله صلى الله عليه وسلم القرآن: "فهذا العلم أدب الله الذي أدب به نبيه عليه السلام، وأدب النبي صلى الله عليه وسلم به أمته، أمانة الله إلى رسوله ليؤديه على ما أدي إليه"[53].
8- أن يكون هدف التعليم رفعة شخصية المتعلم وعلو منزلته عند الله وبين خلقه بتجسيده للعبودية الحقة لله رب العالمين قال تعالى: (يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِير) المجادلة/11. فيرفع الله أهل العلم بفضل علمهم، وعلو منزلتهم، ولا مانع من أن يكون هذا الخطاب أيضا توجيها للنبي صلى الله عليه وسلم بأن يقرب العلماء إلى نفسه فوق المؤمنين الذين لا يعلمون ليبين فضل العلماء على غيرهم[54]، وعندما يسمو المتعلم بعلمه ويرتفع فإنه لا يرغب في ما عند الناس لأنه يعلم أن ما عند الله أجل وأعظم، "فإن من وجد لذة العلم والعمل قلما يرغب فيما عند الناس"[55].
9- أن يكون الهدف من العلم تحقيق سعادة البشرية، ونشر تعاليم هذا الدين بين الناس كي تسود القيم السامية، وتستقيم الحياة، وتتحقق العدالة "فالتعليم الإسلامي هو السبيل الأمثل لتحقيق خير الأمة، فمن العبث أن يكون هناك أمر ونهى، دون معرفة ماهية المعروف والمنكر، ودون دراية بالأحكام المتعلقة بهما، فقد يفسد الجاهل أكثر مما يصلح"[56].
10- أن يكون العلم مقترناً بالعمل لتتكامل الشخصية، فمبدأ اقتران العلم بالعمل يعد من أبرز سمات فلسفة التعليم في الإسلام، وقد أكد القرآن على ضرورة التوافق بين العلم والعمل قال تعالى: (وَلَوْ أَنَّهُمْ فَعَلُوا مَا يُوعَظُونَ بِهِ لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ وَأَشَدَّ تَثْبِيتًا) النساء/66، وقال سبحانه: (يَا أَيّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لَا تَفْعَلُونَ كَبُرَ مَقْتًا عِنْدَ اللَّهِ أَنْ تَقُولُوا مَا لَا تَفْعَلُونَ) الصف/2-3.
11- إن التعليم في الإسلام يزيد المتعلمين تواضعاً للناس فكلما رقى العالم في درجات العلم ازداد توضعاً لله ثم لعباده المؤمنين، فمعلمنا وقائدنا ونبينا رسول الله صلى الله عليه وسلم مع علو مكانته ورفعته وغزارة علمه أنزل الله عليه قوله تعالى: (وَاخْفِضْ جَنَاحَكَ لِلْمُؤْمِنِينَ) الحجر/88. ثم جاء توجيهه للمؤمنين من بعد ذلك بطلب العلم لأجل الله، متواضعين مبتعدين عن الكبر والرياء، يقول عليه الصلاة والسلام: "من تعلم العلم ليباهي به العلماء، أو يجاري به السفهاء، ويصرف به وجوه الناس إليه أدخله الله جهنم"[57].
ب- فلسفة التعلم في الغرب.
وقد أحببت أن أضيف إلى هذا البحث الحديث عن فلسفة التعليم بالغرب بعد أن أوضحت موقف الشريعة الغراء منه، وذلك من باب مقارنة الظلمات بالنور، والظل بالحرور، فإن كان عندهم شيء من الصواب، فالحكمة ضالة المؤمن.
ومما لا شك فيه أن تختلف فلسفة التعليم في الغرب عن المبادئ الإسلامية فالتعليم في الغرب يقوم على أساس قوانين وضعية أساسها الجانب المادي البحت بعيدا عن جانب الروح وخبر السماء، وهم إن كانوا قد سبقونا في الجوانب العلمية المادية والتطور الحضاري المحسوس وفاقوا بها العالم الإسلامي، فبرعوا مثلا بالهندسة والكيمياء والفيزياء وغيرها من العلوم، إلا أنهم فقدوا الجانب الروحي الذي يضبط هذه العلوم ويحكمها.
