سلسة قيم الحضارة في الإسلام...الفرح

الكاتب : المفتي الدكتور فادي الربابعة

أضيف بتاريخ : 10-10-2023


سلسة قيم الحضارة في الإسلام...الفرح

ما من إنسان في هذه الحياة الدنيا إلا ويعيش بين حالين: حال النعمة والفرح أو حال النقمة والحزن، وكلا الحالين خير للمؤمن وهذا ما بينه النبي صلى الله عليه وسلم في قوله: (عَجَبًا لأَمْرِ المُؤْمِنِ، إنَّ أمْرَهُ كُلَّهُ خَيْرٌ، وليسَ ذاكَ لأَحَدٍ إلَّا لِلْمُؤْمِنِ، إنْ أصابَتْهُ سَرَّاءُ شَكَرَ، فَكانَ خَيْرًا له، وإنْ أصابَتْهُ ضَرَّاءُ، صَبَرَ فَكانَ خَيْرًا له) أخرجه مسلم في صحيحه، والفرح في الإسلام نوعان: فرح محمود، وفرح مذموم.

أما الفرح المحمود فمشروع في الإسلام سواء كان سببه نعم الدنيا أو نعم الآخرة.

ومثال الفرح المحمود بنعم الآخرة ما كان من العبادات التي يتقرب بها المؤمن إلى الله كعبادة الصيام يفرح بها المؤمنون ويختتمون شهرهم بعيد الفطر، وعبادة الحج وفرحة عيد الأضحى المبارك، ومثال الفرح المحمود بنعم الدنيا المناسبات السعيدة كالفرح بيوم الميلاد وبالزواج والنجاح، والحصول على وظيفة، وتحقيق إنجاز مشروع في حياة المؤمن مما تقره العقول والفطر السليمة المتعارف عليها في أعراف الناس، قال الله سبحانه وتعالى: (قُلْ بِفَضْلِ اللَّهِ وَبِرَحْمَتِهِ فبذلك فَلْيَفْرَحُوا هُوَ خَيْرٌ مِّمَّا يَجْمَعُونَ) [يونس: 58].

ومن الفرح العام لجميع المسلمين بل لجميع العقلاء والمنصفين من البشر الفرح بمولد الرسول صلى الله عليه وسلم فقد وصف الله سبحانه وتعالى النبي صلى الله عليه وسلم بأنه رحمة، فقال تعالى: (وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِّلْعَالَمِينَ) [الأنبياء: 107]، وبأن بعثته نعمة وفضل من الله تعالى: (لَقَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولًا مِّنْ أَنفُسِهِمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِن كَانُوا مِن قَبْلُ لَفِي ضَلَالٍ مُّبِينٍ) [آل عمران:164]، (هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الأُمِّيِّينَ رَسُولا مِّنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِن كَانُوا مِن قَبْلُ لَفِي ضَلالٍ مُّبِينٍ وَآخَرِينَ مِنْهُمْ لَمَّا يَلْحَقُوا بِهِمْ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَن يَشَاء وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ) [الجمعة: 2-4]، فالفرح بمولده فرح بالفضل والرحمة.

