الموضوع : كيف نفهم النصوص التي توهم التشبيه

رقم الفتوى : 3451

التاريخ : 22-01-2019

السؤال :

ورد في القرآن الكريم والسنة النبوية الشريفة كلمات مثل: "يد الله، عيني، استوى، يمكر الله، الله يستهزئ، ..الخ" من الكلمات التي قد يتوهم بعض الناس منها ما لا يليق بالله تعالى، فكيف نتعامل مع هذه الكلمات؟ هل نثبت قدراً من التشابه ونفوّض الكيفية؟ أم نفوّض المعنى بالكلية؟ أم نتأوّلها؟ هل يعدّ التأويل تحريفاً؟ هل كلها مذاهب مقبولة عند أهل السنة والجماعة؟ ولماذا جعلها الله تعالى في كتابه العزيز وهي مثار خلاف بين المسلمين؟

الجواب :

الحمد لله، والصلاة والسلام على سيدنا رسول الله 

الإيمان بالله تعالى يقتضي تنزيهه عن كلّ ما لا يليق به، كمشابهة المخلوقات والاتّصاف بصفات المحدثات من التركّب والتحيّز، وهذا ما تدلّ عليه النصوص المحكمة، كقول الله تعالى: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ} الشورى/11، وقول الله عز وجل: {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ. اللَّهُ الصَّمَدُ. لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ. وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُوًا أَحَدٌ} الإخلاص/1-4.

وما ورد في كتاب الله تعالى أو سنة نبيه صلى الله عليه وسلم من الألفاظ التي قد توهم ظواهرها اللغوية تشبيه الله تعالى بخلقه، لا يجوز حملها على ظاهرها اللغوي ومعناها الحقيقي، كلفظ العين واليد والوجه والاستواء وغيرها من الألفاظ التي وضعت في اللغة العربية للدلالة على الأعضاء والجوارح وتستلزم مشابهة الخلق، وإنما لم يجز حملها على ما يظهر من حقيقتها اللغوية لأن ذلك يوهم تشبيه الله بخلقه، قال ابن الجوزي الحنبليّ منكراً على المشبهة والمجسمة: "وقد أخذوا بالظواهر في الأسماء والصفات، فسمّوها بالصفات تسمية مبتدعة لا دليل لهم في ذلك من النقل ولا من العقل، ولم يلتفتوا إلى النصوص الصارفة عن الظواهر إلى المعاني الواجبة لله تعالى، ولا إلى إلغاء ما توجبه الظواهر من سمات الحدث" [دفع شبه التشبيه ص19].

وقد أجمع علماء أهل السنة والجماعة أنّ السبيل في فهم هذه الآيات المتشابهة هو تنزيه الله تعالى، وذلك بصرف الآيات عن ظواهرها اللغوية التي تثبت لله تعالى ما لا يليق به، وتفسيرها بمعانٍ لائقة بجلال الله تعالى وكماله باستعمال أساليب العربية المتنوعة من استعارة ومجاز وتوسع، وذلك بردّ هذه المتشابهات إلى الآيات المحكمات مع نفي ما لا يليق بالله تعالى.