والحق أن العلوم المادية التي برعوا بها تصلنا بأسباب الحضارة والتقدم، وهي علوم لا غنى للناس عنها، حيث تأخر المسلمون في هذا الجانب وهذا التأخر "إنما نشأ عن أمور أهمها إهمالهم للعلوم التجريبية والتطبيقية وبعدهم عن مجالات الإنتاج والتصنيع الاقتصادي والعسكري"[58].
والإنصاف يقتضي أن نقول: "إن التقدم التقني في الغرب يعتمد على نحو مطرد على كفاءة البحث العلمي وكثرة العاملين فيه والإمكانات التي تهيأ له، وعن طريق هذا التقدم تمكنت الدول الاستعمارية من السيطرة على كثير من الدول[59].
فمثلا في الوقت الذي نجد فيه نسبة البطالة تزداد بين المتعلمين عندنا في العالم الإسلامي نجد العلماء المختصين في العالم الغربي قد عالجوا ذلك، فسبكوا التعليم سبكا جديداً يؤهل المتعلم لكسب قوته وكفالة نفسه وعياله، الأمر الذي منع الفرد من أن يكون عضوا عاطلاً في المجتمع، وكلاً على الشعب، فأدخلوا الصناعات في مناهج التعليم، وألزموا الناس بتعلم كثير من الحرف الضرورية للمجتمع، وتقدموا خطوة أخرى فجعلوا بعض الصنائع أو حاصلات البلاد محوراً يدور حوله رحى التعليم فقلت البطالة عندهم وزادت في بلادنا، وانتقلوا من الاكتفاء بصرف المتعلم إلى التعليم العالي والتهالك عليه إلى الجانب الصناعي العملي، فحققوا بذلك تقدما واضحا في الصناعات المختلفة[60].
لكن مما يؤخذ على التعليم في الغرب أنه دنيوي الوجهة مادي الغاية والهدف، أما عند المسلمين فالأصل أن تكون وجهته تحقيق رضا الله أولا وإعمار الأرض وفق ما شرع لخدمة البشرية ثانيا، ولا يعني هذا أن المسلمين في منأى عما أصاب التعليم في الغرب، فقد أصاب بعضنا في ديارنا ما أصابهم من الانشغال بالجانب المادي بعيدا عن سمو الروح، لكننا هنا ننقل الصورة التي يراها الإسلام لا التي يراها بعض أبنائه المنحرفين عن نهجه في هذا الزمان.
ولا شك أن تصور الإسلام للعلم وحرية الإنسان غير تصور الغربيين اليوم للعلم فهم يقصرونه على العلم المادي، فقطعوا صلة العلم بالله، وبالوجود الأعلى, وجعلوا سند العلم الوحيد هو الإنسان وعقله، والوجود الحسي "فالعلوم انطلقت في أوروبا من منطلق غير إيماني، لا يعترف بغير المادة ولا يسلم إلا بالمدرك المحسوس والذي يمكن أن يتأكد بتجارب قابلة للتكرار والإعادة. ونظراً للتقدم الملحوظ والانتصارات الباهرة التي حققتها دراسات العلوم البحتة والتطبيقية انتصر المنهج التجريبي على غيره من المناهج الفكرية"[61].
وهذا العنصر الأخلاقي هو الذي فقده العلم الغربي اليوم، ولذلك نشأت أزمة العقل وأسس المعرفة، فكاد الناس في الغرب ييأسون من العقل، والعلم، والتقدم, لفقدان عنصر آخر يدعم هذا العلم الإنساني ويغذيه، ويربطه بوجود آخر غير الوجود المشاهد المحسوس، وهو الأمر الذي يضمنه الإسلام في احترامه لعقل الإنسان وكرامته، فيربط الدنيا بالآخرة.
إذن فالعلم الغربي علم يستبعد الغيب ويحاول أن يفلسف الأمور الغيبية والشرعية فلسفة حسية مادية تفقدها روحها.
والحق الذي لا مرية فيه أن الإنسان هو ركن الحضارة، والعلم هو عمادها وهو غير مناقض للإيمان الصحيح؛ لأن كلاً منهما يدل على الآخر ويحث عليه.
وهنالك مشكلة أخرى تتعلق بفلسفة التعليم في الغرب تتمثل بالوسط السيئ الذي يحل به طلاب العلم في هذا المجتمع، الأمر الذي يؤدي إلى انحراف الإنسان في كثير من الأحيان عن العفة والفضيلة ويقع فريسة للرذيلة.