وفي سياق الفرح بمولد الأنبياء والصالحين فقد ذكر الله سبحانه وتعالى في القرآن الكريم ما يتعلق بمولدهم وأن يوم مولدهم يوم سلام كما في قوله تعالى عن مولد يحيى عليه السلام: (وَسَلامٌ عَلَيْهِ يَوْمَ وُلِدَ وَيَوْمَ يَمُوتُ وَيَوْمَ يُبْعَثُ حَيًّا) [مريم: 15]، وعن يوم مولد نبي الله عيسى عليه السلام، قال الله تعالى: (وَالسَّلامُ عَلَيَّ يَوْمَ وُلِدتُّ وَيَوْمَ أَمُوتُ وَيَوْمَ أُبْعَثُ حَيًّا) [مريم: 33]، وقبل ذلك حدثنا القرآن الكريم عن مولد السيدة الصالحة مريم عليها السلام بأسلوب بياني لطيف يشعر القارئ بالفرح والبشرى بهذه الولادة، قال الله سبحانه وتعالى: (إِذْ قَالَتِ امْرَأَةُ عِمْرَانَ رَبِّ إِنِّي نَذَرْتُ لَكَ مَا فِي بَطْنِي مُحَرَّرًا فَتَقَبَّلْ مِنِّي إِنَّكَ أَنتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ فَلَمَّا وَضَعَتْهَا قَالَتْ رَبِّ إِنِّي وَضَعْتُهَا أُنثَى وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا وَضَعَتْ وَلَيْسَ الذَّكَرُ كَالأُنثَى وَإِنِّي سَمَّيْتُهَا مَرْيَمَ وَإِنِّي أُعِيذُهَا بِكَ وَذُرِّيَّتَهَا مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ فَتَقَبَّلَهَا رَبُّهَا بِقَبُولٍ حَسَنٍ وَأَنبَتَهَا نَبَاتًا حَسَنًا وَكَفَّلَهَا زَكَرِيَّا كُلَّمَا دَخَلَ عَلَيْهَا زَكَرِيَّا الْمِحْرَابَ وَجَدَ عِندَهَا رِزْقًا قَالَ يَا مَرْيَمُ أَنَّى لَكِ هَذَا قَالَتْ هُوَ مِنْ عِندِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَرْزُقُ مَن يَشَاء بِغَيْرِ حِسَابٍ) [آل عمران: 35-37].

والرسول صلى الله عليه وسلم استبشر بيوم مولده، فعن أبي قتادة قال: يا رسولَ اللَّهِ أرأيتَ صومَ يومِ الاثنينِ ويومِ الخميسِ، قالَ: (فيهِ ولدتُ وفيهِ أنزلَ علىَّ القرآنُ) أخرجه أبو داود. وعن أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم قالوا: يا رسولَ اللهِ أخْبِرْنا عن نفسِكَ، قال: (دعوةُ أبي إبراهيمَ وبُشرَى عيسَى، ورأت أُمِّي حينَ حَمَلَتْ بي كأنَّهُ خرجَ منها نورٌ أضاءَتْ لهُ قصورُ بُصرَى مِن أرضِ الشَّامِ) أخرجه ابن حبان في صحيحه، وفي قوله صلى الله عليه وسلم دعوة أبي إبراهيم عليه السلام إشارة إلى قوله تعالى على لسان سيدنا إبراهيم عليه السلام: (رَبَّنَا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولًا مِّنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِكَ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُزَكِّيهِمْ ۚ إِنَّكَ أَنتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ) [البقرة: 129]، وقوله صلى الله عليه وسلم وبشرى عيسى إشارة إلى قوله تعالى: (وَإِذْ قَالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُم مُّصَدِّقًا لِّمَا بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التَّوْرَاةِ وَمُبَشِّرًا بِرَسُولٍ يَأْتِي مِن بَعْدِي اسْمُهُ أَحْمَدُ ۖ فَلَمَّا جَاءَهُم بِالْبَيِّنَاتِ قَالُوا هَٰذَا سِحْرٌ مُّبِينٌ) [الصف:6]، فقد بشرت بولادة المصطفى عليه السلام الأنبياء.

 ولأهمية يوم مولد الرسول صلى الله عليه وسلم فقد صنف العديد من علماء الإسلام في مولده مؤلفات خاصة بالمولد منهم: الإمام ابن حجر الهيتمي في كتابه [النعمة الكبرى على العالم بمولد سيد آدم]، والإمام القسطلاني في كتابه [المواهب اللدنية بالمنح المحمدية] والذي ذكر فيه أن ليلة مولده صلى الله عليه وآله وسلم أفضل من ليلة القدر، والإمام ابن كثير والإمام السخاوي والإمام جلال الدين السيوطي والإمام ابن ديبع الشيباني والبرزنجي والسمهودي وإمام القراء ابن الجزري، وكذلك [المولد] لعبدالقادر الحمصي وغيرهم كثير من المعاصرين، وجرت عادة المسلمين الاحتفال والفرح بيوم مولده صلى الله عليه وسلم على المستوى الرسمي في العديد من الدول الإسلامية وعلى المستوى الشعبي، وسيبقى يوم مولده صلى الله عليه وسلم يوم فرح برحمة الله تعالى ونعمته وفضله على البشرية.

والحمد لله رب العالمين