ولأهل السنة والجماعة من المفسرين والمتكلمين بعد التنزيه مذهبان في التعامل مع هذه الآيات، وهما: التأويل أو التفويض، قال الإمام النووي الشافعيّ: "هذا الحديث من أحاديث الصفات، وفيها مذهبان: تقدم ذكرهما مرات في كتاب الإيمان، أحدهما: الإيمان به من غير خوض في معناه، مع اعتقاد أن الله تعالى ليس كمثله شيء وتنزيهه عن سمات المخلوقات، والثاني: تأويله بما يليق به" [شرح صحيح مسلم 5/ 24]، وجاء في [شرح المقدمة الحضرمية 1/ 55]: "وأما ما ورد في الكتاب والسنة مما يوهم جسمية أو جهة أو غيرهما مما هو منزه عنه، فمصروف عن ظاهره إجماعاً؛ لمخالفته للأدلة العقلية"، وقال الإمام اللقاني المالكي في جوهرة التوحيد: "وكلّ نصّ أوهم التشبيها ... أوّله أو فوّض ورمْ تنزيهاً"، وقال الإمام النفراوي المالكي: "فعلم بما ذكرنا أن كلاً من أهل الطريقتين تؤول المتشابه بصرفه عن ظاهره لاستحالته، وافترقا بعد صرفه عن ظاهره المستحيل في بيان معناه على التعيين والتفصيل، فالسلف يفوضون علم ذلك لله تعالى، والخلف تؤوله تأويلاً تفصيلياً بحمل كل لفظ على شيء معين خاصّ" [الفواكه الدواني 1/ 51]، فالتفويض عند السلف هو صرف اللفظ عن حقيقته اللغوية؛ لأنها لا تجوز على الله تعالى أصلاً، ثمّ عدم الخوض في تعيين المعنى وتفصيله، لشدة تورعهم عن ذلك، وإن كان ذلك جائزاً في الشرع، ومنه يعلم أن التأويل التفصيلي ليس تحريفاً، إذ التحريف هو اختراع معانٍ لم يدلّ عليها الدليل الصحيح، وتناقض العقل والنقل.

وتلخيص القول أن السّلف والخلف متفقون على نفي أية مشابهة بين الله تعالى وخلقه، ومتفقون على نفي كل ما لا يليق بالله تعالى، ولو كان ذلك المنفيّ وارداً في ظاهر آية كريمة أو حديث شريف، وإنما حصل الخلاف بين بعض السّلف وبعض الخلف في تعيين المعنى المراد من هذه الآيات الكريمة والأحاديث الشريفة، فبعض السّلف فوّضوا وتوقفوا في بيان المعنى المراد، وبعض الخلف وضّحوا المعنى المراد وبيّنوه بحسب الدلالات اللغوية والأساليب العربية ودلالة السياق.

وإنما اختار بعض السّلف مذهب التفويض لقلة الشّبه في زمانهم ومعرفتهم بلسان العرب واشتغال الناس بالعبادات وتورّعهم عن الخوض في التشبيه والتجسيم، فلما تغيّر ذلك وضَعُفَ الفهم واستعجم اللسان على الناس ودخلت شبه التشبيه والتجسيم اختارَ كثير من الخلف طريقة التأويل، وأخذوا يبينون المعنى المراد بوضوح يقطع الشبه والاحتمالات.

وأمّا إذا انتشر الفهم الباطل لهذه النصوص المتشابهة، وابتعد الناس عن المنهج السليم، واختلطت عقائد الحق بشبهة التجسيم، فإنّ الراجح من الطريقتين هو التأويل التفصيلي، قال النفراوي: "ومال إلى ترجيحها العز بن عبد السلام، حيث قال: هي أقرب الطريقين إلى الحق، وإمام الحرمين مال مرّة إلى طريق الخلف، ومرة إلى طريق السلف، وهذا الخلاف حيث لا تدعو ضرورة إلى التأويل، وإلا اتفق على وجوب التأويل التفصيلي، وذلك بأنْ تحصل شبهة لا ترتفع إلا به" [الفواكه الدواني 1 /51-52]، وأما حكم من يشبّه الله تعالى بخلقه فهو أن يعلّم الصواب بالحكمة والموعظة الحسنة.

وعليه؛ فإنّ أهل السنة والجماعة أجمعوا على عدم جواز إثبات أي قدر من المشابهة بين الله وبين خلقه، وأجمعوا على أنّ النصوص التي توهم المشابهة ينبغي صرفها عن ظاهر حقيقتها اللغوية التي تفيد التشبيه، وهو ما يسمى بالتأويل الإجمالي، وبعد ذلك لأهل السنة طريقتان مقبولتان فقط: إما أن تأوّل تأويلاً تفصيلياً، وهو الراجح في زمن الفتن وشيوع التشبيه والتجسيم، أو يفوض علمها إلى الله تعالى، وهو الراجح في زمن سلامة العقائد والقلوب، والله تعالى حكيم جعل كل شيء في كتابه محكماً بمقدار. والله تعالى أعلم.