فينشأ الباحث والمتعلم في المجتمع الغربي بمجتمع ينحي الدين جانباً ويتحلل من قيوده ويرى في هذا المجتمع ما يبهره من جوانب التقدم والمادي فيتخلى بذلك عن كثير من القيم والأخلاق الدينية، فينحرف طالب العلم في هذا المجتمع إذا لم يكن قد حصن خلقياً، فيجد المرأة في هذا المجتمع متعاً مباحاً لمن شاء من الناس فيعود إلينا بعض الشباب المبتعثون لكسب العلم والمعرفة وقد انحلوا من الأخلاق الفاضلة والمبادئ السامية، وتخلوا عن الفضيلة، ووقعوا في الرذيلة، علماً بأنه قد يوجد البعض من الشباب الذين لا يزيدهم ذلك إلا ثباتاً على الحق، وشدة في دين الله لكنهم قلة.
واعلم أن حال الأمم الغربية المتقدمة المتحضرة ماديا لا يقتصر على انتشار الرذيلة وشيوع الفسق والفجور في بلادهم، بل ينضم إلى مثالبهم الداخلية اعتيادهم الظلم والغدر بأهل البلاد التي وقعت تحت سيطرتهم، فينغصون عليهم المعيشة والحياة في بلادهم ويشاركونهم في جني منافعها، محّرمين على أهل البلاد ما يحلونه لأنفسهم من حقوق الإنسان[62].
والعلماء الغربيون غالبا ما يهمهم في الجانب العلمي تحقيق المصالح الخاصة حتى وإن كانت لا تتحقق هذه المصالح إلا على حساب إزهاق أرواح الكثير من البشر وإراقة دمائهم، فلا حرج في ذلك مقابل تحقيق هذه المصالح.
لكن هذا الأمر لا يمنع من وجود بعض المخلصين منهم الذين يريدون الخير للناس، فلا مانع أن تكون منهم أمة مقتصدة معتدلة في هذه الحياة وهي قليلة نادرة.
لقد تقدمت الدول الغربية في العلوم المتعلقة بصناعة الأسلحة الذرية والهيدروجينية تقدما أثار الرعب في العالم بسبب خلو هذا الجانب من الأخلاق فلابد من أن يحكم هذا التقدم التكنولوجي الهائل أخلاقاً تحكم سلوكيات الناس وإلا فقد يؤدي هذا التقدم إلى انفجارات تؤدي إلى انفجار الكون بأسره لذا ظهر بعض المصلحين عندهم-وهم قلة-ممن يدعون إلى العقلانية والالتزام ببعض القيم القادرة على حماية الحضارة الإنسانية من الانهيار والدمار.
وينبغي أن لا ننسى العداء القديم الذي نشب بين المفكرين والعلماء وبين الكنيسة في الغرب وانتهى بهزيمة الكنيسة، وانصراف غالبية الناس عنها من بعد ذلك، مما أدى إلى بروز العديد من الفلسفات المادية الوضعية التي ظهرت بصماتها بوضوح على البحث والتطور العلمي.
إضافة إلى ما سبق فإن النظرة التعليمية والبحث العلمي في الغرب يهدفان إلى تخريج المواطن الصالح، وليس الإنسان الصالح الذي يحرص على أخيه الإنسان ومن هنا فالغرب وعلماؤه يفرضون أهداف هذه النظرة التعليمية في أطر قومية، أو عنصرية يسعون من خلالها إلى استعمار العالم والاستيلاء على ثرواته والسيطرة عليه، ومن هنا فقد أصبح في الغرب اليوم مخزون الأسلحة الذرية والكيميائية والجرثومية، والصواريخ عابرة القارات والمزودة بالرؤوس النووية وغير النووية يهدد العالم بأسره، والحروب العالمية السابقة المتتابعة تشهد بذلك، بل والأحداث التي تقع في العالم الإسلامي المعاصر شاهد آخر، الأمر الذي يؤكد أنه لا أسمى ولا أرقى ولا أجمل من منهج الله في تنظيم حياة البشر وفي تعليمها وبحثها على السواء.
نتائج البحث
أزمة التعليم والبحث العلمي أزمة تفوق الأزمات السياسية والاقتصادية في العالم المعاصر وتتطلب من الباحثين الوقوف بدقة عندها واستجلاء أسبابها للخروج من هذه الأزمة بحلول ناجعة ودواء شاف يضمن للبشرية أمنها واستقرارها وسكينتها بما وصلت إليه من تطور علمي ورقي حضاري، ومن من خلال دراستي حول هذا الموضوع توصلت إلى النتائج التالية:
1- إن التعليم والبحث العلمي الدقيق من الأسس الهامة لرفعة الأمم وتطورها، فمن ينتج العلم والمعرفة ويبحث ويستقصِ يجد له مكانا بين الأمم، ومن لا ينتج العلم والمعرفة ولا يبحث، يحكم على نفسه بالتخلف والضعف، والتبعية للغير.
2- الأصالة في البحث العلمي وتجنب السرقات واتباع أصول المنهج العلمي من أسس نجاح البحث وتطوره، والابتعاد عن الأصالة والسرقات العلمية، ومخالفة أصول البحث أبعاد ثلاثة، لأزمة التعليم المعاصر، توجب على المشرفين على العملية التعليمية الوقوف بجدية أمام هذه الأبعاد، واتخاذ الحلول المناسبة لها.
3- يعاني التعليم والبحث العلمي في العالم الإسلامي اليوم من أزمة ناشئة عن أسباب تربوية، واقتصادية، واجتماعية وسياسية من أهمها: تمزق العالم الإسلامي ووقوع الفرقة بين أهله، وإهمال دراسة العلوم التقنية فيه، وقلة ما يرصد وينفق على التعليم والبحث العلمي من أموال، والبعد عن النهج الذي رسمه كتاب الله وسنة رسوله.
4- انفصال الدين عن العلم والبحث العلمي يحرمه من المنهجية الصادقة في البحث، فإذا تطور الناس وتقدموا بالعلم بعيدا عن الدين والأخلاق فإنه تطور يؤدي إلى الدمار والضياع، ويحل به الفزع والخوف والهلع، وأكبر شاهد على ذلك التطور النووي والذري الذي يهدد البشرية اليوم بالضياع والتدمير والخراب، ويحمل الدول المتطورة في هذا الجانب على التسلط والتجبر بالدول الضعيفة واستنزاف ثرواتها، واستعباد شعوبها.
5- الإسلام يرغب بالعلم والبحث العلمي يرفع من شأن أهله، ويرشد إلى النهج السليم فيه محاطا بالأخلاق الفاضلة، من صدق وأمانة ورعاية مصالح الآخرين، وغيرها من الأخلاق التي تحمي التطور العلمي من الانحراف، والتجبر، والتسلط.
6- التعليم والبحث العلمي المادي وإن تطور تطورا ملحوظا في الغرب لكنه فقد جانب الروح، وبني على تحقيق المصالح الخاصة لهم، حتى وإن أدى ذلك إلى إراقة دماء الآخرين، واحتلال بلادهم.
7- الطريق لنجاة البشرية وسلامتها وتطورها في بحثها وتعليمها، كتاب الله وسنة رسوله، فهما سفينة النجاة، يحميان من أبحر بهما للوصول إلى أعماق المعرفة من الضلال والضياع والانحراف.
8- أصحاب القرار السياسي في العالم الإسلامي عليهم مسؤولية كبيره في الرقي بالتعليم والبحث العلمي، لاسيما فيما يتعلق بتطوير المعدات، والأسلحة المختلفة بكافة أنواعها، من أجل حماية بيضة المسلمين، والذود عن المستضعفين، وقطع أطماع الطامعين بديار المسلمين وثرواتهم.
9- الخلافات السياسية بين بعض الأفراد من أهل العلم
والاختصاص وبين أولياء الأمور في الدولة، لا ينبغي أن تكون سببا في منعهم من التعليم والبحث العلمي، كي لا تحرم الأمة من خبرات هؤلاء الأفراد أصحاب الكفاءات العالية، والخبرات المتميزة.
10- الإخلاص في التعليم والبحث العلمي، وابتغاء وجه الله فيه، من قبل المعلمين والمتعلمين على السواء، من الأمور التي تؤدي إلى نتائج عظيمة وثمار طيبة تعود بالنفع والخير والبركة على جميع أفراد المجتمع.
والله الهادي إلى سواء السبيل.
(*)المجلة الأردنية في الدراسات الإسلامية المجلد الثالث، العدد (1)، 1428 ه/2007م
الهوامش:
([1]) الراغب الأصفهاني: الحسن بن محمد، المفردات في غريب القرآن، دار المعرفة، بيروت، ص343.